الإشكال في عبادية الطهارات الثلاث 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6281


الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث

وقد اُشكل على عبادية الطهارات الثلاث : الوضوء ، الغسل ، التيمّم بأمرين  :

الأمر الأول : أنّ الواجب الغيري توصّلي ، لا يترتّب عليه ثواب ، ولا على تركه عقاب ، مع أنّنا نجد الطهارات الثلاث التي هي مقدّمة للصلاة عبادة يترتّب عليها الثواب ، فكيف يمكن الجمع بين المقدّمة والثواب .

والجواب عنه ظهر ممّا تقدّم ، حيث قلنا بعدم المنافاة بين كون الواجب غيرياً وبين ترتّب الثواب على امتثاله ، فإنّ موضوع استحقاق الثواب في المقدّمة إنّما هو قيام العبد بالامتثال ، وإظهاره الطاعة رجاء التوصّل إلى الواجب ، وهذا هو الذي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 110 .

(2) أجود التقريرات 1 : 253 .

 
 

ــ[381]ــ

يوجب صدق العبادية عليه واستحقاق الثواب . فلا منافاة في ذلك .

الأمر الثاني : أنّ الأوامر المتعلّقة بالطهارات الثلاث أوامر غيرية ، وهي توصّلية لا تقتضي عبادية متعلّقاتها ، مع أنّه لا إشكال في لزوم الاتيان بها عبادة وأنّها لا تصحّ فيما إذا أتى بها لا بقصد القربة ، هذا . مع أنّ الأمر الغيري توصّلي يتعلّق بما هو مقدّمة ، والعبادية قد اُخذت في مقدّمية الطهارات الثلاث ، فيستحيل أن تنشأ العبادية من أوامرها الغيرية . إذن فما هو منشأ عبادية الطهارات الثلاث ؟

واُجيب عن الإشكال المذكور بما في الكفاية(1) بأنّ الطهارات الثلاث في حدّ ذاتها مأمور بها في نفسها بالأمر النفسي الاستحبابي ، وذلك الأمر النفسي هو الذي أوجب عباديتها .

وأشكل على الجواب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) باُمور ثلاثة :

الأمر الأول : أنّ ما ذكر من وجود الأمر الاستحبابي متعلّقاً بذات الأفعال من الطهارات الثلاث غير تامّ على إطلاقه ، وذلك لتخلّفه عن التيمّم ، إذ لم يدلّ دليل على أنّه مأمور به بالأمر النفسي .

ويدفع ذلك بأنّ الدليل كما دلّ على الاستحباب النفسي في الوضوء والغسل كذلك دلّ على استحباب التيمّم نفساً ، فقد ورد عنه (عليه السلام) : « التراب أحد الطهورين »(3) ويستفاد منه أنّ التيمّم مصداق للطهور وفرد حقيقي له ، فهو كالوضوء والغسل . فباطلاق الأدلّة التي دلّت على استحباب الطهور في نفسه يثبت كون التيمّم مستحبّاً نفسياً كما عرفت .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 111 .

(2) أجود التقريرات 1 : 254 .

(3) الوسائل 3 : 381 / أبواب التيمّم ب21 ح1 وفيه : « فإنّ التيمّم أحد الطهورين » .

ــ[382]ــ

الأمر الثاني : أنّ وجود الأمر النفسي الاستحبابي في الطهارات الثلاث وكونها مقدّمة متّصفة بالوجوب الغيري لا يجتمعان ، للتضادّ بين الوجوب والاستحباب ، فلابدّ وأن يندك الاستحباب في ضمن الوجوب ، فكيف يمكن تصحيح العبادية من ناحية الأمر الاستحبابي .

ويدفع ذلك بأنّ الاندكاك يقتضي زوال مرتبة الاستحباب ، وأمّا محبوبية العمل في نفسه فهي باقية على حالها ، فيمكن التقرّب به لأجلها .

الأمر الثالث : أنّ تصحيح الوضوء ـ مثلا ـ بالأمر النفسي متوقّف على الالتفات إليه حين الامتثال لتكون عبادة من جهته ، ولا ريب أنّ أغلب المكلّفين لا يلتفتون إلى هذه الجهة ، بل يأتون به بعنوان المقدّمية للصلاة ، فلابدّ من الالتزام ببطلان وضوء غالب الناس ، مع أنّ أحداً لا يلتزم بذلك .

وأمّا ما أجاب به صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) عن هذا الإشكال بأنّ الأمر الغيري لا يدعو إلاّ إلى ما هو المقدّمة ، والمفروض أنّ ما هو المقدّمة عبارة عن الفعل المأمور به بالأمر النفسي ، فيكون قصد امتثال هذا الأمر النفسي حاصلا ضمناً ، وإن لم يلتفت إلى هذا القصد .

فيندفع بأنّ قصد الأمر النفسي إذا كان مقوّماً للمقدّمية ، فكيف يمكن الالتزام بتحقّقها مع الغفلة عن الأمر النفسي رأساً ، على أنّه لو صحّ ذلك لزم الحكم بصحّة صلاة الظهر إذا أتى بها مقدّمة لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها في نفسه ، وهو واضح البطلان .

وهذا الإشكال لا مدفع له بناءً على حصر عبادية الطهارات الثلاث بأوامرها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 111 .

ــ[383]ــ

النفسية ، بل إنّ لازم القول بذلك الحكمُ ببطلان صلاة من لا يعتقد بالاستحباب النفسي للوضوء ، فإنّه إذا كان معتقداً بعدم الأمر النفسي امتنع قصده لامتثاله ولو ارتكازاً ، ومع عدم قصده يقع باطلا على الفرض ، فتبطل الصلاة معه ، مع أنّه لا يمكن الالتزام به .

وقد أجاب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) عن أصل الإشكال بمنع حصر عبادية الطهارات الثلاث بالأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كل منهما ، وادّعى وجود صورة ثالثة يمكن أن تكون وجهاً لعبادية الطهارات الثلاث من دون محذور في ذلك ، وهي انحلال الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة إلى أوامر نفسية ضمنية على جميع الأجزاء والشرائط التي من جملتها الطهارات الثلاث فكما أنّ الأمر المتعلّق بمركب ينحل إلى الأمر بكل جزء جزء أمراً نفسياً ضمنياً فكذلك الأمر بالمقيّد ينحل إلى الأمر بذات العمل وإلى الأمر بقيده ، فكان كل قيد ـ  ومنه الطهارات الثلاث ـ متّصفاً بالأمر النفسي الضمني .

ثمّ إنّ الأمر الضمني يختلف ، فقد لا يكون عبادياً ، ولا يعتبر في سقوطه قصد القربة ، وهذا هو الغالب في القيود . وقد يكون عبادياً ، كما في الطهارات الثلاث . ولا ضير في اختلاف الأوامر الضمنية في ذلك ، وعليه فالعبادية إنّما نشأت من الأمر الضمني الانحلالي ، وهذا هو الذي أوجب عبادية الطهارات الثلاث .

وغير خفي أنّ ما قاله (قدّس سرّه) إنّما يتم حيث يدعى عدم الفرق بين الأجزاء والشرائط ، وأمّا بناءً على وجود الفارق بينهما ـ كما هو الصحيح ـ فالحديث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 255 .

ــ[384]ــ

غير تامّ  ، وذلك حيث أوضحنا فيما تقدّم(1) أنّ الجزء هو ما كان القيد والتقيّد فيه داخلين في المأمور به ، ولذلك يكون مأموراً بالأمر النفسي الضمني . وأمّا الشرط فهو ما كان تقيّده داخلا في المأمور به دون أصل القيد ، فكان القيد غير مأمور بالأمر النفسي الضمني ، لإمكان كونه غير اختياري ، فلا يمكن تعلّق التكليف به . مضافاً إلى ذلك لزوم اتّصاف الشرائط حينئذ بالوجوب النفسي والغيري على القول باتّصاف المقدّمة بالوجوب الغيري ، وهو غير صحيح .

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ عبادية الطهارات الثلاث إنّما تتمّ بأحد وجهين على سبيل منع الخلو :

الوجه الأول : قصد امتثال الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بالطهارات الثلاث مع الغفلة عمّا يتوقّف عليها من الواجب ، أو مع القطع بعدم الإتيان به كاغتسال الجنب وهو غافل عن إتيان الصلاة بعده أو قاطع بعدم إتيانها ، فإنّ الاغتسال يقع عبادة بهذا اللحاظ .

والمعنى المذكور موقوف على وجود الأمر النفسي ، وقد عرفت ثبوته في الطهارات الثلاث .

الوجه الثاني : قصد التوصّل بالمقدّمة المذكورة إلى الواجب النفسي ، فإنّه محقّق لعباديتها ، وإن لم يكن ملتفتاً إلى أمرها النفسي . فلو أتى المكلّف بالطهارات الثلاث بقصد التوصّل إلى الواجب بلا نظر إلى أمرها النفسي ، كان ذلك عبادة .

ولا يتوقّف المعنى المذكور على القول بوجوب المقدّمة شرعاً ، فإنّه حتّى مع القول بعدم الوجوب شرعاً لو جاء بذلك مع القصد المذكور تحقّقت العبادة ، لأنّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال ص317 ـ 318 .

ــ[385]ــ

يكفي فيها إتيان الفعل مضافاً به إلى المولى كما مرّ في بحث التعبّدي والتوصّلي(1)، ولا ريب أنّ الواجب لا يحتاج إلاّ إلى مقدّمة عبادية .

فالمتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الأمر الغيري لا يوجب عبادية الطهارات الثلاث ، وإنّما الذي أوجبها قصد التوصّل إلى الواجب ، أو لحاظ أمرها النفسي بخصوصه .

تنبيه : وجدير بنا أن نتعرّض لبعض الفروع التي لها ارتباط بالبحث المتقدّم .

منها : ما لو أراد المكلّف أن يأتي بالطهارات الثلاث قبل حصول وقت الواجب ـ بعد الالتزام باستحبابها النفسي ـ فهل يمكن ذلك ؟ في المسألة صور يختلف حكمها باختلاف صور التقرّب .

الصورة الاُولى : الإتيان بها قبل الوقت بداعي أمرها النفسي الاستحبابي . ولا إشكال في صحّتها وصحّة إيقاع الواجب بعد دخول الوقت ، وذلك لأنّ المقدّمة التي يتوقّف عليها الواجب النفسي هي الطهارة العبادية ، أي الأفعال بوصف العبادة وإتيانها بداعي أمرها النفسي الاستحبابي محقّق لعباديتها كما عرفت ، ومتى تحقّقت العبادة خارجاً حصلت المقدّمة التي توقّف عليها ذلك الواجب ، فلو دخل الوقت وأراد المكلّف إيقاع الصلاة ـ مثلا ـ أمكنه ذلك ، لتحقّق المقدّمة خارجاً .

الصورة الثانية : الإتيان بالطهارة قبل الوقت بداعي التوصّل إلى الواجب . والظاهر صحّة ذلك ، لما تقدّم منّا من أنّ عبادية الطهارات تتأتّى بأحد أمرين : الأول : الإتيان بها بداعي أمرها النفسي الاستحبابي . الثاني : الإتيان بها بداعي قصد التوصّل إلى الواجب النفسي ، والمفروض تحقّقه ، فلا مانع من الحكم بالصحّة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص247 وما بعدها .

ــ[386]ــ

نعم المعروف أنّه لا يصحّ التيمّم للصلاة قبل الوقت ، وفيه كلام مذكور في الفقه(1).

الصورة الثالثة : الإتيان بالطهارة بعد الوقت بداعي أمرها النفسي الاستحبابي . والظاهر كفاية ذلك وتحقّق المقدّمية ، وإن عرض عليها الوجوب الغيري .

واُشكل على هذه الصورة بأنّ الاستحباب النفسي لا يجتمع مع الوجوب الغيري ، بل لابدّ من اندكاكه به ، ومعه لابدّ من إتيانه بداعي أمره الغيري ، دون النفسي الاستحبابي .

وأجاب عن ذلك السيد الطباطبائي (قدّس سرّه) في عروته(2) بما حاصله : أنّ اجتماع الوجوب والاستحباب لا محذور فيه ، ما دام اجتماع الأمر والنهي حاصلا لاختلاف جهاته ، فإنّ جهة الوجوب الغيري هي المقدّمية ، وجهة الاستحباب النفسي هي ذات الأفعال ، وقد عرفت أنّ اختلاف الجهة يصحّح اجتماع الحكمين .

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ جواز الاجتماع إنّما يتمّ حيث تكون الجهة تقييدية ، أمّا إذا كانت تعليلية فالاجتماع غير جائز ، لتحقّقه في ذات واحدة ، والمقام من قبيل الثاني ، فلا يجوز اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي فيه .

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ عروض الوجوب الغيري على الاستحباب النفسي لا يرفع المحبوبية وملاكها الكامنين في الفعل ، وإنّما الوجوب يرفع حدّ الاستحباب النفسي ، وهو الترخيص في الترك ، فإذا كان أصل المحبوبية والملاك باقيين على حالهما ، وجاء العبد بالطهارة بداعي المحبوبية بعد الوقت ، فقد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع شرح العروة الوثقى 10 : 317 وما بعدها .

(2) العروة الوثقى 1 : 169 المسألة 33 ] 572 [ .

ــ[387]ــ

تحقّقت العبادة منه .

الصورة الرابعة : الإتيان بالطهارة بعد الوقت بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي . وهذا لا إشكال في صحّته ، ووقوعه عبادة كما عرفت .

إنّما الإشكال فيما لو قصد المكلّف التوصّل بالوضوء ـ مثلا ـ إلى واجب ، وكان غافلا عن محبوبيته النفسية ، ثمّ بدا له في الإتيان بذلك الواجب ، فهل يقع الوضوء حينئذ عبادة ؟

وليعلم أنّه على القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا إشكال في عدم اتّصاف هذا الوضوء بالوجوب الغيري ، وذلك لعدم التوصّل به إلى الواجب . إلاّ أنّ وقوعه قربياً لا يتوقّف على الوجوب ، فإنّ المفروض أنّ المكلّف أتى به بداعي التوصّل به إلى الواجب ، وهذا المقدار محقّق لعباديته ، فلا أثر لترتّب الواجب عليه وعدمه . وأمّا على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً فالأمر واضح .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net