أصالة الصحّة في فعل الغير 

الكتاب : القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول) - ج4   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6331

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 269‌

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين.

الكلام في أصالة الصحّة في فعل الغير.

لا إشكال و لا كلام في حجّيّة أصالة الصحّة في الجملة، و تقدّمها على الاستصحاب- الجاري في موردها، كاستصحاب عدم انتقال المبيع إلى المشتري و عدم انتقال الثمن إلى البائع، المعبّر عنه بأصالة الفساد- نحو تقدّم لا أقلّ من أن يكون التقدّم لأجل وجود أصالة الفساد في جميع موارد أصالة الصحّة،

و إنّما الكلام يقع في جهات:

الأولى:

أنّ المراد بأصالة الصحّة إن كان حمل فعل الغير على الصحيح من حيث التكليف بمعنى حمله على الجائز و المباح و الحسن في مقابل القبيح و الحرام، فهو و إن كان ممّا لا شبهة فيه، لتظافر الآيات و الروايات على ذلك إلاّ أنّه خارج عن محلّ الكلام.

و إن كان المراد حمل الفعل على الصحيح من حيث الوضع، بمعنى ترتيب أثر الصحيح عليه خارجا- كما إذا رأينا أنّ أحدا يصلّي على جنازة فاكتفينا بصلاته بأصالة الصحّة- فلا يدلّ عليه شي‌ء من الآيات و الروايات المذكورة، و الإجماع القولي تحصيله في كلّ مورد مورد صعب مستصعب، و إنّما عمدة دليلها هي السيرة القطعيّة المعبّر عنها بالإجماع العملي، المؤيّدة بالتعليل الوارد في ذيل الرواية الدالّة على حجّيّة اليد بأنّه «لو لا ذلك لما قام‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 270‌

للمسلمين سوق» «1» إذ لم يعهد من أحد من المسلمين التحقيق و التفتيش عن حال معاملة المسلم و إحراز صحّتها و واجديّتها لشرائط الصحّة، بل إذا اشترى أحد شيئا من أحد و مات في ليلته يحكمون بإرث وارث المشتري المبيع و بمالكيّة البائع للثمن بلا تأمّل.

و نسب إلى المحقّق الثاني التمسّك ب‍ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ «3».

و فيه- مضافا إلى أنّه أخصّ من المدّعى، حيث إنّ هذا الدليل مختصّ بباب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون مثل غسل الثوب و العبادات-: أنّه مبنيّ على التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و هو غير جائز، فإذا شككنا في أنّ البيع الفلاني ربويّ أو لا، فالشكّ راجع إلى أنّه مصداق للخاصّ حتى لا يكون صحيحا، أو العامّ حتى يكون صحيحا، فلا يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات أنّه غير ربويّ.

الجهة الثانية: أنّ مورد أصالة الصحّة هو فعل الغير،

و مورد قاعدة الفراغ هو فعل نفس المكلّف، و لذا لا تختصّ ببعد الفراغ عن العمل، بل تجري في أثناء العمل أيضا، فنحكم بسقوط صلاة الميّت عنّا إذا رأينا مسلما يصلّي عليه، و هذا بخلاف قاعدة الفراغ، حيث لا تجري في الأثناء، بل لا بدّ من المضيّ و التجاوز عن العمل في جريانها، و ليست لنا قاعدة أخرى غير قاعدة الفراغ تسمّى بأصالة الصحّة في فعل نفس المكلّف.

______________________________
(1) الكافي 7: 387- 1، الفقيه 3: 31- 92، التهذيب 6: 261- 262- 695، الوسائل 27:

292- 293، الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 2.

(2) المائدة: 1.

(3) النساء: 29.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 271‌

الجهة الثالثة: أنّ المراد من الصحّة هو الصحّة الواقعيّة

لا الصحّة عند الفاعل، كما نسبه الشيخ قدّس سرّه إلى بعض المعاصرين «1»- و كتب بعض المحشّين أنّ المراد منه هو صاحب القوانين- فإنّ هذا الاحتمال ساقط من أصله، ضرورة أنّ الصحيح عند الفاعل من حيث التكليف خارج عن محلّ الكلام، و من حيث الوضع لا تترتّب عليه فائدة أصلا.

الجهة الرابعة: في مقدار سعة دائرة موضوع أصالة الصحّة و ضيقها،

و أنّها في أيّ مورد تجري و في أيّ مورد لا تجري،

فنقول: إنّ الشكّ في صحّة فعل الغير يتصوّر على صور:

الأولى:

ما إذا علم الشاكّ بجهل الفاعل بوجوه صحّة الفعل و فساده، سواء كان في الشبهة الحكميّة- كما إذا علم أنّه لا يعلم اعتبار العربيّة في الصيغة و عدمه- أو في الشبهة الموضوعيّة، كما إذا علم بأنّ ما اشتراه طرف للعلم الإجمالي بأن كان هو أو لحم آخر ميتة، و سواء كان الجهل عذرا له أو لم يكن، كما إذا علم الشاكّ بأنّ المشتري أيضا يعلم بأنّه طرف للعلم الإجمالي.

الثانية:

ما إذا لم يعلم الشاكّ بحال الفاعل من حيث جهله بوجوه الصحّة و عدمه.

الثالثة: ما إذا علم بأنّه عالم بوجوه الصحّة و الفساد. و هذه الصورة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما إذا علم باتّفاق النظرين تقليدا أو اجتهادا،

كما إذا علم بأنّه يرى اعتبار العربيّة أو الماضويّة في الصيغة و هو أيضا يعتبرها، فاحتمال فساد فعله ناش من سهو أو خطأ أو عدم المبالاة.

______________________________
(1) فرائد الأصول: 416.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 272‌

القسم الثاني:

ما إذا جهل اتّفاق النظرين و اختلافهما.

القسم الثالث:

ما إذا علم اختلاف النظرين إمّا بنحو التداخل بأن يرى أحدهما وجوب السورة و الآخر استحبابها، فإنّه يمكن أن يأتي بها استحبابا، أو بنحو التباين بأن يرى الشاكّ وجوب الجهر في صلاة الجمعة مثلا، و الفاعل وجوب الإخفات فيها، أو يرى أحدهما وجوب القصر في مورد، و الآخر وجوب الإتمام فيه.

أمّا الصورة الأولى:

فلا ينبغي الشكّ في عدم جريان أصالة الصحّة فيها مطلقا، للقطع بعدم جريان السيرة- التي هي عمدة الأدلّة- في المقام، و لا أقلّ من الشكّ، إذا لم يثبت ترتيب آثار الصحّة على فعل تحتمل صحّته بمجرّد الصدفة الخارجيّة، إذ المفروض أنّ الفاعل لجهله لا يقدم على الصحيح، و لو وقع صحيحا، فإنّما هو من باب الصدفة و الاتّفاق، مع أنّ التعليل- الّذي علّل به جماعة على ما ذكره الشيخ «1» قدّس سرّه حجّيّة أصالة الصحّة من أنّ ظاهر حال المسلم أن يأتي بالعمل صحيحا- لا يجري في هذه الصورة أيضا، إذ ليس ظاهر حال الجاهل بالصحيح الإقدام عليه.

و أمّا الصورة الثانية:

فقد تنظّر الشيخ قدّس سرّه في جريان أصالة الصحّة فيها «2».

لكنّ الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في جريانها فيها، إذ أكثر موارد أصالة الصحّة إنّما هو هذه الصورة، و لولاها للزم العسر الشديد و الحرج الأكيد.

و أمّا الصورة الثالثة:

فلا ينبغي الإشكال في الجريان في القسم الأوّل منها، و هو مورد اتّفاق النظرين: نظر الشاكّ و نظر الفاعل، إذ هو القدر المتيقّن‌

______________________________
(1) فرائد الأصول: 416.

(2) فرائد الأصول: 417.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 273‌

من جريان السيرة، و التعليل المذكور أيضا جار فيه، لفرض علم الفاعل بوجوه الصحّة و الفساد.

و هكذا تجري في القسم الثاني من هذه الصورة، و هو مورد الجهل باتّفاق النظرين و اختلافهما مع أنّ التعليل المذكور أيضا جار فيه.

و أمّا القسم الثالث من هذه الصورة

- و هو مورد اختلاف النظرين- فالظاهر عدم الجريان، لعدم العلم بجريان السيرة بل ينبغي القطع بعدم جريانها في الشقّ الثاني منه، و هو أن يكون اختلاف النّظر بنحو التباين، فإنّ حمل فعله على الصحيح الواقعي مقتضاه الحكم بإقدامه على الفاسد عنده، و هو- مع القطع بأنّه خلاف السيرة المستمرّة- ينافي ظهور حال المسلم في الإقدام على الصحيح، المذكور في كلام جماعة من الفقهاء، و على ذلك فلا يمكن الاقتداء بمن يختلف نظره مع المؤتمّ الاختلاف التبايني بل الاختلاف التداخلي إذا احتمل اقتصاره على أقلّ الواجب إلاّ إذا ثبت أنّ موضوع جواز الاقتداء هو الصحّة عند الإمام لا الصحّة الواقعيّة، و أنّى لنا بإثبات ذلك؟

الجهة الخامسة: في أنّ موضوع أصالة الصحّة في باب العقود و الإيقاعات أيّ شي‌ء هو؟

الاحتمالات ثلاثة:

الأوّل

- و هو الّذي يظهر من كلام الشيخ قدّس سرّه-: أن يكون مجرّد الالتزام العرفي، فإذا صدر التزام عقدي أو إيقاعي من شخص، يحكم بصحّته سواء كان الشكّ فيما هو ركن له عند العقلاء أو عند الشرع أو كان الشكّ في غير الأركان. و بعبارة أخرى: يكفي في جريان أصالة الصحّة إحراز مجرّد الالتزام العرفي و لو لم تحرز قابليّة العوضين لأن يتملّكا، و أهليّة المتعاملين للتمليك و التملّك عند العقلاء أو عند الشرع، فتجري أصالة الصحّة في مورد الشكّ في جنون المتعاملين أو بلوغهما، و هكذا في مورد الشكّ في ماليّة العوضين أو‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 274‌

كونهما خمرا، مع أنّ العقل ممّا به قوام العقد عند العقلاء، فإنّهم لا يرتّبون الأثر على معاملة المجنون، و البلوغ ممّا به قوام العقد عند الشارع و إن لم يكن كذلك عند العقلاء، و الماليّة كذلك عند العقلاء، و عدم كون العوض خمرا كذلك عند الشارع.

الثاني

- و هو الّذي يحتمل من كلام المحقّق الثاني و العلاّمة قدّس سرّهما-: أن يكون الموضوع هو العقد العرفي العقلائي، فكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى غير ما يكون قوام العقد به عند العقلاء تجري فيه أصالة الصحّة، و أمّا إذا كان الشكّ فيما له دخل في عقديّة العقد عندهم كالشكّ في حرّيّة المتعاملين أو جنونهما أو الشكّ في ماليّة العوضين، فلا تجري، فعلى هذا يكون موضوع أصالة الصحّة في الشبهات الموضوعيّة هو موضوع أصالة الإطلاق في الشبهات الحكميّة، فكما إذا شكّ في اعتبار العربيّة أو الماضويّة في العقد يحكم بعدم اعتبارها بمقتضى إطلاق قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» لإحراز موضوعه و هو البيع العرفي، و لا يجوز التمسّك به فيما يشكّ دخله في عقديّة العقد عرفا، كذلك في أصالة الصحّة، غاية الأمر أنّه يتمسّك بالإطلاق لرفع كلّ ما تحتمل شرطيته شرعا، و بأصالة الصحّة لإثبات وجود ما هو شرط شرعا عند الشكّ في وجوده و لو كان المشكوك ممّا له قوام في العقد عند الشرع.

الثالث:

هو ما يحتمل أيضا من كلام المحقّق الثاني و العلاّمة قدّس سرّهما من أنّ الموضوع هو ما أحرز جميع ما له دخل في عقديّة العقد عند العقلاء و الشرع من الشرائط، فكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى قابليّة المتعاقدين للتمليك و التملّك عرفا أو شرعا- كالشكّ في رشدهما أو عقلهما المعتبر في قوام العقد عرفا، و كالشكّ‌

______________________________
(1) البقرة: 275.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 275‌

في بلوغهما المعتبر في قوامه شرعا لا عرفا- أو إلى قابليّة العوضين لأن يتملّكا عرفا- كالشكّ في كون العوض خنفساء أو كونه حرّا، فإنّ الماليّة من مقوّمات العقد عرفا- أو شرعا، كالشكّ في كونه خمرا أو خلاّ، لا تجري أصالة الصحّة.

و كلّ ما رجع الشكّ فيه إلى مقام الفعليّة بعد إحراز القابليّة- كالشكّ في كون المعاملة ربويّة أو لا، أو في كونها غرريّة أو لا- تجري.

و الضابط هو أنّ الشكّ إذا كان فيما هو خارج عن اختيار المتعاقدين، فلا تجري، و إذا كان فيما يكون تحت اختيارهما، فتجري. و الظاهر من كلام المحقّق الثاني و العلاّمة قدّس سرّهما- بقرينة تمثيلهما لما لا تجري فيه أصالة الصحّة بالشكّ في بلوغ المتعاقدين- هو هذا المعنى، لوضوح أنّ الشكّ في البلوغ شكّ فيما له قوام في العقد شرعا لا عرفا.

هذا، و بما أنّ مدرك أصالة الصحّة ليس إلاّ السيرة المستمرّة فلا بدّ من ملاحظة أنّ السيرة بأيّ مقدار متحقّقة؟ و هي في غير الأخير من الاحتمالات غير مقطوعة، بل في بعض الموارد يقطع بعدم جريانها، مثل ما إذا باع أحد ما لا يعلم أنّه خمر أو خلّ، أو باع أحد مال اليتيم و لا يعلم أنّه وليّه أو وكيل لوليّه، أولا، أو باع أحد ما لا يكون تحت يده و لا يعلم كونه ملكا له و لا كونه وكيلا عن مالكه، فإنّ من الضروري أنّ أحدا من المسلمين لا يقدم على الشراء في هذه الموارد بمقتضى أصالة الصحّة.

و يتفرّع على ذلك عدم جواز شراء ما يعلم بوقفيّته بمجرّد احتمال طروّ أحد من مسوّغات بيع الوقف، فإنّ الوقف ممّا لا يكون قابلا للبيع إلاّ إذا عرض له ما يسوّغ بيعه، فما لم يحرز عروض ذلك لم تحرز قابليّته له، فلا تجري أصالة الصحّة في بيع المتولّي له.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ أيّ مورد رجع الشكّ فيه إلى أهليّة المتعاملين عرفا‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 276‌

أو شرعا أو قابليّة العوضين كذلك لا تجري أصالة الصحّة و تجري في غيره، و ذلك لعدم عموم أو إطلاق لفظي يمكن التعميم بسببه، بل المدرك هو السيرة، و هي غير متحقّقة في غير الشكّ في الفعليّة، بل نقول: إحراز القابليّة معتبر في قاعدة اليد أيضا، فلا تجري فيما لم تحرز أهليّة ذي اليد لتملّك ما في يده أو قابليّة ما في يده لأن يمتلك عرفا أو شرعا. و عبّر المحقّق الثاني عمّا ذكرنا بلزوم إحراز أركان العقد، و العلاّمة قدّس سرّه بلزوم إحراز أهليّة المتعاملين، و هو أحسن تعبير في المقام.

و من العجيب أنّ الشيخ «1» قدّس سرّه استشهد لعموم الموضوع و شموله للشكّ في الأركان بأنّا نرى أنّ المسلمين يعاملون بعضهم مع بعض مع احتمال أنّ ما يشتريه إنّما اشتراه بائعه في حال صغره، فإنّ هذا لا ربط له بأصالة الصحّة، و إنّما هو من جهة قاعدة اليد، إذ لا يعتبر فيها إلاّ أن يكون ذو اليد قابلا لتملّك ما في يده، و ما في يده قابلا لأن يتملّك له في حال كونه تحت يده، و احتمال الانتقال إليه في حال صغره لا يزيد عن احتمال سرقته.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لو شكّ في أنّ مجري الصيغة، الوكيل من قبل المالك في ذلك بالغ أو لا، تجري أصالة الصحّة مع إحراز بلوغ المالك بناء على عدم اعتبار البلوغ في الوكيل في إجراء الصيغة، بخلاف الشكّ في بلوغ نفس المالك، فإنّه لا تجري فيه.

و ظهر أنّ مدّعي الصحّة يقدّم قوله، و لا يحتاج إلى إقامة البيّنة إذا كان منشؤ الاختلاف هو الشكّ في الفعليّة بعد الاتّفاق في القابليّة.

______________________________
(1) انظر: فرائد الأصول: 418.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 277‌

و ظهر أيضا أنّ غير المعاملات بالمعنى الأخصّ أيضا ملحق بها في ذلك، فلو احتمل كفر من يصلّي على الميّت، لا يحكم بصحّة صلاته بمقتضى أصالة الصحّة.

ثمّ إنّ الشيخ قدّس سرّه بعد ما عمّم جريان أصالة الصحّة لمورد الشكّ في القابليّة أفاد تفصيلا بعد التنزّل، و هو أنّ أصالة الصحّة جارية فيما له طرفان و أحرزت القابليّة في أحدهما، كمطلق العقود و الإيقاعات المسبوقة باستدعاء الغير، و غير جارية في خصوص الإيقاعات الابتدائيّة غير المسبوقة باستدعائه، فلو شكّ في صحّة معاملة من جهة الشكّ في بلوغ أحد المتعاملين، فإجراء أصالة الصحّة في فعل من أحرز بلوغه كاف للحكم بصحّة الفعل، و هكذا إذا ضمن أحد باستدعاء بالغ و شكّ في بلوغ الضامن، فلو سلّم عدم جريان أصالة الصحّة في فعل الضامن للشكّ في بلوغه، فلا مانع من إجرائها في فعل المستدعي الّذي علم ببلوغه، فإنّ مقتضاها أنّ المسلم البالغ لا يعامل مع الصبي، و لا يستدعي الضمان من غير البالغ، و هذا بخلاف الضمان الابتدائي غير المسبوق باستدعاء المديون، فإنّه لو اعتبرنا تماميّة أركان الصحيح، لا تجري أصالة الصحّة في فعل الضامن، للشكّ في بلوغه حال الضمان «1».

و فيه: ما لا يخفى، فإنّه بعد تسليم اعتبار إحراز القابليّة لا وجه للتفصيل، بل لا بدّ من القول بعدم الجريان حتى فيما له طرفان، إذ أصالة الصحّة في فعل البالغ مقتضاها ليس إلاّ أنّه بحيث لو انضمّ غيره ممّا له دخل في ترتّب الأثر المرغوب منه، لترتّب عليه الأثر. و بعبارة أخرى: مقتضاها هو الصحّة التأهّليّة الشأنيّة لا الفعليّة.

______________________________
(1) فرائد الأصول: 418.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 278‌

و هذا نظير ما أفاده بعد ذلك من أنّه لا يترتّب على أصالة صحّة الإيجاب إلاّ صحّة الفعل إذا تعقّبه القبول، و لا يحكم بملكيّة المشتري بمجرّد الحكم بصحّة الإيجاب بمقتضى أصالة الصحّة «1»، فإنّ أصالة الصحّة في فعل البائع البالغ أو المديون المستدعي للضمان لا ربط لها بانضمام شي‌ء آخر من بلوغ المشتري و الضامن حال الضمان الّذي له دخل أيضا في ترتّب الأثر.

و دعوى أنّ مقتضى أصالة الصحّة في فعل البالغ هو معاملته مع البالغ لا غير، فيثبت بذلك بلوغ الطرفين و يحكم بصحّة المعاملة، غير مفيدة، فإنّ أصالة الصحّة بمعنى أنّه يفعل فعلا مباحا غير ممنوع شرعا مسلّمة لكن ليست هي محلّ البحث، و بمعنى أنّه فعل فعلا صحيحا يترتّب عليه الأثر لا تقتضي أزيد ممّا يرجع إليه و لا يثبت تحقّق شي‌ء آخر ممّا له دخل أيضا في ترتّب الأثر، كالبلوغ في المثال.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ أصالة صحّة عقد الفضولي لا تفيد ما لم تحرز إجازة من بيده الإجازة، و هكذا أصالة صحّة عقد الهبة لا تفيد ما لم يحرز تحقّق القبض في الخارج، فإنّ الإجازة و القبض أيضا ممّا له دخل في تأثير عقد الفضولي، كما أنّ القبض له دخل في تأثير عقد الهبة، و لولاه لم تحصل الملكيّة، فلو وهب أحد مالا لأحد فمات الواهب و ادّعى الوارث عدم تحقّق القبض، و الموهوب له تحقّقه، لا يحكم بأصالة الصحّة أنّ هذا المال للموهوب له، بل الأصل الحكمي- و هو أصالة عدم انتقاله إليه- يحكم بكونه للميّت، فيرثه وارثه. و هكذا لو طلّق فضوليّ امرأة، لا يجوز نكاحها بعد انقضاء عدّتها بمقتضى أصالة الصحّة.

______________________________
(1) فرائد الأصول: 418- 419.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 279‌

و الضابط الكلّي لما ذكرنا أنّ الأثر- كالملكيّة و الزوجيّة و غيرهما- إذا كان مترتّبا على أمور متعدّدة، فلا بدّ من إحراز ما لا تجري فيه أصالة الصحّة.

و من هنا يظهر حكم الفرع المعروف من أنّه إذا أذن المرتهن ثمّ رجع و شكّ في تأخّر رجوعه عن بيع الراهن حتى يصحّ بيعه، أو تقدّمه حتى يبطل، و أنّه لا يصحّ التمسّك بأصالة الصحّة لا في الإذن و لا في البيع و لا في الرجوع، فإنّ بعضا أثبت صحّة البيع بجريانها فيه و بعضا أثبتها بجريانها في الإذن و بعضا أثبت بطلان البيع بأصالة الصحّة في الرجوع.

و ليس شي‌ء من هذه الوجوه بتامّ، أمّا أصالة الصحّة في الإذن: فمقتضاها ليس إلاّ أنّه لو تعقّبه البيع تترتّب عليه الملكيّة. و أمّا أصالة الصحّة في الرجوع أيضا: فمقتضاها أنّه لو وقع بعده البيع لا تترتّب عليه الملكيّة و وقع باطلا. و أمّا أصالة الصحّة في البيع: فلا تفيد ما لم يحرز كونه مسبوقا بالإذن، فبأصالة الصحّة لا يمكن إثبات شي‌ء لا صحّة البيع و لا بطلانه. و الأصل الموضوعي- و هو استصحاب بقاء الإذن إلى زمان وقوع البيع- و إن كان يثبت صحّة البيع إلاّ أنّه معارض بأصل موضوعيّ آخر، و هو استصحاب عدم حدوث البيع إلى زمان الرجوع، المقتضي لعدم وقوع البيع في زمان يترتّب عليه الأثر فيه، و هو زمان الإذن، فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي، و هو أصالة بقاء كلّ ملك في ملك مالكه الأصلي و عدم انتقاله عنه إلى غيره، فينتج بطلان البيع.

الجهة السادسة:

أنّه لا بدّ في جريان أصالة الصحّة من إحراز أنّ الفاعل قصد ما هو جامع بين الصحيح و الفاسد، لترتيب أثر الصحيح، فإذا كان الأثر مترتّبا على فعل خاصّ، فلا بدّ من إحراز كون الفاعل قاصدا له سواء كان القصد ممّا له دخل في تحقّق عنوان الفعل- بأن كان الفعل من العناوين القصديّة كعنوان التعظيم و التوهين- أو لم يكن، و سواء كان من العبادات أو غيرها.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 280‌

أمّا ما كان من العناوين القصديّة فهو كنوع الصلوات، فإنّ امتياز بعضها عن بعض ليس إلاّ بالقصد، إذ ما لم يقصد الظهر أو الأداء أو الصلاة عن الميّت لا يمتاز عن العصر و القضاء و الصلاة عن نفسه.

و أمّا ما لم يكن كذلك فهو كغسل الثوب، فإنّه لا دخل لقصد التطهير في حصول الطهارة به.

فلا تجري أصالة الصحّة في فعل لا يعلم أنّه صلاة النافلة أو الفريضة اليوميّة، و لا يجوز الاقتداء بفاعله، و أيضا لا يجوز الاكتفاء بفعل من نرى أنّه واقف بهيئة المصلّي على الميّت و لا نعلم أنّه قصد الصلاة عنه أو لا، و هكذا لا يحكم بطهارة ثوب نجس رأينا أنّ مسلما يغسله و احتملنا أنّه لم يكن في مقام التطهير بل كان في مقام إزالة القذارة العرفيّة و أراد تطهيره بعد ذلك. و كلّ ذلك لما ذكرنا من أنّ مدرك هذا الأصل ليس دليلا لفظيّا عامّا أو مطلقا حتى نتمسّك بعمومه أو إطلاقه، بل المدرك إنّما هو الإجماع العملي و السيرة المستمرّة، و القدر المتيقّن منها هو غير هذه الموارد.

و من هنا ظهر أنّ إحراز المستأجر للصلاة عن الميّت قصد الصلاة عن الميّت في فعله لازم، و تجري أصالة الصحّة لو وقع الشكّ في صحّة صلاته من غير هذه الجهة، و يترتّب عليها كلّ ما كان أثرا له من استحقاق النائب للأجرة، و فراغ ذمّة الميّت، و جواز استئجاره ثانيا لهذا العمل فيما يكون فراغ الذمّة شرطا لصحّة الإجارة، كالحجّ.

و الشيخ قدّس سرّه فرّق بين الآثار بما ملخّصه أنّ فعل النائب، له اعتباران و لكلّ أثر:

أحدهما: أنّه فعل لنفس النائب من حيث إنّه يصدق حقيقة أنّه صلّى، و لو قيل: لم يصلّ هو، لعدّ قائله كاذبا، و بهذا الاعتبار لا بدّ أن يراعي في صلاته‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 281‌

وظيفة نفسه، فيأتي بما يراه جزءا أو شرطا لصلاته و لو لم يكن موافقا للمنوب عنه، و لذا لو كان النائب رجلا، يجب عليه الجهر في صلواته الجهريّة و لو كان نائبا عن امرأة، و لا يجب عليه ستر جميع البدن إلاّ ما استثني، بل يجب عليه ستر خصوص العورتين، و هكذا في باقي الشرائط.

و ثانيهما: أنّه فعل للمنوب عنه ببدنه التنزيلي، و بهذا الاعتبار لا بدّ أن يراعي موافقته لما فات عنه من أنّه صلاة القصر أو التمام.

و الفاعل بفعله بالاعتبار الأوّل يستحقّ الأجرة، و أصالة الصحّة تجري فيه بهذا الاعتبار، فيحكم باستحقاقه للأجرة. و هو بالاعتبار الثاني موجب لفراغ ذمّة الميّت، و لا تجري فيه بهذا الاعتبار أصالة الصحّة، ضرورة أنّه بهذا الاعتبار ليس فعلا للنائب بل فعلا للمنوب عنه، فلا يحكم بفراغ ذمّة الميّت حتى يحرز إتيانه صحيحا «1».

و هذا من مثله من الغرائب، فإنّ الفاعل لو علم أنّه أتى بالفعل و أنّه قصد النيابة و شكّ في صحّة ما أتى به و عدمها، فجريان أصالة الصحّة في فعله يثبت أنّه صلّى عن الميّت صحيحة، و ليس متعلّق الإجارة إلاّ الصلاة عن الميّت صحيحة، و ليس المفرّغ لذمّة الميّت إلاّ هي بعينها، فلو حكم بتحقّقها بأصالة الصحّة، يترتّب عليها كلا الأثرين.

و لو لم يعلم أنّه أتى بالفعل، أو علم ذلك لكن لم يعلم أنّه صلّى عن الميّت أو صلاة نفسه، فلا تثبت أصالة الصحّة أنّه صلّى مع احتمال أنّه لم يصلّ أصلا، و لا تثبت أنّه صلّى عن الميّت مع احتمال أنّه صلّى صلاة نفسه، و كما لا يحكم بفراغ ذمّة الميّت لا يحكم باستحقاق الفاعل للأجرة، إذ لم يثبت إتيانه‌

______________________________
(1) فرائد الأصول: 420.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 282‌

بمتعلّق الإجارة لا بالوجدان و لا بالأصل، فظهر أنّ التفريق بين الأثرين تحكّم.

بقي شي‌ء،

و هو أنّ قصد الفاعل من أين يستكشف؟ هل يكفي في إحرازه إخبار الفاعل أو الوثوق به أو عدالته؟ أوسطها أوسطها، فإنّ الأوّل لا دليل على حجّيّته بمجرّده.

و دعوى قبول قوله فيه من جهة أنّه ممّا لا يعلم إلاّ من قبله، مدفوعة:

بأنّه لم يدلّ دليل على أنّ كلّ ما لا يعلم إلاّ من قبل المخبر يكتفي فيه بإخباره، و إنّما هو مختصّ ببعض الموارد و ليس المقام منه.

و هكذا الثالث، فإنّ العدالة معتبرة في البيّنة في باب الشهادات تعبّدا و في بعض موارد اخر كإمام الجماعة، و لا يكتفى فيها بأعلى مراتب الوثاقة، و لا دليل على اعتبار العدالة في غير موارد خاصّة منصوصة.

و أمّا الثاني فالاكتفاء به لأجل قيام سيرة العقلاء كافّة على العمل بخبر الثقة و ترتيب الآثار عليه.

الجهة السابعة:

أنّ أصالة الصحّة بما أنّ حجّيّتها من باب السيرة لا تكون لوازمها و ملزوماتها العقليّة أو العاديّة ثابتة، و إنّما يثبت بها الأثر الشرعي المترتّب على المشكوك بلا واسطة، سواء قلنا بكونها أمارة أو أصلا محرزا أو أصلا تعبّديّا محضا، كأصالة البراءة، لعدم قيام السيرة على إثبات اللوازم و الملزومات بها، فلو رجع النزاع بين المترافعين إلى ثبوت لازم العقد الصحيح و عدمه، لا يقدّم قول مدّعي صحّة العقد بأصالة الصحّة، بل لا بدّ له من إقامة البيّنة.

و هنا فروع تعرّض لها الشيخ قدّس سرّه:

أحدها: ما فرّعه على عدم حجّيّة مثبتات أصالة الصحّة من أنّه لو شكّ في أنّ الشراء كان بما لا يملك كالخمر و الخنزير أو بما يملك كالشاة، لا يحكم‌

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 283‌

بانتقال الشاة إلى ملكه، فإنّه لازم عقلي لصحّة المعاملة «1».

و ظاهر كلامه قدّس سرّه أنّ أصالة الصحّة جارية لكن لا يترتّب عليها لازمها العقلي.

و فيه: مسامحة واضحة، فإنّ أصالة الصحّة لا تجري في المثال، لما مرّ من أنّ إحراز قابليّة العوضين للتملّك لازم لجريانها، و على فرض التنزّل فلا يثبت بأصالة الصحّة انتقال الشاة إلى البائع، فإنّه لازم عقلي للصحّة.

ثانيها: ما نقله الشيخ قدّس سرّه عن العلاّمة «2» قدّس سرّه من أنّه لو قال المالك:

آجرتك هذه الدار مثلا كلّ شهر بدرهم، و قال المستأجر: بل سنة بدينار، لا يحكم بأصالة الصحّة بكون المالك مستحقّا للدينار و المستأجر مستحقّا لاستيفاء منفعة السنة، فإنّ كلاّ منهما لازم عقليّ للصحّة.

هذا من جهة ربط الفرع بالمقام، و أمّا الكلام في أصل هذا الفرع: فتارة يقع في حكمه في نفسه، و أخرى في حكمه في مقام الترافع.

أمّا حكم إجارة كلّ شهر بدرهم و نظائره ممّا هو متعارف في هذه الأزمنة ففيه قولان: البطلان حتى بالقياس إلى الشهر الأوّل، لجهل مدّة الإجارة، و الصحّة في الشهر الأوّل فقط، لانحلال هذه الإجارة إلى إجارة الشهر الأوّل و غيره، فلا مانع من صحّتها في الشهر الأوّل، لمعلوميّة المدّة و مال الإجارة فيه.

و هذا نظير بيع ما يملك و ما لا يملك، أو بيع ما يملك و ما لا يملك صفقة واحدة، إذ قرّر في محلّه أنّ الصحّة في المملوك و فيما يملك هي مقتضى القاعدة، لانحلال البيع إلى بعين، فبطلان أحدهما أو توقّفه على إجازة المالك لا يضرّ بصحّة الآخر و لزومه. و هذا القول هو الحقّ الحقيق بالتصديق.

______________________________
(1) فرائد الأصول: 420.

(2) فرائد الأصول: 420- 421، و انظر: قواعد الأحكام 1: 236.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 284‌

و أمّا الكلام من حيث الترافع: فإن قلنا ببطلان إجارة كلّ شهر بدرهم، فأحدهما يدّعي الصحّة و الآخر ينكرها، و بما أنّ الصحّة من لوازمها العقليّة تعلّق الإجارة بمدّة سنة و بمبلغ دينار لا يقدّم قول مدّعيها بل عليه البيّنة.

و إن قلنا بصحّتها في الشهر الأوّل فقط، فيصير من باب التداعي، إذ كلّ منهما يدّعي شيئا ينكره الآخر، و ليس النفي و الإثبات واردين على مورد واحد، فيعمل على طبق قاعدة التداعي.

و ممّا ذكرنا ظهر أن لا خصوصيّة لإجارة كلّ شهر بدرهم في المقام، بل لو كان صحيحا لصحّ في المقام و غيره، و إلاّ فلا يصحّ في مورد أصلا، فإضافة لفظة «هنا»- كما في كلام جامع المقاصد «1»- ليست في محلّها.

ثالثها: ما نقله الشيخ أيضا عن العلاّمة «2» قدّس سرّه من أنّه لو ادّعى المالك مجهوليّة مدّة الإجارة و مال الإجارة كليهما أو أحدهما، و ادّعى المستأجر معلوميّتهما أو معلوميّة أحدهما، فالمستأجر مدّع للصحّة و لكن لا تثبت دعواه من كون المدّة كذا مقدار أو مال الإجارة كذا مبلغ، فإنّه لازم عقلي للصحّة.

و ذكر جامع المقاصد في شرح قول العلاّمة: «يقدّم قول مدّعي الصحّة ما لم يتضمّن دعوى» ما حاصله: أنّ المراد أنّه يقدّم قوله إذا لم يدّع المستأجر ثمنا أزيد من أجرة المثل «3».

و ذكر شيخنا الأستاذ قدّس سرّه أنّ الكلام في هذه الصورة، إذ في صورة مساواة أجرة المثل لما يدّعيه المستأجر لا فائدة للنزاع، إذ المستأجر على كلّ حال‌

______________________________
(1) انظر جامع المقاصد 7: 309. و لا يخفى أنّ كلمة «هنا» وردت في كلام العلاّمة في قواعد الأحكام 1: 236.

(2) فرائد الأصول: 421، و انظر: قواعد الأحكام 1: 236.

(3) جامع المقاصد 7: 310.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 285‌

- سواء كانت الإجارة صحيحة أو باطلة- ملزم بردّ مقدار أجرة المثل، غاية الأمر أنّه على تقدير الصحّة يكون هو المسمّى، و على تقدير البطلان يكون أجرة المثل «1».

و ما أفاده تامّ لو كان النزاع بعد استيفاء المنفعة، أمّا قبله ففائدة النزاع أنّ المالك يدّعي بطلان الإجارة، فلو لم يقم المستأجر بيّنة على الصحّة، يحلف المالك، و يأخذ العين من يد المستأجر، و يؤجرها شخصا آخر بأزيد ممّا يدّعيه المستأجر.

الجهة الثامنة:

لا إشكال في تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب الحكمي الجاري في موردها، سواء قلنا بكونها أمارة أو أصلا محرزا أو أصلا تعبّديّا محضا، و ذلك لما مرّ في قاعدة الفراغ من أنّ تقدّم الاستصحابات الجارية في مواردها يوجب اختصاصها بفرد نادر، فلا يبقى مورد لها إلاّ نادرا، و هو صورة تبادل الحالتين و الجهل بالمتأخّرة منهما، فلا مناص عن تقدّمها على الاستصحاب الحكمي، غاية الأمر أنّه لو كانت أمارة، فمن باب الحكومة، و لو كانت أصلا، فمن باب التخصيص.

و أمّا تقدّمها على الاستصحابات الموضوعيّة الجارية في مواردها، و عدمه فقد أطال الشيخ و شيخنا الأستاذ «2» قدّس سرّهما الكلام فيه إطالة بلا طائل، و فصّلا تفصيلا- بين ما كانت أصالة الصحّة أمارة فتقدّم، و أصلا محرزا فيتعارضان، و يرجع إلى الأصل الحكمي، و أصلا غير محرز فيقدّم الاستصحاب- لا يرجع إلى محصّل، فإنّ كلّ ذلك- بعد ما كان مدركها هو السيرة- شعر بلا ضرورة، فاللازم ملاحظة أنّ أيّ مورد تجري فيه السيرة،

______________________________
(1) أجود التقريرات 2: 488- 489.

(2) انظر: فرائد الأصول: 421 و ما بعدها، و أجود التقريرات 2: 489- 493.

القواعد الفقهية و الاجتهاد و التقليد (الهداية في الأصول)، ج‌4، ص: 286‌

فيلتزم بجريان أصالة الصحّة، سواء كان الأصل المخالف لها أصلا حكميّا أو موضوعيّا، و أيّ مورد لا تجري فيه مطلقا، مثلا: نرى أنّ المسلمين يعاملون معاملة الملك فيما إذا اشتراه أحد بوكالة في إجزاء الصيغة و لا يعتنون باحتمال عدم بلوغ مجري الصيغة بناء على اعتباره فيه مع وجود الأصل الموضوعي المقتضي لعدم الملك، و هكذا يشترون ما يحتملون كونه متنجّسا من الثوب و الإناء و غير ذلك ممّا علم أنّه تنجّس في زمان لا محالة و لا يعتنون بهذا الاحتمال، و هذا بناء على اعتبار الإعلام في بيع المتنجّس، و بالجملة، المناط كلّ المناط هو جريان السيرة و عدمه.





 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net