الخامس الدّم 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌3   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9607

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌3، ص: 17

[الخامس الدّم]

نجاسة الدّم

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 18‌

..........

______________________________
الدم مما له نفس سائلة و ما لا نفس له.

الدم المتخلف في الذبيحة. دم العلقة و البيضة.

الدم المشكوك. الدم في الباطن. فروع و تطبيقات.

وقع تخريج روايات هذا المجلد على كتاب وسائل الشّيعة طبع مؤسسة آل البيت عليهم السّلام:

قم‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 19‌

«الخامس»: الدم (1) من كل ماله نفس سائلة، إنسانا أو غيره.

______________________________
(1) لا خلاف و لا إشكال في نجاسة الدم في الجملة، بل هي مما اجمع عليه المسلمون أو كادت ان تكون من ضروريات الدين. و ان نسب
«1» الخلاف في نجاسة بعض مصاديقه إلى بعض الأصحاب كابن جنيد، فإنه نسب إليه القول بطهارة ما دون الدرهم. و كذا نسب «2» إلى الصدوق القول بطهارة ما كان أقل من الحمّصة على ما يأتي الكلام فيهما. إلّا ان أصل نجاسته في الجملة مما تسالم عليه المتشرعة بحيث لا مجال للتشكيك فيه، و معه لا حاجة بنا إلى الاستدلال بقوله تعالى:

«قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ.» «3» بدعوى: ارادة النجس من الرجس، لإمكان المناقشة فيه بوجهين:

الأوّل: ان الرجس- لغة- هو الخبيث و الشي‌ء الدني، المعبّر عنه في الفارسية ب‍ «پليد». و من هنا يطلق على الأفعال أيضا، كما في قوله تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ» «4»:

فان الميسر- و هو القمار- من الأفعال، و لا معنى لنجاسة الفعل.

فيحتمل ان يكون المراد ان أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير من الأفعال الدنيّة، فمع صحة إطلاق الرجس على الذات و الفعل معا لا دليل على إرادة الأوّل في الاية الكريمة.

الثاني: انه لو سلم ارادة النجس من الرجس لكان الاستدلال بالآية‌

______________________________
(1) الحدائق ج 5 ص 39 طبعة النجف الأشرف.

(2) الحدائق ج 5 ص 43- 44 طبعة النجف الأشرف.

(3) الانعام 6: 145.

(4) المائدة 5: 90.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 20‌

..........

______________________________
مبنيا على عود الضمير إلى كلّ واحد من المذكورات فيها. و لكنه لم يثبت، لاحتمال رجوعه إلى خصوص الأخير- و هو لحم الخنزير- لقربه لفظا. و كيف كان فلا ينبغي التشكيك في أصل نجاسة الدم في الجملة.

على انه قد دلت جملة من الروايات المتفرقة على نجاسة كثير من مصاديقه، كدم الحيض «1» و الرعاف «2» و القروح و الجروح «3» و ما يخرج عند قلع السن أو الثالول أو نتف بعض لحم الجرح «4» و الدم الخارج عند حك الجلد «5» و غير ذلك «6» إلّا ان الكلام في عموم النجاسة لكلّ دم،

______________________________
(1) لاحظ وسائل الشيعة ج 2 ص 275: الباب 3 من أبواب الحيض و ج 3 ص 432 و ص 449 و الباب 21 و 28 من أبواب النجاسات ط مؤسسة آل البيت (ع) قم. إذ قد ورد في جملة من الروايات النهى عن الصلاة في الثوب الذي أصابه دم الحيض كما ورد فيها الأمر بغسل الثوب منه، و هما إرشاد في أمثال المقام إلى النجاسة.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 437: الباب 24 من أبواب النجاسات و ج 1 ص 264 الباب 7 من أبواب و النواقض الباب 2 ج 7 ص 238 الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة و ج 1 ص 193 الباب 21 من أبواب المياه ففي جملة من الروايات الأمر بغسل دم الرعاف و قطع الصلاة ان لم يمكن الغسل أثناءها و الأمر في مثله إرشاد إلى النجاسة.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 429 و ص 433: الباب 20 و 22 من أبواب النجاسات.

(4) وسائل الشيعة ج 7 ص 242: الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 15 و ج 7 ص 284 الباب 27 منها: الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة ج 3 ص 430: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(6) كالدم الخارج من المجرى، كما عن حريز عن أبى عبد اللّه عليه السّلام انه قال: «إذا كان الرجل يقطر منه البول أو الدم إذا كان في الصلاة، اتخذ كيسا و جعل فيه قطنا ثم علقه عليه و ادخل ذكره فيه ثم صلى، يجمع بين الصلاتين» وسائل الشيعة ج 1 ص 297: الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث: 1، صحيحة و دم الحجامة، كما عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن الحجامة، أ فيها وضوء؟ قال: لا و لا يغسل مكانها، لان الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه و لم يكن صبيا صغيرا» وسائل الشيعة ج 3 ص 499: الباب: 56 من أبواب النجاسات، الحديث: 1. بناء على ارادة الغسل من التنظيف. مجهولة بعلي بن يعقوب الهاشمي.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 21‌

..........

______________________________
و انه هل هناك في اخبار الباب إطلاقات تدل على نجاسة مطلق الدم، بحيث يلتزم بأصالة النجاسة في كل دم حتّى غير المنصوص على كدم العلقة، و البيضة، و ما في العروق، و تكون مرجعا عند الشك في نجاسة بعض الافراد، الا ان يدل دليل على طهارته، كالدم المتخلف في الذبيحة، و دم ما لا نفس له، أو ان الأصل في الدماء الطهارة إلّا ما ثبت بالنص نجاسته؟ و الصحيح هو الأول: لطائفتين من الروايات في المقام يمكن الاستدلال بإطلاقهما على المطلوب.

الاولى: ما وردت لبيان حكم الدم في موارد خاصة، كالصلاة في الثوب الّذي اصابه الدم، أو وقوعه في البئر، أو الماء القليل، أو غير ذلك مما يستفاد منها: ان المرتكز في أذهان المتشرعة نجاسة طبيعي الدم أينما تحقق، و انما كانوا يسألون عن حكمه في بعض الموارد الخاصة. و ذلك لعدم التقييد- في الأسئلة و الأجوبة- ببعض اقسامه، فإطلاق سؤال الرواة، و ترك استفصال الامام عليه السّلام في الجواب يدلان على صحة هذا الارتكاز و إمضائه لدى الشرع، و ان اشتملت تلك الروايات على أحكام أخر أيضا، و ذلك ك‍:

صحيحة محمّد بن مسلم قال: «قلت له الدم يكون في الثوب علىّ و أنا في الصلاة قال: ان رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صلّ في غيره، و ان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم.» «1».

و موثقة سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّى؟ قال: يعيد صلاته، كي يهتم بالشي‌ء‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 429: الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث: 6. ط مؤسسة آل البيت (ع): قم

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 22‌

..........

______________________________
إذا كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه. قلت: فكيف يصنع من لم يعلم، أ يعيد حين يرفعه؟ قال: لا، و لكن يستأنف»
«1».

و موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ان أصاب ثوب الرجل الدم فصلّى فيه و هو لا يعلم فلا اعادة عليه، و ان هو علم قبل ان يصلّى فنسي و صلّى فيه فعليه الإعادة» «2».

و صحيحة ابن بزيع قال: «كتبت إلى رجل أسأله ان يسأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الّذي يطهرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السّلام بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها» «3».

و الأمر بالنزح فيها انما يكون من آثار وقوع النجس في البئر لا من آثار تنجسها، كما أوضحنا ذلك في بحث ماء البئر. فإذا لا منافاة بين استحباب النزح و دلالة الصحيحة على مفروغية نجاسة الدم عند السائل.

و كموثقة سعيد الأعرج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجرّة تسعمائة رطل من ماء تقع فيها أوقية من دم، اشرب منه و أتوضأ؟ قال:

لا» «4».

الى غير ذلك من الروايات الدالة على مغروسية نجاسة مطلق الدم في أذهان المتشرعة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 479 الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 474 الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 176 الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 21.

(4) وسائل الشيعة ج 1 ص 153 الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 8.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 23‌

..........

______________________________
و يؤيد ذلك: انه لم يقع السؤال في بعض الروايات الّا عن نجاسة بعض مصاديقه المشكوكة: كدم البق
«1» و انه هل يكون مثل دم البراغيث في جواز الصلاة فيه الثابت بالنص «2» لدلالته على ان المرتكز في ذهن السائل نجاسة مطلق الدم، بحيث يحتاج في الخروج عن ذلك الى دليل يدل على الطهارة و لو بمثل القياس.

الثانية: إطلاق لفظ الدم الوارد في كلام المعصوم عليه السّلام في بعض الروايات: كموثقة عمار بن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عما تشرب منه الحمامة، فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره و اشرب، و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال: كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه الّا ان ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب» «3».

فإن إطلاق لفظ الدم في كلامه عليه السّلام يشمل جميع افراده، و من آثار نجاسته منعه عليه السّلام عن الوضوء أو شرب الماء الملاقي للدم الذي في منقار الطير.

و ربما يشكل على الاستدلال بالموثقة: بأنها ليست في مقام تشريع‌

______________________________
(1) كما في مكاتبة محمد بن ريان قال: «كتبت الى الرجل هل يجرى دم البق مجرى دم البراغيث؟ و هل يجوز لأحد ان يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه، و ان يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع عليه السّلام: تجوز الصلاة، و الطهر أفضل» وسائل الشيعة ج 3 ص 436 الباب 23 من أبواب النجاسات، الحديث: 3.

(2) كصحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن دم البراغيث يكون في الثوب، هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، و ان كثر.» وسائل الشيعة ج 3 ص 431 الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 231 الباب 4 من أبواب الاسئار، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 24‌

..........

______________________________
نجاسة الدم كي يتمسك بإطلاقها، لأنها في مقام جعل الحكم الظاهري عند الشك في وجود الدم- المفروغ عن نجاسته- على منقار الطير، و انه يحكم بطهارة الماء الملاقي لمنقاره إلا إذا علم بوجود الدم عليه.

و يدفعه: انه لا تعرض في الموثقة لصورتي العلم و الجهل كي تكون واردة لبيان الحكم الظاهري، و انما فصّل فيها بين فرض رؤية الدم على منقار الطير و عدمها، و ظاهرها لحاظ الرؤية على وجه الطريقية فيكون مفاد الرواية: انه ان كان في منقاره دم لا يتوضأ من سؤره و لا يشرب منه، و ان لم يكن فيتوضأ منه و يشرب، فهي في مقام بيان الحكم الواقعي لا الظاهري، فلا مانع من التمسك بالإطلاق حينئذ.

و عليه تكون محتملات مفهوم الشرط فيها ثلاثة، إما طهارة بدن الحيوان بزوال عين النجس، كما هو المعروف. و إما عدم تنجسه رأسا بملاقاة النجس، كما هو أحد القولين في المسألة. و إما إلغاء استصحاب النجاسة في بدن الحيوان، بحيث لو علم بوجود النجس على بدنه ثم شك في بقائه لحكم بطهارته تخصيصا في دليل الاستصحاب كما احتمله بعض الأجلة «1» لأن عدم رؤية الدم في منقار الطير حين ملاقاته للماء يشمل بإطلاقه ما إذا علم بوجود النجس عليه سابقا ثم شك في بقائه، و هذا لا ينافي كونها في مقام بيان نجاسة الدم ايضا. فتكون الرواية دالة على حكمين، أحدهما بالمطابقة، و هو أحد ما ذكر من الاحتمالات، و الثاني بالالتزام و هو نجاسة مطلق الدم، لأنها لو دلت على طهارة بدن الحيوان بزوال الدم- مثلا- كانت دالة على نجاسة الدم بالالتزام.

______________________________
(1) و هو الفقيه الجليل الميرزا محمد تقي الشيرازي (قده).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 25‌

..........

______________________________
بل مفاد منطوقها نجاسته كذلك من دون حاجة الى لحاظ الدلالة الالتزامية للمفهوم، فإن النهي عن الوضوء و الشرب عما شرب منه طير كان في منقاره الدم إرشاد إلى نجاسته على وجه الإطلاق، لعدم التقييد فيه بقسم خاص.

و بالجملة: المحتمل في الموثقة- بعد دلالتها على نجاسة الدم- أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة، دون قاعدة الطهارة. و ليست من صغريات الكبرى المسلمة في محلّها: من ان ثبوت الإطلاق من جهة لا يلازم ثبوته من جهة أخرى ما لم يكن المتكلم في مقام البيان من جميع الجهات، كما في قوله تعالى:

«فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ» «1».

فإنه ليس في مقام البيان الا من ناحية جواز أكل صيد الكلب المعلّم بما هو صيده، و ان مات قبل إدراكه حيّا فلا يمكن الاستدلال به على طهارة موضع عضة الكلب لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، بل يجب تطهير موضع عضه بمقتضى دليل نجاسة الكلب من دون تناف في البين.

و ذلك لظهورها في ان وجوب الاجتناب عما شرب منه الطائر الذي كان في منقاره الدم انما هو من آثار نجاسة مطلق الدم لا خصوص بعض اقسامه، فلا مانع من التمسك بإطلاقها على جميع المحتملات الثلاثة لأنها في مقام بيان نجاسة الدم ايضا.

فظهر مما ذكرناه: انه لو لم يكن عندنا دليل على نجاسة مطلق الدم لكفتنا هذه الموثقة في الحكم بنجاسة مطلقة، سواء أ كان من الدم المسفوح أم من المتخلف في الذبيحة، و سواء أ كان مما له نفس سائلة أم كان من غيره، إلى‌

______________________________
(1) المائدة 5: 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 26‌

..........

______________________________
غير ذلك من الأقسام. الا ان يقوم دليل على طهارة بعضه، كالدم المتخلف في الذبيحة، و دم ما لا نفس له. كما يأتي.

و أما دعوى: انصراف الموثقة إلى خصوص دم الميتة، لغلبة تلوّث منقار الطيور الجوارح- كالباز و الصقر و العقاب التي هي مورد السؤال في الموثقة- بدمها، لاعتيادها أكل الجيف، فليس لها إطلاق يشمل سائر الدماء:

فمندفعة بمنع الغلبة بحيث يكون الفرد الأخر من النادر الملحق بالعدم، لجواز تلوّث منقارها بدم السمك أو غيره مما لا نفس له، أو بالدم المتخلف في الذبيحة، لإمكان أكلها الحيوان المذكى، فالغالب عدم العلم بان الدم الذي على منقارها من أيّ الأقسام، فحملها على صورة العلم بكونه دم الميتة حمل لها على الفرد النادر.

نعم: الغالب- كم ذكرناه- هو الشك في ان الدم الذي على منقار الطيور الجوارح هل هو من القسم النجس، كالدم المسفوح، أو الطاهر، كدم مالا نفس له. فالحكم بوجوب الاجتناب عنه مطلقا يدل على تقديم الظاهر على الأصل، لأن غلبة أكلها الميتة توجب الظن بنجاسة الدم الّذي على منقارها، و هي أمارة على النجاسة في خصوص المورد، اعني الدم الذي على بدن جوارح الطيور، و ان كان مقتضى الأصل فيه الطهارة، لأن الشبهة موضوعية، كما في نظائر ما نحن فيه مما يشك في ان الدم من القسم الطاهر أو النجس، كالدم على الثوب أو البدن.

ثم ان الإطلاق الذي ندّعيه في هذه الموثقة، بل عليه ارتكاز المتشرعة انما هو في خصوص الدم الخارج من بدن الحيوان، لأنه الذي يتلوث به منقار الطيور و يألفه الناس، فلا تشمل دم غير الحيوان، كالنازل من السماء آية، كما في زمان موسى عليه السّلام أو المشاهد تحت الأحجار عند‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 27‌

قليلا كان الدم أو كثيرا (1)

______________________________
قتل سيد الشهداء عليه السّلام.

بل يمكن منع الصدق الحقيقي على مثله، لقرب دعوى وضع لفظ الدم لما يجرى منه في عروق الحيوان، فإطلاقه على ما ذكر مبنيّ على المسامحة و المشابهة في اللون.

و كيف كان فلا تشمل الموثقة دم غير الحيوان، كما لا تشمل الدم الجاري في العروق حال حياته، لان موردها الدم الخارج.

و المتحصل من جميع ما ذكرنا: ان الأصل في الدم الخارج من بدن الحيوان هو النجاسة إلا ما استثنى، كدم ما لا نفس له، و المتخلف في الذبيحة.

(1) كما هو المشهور لإطلاق موثقة عمار المتقدمة «1»، و عموم ارتكاز المتشرعة على نجاسة الدم، من دون فرق بين القليل و الكثير، بل لو تنزّلنا عن ذلك و قلنا بعدم ثبوت نجاسة الدم إلّا في الجملة فلا يفرق الحال بين قليله و كثيره فيما ثبتت نجاسته. و قد أشار المصنف «قده» بعدم الفرق بينهما إلى أقوال أخر فرّقت بين القليل و الكثير.

أحدها: ما نسب الى الشيخ «قده» في الاستبصار «2» من ظهور كلامه في طهارة ما لا يدركه الطرف من الدم، مستدلا على ذلك ب‍:

صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: «سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال: ان لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس، و ان كان شيئا‌

______________________________
(1) في الصفحة 19.

(2) ج 1 ص 23 طبعة دار الكتب الإسلامية، في ذيل الحديث 57 قال «قدس سره» «الوجه في هذا الخبر- يعني صحيحة على بن جعفر- ان نحمله على أنه إذا كان ذلك الدم مثل رأس الإبرة التي لا تحس و لا تدرك فان مثل ذلك معفو عنه».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 28‌

..........

______________________________
بيّنا فلا يتوضأ منه.»
«1».

و قد أوضحنا الجواب عن هذه الرواية في بحث المياه «2» بما لا مزيد عليه.

و خلاصته: ان هذه الرواية و ان كانت صحيحة السند الا ان دلالتها على المطلوب غير واضحة، لاحتمال ان يكون المراد من عدم الاستبانة عدم العلم بوقوع الدم داخل الإناء و اصابته للماء، فتكون مجرى قاعدة الطهارة.

و دعوى: ان مثل علي بن جعفر لا يسأل عن مثل ذلك مما هو من الأمور الواضحة. مندفعة: بأن مظنة إصابة الدم للماء و احتمال حجيتها أوجبت السؤال عنه، كما ورد نظيره في رواية زرارة «3» في الاستصحاب، من السؤال عن حكم ما إذا حرّك في جنبه شي‌ء و لم يعلم به، حيث انه يكون مظنة النوم حينئذ. و لو سلّم فنهاية ما هناك انها تدل على عدم انفعال الماء القليل بنحو هذا الدم، لا عدم نجاسته، كما هو محل الكلام.

ثانيها: ما نسب الى الصدوق من القول بطهارة ما دون الحمّصة. قال في الفقيه «4» «و ان كان الدم دون حمّصة فلا بأس بان لا يغسل، الا ان يكون دم الحيض، فإنه يجب غسل الثوب منه و من البول و المني، قليلا كان أو كثيرا، و تعاد منه الصلاة علم به أو لم يعلم».

و الظاهر: ان هذه العبارة مأخوذة من الفقه الرضوي بتغيير ما، على ما هو دأب الصدوق من نقل عباراته في كتابه غالبا، فلعله استند- في القول‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 150 الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1.

(2) ج 1 من هذا الكتاب ص 153- 157 الطبعة الأولى و الثانية.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 246 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث: 1.

(4) ج 1 ص 42 طبعة دار الكتب الإسلامية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 29‌

..........

______________________________
بطهارة ما دون الحمّصة من الدم- إلى ما في الفقه الرضوي
«1» من قوله «و إن كان الدم حمّصة فلا بأس لا تغسله إلّا ان يكون الدم دم حيض، فاغسل ثوبك منه و من البول و المني قلّ أو كثر، و أعد منه صلواتك، علمت به أم لم تعلم.»‌

و قال في الحدائق «2»: «الظاهر ان لفظ «دون» سقط من النسخة- يعني نسخة الفقه الرضوي- حيث ان الكتاب لا يخلو من الغلط إلّا ان الموجود في البحار- حيث انه ينقل عبائر الكتاب المذكور- كما هنا».

و عليه لا بد من استناد الصدوق في هذه الفتوى اعني فتواه بطهارة ما دون الحمّصة من الدم في الفقيه «3» إلى:

رواية مثنّى بن عبد السلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له إنّي حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال: ان اجتمع قدر حمّصة فاغسله و إلّا فلا» «4».

لأنها تدل على وجوب غسل قدر الحمّصة، و اما دونها فلا يجب غسله، و كيف كان فلا يمكن الاعتماد على شي‌ء من الروايتين لضعف سندهما.

بل لم يثبت كون الفقه الرضوي رواية، كما مر غير مرة. هذا مضافا إلى احتمال‌

______________________________
(1) ص 6، و كذا في جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 55، «باب الدماء المعفوة في الصلاة» الحديث 7.

(2) ج 5 ص 44 طبعة النجف الأشرف.

(3) ج 1 ص 42، طبعة دار الكتب الإسلامية، الا ان الصدوق «قدس سره» لم يذكر رواية مثنى بن عبد السلام في الفقيه و لم ينقل عن سائر كتبه أيضاً، و هذا مما يبعد استناده إليها في هذه الفتوى و ان قال في الحدائق- ج 5 ص 44- بتعين ذلك، فلا حظ.

(4) وسائل الشيعة ج 3 ص 430 الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 5 ضعيفة ب‍ «مثنى ابن عبد السلام» إذ لم تثبت وثاقته، بل و لا مدحه مدحاً يعتد به.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 30‌

و اما دم مالا نفس له فطاهر (1). كبيراً كان أو صغيراً، كالسمك، و البق، و البرغوث.

______________________________
ارادة العفو في الصلاة دون الطهارة، كما هو محتمل كلام الصدوق أيضاً، فإذاً لا خلاف في المسألة.

ثالثها: ما عن ابن الجنيد من القول بطهارة ما دون الدرهم من الدم- بل غيره من النجاسات- إلّا دم الحيض و المني، لما حكى عنه في كتابه المختصر من قوله: «كلّ نجاسة وقعت على ثوب، و كانت عينها مجتمعة أو منقسمة دون سعة الدرهم الّذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك. إلّا ان تكون النجاسة دم حيض أو منيّا، فان قليلهما و كثيرهما سواء»: و كأنه- اعتمد كما قيل- في استثناء الدم على النصوص الدالّة على العفو عما دون الدرهم، و في غيره على القياس عليه. و لا استبعاد في عمله بالقياس، لموافقة جملة من فتاواه للعامة.

و كيف كان: فإن أراد ما هو ظاهر عبارته من طهارة ما دون الدرهم من النجاسات، فلا دليل عليه، لا في الدم و لا في غيره. بل مقتضى إطلاق أدلّة النجاسات ثبوت النجاسة و لو لأقل من الدرهم. و ان أراد العفو عما دونه في الصلاة فهو مختص بالدم، و لا يعم غيره من النجاسات.

(1) دم ما لا نفس له كما هو المشهور، بل عن جملة من الأصحاب- كالسيّد، و الشيخ، و ابن زهرة، و ابن إدريس، و المحقق، و العلامة، و الشهيدين و غيرهم- دعوى الإجماع على الطهارة. نعم: عن الشيخ في المبسوط و الجمل و المراسم و الوسيلة ما يوهم نجاسته. و العفو عنه في الصلاة، كما دون الدرهم. و كيف كان فيستدل للمشهور بوجوه:

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 31‌

..........

______________________________
الأول: الإجماع. و فيه: ان الإجماع- على تقدير ثبوته- ليس من الإجماع التعبّدي- كما في نظائر المقام- لاستدلال بعضهم على طهارته بمفهوم قوله تعالى
«أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» «1» و قد عرفت «2» منع دلالة منطوقه على نجاسة الدم المسفوح فكيف بدلالة مفهومه على طهارة غيره. و من المحتمل استناد الآخرين إلى بعض الوجوه الاتية.

الثاني: الروايات النافية للبأس عن دم البق و البراغيث، و يقاس عليها غيرها مما لا نفس له، كالذباب و السمك، و نحوهما.

منها: رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن دم البراغيث يكون في الثوب، هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، و ان كثر.» «3».

و منها: مكاتبة محمّد بن ريّان «4».

و منها: صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس. قلت: انه يكثر و يتفاحش. قال: و ان كثر.» «5».

و منها: موثقة غياث عن جعفر عن أبيه قال: «لا بأس بدم البراغيث، و البق، و بول الخشاشيف» «6».

و الجواب عن هذه الروايات: انها لا تخلو من أحد إشكالين على‌

______________________________
(1) الأنعام 6: 154.

(2) في الصفحة 19.

(3) وسائل الشيعة ج 3 ص 431 الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث: 7. ضعيفة بابن سنان، و هو محمد، بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، و روايته عن ابن مسكان.

(4) تقدمت في تعليقة ص 18 ضعيفة بسهل بن زياد.

(5) وسائل الشيعة ج 3 ص 435 الباب 23 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(6) وسائل الشيعة ج 3 ص 437 الباب 23 من أبواب النجاسات، الحديث: 5. و في الباب 10 منها، الحديث: 5.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 32‌

..........

______________________________
سبيل منع الخلو، لأنها إما ان تدل على خصوص العفو عن الصلاة في دم الحشرات دون طهارته، كما في رواية الحلبي، و مكاتبة محمّد بن ريّان. و إما ان تدل على طهارة خصوص دم ما لا يكون له لحم مما لا نفس له، كالبق و البرغوث، و أما ما فيه لحم كالسمك و الحيّة فخارج عن مورد النصوص المذكورة. و مجرد الاشتراك في عدم سيلان الدم لا يوجب الجزم بالاشتراك في الحكم، فلا يخلو ذلك عن القياس. نعم نهاية ما هناك إمكان التعدي إلى مثل الذباب و الزنبور مما ليس فيه لحم. و ذلك كما في صحيحة ابن أبي يعفور و موثقة غياث المتقدمتين، فإنهما و ان دلتا على طهارة دم البق و البرغوث، لنفي البأس عنه على وجه الإطلاق، إلّا أنه لا يمكن التعدي عن موردهما إلى ما لا يصح قياسه عليه.

الثالث: رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ان عليّاً عليه السّلام كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلّي فيه الرجل يعني: دم السمك» «1».

و الجواب عنها أوّلًا: انها مختصة بما فيه اللحم- كالسمك فلا تعم غيره، نعم: هذا مبنيّ على ان يكون التفسير بقوله «يعني دم السمك» من أبي عبد اللّه عليه السّلام لا الراوي. و ثانيا: انها لا تدل إلا على العفو عن دم السمك في الصلاة، و أما طهارته فهي قاصرة عن الدلالة عليها. هذا مع غض النظر عن الضعف في سندها «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 436 الباب 23 من أبواب النجاسات، الحديث، 2.

(2) يمكن تضعيفها بالنوفلي- و هو حسين بن زيد- في طريقها، فإنه لم يوثق. و قد يقال بضعف السكوني- و هو إسماعيل بن ابى زياد- أيضاً، لتضعيف ابن الغضائري له. و لكن في تضعيفه له اشكال، بل منع. كما نبه عليه السيد الأستاذ دام ظله في كتابه «معجم رجال الحديث ج 3 ص 104» و الا ظهر انه ثقة، لما عن الشيخ في العدة من ان الأصحاب عملت برواياته، و ظاهره توثيقه و ان كان عاميا. و كيف كان فلا إشكال في سند الرواية، لأن الرجلين- النوفلي و السكوني- وقعا في اسناد كامل الزيارات «ب 30- ح 1 و ب 25- ح 7» و قد ذهب الأستاذ دام ظله أخيرا إلى وثاقة جميع من وقع في اسناد الكتاب المذكور اعتماداً على توثيق جعفر بن محمد بن قولويه- مؤلفه- لهم في أول كتابه «ص 4» فكل من وقع في إسناده ثقة الا ان يبتلى بمعارض. و حيث انا قد نعثر في ضمن كتابنا هذا على مثل هذه الرواية فلا بأس بذكر ما افاده دام ظله في هذا المقام تتميما للفائدة قال دام ظله- في ج 1 من معجم رجال الحديث ص 64 في ضمن البحث عن التوثيقات العامة- «و بما ذكرناه نحكم بوثاقة جميع من وقع في اسناد كامل الزيارات أيضاً، فإن جعفر بن قولويه قال في أول كتابه: «و قد علمنا بأنا لا نحيط بجميع ما روى عنهم في هذا المعنى و لا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم اللّه برحمته، و لا أخرجت فيه حديثا روى عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث و العم.» فإنك ترى ان هذه العبارة واضحة الدلالة على انه لا يروى في كتابه رواية عن المعصوم الا و قد وصلت اليه من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم اللّه. قال صاحب الوسائل- في ج 20 ص 68- بعد ما ذكر شهادة على بن إبراهيم بأن روايات تفسيره ثابتة و مروية عن الثقات من الأئمة عليهم السلام: «و كذلك جعفر بن محمد بن قولويه فإنه صرح بما هو أبلغ من ذلك في أول مزاره» أقول: ان ما ذكره متين، فيحكم بوثاقة من شهد على بن إبراهيم، أو جعفر بن محمد بن قولويه بوثاقته، اللّهم الا ان يبتلى بمعارض. و قد زعم بعضهم اختصاص التوثيق بمشايخه فقط، و لكنه خلاف ظاهر عبارته كما لا يخفى». تنبيه: قد عدل سيّدنا الأستاذ دام ظله عن توثيق رجال كامل الزيارات بما ذكره فلا بد من إحراز وثاقتهم عن طريق آخر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 33‌

..........

______________________________
و الأولى: الاستدلال بالروايات الدالّة على طهارة الماء- أو مائع آخر- الملاقي لميتة ما لا نفس له، فإنها تشمل بإطلاقها صورة تفسّخها و اصابة الدّم الخارج منها للماء. و قد اعتمدنا على هذه الروّايات في الاستدلال على طهارة بولها و خرئها بمقتضى نفس الإطلاق- كما سبق
«1»- و تلك:

كموثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام قال:

______________________________
(1) في الجزء الثاني من الكتاب ص 273- 274.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 34‌

و كذا (1) ما كان من غير الحيوان، كالموجود تحت الأحجار عند قتل سيد الشهداء- أرواحنا فداه- و يستثني من دم الحيوان المتخلف في الذبيحة (2) بعد خروج المتعارف.

______________________________
«لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة»
«1».

و موثقة عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن الخنفساء، و الذّباب، و الجراد، و النّملة، و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزّيت و السّمن و شبهه؟ قال: كل ما ليس له دم فلا بأس» «2».

و نحوهما غيرهما «3» فإن إطلاق نفي البأس فيهما يشمل صورة تفسّخ ميتة ما لا نفس له و اصابة الدم الخارج منها الماء و الزيت و السمن. و كذلك البول و الخرء.

هذا كلّه بناء على ثبوت أصالة العموم في نجاسة الدماء، حيث نحتاج في الخروج عنها إلى دليل مخصص، و الا فالمرجع- كما زعم بعضهم- هي قاعدة الطهارة فيما شك في نجاسته من الدماء، لان الثابت بالإجماع نجاسة الدم المسفوح مما له نفس سائلة.

(1) لعدم وجود إطلاق في أدلة نجاسة الدم يشمل ذلك، و كذا الدم النازل من السماء آية لموسى عليه السّلام، لأن غاية ما ثبت انما هو شمول الإطلاق لدم الحيوان. هذا مضافا إلى إمكان منع كونه دما حقيقة.

(2) الدم المتخلف في الذبيحة لا خلاف و لا إشكال في طهارة الدم المتخلف في الذبيحة في‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 464: الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 464: الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة في الباب المذكور.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 35‌

..........

______________________________
الجملة، و انما الكلام فيما يمكن ان يستدل به لهذا الحكم، و ما ذكر له في كلمات الأصحاب وجوه. و ليعلم قبل ذلك أنه لا حاجة بنا إلى الاستدلال على طهارته لو قلنا بعدم وجود إطلاق في دليل نجاسة الدم يشمل جميع أفراده، لأن القدر المتيقن في النجاسة إنما هو الدم المسفوح، فيرجع في المشكوك نجاسته- كالمتخلف في الذبيحة- إلى قاعدة الطهارة. و أما بناء على ما اخترناه من ثبوت الإطلاق فلا بد في الخروج عنه من اقامة دليل.

و استدل له بوجوه:

الأوّل: الإجماع، كما عن جماعة، منهم: المختلف، و كنز العرفان و غيرهما، و في الحدائق «1» دعوى اتفاق الأصحاب على الطهارة و الحليّة من غير خلاف ينقل.

و فيه: ما مر- عدّة مرّات- من ان ثبوت الإجماع التعبدي في أمثال هذه الموارد في غاية الإشكال، إذ يحتمل استناد المجمعين إلى سائر الوجوه المذكورة في المسألة.

الوجه الثاني: إطلاق ما دل على حلّية لحم المذكّى. بيان ذلك: ان اللحم لا ينفك عن اشتماله على شي‌ء من الدم، بل يتعذر غالبا تخليصه منه، إلّا ببعض المعالجات الّتي يعلم بالضرورة من الشّرع عدم اعتبارها في حليّته، إذ بعد المبالغة في غسله نجده يتقاطر منه مائع احمر. لا سيما من المذبح، و خصوصاً عند الطبخ، و تخليصه منه يتوقف إما على تقطيعه قطعاً صغاراً و غسلها منه، أو وضعه مدة طويلة في الماء بحيث يدخل في أعماقه، و نحو ذلك ما يقطع بعدم اعتباره في حلّيته، فكلما دل على حلّية أكل اللحم بدون هذه المبالغات يدل على حلّية ما يتضمنه من الدم، فإذا كان حلالًا كان طاهراً أيضاً، لأن الحلّية أخص من الطهارة، فإن النجس لا يجوز أكله.

______________________________
(1) ج 5 ص 45 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 36‌

سواء كان في العروق، أو في اللحم، أو في القلب، أو في الكبد، فإنه طاهر (1).

نعم إذا رجع دم المذبح الى الجوف- لرد النفس، أو لكون رأس

______________________________
و فيه: أن غاية ما يدل عليه هذا الوجه طهارة خصوص الدم التابع للحم المستهلك فيه، الصادق على أكله أكل اللحم. و اما مطلق الدم المتخلّف حتّى المستقل في الوجود و الاسم الّذي يصدق على أكله أكل الدم- كالدم الكثير الموجود في بطن الذبيحة، أو في قلبها، بحيث يعد جزء مستقلا- فلا يجري فيه هذا الدليل، لعدم شمول دليل حلّية أكل الذبيحة لمثله.

الوجه الثالث: و هو العمدة في المقام- استقرار سيرة المتشرعة على عدم الاجتناب عن هذا الدم مطلقا حتّى المستقل بالوجود، مع اعتياد هم اليومي بذبائح البعير و البقر و الغنم، بحيث لو كان الدم المتخلف فيها نجسا لعرفه كل أحد من المسلمين، و هذا المقدار كاف في الخروج عن عموم دليل نجاسة مطلق الدم.

(1) هل يختص الحكم بطهارة الدم المتخلّف في الذبيحة بالمتخلّف في الاجزاء المحللة الأكل، أو يعم المتخلف في الاجزاء المحرمة، كالطحال، و النخاع، و الأنثيين، و المثانة، و غيرها من محرمات الذبيحة؟ الظاهر هو الثاني، لعموم ما هو العمدة في المقام من السّيرة المستمرة على عدم الاجتناب من مطلق الدم المتخلّف في الذبيحة. فلا ينبغي التأمل في المتخلف في الاجزاء المحرمة، فضلا عن المحللة، كما نسب التردد إلى المدارك في المتخلّف في القلب و الكبد.

نعم: لو كان المستند في الحكم بالطهارة الإجماع لكان للتشكيك في المتخلّف في الاجزاء المحرمة مجال، لإمكان دعوى: ان القدر المتيقن من كلمات المجمعين هو المتخلّف في الاجزاء المحللة. و كذلك لو كان الدليل على الحكم ما دل على حلية أكل الذبائح، إذ عدم شموله للاجزاء المحرمة واضح.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 37‌

الذبيحة في علو- كان نجسا (1).

______________________________
(1) قد يرجع الدم بعد خروجه عن المذبح إلى جوف الذبيحة- إما لرد النفس، أو لكون رأس الذبيحة في العلو- فيكون نجسا، و منجّسا لكل ما لاقاه من اللحم و غيره، و لا يعد من المتخلف في الذبيحة، لأنه عبارة عما تخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، و أماما تعارف خروجه، فيحكم بنجاسته، و تنجس ملاقيه، و ان رجع إلى جوف الذبيحة لعلة خارجية، و أما رجوعه من الداخل إلى الداخل- كما قيل- فغير متصور في المقام، لان الدم الجاري في العروق إما ان يخرج بالذبح و قطع الوريدين، و إما ان يبقى في الباطن لضعف الدافع. و أما رجوعه إلى جوف الذبيحة قبل خروجه من الوريدين فغير صحيح.

نعم: هناك صورة أخرى، و هي منع الدم من الخروج بعد قطع الوريدين بطريقة ما، كوضع اليد على المذبح، أو كيّه بالنار، أو خوف الحيوان الموجب لانجماد الدم في الباطن، و نحو ذلك. إلا ان هذا لا يكون من الرجوع إلى الداخل في شي‌ء، بل هو عدم الخروج رأسا لمانع عن ذلك. و كيف كان فلا إشكال في نجاسته أيضا، لا لأجل الحكم بنجاسة الدم في الداخل، بل لأجل صيرورة الحيوان حينئذ ميتة نجسة، لما حققناه في محله من انّه يعتبر في التذكية أمران: حركة الذبيحة بعد الذبح اختيارا و لو يسيرا، و خروج الدم بالمقدار المتعارف، كما يقتضيه الجمع بين الأخبار، لما في بعضها «1» من اعتبار الأمر الأوّل خاصة، و في بعضها الأخر «2» اعتبار الأمر الثاني، فلا بد من الأخذ‌

______________________________
(1) كما في صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد اللّه، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال: «في كتاب على عليه السّلام: إذا طرفت العين، أو ركضت الرجل، أو تحرك الذنب فكل منه، فقد أدركت ذكاته» وسائل الشيعة ج 24 ص 23: الباب 11 من أبواب الذبائح، الحديث: 6.

(2) كما في صحيحة زيد الشحام، فقد روى في حديث عن ابى عبد اللّه عليه السّلام: «إذا قطع الحلقوم، و خرج الدم فلا بأس». وسائل الشيعة ج 24 ص 25: الباب 12 من أبواب الذبائح الحديث: 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 38‌

و يشترط في طهارة المتخلف ان يكون مما يؤكل لحمه على الأحوط، فالمتخلف من غير المأكول نجس (1) على الأحوط.

______________________________
بهما جمعا بين الطائفتين، فإذا انتفى أحد الأمرين صارت ميتة، فتكون نجسة بجميع اجزائها، و منها الدم الباقي فيها. نعم بناء على القول بكفاية أحد الأمرين، أو الحركة بعد الذبح فقط، تحصل التذكية و لو لم يخرج الدم بالمقدار المتعارف، و يجوز أكل اللحم، و يكون طاهرا ذاتا. إلّا ان الدم المحبوس فيه يكون نجسا و منجسا لملاقيه، لأن السيرة في عدم الاجتناب عن المتخلف انما تكون في الدم المتخلف بعد خروج المتعارف، فهي لا تشمل المورد، فيبقى تحت عموم ما دل على نجاسة الدم. نعم بناء على إنكار العموم فالمرجع قاعدة الطهارة، و لكنا قد أثبتناه.

(1) الدم المتخلف في غير المأكول نسب القول بنجاسته إلى المشهور، بل عن الذخيرة، و البحار، و شرح الدروس، و شرح المفاتيح: اتفاق الأصحاب عليه، و عن بعضهم- كصاحب كشف اللثام، و العلامة الطباطبائي «قده»- القول بطهارته. بل عن منظومته «1» نسبة القول بالطهارة إلى معظم الأصحاب.

و كيف كان فالصحيح هو الأوّل، لأنه مقتضى عموم نجاسة الدم، و لا مخرج عن هذا العموم- على وجه يمكن ان يعتمد عليه في استثناء الدم‌

______________________________
(1) قال في منظومته على ما في الجواهر ج 5 ص 366 طبع النجف الأشرف:

و الدم في المأكول بعد قذف ما

يقذف طهر قد أحل في الدماء

و الأقرب التطهير فيما يحرم

من المذكى و عليه المعظم

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 39‌

[ (مسألة 1): العلقة المستحيلة من المني نجسة]

(مسألة 1): العلقة المستحيلة من المني نجسة، من انسان كان أو من غيره، حتى العلقة في البيض (1).

______________________________
المتخلّف في الذبيحة سوى سيرة المتشرعة. و القدر المتيقن منها هو الحيوان المحلل أكله، لقلة الابتلاء بذبح مالا يؤكل، كالسّباع، فلا يمكن إحراز سيرتهم على عدم التجنب عما يتخلف في ذبيحة غير المأكول، إلا أن يمنع العموم، فيكون مقتضى القاعدة طهارته، لان المتيقن في النجاسة إنّما هو الدم المسفوح- و هو الخارج بالذبح- فيتساوى المأكول و غيره في الحكم بالطهارة، كما يساعده الذوق. و لكن لا مجال للرجوع إلى الأصل مع وجود الدليل على خلافه.

كما انه لا يصح الاستدلال بالإجماع على طهارة المتخلّف في الذبيحة، لأن القدر المتيقن منه الحيوان المحلل الأكل. و أيضا لا يمكن الاستناد إلى دليل حليّة أكل الذبيحة بعد خروج الدم المتعارف، لان المفروض أنها محرم الأكل.

(1) دم العلقة و البيض.

ادعى الشيخ في الخلاف «1» الإجماع على نجاسة دم العلقة، و عن جماعة ممن تأخروا عنه أنّهم أفتوا بذلك صريحا، كالقاضي، و الحلّي، و المحقق، و ابن سعد، و العلامة، و غيرهم، بل لم يعرف الجزم بطهارته إلّا عن صاحب الحدائق «قده» «2» و قد حكى عن جماعة: التردد في ذلك، كالشهيد في الذكرى، و الأردبيلي، و غيرهما.

______________________________
(1) ج 1 ص 183 في المسألة 232 من مسائل كتاب الصلاة حيث قال: «مسألة. العلقة نجسة، و به قال أبو حنيفة و أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي، و هو المذهب عندهم و قال الصيرفي من أصحابه و غيره انها طاهر. دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا ما دل على نجاسة الدم يدل على نجاسة العلقة، لأنه دم و دليل الاحتياط أيضا يدل على ذلك».

(2) ج 5 ص 52 طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 40‌

و الأحوط الاجتناب عن النقطة من الدم الذي يوجد في البيض (1).

______________________________
و كيف كان: فان قلنا بوجود إطلاق في دليل نجاسة الدّم بحيث يشمل الموارد الثلاثة المذكورة في المتن- من علقة الحيوان، و علقة البيضة، و الدم الموجود فيها مما ليس بعلقة فيتعين الحكم بالنجاسة- كما هو المختار- فإن إطلاق موثقة عمّار المتقدمة
«1» لا مانع من شموله للموارد المذكورة. و منع صدق الدم على الموجود في البيضة خلاف المفهوم المألوف عند العرف. و لو منعنا عن الإطلاق كان المرجع حينئذ قاعدة الطهارة لا محالة، لأن القدر المتيقن من دم الحيوان المحكوم بالنجاسة ما يكون جزء منه، و العلقة المستحيلة من المني المتكون في الحيوان لا يكون جزء منه، بل الحيوان يكون ظرفا لها.

و أما الإجماع المدّعى في الخلاف على نجاسة العلقة فغير ثابت لدينا.

و على تقدير التسليم فالقدر المتيقن منه هو علقة الحيوان المستحيلة من المني، فلا يشمل علقة البيضة و الدم الموجود فيها. و لو سلم العموم لكل ما هو مبدء نشوء الحيوان و لو المتكون في غيره كعلقة البيضة فلا يمكن تعميم الحكم بالنجاسة لدم البيضة، لخروجه عن معقد الإجماع المذكور جزما.

(1) وجه التردد هو التشكيك في شمول الإجماع أو إطلاق ما دل على نجاسة الدّم لدم البيض، لانه ليس جزء من الحيوان، و لا متكونا فيه، و لا مبدء لنشوئه. و لكن الأظهر هو شمول إطلاق موثقة عمار له، كما تقدم.

______________________________
(1) في الصفحة 23.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 41‌

لكن إذا كانت في الصفار و عليه جلدة رقيقة لا ينجس معه البياض (1) إلا إذا تمزقت الجلدة.

[ (مسألة 2): المتخلف في الذبيحة و ان كان طاهرا لكنه حرام]

(مسألة 2): المتخلف في الذبيحة و ان كان طاهرا لكنه حرام (2).

______________________________
(1) لأن الجلدة تمنع عن ملاقاة البياض لها. بل إذا احتمل تكوّن النقطة في باطن الجلدة بحيث كانت هناك جلدة اخرى تمنع عن ملاقاتها للصفار، فالصفار أيضا محكوم بالطهارة، لعدم العلم بملاقاته لنقطة الدم.

(2) حرمة الدم المتخلف في الذبيحة الدم المتخلّف في الذبيحة إذا لم يكن تابعا للّحم و مستهلكا فيه- بأن كان مستقلا في الوجود و الاسم، بحيث يصدق على أكله أكل الدم- فهو و ان كان طاهرا- كما سبق- إلّا انه يحرم اكله، كالدم الموجود في بطن الحيوان، و قلبه، و كبده، و نحو ذلك. و الدليل على ذلك: ما دل على حرمة أكل الدم، فمن الآيات قوله تعالى إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ.* «1».

و من الروايات ما عقد لها بابا في الوسائل، مما دلت على محرّمات الذبيحة و قد عدّ منها الدم «2»، و مما دلّت على حرمة مطلق الدم «3». و حمل الدم- في الآية الكريمة و الروايات- على خصوص ما يخرج بالذبح خلاف الإطلاق، لا موجب للمصير إليه بغير دليل مخصص. و من الواضح عدم دلالة حلّ أكل الذبيحة على حليّة الدم المتخلّف في مثل القلب و الكبد مما يمكن، تخليصه منه بسهولة. فلا مشقة في التخليص بحيث يقطع بعدم اعتبارها في حليتها.

______________________________
(1) الانعام 6: 145.

(2) وسائل الشيعة كتاب الأطعمة و الأشربة: الباب 30.

(3) وسائل الشيعة كتاب الأطعمة و الأشربة الباب: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 42‌

..........

______________________________
و قد خالف في ذلك صاحب الحدائق «قده»
«1» فذهب إلى القول بطهارة المتخلّف في الذبيحة و حليّته مطلقا. و استدل لذلك بوجوه:

الأول: اتفاق الأصحاب على كلا الحكمين- الطهارة و الحلية- من غير خلاف يعرف.

و يدفعه: أن الأصحاب لم يصرّحوا بحلية الدم المتخلّف، و انما صرّحوا بطهارته، و هي أعم من الحلّية. بل عدّهم الدم من محرمات الذبيحة يشمل المتخلّف بإطلاقه. كيف و قد دلت الآية الكريمة و الروايات- الّتي تقدّمت الإشارة إليها- على حرمة الدم بإطلاقه. غاية ما هناك نخرج عن إطلاق الحرمة في خصوص المتخلّف في الذبيحة إذا كان تابعا و مستهلكا في اللحم.

الوجه الثاني: حصر المحرمات في الآيات فيما لا يشمل الدم المتخلّف في الذبيحة. و مراده «قده» من الآية الحاصرة قوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً. «2»

بدعوى: ان مقتضى الحصر فيها حلّية غير المسفوح، و منه المتخلّف في الذبيحة، و بها يقيد إطلاق آية التحريم المتقدمة.

و الجواب عنه: ان الاستدلال بها إما بمفهوم الحصر، أو بمفهوم الوصف، فإنه «قده» و ان لم يصرح بكيفية الاستدلال و لكن لا تخلو الحال من إرادة أحد الوجهين، و في كليهما نظر و إشكال.

أما مفهوم الحصر، فيرده أنه إضافي لا حقيقي، و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، فان المحرمات من الحيوانات البريّة و البحريّة كالسباع، و‌

______________________________
(1) ج 5 ص 45 طبعة النجف الأشرف.

(2) الانعام 6: 145.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 43‌

..........

______________________________
المسوخ، و غيرها، و كثير من المطعومات غير الحيوانات فوق حد الإحصاء، فلا بد من حمله إما على الحصر الإضافي بالنسبة إلى ما كانت العرب تحرّمه على أنفسها
«1» افتراء على اللّه تعالى. أو على أنّ المحرم في زمان نزول الآية لم يكن إلّا الأمور المذكورة فيها، فيكون الحصر حقيقيا بالنسبة إلى زمان خاص، ثم نزلت بقيّة المحرمات. تدريجا و على أيّ تقدير لا يثبت للاية مفهوم بالإضافة إلى مطلق الدم المذكور في الآية الأخرى.

و أما مفهوم الوصف في قوله تعالى أَوْ دَماً مَسْفُوحاً. مرادا به الدم المنصب من العروق كما فسره به «2».

ففيه: أن المشهور و ان أنكروا مفهوم الوصف مطلقا، إلّا أنا حققنا في‌

______________________________
(1) لقد كانت العرب تحلل و تحرم أشياء على أنفسها افتراء على اللّه تعالى. و قد أشار في الكتاب العزيز الى ذلك بقوله تعالى:

وَ قٰالُوا هٰذِهِ أَنْعٰامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لٰا يَطْعَمُهٰا إِلّٰا مَنْ نَشٰاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَ أَنْعٰامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهٰا وَ أَنْعٰامٌ لٰا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّٰهِ عَلَيْهَا افْتِرٰاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ وَ قٰالُوا مٰا فِي بُطُونِ هٰذِهِ الْأَنْعٰامِ خٰالِصَةٌ لِذُكُورِنٰا وَ مُحَرَّمٌ عَلىٰ أَزْوٰاجِنٰا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكٰاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ الانعام 6: 138- 139.

و مما كانت تفتريه مشركو العرب: انهم كانوا يحرمون الانعام- من الإبل و البقر و الغنم- و الحرث الذين جعلوهما لآلهتهم و أوثانهم على الناس، و لا يطعمونها الا لمن قام بخدمة أصنامهم من الرجال دون النساء، كما انهم كانوا يحرمون ركوب بعضها و الحمل عليها، كالسائبة، و البحيرة، و الحام، و أيضا يحللون بعض الانعام بدون ذكر اسم اللّه عليها، و إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم افتراء عليه تعالى، و كانوا أيضا يحرمون ما في بطون بعض الانعام من الأجنة على النساء إذا ولد حيا، و إذا ولد ميتا كان الذكور و الإناث فيه سواء «مجمع البيان ج 3 و 4 ص 372- 373» هكذا كانت العرب تحرم و تحلل، و قد نزل في زجرهم عن ذلك قوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ. الأنعام 6: 145.

(2) قال في كتاب الحدائق ج 5 ص 44 طبعة النجف: «الأول: المسفوح، و هو لغة:

المصبوب، أي الذي انصب من العرق بكثرة يقال: سفح الرجل الدمع و الدم من باب منع صبه، و سفحت دمه إذا سفكته.»

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 44‌

..........

______________________________
الأصول ثبوته في الجملة، لا بمعنى نفي الحكم عن غير المقيد بالوصف مطلقا، كما يقوله القائلون بالمفهوم، بل بمعنى دلالة القيد على عدم ثبوت الحكم لنفس الطبيعة من حيث هي، و إلّا كان التقييد لغوا، و ذلك لا ينافي ثبوت الحكم لها بضميمة قيد آخر. ففي مثل قولنا: «لا تكرم رجلا فاسقا» يدل التقييد بالفسق على عدم ثبوت الحرمة لطبيعي الرجل و إلا كان التقييد بالفاسق زائدا في الكلام، و أما انحصار الحرمة في الفاسق- كما توهم- فلا، لإمكان ثبوت الحرمة لسيّئ الخلق أيضا، و عليه فالاية الشريفة لا تدل على انحصار الحرمة في الدم المسفوح و ان دل على عدم ثبوتها لطبيعي الدم بما هو، فلا تنافي ثبوت الحرمة للدم التخلّف غير التابع للّحم، أو مطلق غير المسفوح، كالدم الخارج عند حك البدن، و الخارج من الجروح، و دم الحيض و غيره، مما يعترف صاحب الحدائق «قده» بنجاسته أيضا.

هذا مضافا الى إمكان دعوى: ان المسفوح هو الدم المراق، بمعنى المتجاوز عن محله، و لا اختصاص له بالدم الخارج من العروق بالذبح، فالدم الخارج من بطن الحيوان عند شقه حيّا كان أو ميّتا يصدق عليه انه من الدم المسفوح، فينحصر غير المسفوح بما يكون تابعا للّحم، و يعد جزء منه.

الوجه الثالث: الروايات الدالة على عدّ محرّمات الذبيحة و لم تذكر الدم المتخلف منها، و ان كانت الدلالة لا تخلو من ضعف.

و وجه الضعف: ان الروايات المذكورة لم ترد في مقام حصر محرّمات الذبيحة كي تكون دالة على حلية غير ما فيها من المحرمات، بل هي واردة لبيان حرمة الأمور المذكورة فيها، فلا تنافي وجود محرّم آخر و قد عدّت جملة من الروايات مطلق الدم من محرمات الذبيحة، مضافا الى صراحة الآية الكريمة في ذلك، كما ذكرنا فالصحيح: هو ان الدم المتخلف إذا لم يكن تابعا و‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 45‌

الا ما كان في اللحم مما يعد جزء منه (1).

[ (مسألة 3): الدم الأبيض إذا فرض العلم بكونه دما نجس]

(مسألة 3): الدم الأبيض إذا فرض العلم بكونه دما نجس (2)، كما في خبر فصد العسكري- صلوات اللّه عليه- و كذا إذا صب عليه دواء غير لونه الى البياض.

______________________________
جزء للحم يكون حراما، و ان كان طاهرا، و حينئذ لا تلازم بين الحكمين.

(1) مر آنفا انه لو كان الدم المتخلف تابعا للّحم لزم الحكم بحليته مضافا الى طهارته، لما هو المعلوم من سيرة المتشرعة من عدم التزامهم بتخليص اللحم منه.

(2) أشار «قده» في هذه المسألة الى عدم مدخلية اللون في نجاسة الدم، فلو فرض وجود دم أبيض و صدق عليه عنوان الدم كان نجسا للإطلاق. و هكذا لو انقلب لونه الى البياض و نحوه بصبّ دواء عليه بقي على نجاسته. و قد ورد في رواية فصد العسكري- صلوات اللّه عليه- انه خرج منه دم أبيض كالملح «1». و في اخرى: انه كاللبن «2».

______________________________
(1) الكليني «في أصول الكافي ج 1 ص 512 الحديث 24: باب مولد أبى محمد الحسن بن على» بإسناده عن بعض أصحابنا عن بعض فصادي العسكر من النصارى: «أن أبا محمد عليه السّلام بعث الى يوما في وقت صلاة الظهر، فقال لي: افصد هذا العرق. قال: و ناولني عرقا لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي: ما رأيت أمرا أعجب من هذا، يأمر لي ان أفصد في وقت الظهر و ليس بوقت فصد، و الثانية عرق لا أفهمه ثم قال لي: انتظرو كن في الدار، فلما أمسى دعاني. و قال لي: سرح الدم، فسرحت، ثم قال لي: أمسك، فأمسكت، ثم قال لي: كن في الدار، فلما كان نصف الليل أرسل الى و قال لي: سرح الدم. قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول، و كرهت أن أسأله. قال: فسرحت، فخرج دم أبيض كأنه الملح، قال: ثم قال لي: احبس. قال: فحبست. قال: ثم قال: كن في الدار، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير، فأخذتها و خرجت».

و في وسائل الشيعة 17 ص 107 الباب: 10 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 1.

ضعيف بالإرسال، و الاشتمال على بعض المجاهيل، كابن مكفوف.

(2) سفينة البحار ج 1 ص 364 و في البحار ج 50 ص 260- 261- طبعة الإسلامية. نقله عن الخرائج مرفوعا.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 46‌

[ (مسألة 4): الدم الذي قد يوجد في اللبن عند الحلب نجس]

(مسألة 4): الدم الذي قد يوجد في اللبن عند الحلب نجس (1) و منجس للّبن.

[ (مسألة 5): الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح]

(مسألة 5): الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح و يكون ذكاته بذكاة أمه تمام دمه طاهر (2). و لكنه لا يخلو عن إشكال.

[ (مسألة 6): الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد في طهارة]

(مسألة 6): الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد في طهارة ما تخلف فيه بعد خروج روحه اشكال (3)، و ان كان لا يخلو عن وجه، و أما ما خرج منه فلا إشكال في نجاسته.

______________________________
(1) و الوجه فيه ظاهر، لانه من الدم المسفوح، كما أشرنا إليه، فيكون نجسا و منجسا لملاقيه.

(2) دم الجنين.

ربما يستدل على طهارة الدم الخارج من الجنين المذكّى بذكاة أمّه بصدق الدم المتخلف في المذكّى عليه، فيكون طاهرا.

الا انه يشكل ذلك كما أشار إليه في المتن تبعا لصاحب الجواهر «قده» «1»: بأن عمدة الدليل على طهارة الدم المتخلف في الذبيحة انما هي السيرة، و القدر المتيقن منها انما هو المتخلف بعد خروج المتعارف بالذبح، فلا تشمل الدم الموجود في الجنين قبل ذبحه، و ان كان تابعا لأمه في التذكية. نعم لو ذبح مستقلا كان المتخلف فيه طاهرا، فالأقوى نجاسة دمه قبل الذبح. الا ان يمنع عن عموم نجاسة الدم، و يرجع الى قاعدة الطهارة، لكنه خلاف التحقيق، لوجود العموم، كما مر.

(3) استشكل «قده» في طهارة الدم المتخلّف في الصيد. و الأظهر‌

______________________________
(1) ج 5 ص 365- طبعة النجف الأشرف.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 47‌

[ (مسألة 7): الدم المشكوك في كونه من الحيوان أو لا]

(مسألة 7): الدم المشكوك في كونه من الحيوان أو لا محكوم بالطهارة (1).

______________________________
عدم الإشكال فيه بخلاف دم الجنين لنفس ما تقدم في المتخلّف في الذبيحة، إذ لا فرق فيه بين ما تخلّف بعد الذبح و النحر أو آلة الصيد- من كلب، أو سهم، أو غيرهما- لخروج المتعارف بذلك كله، و ان اختلف ما تعارف في كلّ منها بحسبه، لقيام السيرة على الطهارة في جميع ذلك. و أما ما خرج منه بآلة الصيد فلا مجال لتوهم الاشكال فيه، لانه من الدم المسفوح.

(1) الدم المشكوك بعد الفراغ عن نجاسة بعض الدّماء و طهارة بعضها الأخر يقع الشك في موارد.

و الصور المذكورة في هذه المسألة خمسة، فتارة: يشك في كون شي‌ء أحمر دما أولا. و اخرى: يعلم بكونه دما و لكن يشك في انه دم حيوان أو غيره، لاحتمال كونه آية نازلة من السماء أو من الموجود تحت الأحجار عند قتل سيّد الشهداء عليه السّلام- مثلا- و ثالثة: يعلم بأنه دم حيوان و لكن يشك في كونه مما له نفس أولا، و هذا على قسمين لانه إما ان يشك في حال حيوان بخصوصه من جهة الشك في أن له نفسا سائلة أولا، كالحية و التمساح، و إما ان يشك في حال الدم نفسه، و انه من أى الحيوانين الشاة أو السمك مثلا- و من ذلك: الشك في الدّم المرئي في الثوب، و انه من البدن أو من البق أو البرغوث، فهذه أربع صور. و خامسة: يعلم بأنه دم حيوان ذي نفس إلا انه يشك في انه من القسم الطاهر منه و هو المتخلّف فيه بعد الذبح أو النجس، كالداخل في الذبيحة بعد الخروج لردّ النفس، أو الباقي فيه قبل خروج المتعارف من جهة علو رأس الحيوان، أو نحو ذلك.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 48‌

..........

______________________________
و الصور الأربعة المتقدمة كلّها محكومة بالطهارة، إما لقاعدتها. أو لاستصحاب العدم الأزلي في العنوان المترتب عليه النجاسة.

ففي الصورة الأولى: يجري استصحاب عدم كونه دما، و لا يعارضه استصحاب عدم العنوان الأخر، لعدم ترتب أثر عليه.

و في الصورة الثانية: يجري استصحاب عدم كونه دم حيوان و عموم نجاسة الدم لا يشمل دم غيره، كما تقدم.

و في الصورة الثالثة: يجري استصحاب عدم كون الحيوان مما له نفس سائلة.

و في الصورة الرابعة: يجري استصحاب عدم كون الدم من الحيوان الّذي له نفس سائلة.

و أما الصورة الخامسة فيأتي الكلام فيها.

ثمّ انه ربما يقال «1» بأن الأصل في الدّم المشكوك الحكم بالنجاسة، ففي غير الصورة الأولى- الّتي لم يحرز كونه دما- لا بد من الحكم بوجوب الاجتناب. و ذلك لقوله عليه السّلام في موثق عمار.

«فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب» «2».

فإنه بإطلاقه يعم الدّم المشكوك كما يشمل الدّم المعلوم كونه من أيّ الأقسام. بل الغالب هو الجهل بحال الدم الّذي يرى في منقار الطيور- و لا سيما السّباع منها- بحيث يكون تخصيصه بصورة العلم بحال الدم حملا له على الفرد النادر. و هذا نظير الحكم بالحيضيّة على من رأت الدّم مع عدم علمها بكونه‌

______________________________
(1) نسب هذا القول الى الشيخ و غيره- كما في كتاب الطهارة لشيخنا الأنصاري «قده»- نقلا عن شرح المفاتيح-

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 230: الباب 4 من أبواب الأسئار، الحديث: 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 49‌

..........

______________________________
استحاضة، و بالجنابة على من رأى بللا مشتبهة قبل الاستبراء.

و قد أشكل عليه «1» بمعارضته بذيله في رواية الشيخ له في التهذيب و الاستبصار، و المروي في الفقيه أيضا- من قوله: «و سئل عن ماء شربت منه الدّجاجة قال: ان كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه و لم يشرب، و ان لم تعلم ان في منقارها قذرا توضأ منه و اشرب» «2».

فإن مقتضى إطلاق قوله عليه السّلام: «و ان لم تعلم ان في منقارها قذرا.» هو الحكم بطهارة الدم المشكوك للشك في كونه قذرا أولا، و مقتضى صدر الرواية هو الحكم بالنجاسة كما تقدم، و حيث ان المعارضة بين الصدر و الذيل يكون بالعموم من وجه، و لا ترجيح لأحدهما على الأخر، إذ كما يمكن تخصيص الذيل بغير الدم من سائر النجاسات، كذلك يمكن تقييد الصدر بصورة العلم بنجاسة الدم، فيسقطان بالمعارضة في الدّم المشكوك، و يكون المرجع قاعدة الطهارة الّتي هي الأصل المعتمد في أمثال هذه الموارد.

و يندفع: بلزوم إبقاء صدره على إطلاقه و تقديمه على الذيل. و ذلك لوجود القرينة على ذلك، و هي ما أشرنا إليه آنفا: من ان تخصيص الصدر بصورة العلم بحال الدّم حمل له على الفرد النادر، لان الغالب هو عدم العلم بحال الدم الموجود على منقار الطيور السّباع، و انه من المذكى أو الميتة، أو مما له نفس أو من غيره، و هذا بخلاف ذيله، فان حمل القذر على غير الدم من سائر النجاسات لا محذور فيه، فلا معارضة بينهما.

هذا و لكن مع ذلك لا يمكن المساعدة على أصل الدعوى، أعني:

أصالة النجاسة في مطلق الدماء المشكوكة، بل غاية ما هناك هي دلالة الموثقة‌

______________________________
(1) المستشكل هو الشيخ الأنصاري «قده» في كتاب الطهارة في أواخر بحث نجاسة الدم.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 231 الباب: 4 من أبواب الأسئار، الحديث 3، 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 50‌

كما أن الشي‌ء الأحمر الذي يشك في أنه دم أم لا كذلك، و كذا إذا علم أنه من الحيوان الفلاني و لكن لا يعلم أنه مما له نفس أم لا، كدم الحية و التمساح، و كذا إذا لم يعلم أنه دم شاة أو سمك، فإذا رأى في ثوبه دما لا يدرى انه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بالطهارة.

______________________________
على ثبوت هذا الأصل في خصوص موردها و هو الدم الموجود على منقار الطيور الجوارح، كالباز، و الصقر، و العقاب من باب تقديم الظاهر على الأصل، لأن الغالب أكلها من فريستها أو الميتة، فيكون الدّم في منقارها أمارة معتبرة على نجاسته، و انه من القسم النجس، فلا يرفع اليد بها عن عموم قاعدة الطهارة في غير موردها، كالدم المشكوك في الثوب و البدن، أو الموجود على منقار الطيور غير الجوارح، كالدّيك و الدّجاجة و غير ذلك.

و بالجملة: ان للموثقة دلالتين، إحداهما: الدلالة على الحكم الواقعي، و هو نجاسة مطلق الدم. و قد تقدم: انها أحد المستندين فيما اخترناه من عموم نجاسته. الثانية: الدلالة على الحكم الظاهري، و هو نجاسة الدم المشكوك فيه، و وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

أما الدلالة الاولى: فلا يمكن التمسك بها في الدماء المشكوكة، لأنه من التمسك؟ بالعام في الشبهة المصداقية، فإن العموم المذكور مخصص بما دل على طهارة بعض الدماء، كالمتخلّف في الذبيحة، و دم ما لا نفس له، و نحو ذلك، و من المحقق في محله عدم صحة التمسك بالعام المخصّص في الشبهات المصداقية للخاص.

و أمّا الدلالة الثانية فلا مانع من التمسك بها في الدّم المشكوك. الا انها مختصة بموردها- من منقار الطيور الجوارح- تقديما للظاهر على الأصل فيها، فلا يمكن التعدي إلى مطلق الدماء المشكوكة. فلا أصل لأصالة نجاسة الدم المشكوك على وجه العموم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 51‌

و اما الدم المتخلف في الذبيحة (1) إذا شك في انه من القسم الطاهر أو النجس فالظاهر الحكم بنجاسته- عملا بالاستصحاب- و ان كان لا يخلو عن اشكال. و يحتمل التفصيل بين ما إذا كان الشك من جهة احتمال رد النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الرد و بين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علو فيحكم بالنجاسة عملا بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف.

______________________________
(1) هذه هي الصورة الخامسة- للدم المشكوك من الصور المذكورة في المتن، و هي: ما إذا علم انه دم حيوان ذي نفس سائلة الا انه يشك في انه من القسم الطاهر منه أو النجس.

فقد استظهر المصنف «قده» أولا الحكم بالنجاسة، عملا بالاستصحاب و مراده: استصحاب نجاسة الدم حال كونه داخل الحيوان و في عروقه قبل التذكية، و لكنه «قده» استشكل في ذلك. و وجه الاشكال: انما هو عدم ثبوت الدليل على نجاسة الدم قبل خروجه من بدن الحيوان، و القدر الثابت من الأدلة انما هو الدم الخارج، فلا حالة سابقة للنجاسة كي تستصحب.

ثمّ احتمل التفصيل بين ما إذا كان من جهة احتمال ردّ النفس فيحكم بالطهارة، لأصالة عدم الردّ، و بين ما إذا كان لأجل احتمال علوّ رأس الحيوان فيحكم بالنجاسة، لأصالة عدم خروج المقدار المتعارف.

و الحق هو التفصيل المذكور، و لكن لا لما ذكره في المتن في الصورة الاولى من أصالة عدم الرّد، لأنّها لا تثبت كون المشكوك من الدّم المتخلّف، إذ لا أثر لعدم الرد شرعا، و الملازمة بينه و بين كون المشكوك من المتخلّف عقليّة لا شرعيّة، بل لاستصحاب عدم خروج الدم المشكوك حين الذبح، و يترتب عليه الطهارة بعد إحراز خروج المقدار المتعارف من الدم.

و ببيان آخر: ان موضوع الحكم بطهارة دم الحيوان مركب من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 52‌

[ (مسألة 8): إذا خرج من الجرح أو الدمل شي‌ء أصفر]

(مسألة 8): إذا خرج من الجرح أو الدمل شي‌ء أصفر يشك في أنه

______________________________
أمرين، خروج المعتاد بالذبح، و بقاء مقدار منه داخل الحيوان، فإذا أحرز أحد جزئية- و هو خروج المعتاد- بالوجدان يجري الاستصحاب في الجزء الأخر، و يتم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل. و لا نريد من استصحاب عدم خروج المشكوك إثبات عنوان المتخلّف في الذبيحة له كي يورد عليه بأنه يبتنى على الأصل المثبت، لانه عنوان وجودي مترتب على عدم الخروج، بل المراد إثبات نفس عدم الخروج و بقاء الدم داخل الحيوان، لعدم ترتب الطهارة على عنوان المتخلّف في الذّبيحة في لسان الأدلة الشرعيّة، بل غاية ما هناك قيام السيرة على طهارة الدم الباقي داخل الحيوان بعد خروج المعتاد بالذبح. فإذا شك في دم انه من القسم الخارج أو الباقي في الذّبيحة فلا مانع من استصحاب عدم خروجه، و أثره الطهارة، بعد ضمه إلى مفروضية خروج المعتاد. و مع الغض عن هذا الأصل فلا مانع من إجراء الأصل الحكمي، و هو استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

و أما الصورة الثانية: و هي ما إذا كان منشأ الشك في طهارة الدم المشكوك: الشك في خروج الدم بالمقدار المعتاد، فيحكم فيها بالنجاسة، لاستصحاب عدم خروج المعتاد، و أثره الشرعي ارتفاع الطهارة بارتفاع موضوعها، لما ذكرناه آنفا: من تركب موضوع الطهارة من أمرين: خروج الدم بالمقدار المعتاد، و بقاء الباقي في الذبيحة، فإذا شك في أحد جزئية فلا مانع من جريان استصحاب عدمه، بل لا مانع من التمسك بإطلاق ما دل على نجاسة الدم، لشموله للدم الباقي في الحيوان قبل خروج المعتاد بالذبح، و باستصحاب عدم خروجه ينقح موضوع العموم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 53‌

دم أم لا محكوم بالطهارة (1)، و كذا إذا شك من جهة الظلمة انه دم أم قيح، و لا يجب الاستعلام (2).

[ (مسألة 9): إذا حك جسده فخرجت رطوبة يشك في أنها دم أو ماء أصفر]

(مسألة 9): إذا حك جسده فخرجت رطوبة يشك في أنها دم أو ماء أصفر يحكم عليها بالطهارة (3).

[ (مسألة 10): الماء الأصفر الذي ينجمد على الجرح عند البرء طاهر]

(مسألة 10): الماء الأصفر الذي ينجمد على الجرح عند البرء طاهر، إلا إذا علم كونه دما (4) أو مخلوطا به فإنه نجس، إلا إذا استحال جلدا (5).

[ (مسألة 11): الدم المراق في الأمراق حال غليانها نجس منجس]

(مسألة 11): الدم المراق في الأمراق حال غليانها نجس منجس، و ان كان قليلا مستهلكا، و القول بطهارته بالنار- لرواية ضعيفة- ضعيف (6).

______________________________
(1) لأن الشبهة موضوعية، و المرجع فيها قاعدة الطهارة، أو استصحاب عدم كونه دما، بناء على ما هو المختار من جريانه في الأعدام الأزلية، و كذا إذا كان الشك من جهة الظلمة.

(2) لعدم وجوب الفحص في الشّبهات الموضوعيّة، و ان أمكن بسهولة، لإطلاق أدلة الأصول الجارية فيها. و أما وجوب الفحص في بعض الموارد- فان تم- فلدليل خاص.

(3) لما ذكرناه آنفا في المسألة السابقة.

(4) فإن الانجماد لا يخرجه عن صدق الدّم عليه، فيشمله دليل نجاسته، كما ان اختلاطه بالدّم يوجب نجاسته من دون فرق بين الملاقاة في الخارج أو الداخل إذ الاختلاط يوجب استمرار الملاقاة إلى الخارج.

(5) فيحكم عليه بالطهارة لتبدل الموضوع بالاستحالة.

(6) الدم المراق في الأمراق ينبغي ان تذكر هذه المسألة في بحث المطهّرات- كما صنعه‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 54‌

..........

______________________________
بعض الأصحاب-
«1» لأن البحث فيها يكون عن مطهّريّة النار و قد نسب «2» القول بذلك إلى الشيخ في النهاية، و الاستبصار، و إلى ظاهر الفقيه، و المفيد في المقنعة.

و الصحيح: ان النار بنفسها لم يدل دليل على مطهريتها لشي‌ء، و ان إحالته إلى شي‌ء آخر فضلا عما إذا أوجبت فيه مجرد التجفيف أو الغليان، فالخشبة المتنجسة- مثلا- إذا استحالت بإحراق النار رمادا أو دخانا تطهر بالاستحالة لا بالنار، إذ لو كانت الاستحالة بغير النار لطهرت أيضا بل عدّ الاستحالة من المطهّرات لا يخلو عن المسامحة، لأن ارتفاع النجاسة حينئذ انما يكون بارتفاع موضوعها، و المستحال إليه يكون موضوعا آخر محكوما بالطهارة، لعدم تعدّي الأحكام الثابتة للموضوعات النجسة إلى غيرها. فمتى صارت العذرة رمادا لحقها حكم الرماد و ارتفع عنها حكم العذرة، إذ لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه، فالنار بنفسها لا ترفع نجاسة النجس و ان إحالته إلى شي‌ء آخر، فضلا عما إذا جفّفته كخبز العجين المتنجس، أو أوجبت الغليان فيه، كطبخ المرق المتنجس بالدم، كما هو المبحوث عنه في هذه المسألة.

و كيف كان فالروايات الّتي تتوهم دلالتها على مطهريّة النار خمسة، اثنتان منها وردتا في خبز العجين الّذي عجن بماء وقعت فيه الميتة، و ثلاثة منها في المرق الّذي وقع فيه الدم. و لا يمكن الاعتماد على شي‌ء منها لضعفها سندا أو دلالة.

______________________________
(1) راجع الحدائق ج: 5 ص 465 طبعة النجف الأشرف. و الجواهر: ج 6 ص 273 طبعة النجف الأشرف. و مصباح الفقيه، كتاب الطهارة ص 632.

(2) كما في الجواهر: ج 6 ص 274 في كتاب الطهارة طبعة النجف الأشرف و أيضا في كتاب الأطعمة و الأشربة في الأمر الثاني من المائعات المحرمة- و هو الدم-

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 55‌

..........

______________________________
أما الأوليان: فإحداهما: مرسلة ابن أبي عمير عمن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في عجين عجن و خبز، ثم علم ان الماء كانت فيه ميتة.

قال: لا بأس، أكلت النار ما فيه» «1».

و فيها أوّلا: انها ضعيفة السند بالإرسال، و ان كان المرسل ابن أبي عمير الّذي اشتهر: ان مراسيله كمسانيده، لما ذكرناه مرارا: من عدم الفرق بينه و بين غيره عندنا، لاحتمال وثاقة المروي عنه عنده دوننا.

و ثانيا: انها ضعيفة الدلالة، لأن تعليل الجواز بأكل النار ما في العجين انما يناسب كون السؤال عن حرمة أكله من جهة اشتماله على الماء الملاقي للميتة أو الممتزج بالاجزاء الدقيقة منها، دون نجاسته، و إلّا لكان الأنسب أن يجيب الامام عليه السّلام بتطهير النار له، كما أجاب بذلك في صحيحة الحسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثمّ يجصّص به المسجد، أ يسجد عليه؟ فكتب إلىّ بخطه: ان الماء و النار قد طهراه» «2».

فلا بد إما من حمل الماء على ما لا ينفعل بالملاقاة، كالبئر كما هو مفروض الرواية الثانية أو الكثير. أو حمل الميتة على ميتة ما لا نفس له، و يكون تعليل جواز أكل الخبز- الّذي عجن بالماء الّذي وقع فيه الميتة- لرفع الاستقذار، لا رفع النجاسة.

و الثانية: رواية عبد اللّه بن زبير عن جدّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدّواب، فتموت، فيعجن من مائها، أ يؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس بأكله» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 1 ص 175: الباب، 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 18.

(2) وسائل الشيعة ج 1 ص 186: الباب 18 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 175 الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 17.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 56‌

..........

______________________________
و يردّها أولا: ضعف سندها، و لو بأحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن زبير الأسدي فإنه مهمل أو مجهول. و ثانيا: ضعف دلالتها، بابتناء الاستدلال بها على انفعال ماء البئر بملاقاة النجس، مع ان المحقق في محله عدم انفعاله، لدلالة جملة من الروايات على ذلك، و يمكن عدّ هذه الرواية من جملة تلك الروايات أيضا. نعم قد التزمنا بحدوث مرتبة من القذارة لا يجب الاجتناب عنها، و يزيلها نزح المقدّرات، فمن الجائز ان تكون اصابة النار أيضا كالنزح رافعة لتلك القذارة.

و لو سلّم دلالتهما على مطهريّة النار، و ان مفروض السؤال فيهما تنجس الماء الّذي عجن به بملاقاة الميتة لعارضتهما الروايات «1»- الّتي رواها ابن أبي عمير أيضا- الدالّة على بيع الخبز الّذي عجن بالماء النجس على مستحل الميتة، أو انه يدفن و لا يباع، إذ لو كانت اصابة النار له- عند صيرورته خبزا- مطهّرا له لم يأمر الإمام عليه السّلام ببيعه من مستحلّ الميتة، أو دفنه. و مع التساقط بالمعارضة يرجع إلى عموم انفعال الماء بملاقاة النجس، أو استصحاب النجاسة، بناء على جريانه في الشبهات الحكمية.

و أما الروايات الواردة في المرق المراق فيه الدم:

فإحداها: رواية زكريّا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير، و مرق كثير؟ قال:

______________________________
(1) عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، و ما أحسبه إلا عن حفص بن البختري، قال:

«قيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: في العجين يعجن من الماء النجس، كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة» مرسلة.

و عنه أيضا، عن بعض أصحابنا، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» و هي مرسلة أيضا وسائل الشيعة ج 1 ص 167 الباب 11 من أبواب الأسئار، الحديث: 1، 2.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 57‌

..........

______________________________
يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة، أو الكلب، و اللحم اغسله و كله. قلت:

فإنه قطر فيه الدم. قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّه.» «1».

و هي ضعيفة سندا بابن المبارك، سواء أ كان حسن- كما في طريق الشيخ- أو حسين- كما في طريق الكليني- فإن الأول مهمل، و الثاني مجهول و ضعيفة دلالة: بما أوردناه على رواية ابن أبي عمير المتقدمة، من ان التعليل بأكل النار ما في القدر من الدّم انما يناسب كون السؤال عن حرمة أكل المرق المراق فيه الدّم دون نجاسته بالملاقاة، و إلّا لكان الأنسب التعليل: بان النار مطهّرة له. و عليه فلا بد من حمل الدّم الطاهر- كالمتخلف في الذبيحة- أو دم ما لا نفس له، و هو مع ذلك يحرم أكله و لو امتزج بشي‌ء آخر، إلّا إذا استهلك فيه بنفسه، أو بعلاج، كالغليان بالنار، فان المشاهد ان ما في القدر يتغير لونه بوقوع الدم فيه، لكنه يزول بالغليان، و ذلك علامة استهلاكه فيه، و به تزول الحرمة لزوال موضوعها.

و توهم: ان مقتضى سياق الرواية أنها في مقام بيان حكم النجاسة، لأن السؤال في صدرها انّما يكون عن حكم وقوع الخمر و النبيذ المسكر في المرق فأمر الإمام عليه السّلام بإهراق المرق، أو إطعامه أهل الذمة، أو الكلب، و أنه يغسل اللحم، ثمّ يأكله لا يكون إلا للنجاسة.

مندفع: بإمكان حمل السؤال فيهما على الحرمة أيضا، لعدم ثبوت نجاستهما عند الجميع، و المسلم عند الكل انما هي الحرمة فيكون الأمر بالاجتناب عن المرق حينئذ، مع استهلاك الخمر و النبيذ فيه بالغليان لشدة الاهتمام بشأنهما، بخلاف الدم كما أنه يمكن حمل الأمر بغسل اللحم على‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 470 الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث: 8. و في الباب 26 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 58‌

..........

______________________________
تخليصه من آثار الخمر و النبيذ. و لو كان لأجل التطهير لأمكن حمله على الإرشاد إلى النجاسة زائدا على ما هو محط نظر السائل، من الحرمة.

و ثانيتها: صحيحة سعيد الأعرج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قدر فيها جزور، وقع فيها أوقيّة من دم، أ يؤكل؟ قال: نعم، فانّ النار تأكل الدم» «1».

ثالثتها: ما عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء، يطبخ فيها لحم، وقع فيها أوقية دم، هل يصلح أكله؟

فقال: إذا طبخ فكل، فلا بأس» «2».

و الجواب عن هاتين: هو ما ذكرناه عن الرواية الاولى، من قوة احتمال أن يكون السؤال عن حرمة أكل المرق المراق فيه الدم. لا سيّما في هاتين، لان المفروض فيهما وقوع دم كثير في القدر لا يستهلك بمجرد وقوعه فيه إلّا بالغليان بالنار، و هذا بخلاف مفروض الرواية الاولى من وقوع قطرة من الدّم في القدر، فلا بد من حمله على الدّم الطاهر.

فلو سلم صحة سند الروايات لم يمكن العمل بها، لضعف دلالتها على مطهريّة النار للمرق المتنجس بالدّم. و لو سلّم تمامية دلالتها أيضا كانت معارضة بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الماء الملاقي للدم، إذ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين المطبوخ و غيره. و ذلك.

كصحيح علي بن جعفر عن أخيه قال: «و سألته عن رجل رعف و هو يتوضأ، فتقطر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة: الباب 44 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث: 2.

(2) وسائل الشيعة: الباب المتقدم، الحديث، 3.

(3) وسائل الشيعة ج 1 ص 150 الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1. ج 1 ص 169 الباب 13 منها، الحديث: 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 59‌

[ (مسألة 12): إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا، في بدنه]

(مسألة 12): إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا، في بدنه، أو بدن حيوان، فان لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر (1)، و ان علم ملاقاته لكنه خرج نظيفا فالأحوط الاجتناب عنه (2).

[ (مسألة 13): إذا استهلك الدم الخارج من بيان الأسنان]

(مسألة 13): إذا استهلك الدم الخارج من بيان الأسنان في ماء الفم فالظاهر طهارته، بل جواز بلعه (3). نعم لو دخل من الخارج دم في الفم

______________________________
و كموثق عمار المتقدمة
«1».

و تكون النسبة بينهما العموم من وجه، و مع التساقط في مورد المعارضة- و هو المرق المراق فيه الدم- يرجع إلى استصحاب النجاسة، لكنه مبنيّ على جريانه في الشبهات الحكمية، و لا نقول به، فيرجع إلى قاعدة الطهارة، و لكن العمدة في المقام هو ان الروايات المذكورة بين ما هي قاصرة السند أو الدلالة- كما عرفت- فلا تصل النوبة إلى المعارضة.

(1) لأصالة عدم ملاقاته للدم، أو استصحاب الطهارة، أو قاعدتها.

(2) يبتنى هذا الاحتياط على أمرين، الأول: نجاسة الدم في الباطن.

الثاني: تأثير الملاقاة في الباطن في نجاسة الملاقي و كلاهما محل منع و إشكال، كما تقدم ذلك «2» في مثل شيشة الاحتقان. فلا موجب للاحتياط المطلق، لكنه حسن على كل حال.

(3) أما طهارة ماء الفم فلكونه من البواطن- كباطن الفم نفسه- فلا يتنجس بملاقاة النجس و لو كانت النجاسة خارجيّة. و أما مجرد الملاقاة في الباطن فلا يمنع عن التنجيس بالنجاسة الخارجيّة- كالدّم الخارج من بين الأسنان- فإن المراد من النجاسة الخارجية ما خرج عن محله الأصلي و‌

______________________________
(1) في الصفحة 23.

(2) في ج 2 من هذا الكتاب ص 280 في ذيل «مسألة 1» من مسائل نجاسة الغائط.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 60‌

فاستهلك فالأحوط الاجتناب عنه (1). و الاولى غسل الفم بالمضمضة أو نحوها.

______________________________
ظهر للحواس، كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في ذيل المسألة الاولى من مسائل نجاسة البول و الغائط فراجع
«1».

و أما جواز بلعه فلاستهلاك الدم فيه على الفرض، فلا موضوع للنجس، أو الحرام.

(1) فرّق «قده» بين دم الأسنان و الدم الخارجي، فاحتاط لزوما في الثاني دون الأوّل.

و يبتنى ذلك على جعل دم الأسنان من النجاسات الداخلية، فلا يتنجس بملاقاته ماء الفم، بخلاف الدم الخارجي، فإنه يكون منجسا له لكونه خارجيّا. و لكن الصحيح: ان الدم الخارج من بين الأسنان أيضا يكون من النجس الخارجي، و ان بقي في داخل الفم، لان المراد به ما خرج عن محلّه الأصلي و ظهر للحواس. إلّا أنه مع ذلك لا يحكم بالنجاسة في شي‌ء من الصورتين، لأن الملاقي و هو ماء الفم يعدّ من الأجزاء الداخلية، و لا دليل على تنجسها بملاقاة النجس، و ان كان من الخارج.

و يؤيّد ذلك: ما دل من الروايات على طهارة بصاق شارب الخمر، مع ان الخمر من النجاسات الخارجيّة.

كرواية عبد الحميد بن أبي الدّيلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

رجل يشرب الخمر، فيبصق، فأصاب ثوبي من بصاقه؟ قال: ليس بشي‌ء» «2».

______________________________
(1) راجع ج 2 من هذا الكتاب ص 275 ص 280- الطبعة الأولى.

(2) وسائل الشيعة ج 3 ص 473 الباب 39 من أبواب النجاسات، الحديث: 1.

ضعيفة بابن أبى ديلم لانه مهمل أو مجهول لم يوثق.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌3، ص: 61‌

[ (مسألة 14): الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد]

(مسألة 14): الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد من البدن ان لم يستحل و صدق عليه الدم نجس (1). فلو انخرق الجلد و وصل الماء اليه تنجس، و يشكل معه الوضوء أو الغسل. فيجب إخراجه ان لم يكن حرج، و معه يجب ان يجعل عليه شيئا مثل الجبيرة، فيتوضأ أو يغتسل. هذا إذا علم أنه دم منجمد، و ان احتمل كونه لحما صار كالدم من جهة الرض- كما يكون كذلك غالبا (2)- فهو طاهر.

______________________________
و رواية الحسن بن موسى الحنّاط قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشرب الخمر ثمّ يمجّه من فيه، فيصيب ثوبي؟ فقال: لا بأس»
«1».

و هي محمولة على ما في الرواية الاولى من استهلاك الخمر في البصاق.

(1) لان الانجماد ليس من المطهرات. و مع بقائه تحت الجلد أو الظفر يصح الوضوء و الغسل، لطهارة الماء، و كفاية غسل ظاهر البشرة.

و أما لو انخرق الجلد يتنجس الماء بملاقاته، و يبطل معه الوضوء و الغسل لنجاسة الماء. بل و يشكل من جهة كونه حاجبا عن وصول الماء إلى البشرة، فحينئذ يجب إخراجه ان لم يكن حرج، و معه يسقط الأمر بالإخراج. و هل ينتقل فرضه حينئذ إلى التيمم أو الجبيرة: فيه كلام يأتي في محله. و الأظهر لزوم التيمم و عدم كفاية الجبيرة، لعدم معلومية مشروعيّتها في أمثال هذا الفرض. و ان كان الأحوط ضمّها إلى التيمم.

(2) كون الغالب كذلك غير معلوم، بل الغالب أنه دم منجمد.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 3 ص 473 الباب 39 من أبواب النجاسات، الحديث: 2.

بحسن بن موسى الحناط، فإنه لم يوثق.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net