استعمال اللفظ وإرادة صنفه أو مثله - تبعية الدلالة للإرادة - أقسام الدلالة 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6057


وأمّا إطلاق اللفظ وإرادة صنفه أو مثله فالمعروف أنّه من قبيل الاستعمال لتعدّد الدال والمدلول فيهما . فإنّ قولنا : زيدٌ في ضَرَب زيدٌ فاعل ، إذا اُريد منه خصوص هذا المثال فهو من قبيل إطلاق اللفظ وإرادة مثله ، وإن اُريد منه ما يتعقّب جملة فعلية فهو من قبيل إطلاق اللفظ وإرادة صنفه ، وهكذا لو قلنا : ضربَ في ضرب زيد فعل ماض .

ففي المقام أمران : أحدهما : كلمة (زيد) الاُولى ، ثانيهما : كلمة (زيد) الثانية . وهكذا في المثال الثاني . ولا ريب أنّ أحدهما يكون دالا والآخر مدلولا ، فيتأتّى منه الاستعمال .

ولكن الصحيح أنّه من قبيل إحضار نفس الموضوع ، لما عرفت(1) من أنّ الحروف وضعت لتضييق المعاني الاسمية ، وأنّ المعنى لم يرد على عمومه ، بل اُريد منه حصّة خاصّة . ففي قولنا : زيدٌ في ضَرَبَ زيد ثلاثي . قد اُحضر نفس الموضوع في ذهن المخاطب ، وحكم عليه بحكم ، لكن لا على إطلاقه ، بل خصوص ما وقع في هذه الجملة بخصوصها ، أو خصوص ما وقع بجملة خاصّة . وعلى أي حال فقد جيء بنفس الموضوع ، واُحضر بلا واسطة لفظ ، وقد أفادت كلمة (في) التضييق ، فزيد 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص63 .

ــ[77]ــ

الأول هو بنفسه موضوع ، وقد حضر بلا وساطة شيء ، لكن الحكم لما كان مختصّاً بخصوص حالة من أحواله فقد قيّده بذلك ، وأفاد الحرف هذا المعنى . فليس في البين دال ومدلول .

وأمّا ما ذكره (قدّس سرّه) في الكفاية(1) من أنّ ذلك ـ يعني إحضار نفس الموضوع فيما إذا اُريد منه مثله أو صنفه ـ ربما لا يكون ممكناً ، لأنّ قولنا : ضَرَب ـ  في ضربَ زيدٌ ـ فعل ماض ، لا يصحّ بغير أن يكون مستعملا في مثله أو في صنفه ، فإنّه لا يمكن أن يكون بنفسه من الفعل الماضي ، لأنّ الأفعال لا تقع مبتدأ بها .

فهذا من غرائب الكلام ، حيث إنّ الفعل وإن امتنع كونه مبتدأً حين استعماله في معناه ، لاشتماله على النسبة المستفادة من الهيئة المخصوصة ، إلاّ أنّ (ضربَ) في المثال ليس المراد منها إلاّ لفظها دون المعنى ، والحكم إنّما تعلّق باعتبار لفظها لا غير واللفظ يقع مبتدأ من دون مانع .

فالمتحصّل من جميع ذلك : أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، أو نوعه ، أو صنفه ، أو مثله ليس كسائر الاستعمالات ، بل هو من قبيل إحضار نفس الموضوع في القضية ، والحكم عليه .

تبعية الدلالة للإرادة

دلالة اللفظ على المعنى عند إطلاقه تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول : الدلالة التصوّرية ، وهي انتقال ذهن السامع العالم بالوضع إلى المعنى بمجرد وصول جوهر اللفظ إلى مسامعه ، بلا فرق في صدوره من متكلّم صاحب شعور ، قصد المعنى أم لم يقصد ، أو غير صاحب شعور ، بل حتّى لو صدر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 16 .

ــ[78]ــ

ذلك اللفظ من اصطكاك حجر بحجر، فإنّه يوجب الانتقال إلى المعنى .

القسم الثاني : الدلالة التصديقية ، وهي على نحوين :

فتارةً : يدلّ اللفظ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم معنى خاص حسب التزامه وتعهّده ، وأنّه لو قصد غيره لنصب قرينة عليه ، وهذه هي الإرادة الاستعمالية .

ويشترط في هذه الدلالة أن يحرز السامع أنّ المتكلّم في مقام بيان تفهيم المعنى  ، أمّا لو سمع اللفظ من وراء جدار ، وتردّد في اللافظ هل هو إنسان أو غيره وعلى فرض الأول فهل كان في مقام تفهيم المعنى ، أو أنّ اللفظ صدر منه بغير شعور واختيار ، فالدلالة الثانية لا تتم ، لفقدان الشرط .

واُخرى : هي دلالة اللفظ على أنّ ما قصد المتكلّم تفهيمه مراد له واقعاً وليس في مقام الاستهزاء ، والسخرية ، والامتحان ، ونحو ذلك . وتسمّى هذه بالإرادة الجدّية ، فإنّ إرادة كل واحد من هذه المعاني التي هي على خلاف ظاهر كلام المتكلّم واقعاً محتاجة إلى قرينة واضحة ، ومتى لم ينصب قرينة على الخلاف فالإرادة الجدّية تكون مطابقة للإرادة الاستعمالية ، لثبوت السيرة العقلائية على ذلك .

والبحث فعلا في الدلالة الوضعية التي نشأت من جعل الواضع لفظاً مخصوصاً لمعنى مخصوص ، وهل هي نفس الدلالة التصوّرية التي لا تدور مدار إرادة المتكلّم فلا تكون الدلالة الوضعية تابعة للإرادة ، أو هي الثانية التصديقية التي تتبع إرادة المتكلّم ، فتكون الدلالة تابعة للإرادة .

ذهب المشهور إلى الأول ، كما ذهب إلى ذلك المحقّق النائيني (قدّس سرّه) حيث قال : ولا يتفوّه عاقل بتبعية الدلالة للإرادة(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 47 .

ــ[79]ــ

بينما ذهب الشيخ الرئيس(1) وتبعه المحقّق الطوسي الخواجة نصير الدين(2)إلى الثاني ، وأنّ الدلالة تتبع الإرادة .

والصحيح ما ذهب إليه العلمان ، والوجه في ذلك : أنّنا ذكرنا سابقاً(3) في حقيقة الوضع أنّه عبارة عن الالتزام والتعهّد بأنّه متى ما عبّر المتكلّم بلفظ خاص فقد أراد به معنى مخصوصاً ، وهذا الالتزام لابدّ وأن يتعلّق بأمر اختياري ، إذ للشخص أن يلتزم بهذا القرار ، وله أن لا يلتزم به . ولا ريب أنّ مجرد الانتقال من اللفظ إلى المعنى ـ كما هو مقتضى الدلالة التصوّرية ـ ليس بأمر اختياري كي ينطوي تحت قرار الشخص والتزامه . فلا مناص من أن يكون تعهّده متعلّقاً بتفهيمه إرادة معنى خاص حينما يتكلّم بلفظ مخصوص .

وبعبارة اُخرى : لولا تعلّق الحاجة بالتلفّظ في مقام إرادة تفهيم المعنى لما احتاج الشخص إلى وضع الألفاظ ، فدلالة اللفظ على المعنى إنّما تكون في مورد إرادة المتكلّم تفهيمه ، ولازمه أن تكون الدلالة الوضعية تابعة للإرادة ، بل على فرض أن لا يكون الوضع من قبيل التعهّد والالتزام فالدلالة الوضعية أيضاً تتبع الإرادة ، لأنّ الغاية التي تدعو الإنسان إلى الوضع هي قصد التفهيم والتفاهم لا غير  ، وإذا كانت الغاية هي ـ ذلك ـ فمن الضروري أنّها لا تحصل إلاّ في الموارد التي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حيث قال في الشفاء (المنطق 1 : 42 ضمن الفصل الثامن من المقالة الاُولى من الفنّ الأوّل)  : وذلك لأنّ معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل .

(2) راجع شرح الإشارات 1 : 32 حيث قال : لأنّ دلالة اللفظ لمّا كانت وضعية كانت متعلّقة بارادة المتلفّظ . وحكى العلاّمة في الجوهر النضيد : 8 ما هو صريح في ذلك .

(3) في ص41 وما بعدها .

ــ[80]ــ

يريد المتكلّم إبراز المعنى باللفظ حال إرادته له ، وإيصاله للغير . فبناءً عليه تكون الدلالة التي جعلها الواضع تابعة للإرادة هي الدلالة التصديقية.

أمّا الدلالة التصوّرية فليست مرتبطة بالواضع ، ولم تنشأ من جعله ، بل نشأت من كثرة الاستعمال ، واُنس الذهن بالانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، فهي ليست بالدلالة الوضعية .

وأمّا النحو الثاني من الدلالة التصديقية ـ التي هي عبارة عن إرادة تفهيم المعنى للمخاطب واقعاً ـ فقد ثبتت بالسيرة العقلائية ، حيث جرت سيرتهم على حمل كل ما يصدر من العاقل الشاعر على أنّه صدر عن جدّ ، بلا فرق بين الاستعمالات وغيرها ، ولا يعتنون باحتمال صدوره عن خطأ أو سهو أو سخرية . فكلّ مورد لم تقم قرينة على الخلاف فيه فالعقلاء يحكمون بمطابقة المراد الجدّي للمراد الاستعمالي .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net