الكلام في التقابل بين الإطلاق والتقييد - استحالة التقييد لا تستلزم استحالة الإطلاق 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6125


أمّا الجهة الاُولى : فاعلم أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد يختلف باختلاف مقامي الإثبات والثبوت .

أمّا في مقام الإثبات : فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، لأنّ الإطلاق في هذه المرحلة عبارة عن عدم التقييد مع كون المتكلّم في مقام البيان ، وهو متمكّن من بيان القيد ، وهو ـ أي الإطلاق بهذا المعنى ـ أمر عدمي ، بخلاف التقييد فإنّه عبارة عن بيان خصوصية زائدة في الموضوع أو في متعلّق الحكم ، وهو معنى وجودي . فلو أطلق المولى كلامه وكان في مقام البيان ، ولم يبيّن خصوصية من الخصوصيات مع التمكّن من التقييد ـ بأن لم يمنعه مانع من الإتيان بالقيد ـ لزم التمسّك بالإطلاق لا محالة ، ومنه يستكشف الإطلاق الثبوتي .

وأمّا في مقام الثبوت : فالمقابلة بين الإطلاق والتقييد مقابلة الضدّين باعتبار أنّ الإطلاق في هذه المرحلة عبارة عن لحاظ عدم دخل خصوصية من الخصوصيات في الموضوع أو متعلّق الحكم ، أو فقل عبارة عن رفض القيود والخصوصيات ، وهو معنى وجودي . كما أنّ التقييد عبارة عن لحاظ المولى دخل خصوصية من الخصوصيات في الموضوع أو المتعلّق ، وهو أيضاً أمر وجودي وليس بعدمي . فكان كلا الأمرين في هذه المرحلة من ملاحظة التقييد أو الإطلاق أمراً وجودياً .

ــ[244]ــ

وبعبارة أوضح : المولى إذا توجّه نحو طبيعة ذات انقسامات عديدة ، فإمّا أن يتصوّرها مع لحاظ عدم دخل خصوصية من الخصوصيات ـ أي يتصوّرها مع رفض القيود ـ فهذا هو معنى الإطلاق ، وإمّا أن يتصوّرها مع لحاظ خصوصية من الخصوصيات ، وهذا هو حقيقة التقييد . وليس هنا قسم ثالث ، وهو أن يتصوّرها بلا لحاظ عدم دخل الخصوصية وبلا لحاظ خصوصية ما ، فتكون مهملة ، فإنّ الإهمال في الواقعيات غير ممكن .

فالذي تحصّل من هذا : أنّ مقابلة الإطلاق والتقييد في مرحلة الإثبات مقابلة العدم والملكة ، بخلاف مرحلة الثبوت فإنّها مقابلة الضدّين .

وأمّا الجهة الثانية : فالحقّ أنّ استحالة التقييد لا تستوجب استحالة الإطلاق  ، وإن كان تقابلهما تقابل العدم والملكة ، وذلك لاُمور ثلاثة :

الأمر الأول : ما نجده في بعض الموارد من استحالة اتّصاف الشيء بالملكة مع اتّصافه بعدمها ، بل قد يكون اتّصافه بالعدم من الضروريات . ولو كان كل من العدم والملكة متلازمين في الإمكان والاستحالة بوجه مطلق ، لما حصل التفكيك بينهما على هذا النحو .

مثلا إنّ كل فرد من سائر أفراد البشر ـ رسولا كان أم غير رسول ـ لا يتمكّن من الإحاطة بكنه ذاته تعالى ، وذلك لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، وإذا كان كل فرد من البشر يستحيل أن يعلم بذاته تعالى كان بالضرورة جاهلا بحقيقته وغير عارف بها . ولو كان التلازم في الإمكان والاستحالة ثابتاً بين الأعدام والملكات ، لكان اللازم استحالة الجهل بذاته تعالى على الإنسان بعد أن استحال عليه العلم بذاته .

وهكذا يستحيل على البشر أن يكون قادراً على الطيران إلى السماء ، ولكن عجزه عن ذلك ضروري وليس بمستحيل ، مع أنّ العجز يقابل القدرة تقابل العدم

ــ[245]ــ

والملكة .

الأمر الثاني : معرفة معنى قابلية المحل التي اعتبروها في الملكة والعدم ، وبها ينحل الإشكال من أساسه . فالذي يظهر من شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) أنّه اعتبر القابلية الشخصية في جزئيات مواردها ، فالمورد الذي يستحيل فيه التقييد اعتبر استحالة الإطلاق فيه ، وهو الذي أوقعه فيما التزم به .

بينما ذكر الفلاسفة(1) أنّ القابلية المعتبرة في الأعدام والملكات ليست القابلية الشخصية ، بل القابلية بالمعنى الأعم من الشخصية ، والصنفية ، والنوعية والجنسية  .

وبتعبير آخر : لا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على مورد أن يكون ذلك المورد قابلا بخصوصه للاتّصاف بالوجود ـ أي الملكة ـ بل يكفي في صدقه عليه أن يكون شخص ذلك الفرد أو صنفه أو نوعه أو جنسه قابلا للاتّصاف بالوجود .

ويتّضح هذا المعنى من المثال المتقدّم ، فإنّ الإنسان قابل للاتّصاف بالعلم والمعرفة ، ولكنّه في خصوص بعض الموارد ـ كالمعرفة بذات الله تعالى التي استحال الاتّصاف بها ـ يكون العدم صادقاً بالضرورة ، كما أنّ خصوصية المورد في المثال الثاني ـ  وهو الطيران إلى السماء ـ أوجبت ثبوت العجز على الإنسان ، واتّصافه به بلحاظ إمكان اتّصافه بالقدرة في نفسه .

وهكذا كل أحد يستطيع ـ مثلا ـ حفظ صحيفة أو أكثر ، ولكنّه لا يستطيع حفظ مجلّدات البحار أجمع ، وهذا لا يوجب خروجه عن القابلية الجنسية ، لأنّ صدق العدم المقابل للملكة على مورد لا يشترط فيه قابلية ذلك المورد للاتّصاف بتلك الملكة بشخصها . إذن فالتفكيك بين الأعدام والملكات في الإمكان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأسفار الأربعة 2 : 116 .

ــ[246]ــ

والاستحالة أمر قابل .

الأمر الثالث : أنّ لازم ما يدّعيه (قدّس سرّه) من استحالة التقييد والإطلاق هو الإهمال في الواقع ، وهو مستحيل أيضاً ، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون الحاكم غير عالم بما يصدر منه بحدوده ، فإنّ ما يشتاق إليه كالصلاة ـ مثلا ـ إمّا أن يكون مقيّداً بقصد الأمر ، أو مقيّداً بعدم قصد الأمر ، أو لا يكون مقيّداً بهذا ولا بذاك ، بل يراد منه نفس الطبيعي ، بلا دخل لقصد الأمر وجوداً وعدماً ، ولا يخرج الأمر الواقعي عن هذه الاُمور الثلاثة أصلا .

وحيث استحال التقييد بقصد الأمر على مختاره للزوم المحاذير المتقدّمة ، كما وقد استحال التقييد بعدم الإتيان بداعي الأمر لكونه خلاف الغرض ، إذ الغرض من الأمر جعل الداعي في نفس المخاطب ، وبعثه نحو المأمور به ، فلابدّ من الإطلاق لا محالة ، لاستحالة الإهمال في الواقعيات ، لما ذكرناه . وإليه أشار الشيخ (قدّس سرّه)(1) بقوله من أنّه إذا استحال التقييد يجب الإطلاق .

نعم في مرحلة الإثبات صورة ثالثة غير الإطلاق والتقييد ، وهي الإهمال كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان ، أو كان ولم يتمكّن من بيان قيده ، فإنّه لو أطلق كلامه ولم يبيّن شيئاً لم يمكننا التمسّك بالإطلاق . ولعلّ من هذا القبيل قوله تعالى : (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ)الخ(2)
فإنّ الآية الشريفة تشير إلى لزوم القصر عند تحقّق الضرب في الأرض ، وقد أهملت التعرّض لمقدار الضرب وتحديده بحدّ خاصّ ، فكانت مهملة من هذه الناحية ، ومع ثبوت الإهمال فيها لا يمكن التمسّك بالإطلاق .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مطارح الأنظار : 60 .

(2) النساء 4 : 101 .

ــ[247]ــ

وقد ظهر من مجموع ما ذكرناه : أنّ المقدّمة الاُولى التي ذكرها شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) ـ وهي استحالة تقييد العبادة بداعي الأمر ـ ليست بتامّة ، كما أنّ المقدّمة الثانية ـ وهي أنّ استحالة التقييد تستوجب استحالة الإطلاق ـ أيضاً غير تامّة ، وذلك فإنّه على فرض أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فذلك لا يقتضي ما ذكره ، لأعميّة القابلية المعتبرة بين العدم والملكة من الشخصية والصنفية والنوعية .

نعم في مرحلة الإثبات استحالة التقييد تستوجب استحالة الإطلاق ، وذلك لما عرفت من أنّ مجرد عدم التقييد ، وإرسال الكلام من دون جريان مقدّمات الحكمة لا يكون دليلا على الإطلاق .

فلو علم بأنّ المولى ليس في مقام الإجمال ، وكان قادراً على التقييد ، ولم يكن محذور من بيان القيد ، ومع ذلك أرسل كلامه خالياً عن كل قيد ، فلا محالة ينعقد الظهور في الإطلاق ، وبه يستكشف الإطلاق ثبوتاً . وأمّا فيما إذا لم يمكنه التقييد ، لا يكون عدم التقييد في مقام الإثبات كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net