أدلّة الوضع للأعم \ الأصل العملي عند الشك 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4979


أدلّة القول بالأعم

وقد استدلّ القائل بالأعم أولا : بأنّ موارد استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ أكثر من استعماله في موارد التلبّس الفعلي ، حيث يقال ـ مثلا ـ لشمر إنّه قاتل الحسين (عليه السلام) ، وللرجل المعلوم : قاتل بكر ، وضارب عمرو . ولو كان الوضع متمحّضاً لخصوص المتلبّس لزم مجازية هذه الاستعمالات وما شاكلها ، وهي لا تلائم حكمة الوضع التي هي التفهيم والتفاهم ، فإنّ الواضع الحكيم لا يجعل اللفظ حقيقة فيما هو أقل تفهيماً وتفهّماً .

وغير خفي أوّلا : أنّ هذا مجرد استبعاد ، ولا مانع من أن يكون المجاز أكثر استعمالا من الحقيقة ما دامت القرينة موجودة .

وثانياً : يمكن أن ندّعي أنّه ليس هناك مورد جاء في كلام الفصحاء وكان الاستعمال فيه في المنقضي ، بل جميع الاستعمالات إنّما هي بلحاظ حال التلبّس دون زمن التكلّم ، فاطلاق قاتل الحسين (عليه السلام) على شمر ليس باعتبار اتّصافه به فعلا ، بل لحاظ حال تلبّسه . ومن الظاهر أنّ الإطلاق بلحاظ حال التلبّس حقيقة على كل حال .

ثم إنّ استعمال المشتق بلحاظ حال الانقضاء وإن كان محتملا في القضايا

ــ[166]ــ

الشخصية في الجملة ، إلاّ أنّه غير محتمل في القضايا الحقيقية ، وهذا كما في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(1). وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة)(2) فإنّ المراد بالزاني والسارق هو كل إنسان فرضناه متلبّساً في الخارج بالسرقة أو الزنى فهو محكوم عليه بقطع يده أو بجلده . فالمشتق في الآيتين مستعمل في من تلبّس بالمبدأ ، وهو الموضوع في القضية الحقيقيّة ، غاية الأمر أنّ زمان القطع أو الجلد متأخّر ، لتوقّفه على ثبوت التلبّس بأحد المبدأين عند الحاكم بالبيّنة حتّى يحكم بأحدهما .

وعليه فلا يمكن الاستدلال بشيء من الآيتين على أنّ المشتق حقيقة في الأعم  ، بدعوى إطلاق المشتق فيهما على من انقضى عنه المبدأ .

فلا يقال : آية السرقة كان الاستعمال فيها بلحاظ حال الانقضاء فيكون مجازاً ، ليجاب عن ذلك في الكفاية(3) بأنّه كان باعتبار زمن التلبّس لا زمن الفعلية فإنّ جميع ذلك غير محتاج إليه ما دام أنّ الحكم في مقام الجعل لا يحتاج إلاّ إلى فرض وجوده ، وفي مقام الفعلية لا ينفك عن وجود موضوعه .

واستدلّ ثانياً باستدلال الإمام (عليه السلام) بقوله تعالى : (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ولو بعد إسلامه(4). ومن الواضح أنّ الاستدلال بهذه الآية لا يتم إلاّ على تقدير كون المشتق حقيقة في الأعم
دون الأخص .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 38 .

(2) النور 24 : 2 .

(3) كفاية الاُصول : 50 .

(4) البرهان في تفسير القرآن 1 : 321 في تفسير الآية 124 من سورة البقرة .

ــ[167]ــ

وغير خفي أنّ الترديد في استعمال المشتق في خصوص المتلبّس أو الأعم إنّما يتأتّى ـ كما عرفت ـ في القضايا الخارجية ، التي يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار فعلية التلبّس ، أو باعتبار الأعم منها ومن الانقضاء .

وأمّا في القضايا الحقيقية التي يكون الموضوع فيها مفروض الوجود ، فالنزاع لا يتأتّى فيها ، فإنّ فعلية الحكم فيها تابعة لفعلية العنوان المأخوذ مفروض الوجود حين جعل الحكم وإنشائه .

نعم النزاع يتأتّى فيها من جهة اُخرى ، وهي أنّ حدوث العنوان هل يكفي في بقاء الحكم ، أو أنّ بقاءه يدور مدار بقائه ، وحيث علّق الحكم في الآية المباركة على عنوان الظالم الذي اُخذ مفروض الوجود ، فيقع البحث عن أنّ حدوث العنوان موجب لحدوث الحكم وبقائه ، أو لحدوثه فقط .

وبعبارة اُخرى : العناوين تارةً تلاحظ معرّفة إلى الأفراد ومشيرة إليها ، بلا دخل لها في الحكم ، كالقضايا الخارجية ، فيقال : أكرم زوجة زيد . فعنوان الزوجة لم يكن سبباً للحكم ، بل معرّفاً للفرد . واُخرى تلاحظ العناوين دخيلة في الحكم ، كما هو الغالب في القضايا الحقيقية ، فيقال : أكرم العالم ، أو صدّق العادل . وحينئذ يرد النزاع أنّ العنوان المذكور هل هو علّة في حدوث الحكم فقط ، أو في حدوثه وبقائه . وهذا النزاع لا يرتبط بحديث المشتق ، حيث يتأتّى على كلا التقديرين .

والظاهر أنّ الآية الشريفة ممّا كان العنوان فيها علّة محدثة ومبقية للحكم ، لأنّ الخلافة منصب إلهي ، وولاية شاملة ، فكان حريّ بكل شخص يتصدّى لهذا المنصب أن يكون نزيهاً في أفعاله ، تدعوه نفسه الطيّبة للعمل الخير والصالح ، بحيث يكون قدوة ومثالا صحيحاً للمجتمع الذي يقتفي أثره .

مثلا لو اعتاد شخص على شرب الخمر وعمل الزنى مدّة من الزمن ، ثمّ بعد ذلك تاب وآمن ، فلو تقدّم لمنصب الإمامة ، وأرشد الناس إلى الطريق الصحيح ، لما

ــ[168]ــ

اهتدى أحد بحديثه . وإذا كان الأمر كذلك في المعاصي الموجبة للفسق ، فما ظنّك بمن عبد الأصنام والأوثان مدّة غير قليلة ثمّ تاب وأسلم ، فأراد أن يتسنّم ذلك الكرسي الرفيع ، إنّ ظلمه السابق يوجب عدم لياقته لهذا المركز الحسّاس ، فكانت تلك العلّة السابقة التي أوجبت عدم نيل الخلافة حدوثاً هي العلّة في بقاء الحكم إلى الأبد .

ومن هذا القبيلِ المحدودُ ، فإنّ الصلاة مكروهة أو غير جائزة خلفه ، والسبب في ذلك هو أنّ الذي أوجب الحكم بالكراهة أو عدم الجواز سبب محدث ومبق .

على أنّ ما ذكرناه يستفاد من إطلاق الحكم في الآية المباركة ، مع قطع النظر عن مناسبة الحكم والموضوع ، فإنّ الإتيان بصيغة المضارع ـ وهي كلمة لا ينال ـ غير موقّت بوقت خاص ، يدلّ على أنّ من تلبّس بالظلم لا يناله عهد الله أبداً .

وقد نقل شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) عن الفخر الرازي(2) أنّه اعترف بما ذكرناه من عدم ارتباط الآية الشريفة بحديث المشتق ، وأنّ الاستدلال بها في الحقيقة كان من جهة التلبّس بالظلم ولو آناً ما ، الذي يوجب عدم اللياقة للخلافة إلى يوم القيامة . ولذا ذكرنا في التقريرات: أنّ الحق يظهر على لسان منكريه ، فهو ينطق منصفاً وعنيداً .

الأصل العملي عند الشك

هذا كلّه إذا تمّت الأدلّة على تعيين الوضع لأحدهما ، أمّا إذا لم تتم ، وبقينا عاجزين عن التماس الدليل على الوضع ، فهل لدينا أصل عملي يعيّن أحدهما عند الشكّ ؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 121 ـ 122 .

(2) لاحظ التفسير الكبير 4 : 45 ـ 46 .

ــ[169]ــ

نفى صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) ذلك ، بتقريب : أنّ جريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر ، فأصالة عدم لحاظ الأعم عند وضعه تعارضها أصالة عدم لحاظ الخصوصية . على أنّ هذين الأصلين لا يجدي جريانهما حتّى مع فرض عدم المعارضة ، لكونهما من الاُصول المثبتة .

ومع عدم حجّية مثل هذه الاُصول العامّة ، يرجع في كل مورد إلى ما يقتضيه الأصل فيه ، وهو يختلف ـ فيما يراه صاحب الكفاية ـ باختلاف الموارد .

فتارةً يشك في الحكم ابتداءً بعد زوال الوصف الذي اُخذ عنواناً في الحكم عن الذات ، فالأصل هو البراءة ، كما لو كان زيد عالماً في الأمس ، وزال الوصف المذكور عنه ، ثمّ أمر المولى بوجوب إكرام كل عالم ، فاحتملنا وجوب إكرام زيد لأجل احتمال وضع المشتق للأعم .

واُخرى يشكّ في بقاء الحكم بعد وروده على ذات متلبّسة بالمبدأ ثمّ زال الوصف عنها ، فالأصل هو الاستصحاب ، كما لو كان زيد عالماً بالفعل ، وأمر المولى بوجوب إكرام كل عالم ، ثمّ زال الوصف عنه بعد ذلك ، فشككنا في بقاء الحكم لنفس الاحتمال المتقدّم .

وغير خفي أنّ ما أفاده (قدّس سرّه) من انتفاء أصل يعتمد عليه هنا لا نقاش فيه ، إذ لم تكن هيئة المشتق سابقاً موضوعة لخصوص المتلبّس ، ولا للأعم منه ، بل حينما علمنا بحدوث الوضع تردّدنا في سعة المفهوم وضيقه ، فكان كل منهما مسبوقاً بالعدم . وأصالة عدم لحاظ الخصوص معارضة بأصالة عدم لحاظ العموم ، وعلى تقدير عدم المعارضة فالأصل مثبت كما عرفت .

إنّما النقاش معه فيما أفاده من اختلاف الأصل العملي لاختلاف الموارد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 45 .

ــ[170]ــ

الفرعية ، والظاهر أنّ الجميع مورد للبراءة ، دون الاستصحاب .

أمّا في المورد الأول : فلما مرّ منه (قدّس سرّه) .

وأمّا في المورد الثاني : فلأنّ الاستصحاب غير جار فيه ، لأنّ الشبهة فيه شبهة حكمية في سعة المجعول وضيقه ، أعني للشكّ في أنّ الحكم هل جعل لخصوص المتلبّس بالمبدأ أو للأعم منه ومن المنقضي عنه ، ومعه لا يجري الاستصحاب .

بل حتّى على مذهب المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فالمورد مجرى لأصل البراءة ، وذلك لاختصاص الاستصحاب بالموارد التي يتعيّن المعنى والمفهوم فيها ، ويتمحّض الشكّ في خصوص الحكم ، كما لو حكم الشارع بنجاسة القليل الملاقي للنجس ثمّ تمّم كرّاً وشكّ في بقاء النجاسة ، فالمرجع هو استصحاب الحكم .

وأمّا في الشبهات المفهومية فلا يجري الاستصحاب فيها حتّى على المشهور ، لاختلاف القضية المتيقّنة مع المشكوكة ، وقد عرفت اعتبار الاتّحاد بينهما في الاستصحاب .

وتوهّم جريانه في الموضوع مندفع بعدم تحقّق الشكّ في أمر حادث زماني ، إذ مع قطع النظر عن وضع الألفاظ لا يبقى لنا شكّ في شيء بالإضافة إلى من انقضى عنه المبدأ .

وبالجملة : العالِم بما له من المفهوم لما كان موضوعاً للحكم ، وكان مردّداً بين خصوص المتلبّس أو الأعم منه ، تعذّر جريان استصحاب الحكم ، للتردّد في نفس الموضوع . أمّا استصحاب الموضوع نفسه ـ كالعالمية ـ فلا يمكن أيضاً ، لأنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشكّ اللاحق ، مع وحدة المتعلّق فيهما  ، وهو غير تامّ في موردنا ، لأنّ زوال المبدأ فعلا واتّصاف الذات به سابقاً ، كل منهما متيقّن ، إنّما الشكّ في بقاء الحكم ، وفي سعة الوضع وضيقه . أمّا بالنسبة إلى

ــ[171]ــ

الحكم فقد عرفت أنّه لا يجري الاستصحاب فيه ، وأمّا بالنسبة إلى الوضع فلا أصل يرجع إليه في تعيين السعة أو الضيق ، فلا محالة يتعيّن إجراء أصل البراءة .

وقد أشار الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) في بحث البراءة(1) إلى هذا المعنى وهو عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية ، حيث أفاد بما حاصله : أنّ الكلب لو استحال إلى ملح ، وتردّد موضوع النجاسة بين الصورة النوعية والمادّة المشتركة فاستصحاب الحكم ـ وهو نجاسته ـ لا يمكن ، لعدم إحراز موضوع النجاسة  ، إذ الموضوع إن كان هو المادّة المشتركة بين الكلبية والملحية فهو محرز البقاء ، وإن كان نفس الصورة الكلبية فهو مرتفع قطعاً . وحيث تردّد الموضوع امتنع جريان الاستصحاب .

وأمّا استصحاب بقاء ذات الموضوع فهو أيضاً لا يجري ، لعدم الشكّ فيه للقطع ببقاء المادّة المشتركة ، والقطع بارتفاع الصورة النوعية ، ومعه لا يجري الاستصحاب .

وموضوع بحثنا كذلك ، إذ العالم بمعنى من له صفة العلم زائل قطعاً ، وبمعنى الأعم من المتلبّس والمنقضي عنه العلم باق قطعاً ، فلا مورد لجريان الاستصحاب .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net