مطهِّريّة الاستحالة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الرابع:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7738


   ثم إن الدليل على مطهرية الاستحالة هو أن بالاستحالة يتحقق موضوع جديد غير الموضوع المحكوم بنجاسته ، لأنه انعدم وزال والمستحال إليه موضوع آخر ، فلا بد من ملاحظة أن ذلك الموضوع المستحال إليه هل ثبتت طهارته بدليل اجتهادي أو لم تثبت طهارته كذلك ؟ فعلى الأول لا مناص من الحكم بطهارته بعين ذلك الدليل ، كما إذا استحال شاة أو انساناً أو جماداً أو غير ذلك من الموضوعات الثابتة طهارتها بالدليل . كما أنه على الثاني يحكم بطهارة المستحال إليه أيضاً لقاعدة الطهارة ، وذلك لفرض أنه مشكوك الحكم ولم تثبت نجاسته ولا طهارته بدليل . ونجاسته قبل الإستحالة قد ارتفعت بارتفاع موضوعها ولا معنى لبقاء الحكم عند انعدام موضوعه بحيث لو قلنا بنجاسته كما إذا كان المستحال إليه من الأعيان النجسة فهي حكم جديد غير النجاسة الثابتة عليه قبل استحالته ، وربما تختلف آثارهما كما إذا استحال الماء المتنجِّس بولاً لما لا يؤكل لحمه ، إذ النجاسة في الماء المتنجِّس ترتفع بالغسل مرة . وأما بول ما لا يؤكل لحمه أو الانسان ـ  على الخلاف  ـ فلا تزول نجاسته إلاّ بغسله مرتين إما مطلقاً أو في خصوص الثوب والجسد .

   فالمتحصل : أن النجاسـة في موارد الاستحالة ترتفـع بانعـدام موضـوعها ، وأن المستحال إليه موضوع آخر لا ندري بطهارته ونجاسته فلا مناص من الحكم بطهارته لقاعدة الطهارة .

   ومما ذكرناه اتضح أن عد الاستحالة من المطهرات لا يخلو عن تسامح ظاهر ، حيث إن الاستحالة موجبة لانعدام موضوع النجس أو المتنجِّس عرفاً لا أنها موجبة لطهارته مع بقاء الموضوع بحاله ، ولعل نظرهم (قدس الله أسرارهم) إلى أن الطهارة

ــ[149]ــ

وهي تبـدّل حقيقة الشيء وصورته النـوعية إلى صورة اُخرى ، فانّها تطـهّر النّجس (1) ، بل المتنجِّس كالعذرة تصير تراباً ، والخشبة المتنجِّسة إذا صارت رماداً ، والبول أو الماء المتنجِّس بخاراً ، والكلب ملحاً ، وهكذا كالنطفة تصير حيواناً ، والطعام النجس جزءاً من الحيوان (2) ،

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثابتة مع الاستحالة لا أنها رافعة لها (1) .

   (1) لما عرفت من أن المستحال إليه إذا كان من الأشياء التي ثبتت طهارتها بشيء من الأدلّة الاجتهادية حكم بطهارة العين المستحيلة بعين ذلك الدليل ، لأنه موضوع جديد وهو من جملة الأفراد التي قامت الأدلّة على طهارته ، والموضوع السابق المحكوم بالنجاسة قد ارتفع بالاستحالة . وإذا كان المستحال إليه مما يشك في طهارته ونجاسته في الشريعة المقدسة ولم يقم دليل على طهارته أيضاً حكم بطهارته لقاعدة الطهارة ، وتوضيحه :

   أنّ النجاسة في الأعيان النجسة إنما ترتبت على الصور النوعية وعناوينها الخاصّة فالدم مثلاً بعنوان أنه دم نجس ، كما أن العذرة بعنوانها محكومة بالنجاسة ، ومع تبدل الصورة النوعية وزوال العناوين الخاصة ترتفع نجاستها لانعدام موضوعها، ولم تترتّب النجاسة في الأعيان النجسة على مادة مشتركة بين المستحال منه والمستحال إليه ، أو على عنوان الجسم مثلاً ليدعى بقاء نجاستها بعد استحالتها وتبدلها بصورة نوعية اُخرى لبقاء موضوعها ، هذا كله في الأعيان النجسة .

   (2) لما قدّمناه في استحالة الأعيان النجسة ، هذا ولكن قد يقال كما نقله شيخنا الأنصاري (قدس سره) بالفرق بين استحالة نجس العين والمتنجِّس ، بالحكم بعدم كونها مطهرة في المتنجسات(2) وأظن أن أول من أبداه هو الفاضل الهندي(3) نظراً إلى أن الاستحالة في الأعيان النجسة موجبة لانعدام موضوع الحكم كما مر ، وهذا بخلاف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أي للنجاسة .

(2) كتاب الطهارة : 384 السطر 28 في المطهرات ومنها : النار ما أحالته رماداً .

(3) كشف اللثام 1 : 470 .

ــ[150]ــ

الاستحالة في المتنجِّس حيث إن النجاسة بالملاقاة لم تترتب على المتنجسات بعناوينها الخاصة من الثوب والقطن والماء وغيرها لعدم مدخلية شيء من تلك العناوين في الحكم بالنجاسة بالملاقاة ، بل النجاسة فيها تترتب على عنوان غير زائل بالاستحالة وهو الجسم أو الشيء كما في موثقة عمار : «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ...» (1) أي كل شيء أصابه المتنجِّس بلا مدخلية شيء من الخصوصيات الفردية أو الصنفية فيه ، ومن الواضح أن الجسمية أو الشيئية صادقتان بعد الاستحالة أيضاً ، حيث إن الرماد أو الدخان مثلاً جسم أو شيء ، ومع بقاء الموضوع وعدم ارتفاعه يحكم بنجاسته حسب الأدلّة الدالّة على أن الجسم أو الشيء يتنجّس بالملاقاة ، ثم إن الشيء وإن كان يشمل الجواهر والأعراض إلاّ أن العرض لما لم يكن قابلاً للاصابة والملاقاة كانت الاصابة في الموثقة قرينة على اختصاص الشيء بالجواهر ، وكيف كان الاستحالة غير موجبة للطهارة في المتنجسات ، هذا .

   ولقد أطال شيخنا الأنصاري (قدس سره) الكلام في الجواب عن ذلك وذكر بتلخيص وتوضيح منّا : أن النجاسة لم يعلم كونها في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية والجسم ، وإن اشتهر في كلماتهم أن كل جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما ينجس ، إلاّ أن قولهم هذا ليس مدلولاً لدليل من آية أو رواية وإنما هو قاعدة مستنبطة من الأدلّة الخاصة الواردة في الموارد المعينة من الثوب والبدن والماء ونحوها فهي تشير إلى تلك العناوين المشخصة ويؤول معناها إلى أن الماء إذا لاقى نجساً ينجس ، والثوب إذا لاقى ... وهكذا . فاذن للصور والعناوين الخاصة دخالة في الحكم بالنجاسة وإذا زالت بسبب الاستحالة زال عنها حكمها كما هو الحال في الأعيان النجسة كما مرّ ، هذا .

   إلاّ أن ما أفاده (قدس سره) لا يفي بدفع الشبهة ، وذلك لما عرفت من أن النجاسة والانفعال إنما رتبا على عنوان الجسم أو الشيء كما ورد في موثقة عمار ، فقولهم : إن كل جسم لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما ينجس ، هو الصحيح وهو مضمون الموثقة ، ولم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 142 / أبواب النجاسات ب 4 ح 1 .

ــ[151]ــ

تترتّب النجاسة على العناوين الخاصّة لبداهة عدم مدخلية الخصوصيات الصنفية من القطن والثوب ونحوهما في الحكم بالانفعال بالملاقاة . وعلى ذلك لا مانع من التمسك باطلاق الأدلّة الاجتهادية الدالّة على نجاسة الأشياء الملاقية مع النجس برطوبة ، حيث إن مقتضى إطلاقها أن الشيء إذا تنجس تبقى نجاسته إلى الأبد ما لم يطرأ عليه مزيل شرعاً . أو لو ناقشنا في إطلاقها لأمكن التمسّك باستصحاب النجاسة الثابتة عليه قبل استحالته كما سيتضح .

   فالصحيح في الجواب أن يقال : إن التمسّك بالإطلاق أو الاستصحاب إنما يتم إذا كان التبدّل في الخصوصيات الشخصية أو الصنفية ، كما إذا بدّلنا الثوب قطناً أو القطن ثوباً أو صارت الحنطة طحيناً أو خبزاً ونحو ذلك ، فان النجاسة العارضة على تلك الأشياء بملاقاة النجس لا ترتفع عنها بالتبدل في تلك الأوصاف ، فان الثوب هو القطن حقيقة وإنما يختلفان في وصف التفرق والاتصال ، كما أن الحنطة هو الخبز واقعاً وإنما يفترقان في الطبخ وعدمه ، والنجاسة كما ذكرنا إنما ترتبت على عنوان الشيء أو الجسم وهما صادقان بعد التبدل أيضاً ، بل الشيء قبله هو الشيء بعده بعينه عقلاً وعرفاً ، والتبدل في الأوصاف والأحوال غير مغير للحقيقة بوجه ، ومعه لا مانع من التمسك بالاطلاق أو الاستصحاب لاحراز بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها ـ  بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام  ـ إلاّ أن التغيّر في تلك الأوصاف ليس من الاستحالة المبحوث عنها في المقام .

   وأما إذا كان التبدل في الأوصاف النوعية كتبدل الثوب المتنجِّس تراباً أو الخشب المتنجِّس رماداً فلا يمكن التمسك حينئذ بالاطلاق أو الاستصحاب لمغايرة أحدهما الآخر ، وارتفاع موضوع الحكم بالنجاسة إما عقلاً وعرفاً وإما عرفاً فحسب . والنجاسة بالملاقاة وإن كانت مترتبة على عنوان الجسم أو الشيء إلاّ أن المتبدل به شيء والمتبدل منه الذي حكم بنجاسته بالملاقاة شيء آخر ، والذي لاقاه النجس هو الشيء السابق دون الجديد ولا يكاد يسري حكم فرد إلى فرد آخر مغاير له .

   فالمتحصل : أن بالتبدل في العناوين المنوعة يرتفع الشيء السابق ويزول ويتحقق

ــ[152]ــ

شيء آخر جديد ، فلا مجال معه للتمسك بالاطلاق أو الاستصحاب . فالاستحالة في المتنجسات كالاستحالة في الأعيان النجسة موجبة لانعدام الموضوع السابق وايجاد موضوع جديد .

   ويؤيد ذلك ما جرت عليه سيرة المتدينين من عدم اجتنابهم عن الحيوانات الطاهرة إذا أكلت أو شربت شيئاً متنجِّساً ، فالدجاجة التي أكلت طعاماً قذراً لا يجتنب عن بيضها كما لا يجتنبون عن روث الحيوان المحلّل أو بوله أو خرئه أو لحمه إذا أكل أو شرب شيئاً متنجِّساً ، وليس هذا إلاّ من جهة طهارة المتنجِّس بالاستحالة ، هذا .

   وقد يستدل على طهارة المتنجسات بالاستحالة بصحيحة حسن بن محبوب قال : «سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه ؟ فكتب إليَّ بخطه : إن الماء والنار قد طهّراه»(1) لأنها تدل على أن مادة الجص وإن كانت تنجست بالعذرة والعظام النجستين للايقاد بهما عليها ولا سيما مع ما في العظام من الأجزاء الدهنية ، إلاّ أن استحالتها بالنار وصيرورتها جصاً موجبة لطهارتها .

   ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال بوجوه : الأوّل : أن الرواية إنما تدل على طهارة العذرة والعظام النجستين بالاستحالة ، وليست فيها أية دلالة على كفاية الاستحالة في تطهير المتنجسات ، فان المطهر للجص هو الماء على ما قدّمنا (2) تفسيرها في التكلم على اعتبار الطهارة في موضع السجود ، وما ذكرناه في تفسير الرواية هناك إن تمّ فهو وإلاّ فالرواية مجملة . وما قيل من أن النار مطهرة بازالة العين وإعدامها والماء ـ  أي المطر  ـ مطهر باصابته ، كغيره مما ذكروه في تفسيرها تأويلات لا ظهور للرواية في شيء منها .

   الثاني : أن صريح الرواية إسناد الطهارة إلى كل من الماء والنار ، بأن يكون لكل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 527 / أبواب النجاسـات ب 81 ح 1 ، 5 : 358 / أبواب ما يسجد عليه ب 10 ح  1 .

(2) في شرح العروة  3 : 243 .

ــ[153]ــ

وأمّا تبدّل الأوصاف وتفرّق الأجزاء ، فلا اعتبار بهما كالحنطة إذا صارت طحيناً أو عجيناً أو خبزاً ، والحليب إذا صار جبناً (1) وفي صدق الاستحالة على صيرورة الخشب فحماً تأمل ((1)) وكذا في صيرورة الطين خزفاً أو آجراً (2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهما دخل في حصولها ، فما معنى إسناد الطهارة إلى خصوص النار ودعوى أنها مطهّرة بالاستحالة .

   الثالث : ما تقدمت الاشارة إليه ويأتي تفصيله من أن طبخ الجص أو التراب أو الحنطة أو غيرها إنما هو من التبدل في الحالات والأوصاف الشخصية أو الصنفية وليس من الاستحالة بوجه ، فالاستدلال بالصحيحة ساقط والصحيح في وجه كون الاستحالة مطهرة في المتنجسات ما ذكرناه .

   (1) لما تقدّم من أنّ التبدّل في الأوصاف كالتفرق والاجتماع لا ربط له بالاستحالة التي هي التبدّل في الصور النوعية بوجه .

   (2) بعد ما تقدّم من أن الاستحالة في المتنجسات كالاستحالة في الأعيان النجسة مطهرة ، وقع الكلام في مثل الخشب المتنجِّس إذا صار فحماً أو الطين خزفاً أو آجراً ، وأن مثله هل هو من التبدل في الصورة النوعية بصورة نوعية اُخرى كما اختاره جماعة في مثل الطين إذا صار خزفاً أو آجراً ، ومن هنا قالوا بطهارته بذلك وعليه رتبوا المنع عن التيمّم أو السجدة عليهما نظراً إلى خروجهما بالطبخ عن عنـوان الأرض والتراب أو أن الطبخ لا يوجب التبدل بحسب الحقيقة ؟

   الثاني هو الصحيح ، لأن الخشب والفحم أو الطين والآجر من حقيقة واحدة ، ولا يرى العرف أي مغايرة بين الخزف والآجر وإنما يراهما طيناً مطبوخاً وكذلك الحال في الخشب والفحم ، فالاختلاف بينهما إنما هو في الأوصاف كتماسك الأجزاء وتفرّقها وحالهما حال اللحم والكباب وحال الحنطة والخبز . فمع بقاء الصورة النوعية بحالها لا يمكن الحكم بطهارة الطين والخشب بصيرورتهما خزفاً أو فحماً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الظاهر عدم تحقق الاستحالة فيه وفيما بعده .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net