كون الوضع في الحروف عاماً والموضوع له خاصاً - الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8989


ومن هنا اتّضح حال وضع الحروف ، وأنّها من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، وذلك بعد أن قلنا : إنّ الحروف تفيد تضييق المعاني الاسمية . فالحرف بنفسه لم يكن موضوعاً لمفهوم التضييق ، لأنّه معنى اسمي ، بل وضع لواقع التضييق الطارئ على مثل الصلاة والأكل والشرب ، فإنّ الواضع قد تصوّر مفهوم التضييق الذي هو معنى اسمي ، ولاحظه مرآة إلى أفراده ، وبهذا اللحاظ وضع الألفاظ بازاء تلك الأفراد ، فكان الوضع عاماً والموضوع له خاصاً .

الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية

ادّعى صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) بعد بيان المعنى الحرفي أنّ الفرق بين الخبر والإنشاء كالفرق بين المعنى الاسمي والحرفي ، وأنّ الاختلاف بينهما في مرحلة الاستعمال .

وهذا مبني على ما هو المشهور من أنّ الجملة الخبرية تدلّ على ثبوت النسبة الخارجية أو على عدمها ، بخلاف الجمل الإنشائية ، فإنّها تفيد إيجاد المعنى في نفس الأمر والواقع . فلو قلنا : بعت ، فالمادّة دلّت على حقيقة البيع التي هي مبادلة مال بمال ، والهيئة قد أفادت نسبة ذلك الشيء إلى المتكلّم .

فإن قصدنا من هذا الاستعمال الإخبار عن ثبوت النسبة سمّي إخباراً ، أمّا لو قصدنا منه الإنشاء ـ أي بداعي إيجاد المعنى ـ سمّي إنشاءً . فكان كل من الجمل الخبرية والإنشائية يحكيان عن معنى واحد ، وهذا المعنى إن استعمل فيه اللفظ بداعي الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدمها في عالمها سمّي إخباراً ، وإن استعمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 12 .

ــ[66]ــ

بداعي إيجاد المعنى سمّي إنشاءً ، والمدلول هو شيء واحد في المقامين .

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الجمل الخبرية بأقسامها ـ اسمية وفعلية ، بحسب هيئاتها ـ لا تكون موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة أو عدمها خارجاً ، فإنّ ذلك أمر لا يترتّب على الكلام ، فإنّه يحتمل صدقه ، كما يحتمل كذبه ، وإنّما تدلّ الجمل الخبرية على أنّ المتكلّم في مقام الحكاية عن ثبوت النسبة بحسب واقعها أو عدمها من دون نظر إلى المطابقة وعدمها .

وهذه الحكاية التي دلّ عليها اللفظ لا تختص بعالم الألفاظ ، بل تحصل بالإشارة أيضاً ، كما إذا سئل عن مجيء زيد فحرّك رأسه قاصداً بذلك الإجابة عن السؤال ، والحكاية عن ثبوت النسبة أو عدمها . أمّا المطابقة للواقع وعدمها ، أو الصدق والكذب فليس من شؤون اللفظ ، بل من شؤون المعنى المدلول ، فإن طابق المخبر به الواقع اتّصف بالصدق ، وإلاّ فهو يتّصف بالكذب . فإنّ اللفظ ـ  كما عرفت  ـ لا يفيد غير الحكاية عن ثبوت النسبة وعدمها ، وذلك ناشئ عن التزامه وتعهّده بأنّه متى جاء بالجملة الخبرية فقد أراد الإخبار عن ثبوت النسبة وعدم ثبوتها ، فإذا جاء بها ولم يقصد منها ذلك فقد جرى على خلاف التزامه وتعهّده ، وهو مع ذلك لا يوجب خروج الجملة عن إفادتها الحكاية ما لم تقم قرينة على الخلاف .

وكذلك الحال في الألفاظ المفردة ، مثل زيد ، فإنّ اللفظ عند إطلاقه يستفاد منه أنّ المتكلّم قصد به تفهيم المعنى الذي التزم بتفهيمه عند الإطلاق ، وإن أراد المستعمل معنى آخر منه ، ما لم ينصب قرينة صارفة عنه .

فالمتحصّل من هذا : أنّ الجملة الخبرية لم تكن بحسب هيئتها دالّة على ثبوت النسبة وتحقّقها ، بل تدلّ على أنّ المتكلّم في مقام الحكاية عن ذلك بحسب الخارج . وليس المقصود من الخارج هو الوجود الخارجي ، بل بحسب واقع الأمر والحقيقة ، إذ ربما يخبر عن اُمور عدمية ، مثل اجتماع الضدّين ممتنع .

ــ[67]ــ

وأمّا الجمل الإنشائية فلا نتعقّل دعوى القوم أنّها موجدة للمعنى . فإن كان المقصود أنّ اللفظ يوجد به شيء من الوجودات الحقيقية ، فلا ريب أنّه يحصل بأسبابه التكوينية الخارجية ، وليس اللفظ منها بالضرورة .

وإن اُريد بذلك أنّ الموجود باللفظ أمر اعتباري لا حقيقي ، فذلك المعتبر خفيف المؤونة ، لا يفتقر إلاّ إلى الاعتبار ، وهو يوجد في نفس معتبره ، وليس من أسبابه اللفظ .

وإن اُريد بذلك أنّ اللفظ موجد اعتباراً ما من العقلاء أو الشرع ، فإنّ العقلاء والشرع اعتبروا تحقّق البيع بالمادّة والصيغة الخاصّة ـ وهي بعت ـ كما اعتبروا تحقّق الهبة بمثل وهبت ، فالمتكلّم إن أنشأ هذا المعنى فقد أوجد اعتبار اُولئك القوم . فهذا أمر لا بأس به ، إلاّ أنّ هذه الاُمور الاعتبارية لا تحصل من مجرد اللفظ ، إذ لازمه تحقّق البيع لو صدرت الجملة المتقدّمة من النائم ، ولا يلتزم به أحد . فلابدّ وأن يكون ترتّب ذلك على أمر وراء نفس اللفظ ، وما هو إلاّ قصد المعنى .

على أنّ ذلك لو تم فإنّما يتم في موارد العقود والإيقاعات ، وأمّا في غيرها كموارد الاستفهام ، والتعجّب ، والتمنّي ، والترجّي ، وغير ذلك ، فلا يكاد يعقل معنى متحصّل من إيجاد المعنى باللفظ .

فالصحيح : أنّ الهيئات الإنشائية وقسماً من الحروف قد وضعت لإبراز أمر نفساني .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net