3 ـ معنى «الغير» المعتبر في قاعدة التجاوز الدخول 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4725


 الأمر الثالث: بعد ما ذكرناه من أنّ الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز لا بدّ من تحقيق معنى الغير، وأ نّه بماذا يتحقق، ويقع الكلام في مقامين: المقام الأوّل: في الشك في الجزء الأخير. المقام الثاني: في الشك في غيره من الأجزاء.

 أمّا المقام الأوّل فتفصيل الكلام فيه: أنّ الشك في الجزء الأخير يتصور على وجوه:

 الأوّل: أن يشك فيه مع عدم الاشتغال بشيء وعدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك. ولا مجال فيه لجريان قاعدة التجاوز، لعدم الدخول في الغير على الفرض، فلا يصدق التجاوز عن المحل. وكذا لا تجري قاعدة الفراغ أيضاً، لاحتمال كونه في أثناء العمل، فلم يحرز الفراغ، وهذا واضح.

 الثاني: أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير وغير مانع من تداركه. والحكم فيه هو الحكم في الوجه السابق، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز، لعدم تجاوز المحل وإمكان التدارك. ولا قاعدة الفراغ للشك في تحقق الفراغ واحتمال كونه في أثناء العمل على ما تقدّم. ومن هذا القبيل ما إذا أتى بشيء من المنافيات التي لا يكون الاتيان بها سهواً موجباً

ــ[352]ــ

للبطلان كالتكلم. والتزم المحقق النائيني(1) (قدس سره) في هذه الصورة بجريان قاعدة الفراغ، بدعوى أنّ المعتبر في قاعدة الفراغ أمران: الدخول في الغير، وصدق المضي، وهما متحققان في المقام. أمّا الدخول في الغير فتحققه ظاهر، وأمّا تحقق المضي فلصدقه عند مضي معظم الأجزاء.

 وفيه: أنّ المعتبر في قاعدة الفراغ هو صدق المضي حقيقة، ومعه كيف يصدق المضي مع الشك في تحقق الجزء الأخير، وأمّا الدخول في الغير فقد تقدم(2) أ نّه لا يعتبر في جريان قاعدة الفراغ.

 وقد يتوهّم جريان قاعدة الفراغ، بدعوى أنّ المراد بالمضي هو المضي بحسب الاعتقاد لا المضي بحسب الواقع، وإلاّ لم يبق مورد لجريان قاعدة الفراغ، إذ مع الشك في الصحة لا يحرز المضي الواقعي، والمضي الاعتقادي موجود في المقام، فانّه حين اشتغاله بأمر غير مرتب كان معتقداً بالمضي، وإلاّ لم يشتغل به، فتجري قاعدة الفراغ.

 وهو مندفع بأن ظاهر قوله (عليه السلام): «كل ما مضى...» هو المضي الحقيقي الواقعي لا المضي الخيالي، غاية الأمر كون الماضي أعم من الصحيح والفاسد بقرينة الشك المذكور في الرواية، إذ لا يتصور مضي الصحيح مع فرض الشك في الصحة والفساد.

 الثالث: أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر مرتب على الجزء الأخير غير مانع من تداركه على تقدير عدم الاتيان به، كما إذا شك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب، أو شك في مسح الرجل للوضوء مع الاشتغال بالدعاء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 224، راجع أيضاً فوائد الاُصول 4: 630.

(2) في ص 339 وما بعدها.

ــ[353]ــ

المأثور بعد الوضوء.

 واختار المحقق النائيني(1) (قدس سره) أ نّه لو شك في الجزء الأخير من الصلاة ـ وهو التسليم ـ مع الاشتغال بالتعقيب لا يعتني به، لصدق الدخول في الغير، فيكون مورداً لجريان قاعدة التجاوز. واستشهد على ذلك بصحيحة زرارة المتقدمة(2) الدالة على عدم الاعتناء بالشك في الأذان مع الدخول في الاقامة، بدعوى أنّ الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان مع الدخول في الاقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب، لعدم الفرق بين الاقامة والتعقيب، لخروج كليهما عن حقيقة الصلاة.

 وللمناقشة فيه مجال، لعدم الملازمة بين المقامين في جريان قاعدة التجاوز، إذ هو منوط بمضي المحل، وهو لا يصدق إلاّ فيما إذا كان محل المشكوك فيه بحسب الجعل الشرعي سابقاً على الغير الذي وقع الشك بعد الدخول فيه، وكان محل ذلك الغير مؤخراً عن المشكوك فيه ولو باعتبار كونه أفضل الأفراد. وهذا المعنى موجود في الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة، فانّ الأذان مقدّم بحسب الجعل الشرعي على الاقامة، بحيث لو لم يأت بالاقامة بعد الأذان لم يأت بوظيفته الاستحبابية المتعلقة بالأذان. وكذا محل الاقـامة مؤخر عن الأذان بمعنى أنّ أفضل أفراد الاقامة هي الاقامة الواقعة بعد الأذان، وإن كانت مستحبة في نفسها ولو بدون الأذان، فيكون الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة شكاً فيه بعد مضي المحل والتجاوز عنه.

 وهذا بخلاف الشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب، فانّ التعقيب وإن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 223، فوائد الاُصول 4: 628.

(2) في ص 331.

ــ[354]ــ

اعتبر بحسب الجعل الشرعي مؤخراً عن التسليم، إلاّ أ نّه لم يعتبر مقدّماً على التعقيب، إذ من المعلوم أ نّه لا يعتبر في التسليم وقوعه قبل تسبيح الزهراء (سلام الله عليها) مثلاً. ومَثَل التسليم والتعقيب مَثَل صلاة الظهر والعصر، فان صلاة العصر قد اعتبرت في الشريعة المقدّسة مؤخرة عن صلاة الظهر، إلاّ أنّ صلاة الظهر لم يعتبر فيها التقدم على صلاة العصر كما هو مذكور في محلّه، فلا يكون الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب شكاً بعد مضي المحل، لبقاء محل التدارك، ولذا من تذكر حال التعقيب أ نّه لم يأت بالتسليم يجب عليه التدارك ولم يلزم منه إخلال أصلاً، ولا شيء عليه حتى سجدة السهو.

 ويؤيد ما ذكرناه ـ من عدم جريان قاعدة التجاوز في المقام ـ أ نّه لو شك في الاتيان بأصل الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب، لا تجري قاعدة التجاوز قطعاً ولا أظن أحداً من الفقهاء يلتزم بجريانها، فيجب عليه الاعتناء بالشك والاتيان بالصلاة، لكون الشك في الوقت. ولا فرق بين الشك في أصل الصلاة والشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب في جريان قاعدة التجاوز وعدمه.

 فتلخّص مما ذكرناه: عدم جريان قاعدة التجاوز في هذه الصورة أيضاً كالصورتين السابقتين.

 وكذا لا تجري قاعدة الفراغ أيضاً، إذ مع الشك في الجزء الأخير لم يحرز الفراغ من العمل حتى يكون مورداً لقاعدة الفراغ، إلاّ في باب الوضوء فانّه تجري قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير منه مع الاشتغال بشيء آخر ولو لم يتجاوز محل التدارك، كما إذا شك في مسح الرجل مع الاشتغال بالصلاة، أو بالدعاء المأثور بعد الوضوء، وذلك لقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال اُخرى في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك وضوءه لا شيء

ــ[355]ــ

عليك فيه...» إلخ(1) فان مفاده عدم الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء بعد الاشتغال بشيء آخر، بلا فرق بين الجزء الأخير وغيره، وحيث إنّ هذا الحكم على خلاف القاعدة، يجب الاقتصار على مورد النص وهو الوضوء، فلو شك في الجزء الأخير من الغسل مع الاشتغال بشيء آخر كالصلاة، لا مجال لجريان قاعدة الفراغ، بل لا بدّ من الاعتناء بالشك.

 الرابع: أن يشك في الجزء الأخير بعد الاتيان بالمنافي العمدي والسهوي، كما إذا شك في التسليم بعد الحدث أو الاستدبار أو السكوت الطويل. ولا تجري فيه قاعدة التجاوز، لما ذكرناه في الصورة السابقة من أنّ المعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون محل المشكوك فيه سابقاً على الغير بحسب الجعل الشرعي. والمقام ليس كذلك، إذ لم يعتبر في التسليم كونه قبل المنافي العمدي والسهوي بحيث لو لم يقع المنافي بعده لم يصح، وإن اعتبر فيه عدم وقوع المنافي قبله، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

 نعم، تجري قاعدة الفراغ، فانّ الصلاة قد مضت حقيقةً، وشك في صحتها وفسادها، فيحكم بصحتها لقاعدة الفراغ. هذا على القول بفساد الصلاة بوقوع مثل الحدث والاستدبار بعد التشهد قبل التسليم ـ كما اختاره المحقق النائيني (قدس سره) (2) ـ وأمّا على القول بصحة الصلاة ـ كما اختاره السيد (قدس سره) في العروة(3) وليس ببعيد ـ فلا ثمرة لجريان قاعدة الفراغ، لصحة الصلاة مع قطع النظر عنها على الفرض، فيكون الشك في التسليم مع وقوع الحدث أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 469 / أبواب الوضوء ب 42 ح 1.

(2) العروة الوثقى (المحشّاة) 2: 593، 596، 597 فصل في التسليم.

(3) العروة الوثقى 1: 514 / فصل في التسليم، المسألة 1 [ 1661 ].

ــ[356]ــ

الاستدبار خارجاً عن محل الكلام على هذا القول. فليفرض الكلام فيما إذا شك في السجدتين الأخيرتين وما بعدهما من التشهد والتسليم بعد وقوع الحدث أو الاستدبار.

 ثمّ إنّ ما ذكرناه ـ من جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير بعد السكوت الطويل ـ إنّما يتم في المركبات التي اعتبرت الموالاة بين أجزائها كالصلاة والوضوء، دون المركب الذي لا تعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل، فلو شك في الجزء الأخير منه كغسل الطرف الأيسر، لا بدّ من الاعتناء بالشك والاتيان بالمشكوك فيه، ولو كان الشك بعد زمان طويل، إذ بعد عدم اعتبار الموالاة يحتمل كونه الآن في أثناء العمل، فلم يحرز الفراغ لتجري قاعدته.

 المقام الثاني: في تحقيق معنى الغير عند الشك في الأجزاء الاُخر غير الجزء الأخير، فهل المراد بالغير ـ الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ـ هو خصوص الأجزاء المستقلة التي اعتبرت أجزاءً بحسب الأدلة الشرعية، أو يشمل جزء الجزء أيضاً؟ وعلى تقدير الشمول هل يختص بمثل الحمد والسورة، أو يشمل كل آية بالنسبة إلى آية اُخرى؟

 وعلى تقدير الشمول هل يشمل كل كلمة بالنسبة إلى كلمة اُخرى بل كل حرف بالنسبة إلى حرف آخر من كلمة واحدة؟ وعلى كل تقدير هل هو مختص بالأجزاء أو يشمل المقدمات أيضاً كما إذا شك في القراءة بعد الهوي إلى الركوع، أو شك في الركوع بعد الهوي إلى السجود، أو شك في السجود بعد النهوض إلى القيام، بل يشمل الزيادات المأتي بها سهواً كما اختاره السيد (قدس سره) في العروة (1)، وحكم بأ نّه لو شك في السجدة مع عدم الاتيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 1: 664 / فروع العلم الاجمالي، المسألة 59 [ 2192 ].

ــ[357]ــ

بالتشهد سهواً فقام لا يعتني به، لكونه بعد الدخول في الغير ـ وهو القيام ـ مع كونه مجرد زيادة سهوية؟

 وعلى تقدير الاختصاص بالأجزاء، فهل هي مختصة بالأجزاء الواجبة أو تشمل المستحبات أيضاً كما إذا شك في السورة بعد الدخول في القنوت؟

فنقول: القدر المتيقن هي الأجزاء المستقلة، كالأمثلة المذكورة في صحيحة زرارة المتقدمة(1) من الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة، والشك في الاقامة بعد الدخول في التكبير إلى آخر ما ذكر فيها من الفروض. ولا يجب الاقتصار على الأجزاء المذكورة فيها، بل تجري قاعدة التجاوز عند الشك في غيرها من الأجزاء المستقلة، كما إذا شك في السجود بعد الدخول في التشهد، وذلك لأنّ الأمثلة المذكورة في الصحيحة مذكورة في السؤال، والمتبع إنّما هو إطلاق قوله (عليه السلام) في الجواب: «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء».

 ولا يتوهم اختصاص جريان القاعدة عند الشك في السجود بما إذا شك فيه بعد الدخول في القيام، لأ نّه هو المذكور في كلام الإمام (عليه السلام) في موثقة إسماعيل بن جابر(2)، فلا تجري عند الشك في السجود بعد الدخول في التشهد، وذلك لعموم قوله (عليه السلام) في ذيل الموثقة: «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره، فليمض عليه» ولعل الشك في السجود المفروض في الموثقـة هو الشك فيه في الركعة الاُولى، فيكون صدق الدخول في الغير منحصراً بالدخول في القيام، لعدم التشهد في الركعة الاُولى.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 332.

(2) الوسائل 6: 317 ـ 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 4.

ــ[358]ــ

 وبالجملة: لا مجال لتوهم اختصاص القاعدة بالأمثلة المذكورة في الصحيحة والموثقة بعد عموم الجواب في كلام الإمام (عليه السلام)، بل تجري في جميع الأجزاء المستقلة ومنها الحمد والسورة، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الحمد بعد الدخول في السورة، فانّ جزئية الحمد ثابتة بقوله (عليه السلام): «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1) وجزئية السورة ثابتة بأدلة اُخرى دالة على وجوب قراءة سورة تامة بعد الحمد، فاعتبر الحمد بحسب الدليل الشرعي جزءاً، والسورة جزءاً آخر وإن كانت القراءة بأجمعها قد تعد جزءاً واحداً وهي شاملة لهما، فتجري القاعدة عند الشك في الحمد بعد الدخول في السورة. ولا ينافي ذلك أنّ المذكور في الصحيحة جريان القاعدة عند الشك في القراءة بعد الدخول في الركوع، لأنّ المفروض فيها هو الشك في جميع القراءة من الحمد والسورة، فلا محالة جريان القاعدة فيه متوقف على الدخول في الركوع، فلا منافاة بينه وبين جريانها فيما إذا شك في الحمد وحده بعد الدخول في السورة باعتبار عموم الجواب كما ذكرناه.

 وهل تجري قاعدة التجاوز فيما إذا شك في آية بعد الدخول في آية اُخرى أم لا. الظاهر جريانها فيه، إذ يصدق عليه الشك في الشيء بعد التجاوز عنه والدخول في غيره.

 واختار المحقق النائيني(2) (قدس سره) عدم الجريان ـ بعد ما بنى عليه من رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ ـ بدعوى أنّ قاعدة الفراغ مختصة بالشك في الكل، وإنّما تجري في الأجزاء المستقلة في باب الصلاة لدليل خاص

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 4: 158 / أبواب القراءة في الصلاة ب 1 ح 5 و 8.

(2) أجود التقريرات 4: 228 ـ 229، فوائد الاُصول 4: 634 ـ 635.

ــ[359]ــ

حاكم بتنزيل الجزء منزلة الكل في جريان القاعدة، فلا بدّ من الاقتصار على مقدار يدل عليه دليل التنزيل، وهو الأمثلة المذكورة في الرواية، فلا تجري في غيرها.

 وفيه أوّلاً: ما تقدم من عدم تمامية المبنى، وأنّ قاعدة التجاوز غير قاعدة الفراغ بحسب مقام الاثبات(1).

 وثانياً: على تقدير تسليم المبنى، أنّ الدليل على التنزيل هي صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتان(2) والمتبع هو إطلاق قوله (عليه السلام) في الصحيحة: «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وعموم قوله (عليه السلام) في الموثقة: «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» فلا وجه للاقتصار على الأمثلة المذكورة فيهما.

 نعم، لا نضايق عن الاعتناء بالشك وعدم جريان قاعدة التجاوز فيما إذا شك في كلمة بعد الدخول في كلمة اُخرى من كلام واحد، فضلاً عما إذا شك في حرف من كلمة بعد الدخول في حرف آخر منها، وذلك لعدم صدق التجاوز والمضي عرفاً، وإن كان التجاوز متحققاً بحسب الدقة العقلية، إلاّ أنّ الميزان هو الصدق العرفي لا الدقة العقلية.

 وأمّا إذا شك في شيء من أجزاء المركب بعد الدخول في جزء مستحب منه، كما إذا شك في القراءة بعد الدخول في القنوت، فقد اختار السيد (قدس سره) في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 333.

(2) تقدّمتا في ص 331 ـ 332 فراجع.

ــ[360]ــ

العروة(1) جريان قاعدة التجاوز، وقرره المحشّون، ولم نجد التصريح بخلافه. ولكن للمناقشة فيه مجال واسع، لما ذكرناه سابقاً (2) من أنّ جريان القاعدة متوقف على صدق المضي والخروج عن محل المشكوك فيه والتجاوز عنه، ولا يصدق إلاّ فيما إذا اعتبر المشكوك فيه سابقاً على الغير، كالقراءة بالنسبة إلى الركوع. وهذا المعنى مفقود في المقام، إذ لم يعتبر في القراءة وقوعها سابقاً على القنوت، وإن كان المعتبر في القنوت تأخره عنها. فمثل القنوت بالنسبة إلى القراءة مثل التعقيب بالنسبة إلى التسليم.

 توضيح ذلك: أنّ الجزئية والاستحباب مما لا يجتمعان، ولا يعقل كون شيء جزءاً للواجب ومستحباً، إذ الاهمال في مقام الثبوت غير متصور، فامّا أن تكون الطبيعة المأمور بها مطلقة بالنسبة إلى الخصوصيات، أو تكون مقيدة بوجود خصوصية على نحو يكون التقيد والقيد كلاهما داخلين في المأمور به، أو على نحو يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً، فيكون جزءاً على الأوّل وشرطاً على الثاني، أو تكون مقيدة بعدم شيء فيكون مانعاً، ففيما إذا لم تكن الطبيعة المأمور بها مقيدة بوجود خصوصية ولا بعدمها، يكون المكلف مخيراً في تطبيقها في ضمن أيّ خصوصية من الخصوصيات، غاية الأمر كون الخصوصية تارةً راجحة واُخرى مرجوحة وثالثةً بلا رجحان ولا مرجوحية، كايقاع الصلاة في المسجد أو في الحمام أو في الدار، وكالصلاة مع القنوت أو بدونه، فجميع هذه الخصوصيات غير داخلة في المأمور به. ومعنى كون القنوت مثلاً جزءاً مستحباً للصلاة أ نّه قد اُمر به استقلالاً، غاية الأمر كون الصلاة ظرفاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 1: 613 / فصل في الشك، المسألة 10 [ 2030 ].

(2) في ص 353.

 
 

ــ[361]ــ

لوقوعها، وأنّ وقوعها في الصلاة موجب لكثرة ثوابها. وبهذا يفترق عن الدعاء المأثور في شهر رمضان، فانّ الصوم وإن كان ظرفاً لوقوعه أيضاً، إلاّ أنّ الدعاء المذكور عبادة بنفسه، ويترتب الثواب عليه، كما يترتب على الصوم، لا أ نّه يوجب كثرة ثواب الصوم.

 فتلخص بما ذكرناه: أنّ إطلاق الجزء على الاُمور المستحبة مسامحة في التعبير، وليست بأجزاء حقيقة. ولا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في جزء من المركب بعد الدخول في أمر مستحب، كالشك في القراءة مع الدخول في القنوت، وكذا الشك في التكبير بعد الدخول في الاستعاذة. ويعرف مما ذكرناه حكم جملة من الفروع التي ذكرها السيد (قدس سره) في العروة في الختام المتعلق بالعلم الاجمالي، فراجع(1).

 أمّا المقدمات ـ كما إذا شك في الركوع حال الهوي إلى السجود، أو شك في السجود حال النهوض إلى القيام ـ فاختار بعضهم جريان قاعدة التجاوز في المقامين، لشمول الغير للمقدمات أيضاً. وذهب جماعة منهم المحقق النائيني(2)(قدس سره) إلى عدم جريانها في المقامين، وهذا هو الصحيح.

 أمّا مع قطع النظر عن النصوص الواردة في المقامين، فلأن جريان القاعدة منوط بصدق التجاوز والخروج عن محل الشيء المشكوك فيه، كما تقدم. ولا يصدق هذا المعنى عند الدخول في المقدمات، لعدم كونها من الأجزاء، إذ لم يدل دليل على كون الهوي أو النهوض معتبراً في الصلاة، بل لا يعقل كونهما من الأجزاء وتعلق الأمر الضمني بهما، إذ بعد الأمر بالسجود يكون الهوي حاصلاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العروة الوثقى 1: 649 و 661 / المسألة 16 و 49.

(2) أجود التقريرات 4: 226، فوائد الاُصول 4: 633 ـ 634.

ــ[362]ــ

لا محالة، لامتناع الطفرة. وعلى تقدير إمكانها في نفسها لا تكون مقدورةً للمكلف، فيكون الأمر به لغواً. وكذا النهوض مما لا بدّ منه بعد الأمر بالقيام، لامتناع الطفرة أو عدم كونها مقدورةً للمكلف، فلا حاجة إلى الأمر به بعد الأمر بالقيام.

 وأمّا مع ملاحظة النصوص، فلما سيجيء قريباً إن شاء الله تعالى.

 وفصّل صاحب المدارك(1) بين المقامين: فقال بجريان القاعدة في المقام الأوّل، وعدمه في الثاني. واعترض عليه صاحب الحدائق(2) بما حاصله: أنّ التفصيل بين المقامين كالجمع بين المتناقضين، لأن لفظ الغير المذكور في الروايات الدالة على قاعدة التجاوز إن كان شاملاً للمقدمات، فتجري القاعدة في المقامين، وإلاّ فلا تجري فيهما.

 والانصاف أنّ هذا الاعتراض مما لاينبغي صدوره من مثله، إذ ليست قاعدة التجاوز من القواعد العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص كاستحالة اجتماع الضدين مثلاً، بل من القواعد الشرعية التي تعميمها وتخصيصها بيد الشارع، فله أن يخصصها بمورد دون مورد، كما حكم بجريانها في الصلاة وبعدمه في الوضوء، فلا بدّ من ملاحظة الدليل الذي أقامه صاحب المدارك للتفصيل المذكور، وأ نّه واف بالتفصيل أم لا.

 فنقول: نظره في هذا التفصيل إلى روايتين: الاُولى: رواية(3) عبدالرحمن بن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مدارك الأحكام 4: 249 ـ 250.

(2) الحدائق الناضرة 9: 177.

(3) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن سعد عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن محمّد =

ــ[363]ــ

أبي عبدالله الدالة على عدم جريان القاعدة ووجوب الاعتناء بالشك في المقام الثاني. الثانية: صحيحة عبدالرحمن(1)، فادّعى دلالتها على جريانها في المقام الأوّل.

 أمّا الرواية الاُولى: فدلالتها على عدم الجريان في المقام الثاني واضحة. مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّ عدم الجريان هو الصحيح، مع قطع النظر عن النص الخاص.

 وأمّا الثانية: فأجاب عنها المحقق النائيني (قدس سره) (2) بأ نّها مطلقة من حيث الوصول إلى السجود وعدمه، وتكون موثقة إسماعيل بن جابر المتقدمة (3) مقيدة لاطلاقها، فانّ المذكور في الموثقة هكذا: «إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض... » إلخ.

ــــــــــــــــــــــــــــ

= ابن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله «قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال (عليه السلام): يسجد، قلت: فرجل أنهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال (عليه السلام): يسجد» [ الوسائل 6: 369 / أبواب السجود ب 15 ح 6 ].

(1) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن أبي جعفر عن أحمد بن محمّد ابن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله «قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال (عليه السلام): قد ركع» [ الوسائل 6: 318 / أبواب الركوع ب 13 ح 6 ].

(2) أجود التقريرات 4: 227، فوائد الاُصول 4: 636.

(3) في ص 332.

ــ[364]ــ

 وفيه: أنّ الموثقة غير صالحة لتقييد الصحيحة، أمّا من حيث المنطوق فواضح، إذ لا منافاة بين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الدخول في السجود، وبين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود مطلقاً سواء وصل إلى السجود أم لا.

 وأمّا من حيث المفهوم، فلأن مفهوم الشرط في قوله (عليه السلام): «إن شك في الركوع بعد ما سجد» إن لم يشك في الركوع بعد ما سجد، فيكون الحكم في المفهوم منتفياً بانتفاء الموضوع وهو الشك. نعم، لو كانت عبارة الموثقة هكذا: إن كان الشك في الركوع بعد ما سجد فليمض...، كان مفهومها: إن لم يكن الشك في الركوع بعد ما سجد، بل كان الشك في الركوع قبل ما سجد فلا يمض، إذ الشك مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم، فيكون مفهوم الموثقة مقيداً لاطلاق الصحيحة، وقد تقدّم(1) نظير هذا الكلام في البحث عن الاستدلال بمفهوم آية النبأ لحجية خبر العادل من أنّ مفهوم قوله تعالى: (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ...)(2) إن لم يجئ فاسق بنبأ، فيكون خبر العادل خارجاً عن المفهوم. نعم، لو كان النبأ مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم، كما إذا كان المنطوق هكذا: إنّ النبأ إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا، كان مفهومه أنّ النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقاً لا يجب التبين، فيدل المفهوم على حجية خبر العادل، والمقام من هذا القبيل بعينه.

 والصحيح في الجواب عن الصحيحة أن يقال: إنّ دلالتها غير تامـة على المدعى في نفسها، وهو جريان قاعدة التجاوز في الشك في الركوع بعد الدخول

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 187 ـ 190.

(2) الحجرات 49: 6.

ــ[365]ــ

في الهوي مع عدم الوصول إلى السجود، وذلك لأنّ التعبير في الصحيحة إنّما هو «أهوى إلى السجود» بلفظ الماضي، ومفاده تحقق الهوي إلى السجود، فيكون موردها الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود، فلا تدل على جريان القاعدة وعدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي ولو لم يصل إلى السجود. نعم، لو كان التعبير يهوي إلى السجود بلفظ المضارع، كان مفاده المعنى المذكور.

 ومراجعة الاستعمالات العرفية تشهد بما ذكرناه من الفرق بين الماضي والمضارع، فان معنى قولنا: زيد يصلي، أ نّه مشغول بالصلاة ولم يفرغ منها بعد، بخلاف قولنا: زيد صلى، فان مفاده تحقق الصلاة والفراغ منها. وعلى تقدير عدم ظهور الصحيحة فيما ذكرناه من المعنى، لا أقل من احتماله الموجب لاجمالها، فلا تكون قابلة للاستدلال بها للمقام.

 فتحصّل مما ذكرناه: أنّ الصحيح عدم جريان قاعدة التجاوز في المقامين، ولو مع ملاحظة النصوص.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net