ــ[215]ــ
وأمّا إذا كان الاضطرار بسبب التقيّة فالظاهر عدم وجوب المبادرة وكذا يجوز الابطال وإن كان بعد دخول الوقت لما مرّ من الوسعة في أمر التقيّة ((1)) لكن الأولى والأحوط فيها أيضاً المبادرة أو عدم الابطال (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كانت الضرورة هي التقيّة :
(1) وأما إذا كانت الضرورة هي التقيّة ، فالمعروف المشهور بين الأصحاب (قدس الله أسرارهم) جواز المسح على الخفّين تقيّة ، وتدل عليه العمومات والاطلاقات الواردة في وجوب التقيّة ومشروعيتها كقوله (عليه السلام) «التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له»(2) «التقيّة في كل شيء»(3) على ما سيأتي فيها الكلام ، وأيضاً تدل عليه رواية أبي الورد المتقدمة (4) حيث صرح فيها بجواز المسح على الخفين تقيّة وقال : «لا ، إلاّ من عدو تتقيّه»(5) .
وفي قبال ذلك عدة روايات دلت على عدم جواز المسح على الخفين تقيّة .
الاُولى : صحيحة زرارة قال : «قلت له : في مسح الخفين تقيّة ؟ فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً ، شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج» (6) وهي كالصريحة في عدم جريان التقيّة في المسح على الخفين . نعم الراوي فهم من قوله «لا أتقي» الاختصاص وأن عدم جواز التقيّة في الاُمور الثلاثة من خصائصه (عليه السلام) على ما صرح به في ذيل الرواية حيث قال : قال زرارة : «ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقـوا فيهن أحداً» وهو على جلالته وعلو مقامه لا مناص من رفع اليد عما فهمه بقرينة صحيحته الثانية التي رواها الكليني (قدس سره) ولم نعثر عليها في أبواب التقيّة من الوسائل .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوسعة في التقيّة إنما هي في غير المسح على الحائل .
(2) الوسائل 16 : 210 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 24 .
(3) الوسائل 16 : 214 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 2 .
(4) في ص 202 .
(5) ، (6) الوسائل 1 : 458 / أبواب الوضوء ب 38 ح 5 ، 1 .
ــ[216]ــ
والثانية : ما أشرنا إليه آنفاً ، أعني صحيحة زرارة التي رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عن غير واحد قال : «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) في المسح على الخفّين تقيّة ؟ قال : لا يتقى في ثلاثة ، قلت : وما هنّ ؟ قال : شرب الخمر أو قال : شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج» (1) فانها صريحة في عدم اختصاص الحكم بهم (عليهم السلام) بقوله : (عليه السلام) «لا يتقى» ومعه لا بدّ من حمل قوله (عليه السلام) في الصحيحة الاُولى «لا أتقي» على المثال .
الثالثة : ما رواه الكليني (قدس سره) أيضاً عن درست عن محمد بن الفضيل الهاشمي قال «دخلت مع إخوتي على أبي عبدالله (عليه السلام) فقلنا إنّا نريد الحج وبعضنا صرورة ، فقال : عليكم بالتمتع فانّا لا نتقي في التمتع بالعمرة إلى الحج سلطاناً واجتناب المسكر والمسح على الخفين» (2) .
الرابعة : ما رواه الكليني والبرقي والصدوق (قدس الله أسرارهم) عن أبي (ابن) عمر الأعجمي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث أنه قال : «لا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كل شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفين» (3) وزاد في الخصال «إن تسعة أعشار الدين في التقيّة» ولم يذكر في هذه الرواية متعة الحج كما لم يذكر في شيء من روايات الكليني والبرقي والصدوق لهذه الرواية ولا نقل ذلك عنهم (قدس سرهم) في الوسائل ولا في غيره من كتب الحديث .
فما في كلام المحقق الهمداني (قدس سره) من نقل الرواية مشتملة على متعة الحج (4) من سهو القلم .
هذه هي الأخبار الواردة في المقام وقد عرفت استدلالهم بها على عدم جواز التقيّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 6 : 415 .
(2) الكافي 4 : 293 .
(3) الوسائل 16 : 215 / أبواب الأمر والنهي ب 25 ح 3 ، الكافي 2 : 172 / 2 ، المحاسن : 259 / 309 ، الخصال : 22 / 79 .
(4) مصباح الفقيه (الطهارة) : 164 السطر 22 .
ــ[217]ــ
في المسح على الخفّين .
ويرد الاستدلال بالرواية الأخيرة أنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها على شيء ، لأن أبا عمر الأعجمي ممن لم يتعرضوا لحاله فهو مجهول الحال من جميع الجهات ، حتى من حيث التشيع وعدمه فضلاً عن الوثاقة وعدمها ، فالرواية ساقطة عن الاعتبار . وكذلك الرواية الثالثة لضعفها بمحمد بن الفضيل الهاشمي ، لعدم توثيقه في الرجال ، وكذلك درست الواقع في سندها لأنه لم يوثق في الرجال .
وأما الرواية الاُولى أعني صحيحة زرارة الاُولى فهي أيضاً غير صالحة للاستدلال بها على المدعى ، لاحتمال أن يكون الحكم الوارد فيها من مختصاته (عليه السلام) ومع هذا الاحتمال كيف يسوغ الاستدلال بها على عدم جواز التقيّة في مسح الخفين على المكلفين ، فلا تبقى في البين رواية إلاّ الصحيحة الثانية لزرارة وهي العمدة في المقـام فان قلنا باعتبار رواية أبي الورد المتقدمة ولو بأحد الوجهين المتقدمين من عمل المشهور على طبقها ، أو لكون حماد بن عثمان الواقع في سندها من أحد أصحاب الاجماع فلا إشكال في المسألة ، لأن الرواية ناصة في الجواز والصحيحة ظاهرة في حرمة التقيّة في محل الكلام فيجمع بينهما بحمل الظاهر على النص . ونتيجة هذا الجمع أن التقيّة في الاُمور الثلاثة الواردة في الرواية أمر مكروه ، أو يحمل الصحيحة على غير الكراهة مما لا ينافي الرواية .
واما إذا لم نقل باعتبار الرواية ولم نعتمد عليها في الاستدلال ، فهل يمكننا رفع اليد بصحيحة زرارة عن الاطلاقات والعمومات الواردة في التقيّة ، نظراً إلى أن الصحيحة أخص منها مطلقاً فهي توجب تقييدها لا محالة ، أو أن الأمر بالعكس فلا بدّ من أن يرفع اليد عن الصحيحة بهذه الاطلاقات والعمومات ؟
الثاني هو التحقيق ، وذلك لأن الظاهر أن الصحيحتين المتقدمتين لزرارة متحدتان والوجه في هذا الاستظهار اُمور :
منها : أن زرارة بعدما نقل الصحيحة الاُولى وعقّبها بما فهمه منها ، من أن عدم جواز التقيّة في الموارد الواردة في الصحيحة من خصائص الامام (عليه السلام) حيث
ــ[218]ــ
قال : ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا ، كيف يسوغ له أن يروي رواية اُخرى بعين ذلك السند يدل على خلاف ما استفاده من الصحيحة الاُولى ، أعني حرمة التقيّة في الاُمور الثلاثة الواردة في الصحيحة .
ومنها : أن السند في كلتا الروايتين واحد كما تقدم .
ومنها : أن الرواية قد نقلها في الوافي(1) بلفظة «لا نتقي» لا «لا يتقى» ولعله هو الصحيح ، وإن كانت نسخ الكافي كلّها حتى النسخة التي بهامش مرآة العقول(2) وهكذا نسخ غير الكافي بلفظة «لا يتقى» وعلى ذلك فالاتحاد بين الروايتين ظاهر حيث لا فرق بين «نتقي» و «أتقي» لأنهم (عليهم السلام) بمنزلة شخص واحد .
وكيف كان فبهذه الاُمور نستظهر اتحاد الروايتين ولا أقل من احتمال ذلك كما لا يخفى . إذن لا دلالة في الصحيحة على عدم جواز التقيّة في الاُمور الثلاثة لغيرهم (عليهم السلام) .
ولعل هذا هو السر في أن صاحب الوسائل (قدس سره) لم ينقل الصحيحة الثانية في شيء من الأبواب المناسبة لها ، فانه لولا اتحاد الروايتين وكون الصحيحة بلفظة «لا نتقي» لم يكن لما صنعه صاحب الوسائل من ترك نقل الصحيحة الثانية وجه صحيح لصحة سندها ووضوح دلالتها ، مع أنه قد التزم بنقل الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة في الوسائل .
والظاهر أن النسخة عند صاحب الحدائق (قدس سره) أيضاً «لا نتقي» لأنه بعدما نقل الصحيحة الاُولى عن زرارة وحمل الشيخ لها في التهذيبين على اختصاص عدم جواز التقيّة في الاُمور الثلاثة به (عليه السلام) قال : ومثل خبر زرارة المذكورة أيضاً ما رواه في الكافي ، ثم نقل الصحيحة الثانية إلى آخرها (3) .
ولولا كون النسخة عنده «لا نتقي» لم تكن هذه الصحيحة مثلاً للصحيحة الاُولى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوافي 20 : 643 .
(2) مرآة العقول 22 : 275 / 12 .
(3) الحدائق 2 : 311 .
ــ[219]ــ
بل كانت مغايرة معها ، لأن إحداهما مشتملة على كلمة «لا أتقي» الدالة على الاختصاص ، وثانيتهما مشتملة على كلمة «لا يتقى» وهي تدل على عمومية الحكم وعدم اختصاصه له (عليه السلام) .
فالمتحصل : أن عدم التقيّة في تلك الاُمور من خصائصهم (عليهم السلام) هذا أوّلاً .
ثم لو سلمنا أن الصحيحة «لا يتقى» وأنها مغايرة مع الصحيحة الاُولى ، فالظاهر أنها غير ناظرة إلى أن التقيّة غير جارية في الاُمور الثلاثة بحسب الحكم ، بأن تكون الصحيحة دالة على حرمة التقيّة فيها ومخصصة للعمومات والاطلاقات الواردة في التقيّة ، بل إنما هي ناظرة إلى عدم جريان التقيّة فيها بحسب الموضوع أو الشرط وذلك :
أمّا بالاضافة إلى شرب الخمر فلأ نّا لم نجد أحداً يفتي من العامة بجواز شرب الخمر في الشريعة المقدسة كيف وحرمته من الضروريات والمسلمات ، ومع عدم ذهابهم إلى الجواز لا معنى للتقية المصطلح عليها في شربها ، لأنها إنما تتحقق فيما إذا كان الأمر على خلاف مذهبهم ، وأما مع الموافقة فلا موضوع للتقية وهذا ظاهر ، نعم يمكن أن يجبر السلطان أو حاكم أحداً على شربها إلاّ أنه خارج عن التقيّة المصطلح عليها ويندرج في عنوان الاضطرار أو الاكراه على شرب الخمر ، لأن التقيّة إنما تتحقق باظهار الموافقة معهم فيما يرجع إلى الدين ، وإظهار الموافقة معهم لا بعنوان الدين والحكم الشرعي خارج عن التقيّة بالكلية .
وأمّا متعة الحج ، فلأجل أنها وإن كانت من مختصات الطائفة المحقة ـ على ما هو المعروف بيننا ـ إلاّ أن التقيّة فيها فاقدة لشرطها وهو خوف ترتب الضرر على خلاف التقيّة أعني الاتيان بمتعة الحج ، لامكان الاتيان بها من دون أن يترتب عليها أي ضرر بحسب الغالب ، وذلك من جهة أن حج التمتع بعينه حج القران لاشتراكهما في الاُمور المعتبرة فيهما ويمتاز التمتع عنه بأمرين :
أحدهما : النية لأ نّا ننوي التمتع وهم ينوون القران .
ــ[220]ــ
وثانيهما : التقصير ، وأما في غيرهما من الإحرام من المواقيت ودخول مكة والطواف فهما مشتركان لا يمتاز أحدهما عن الآخر . والنية أمر قلبي لا معنى للتقية فيه لعدم ظهورها في الخارج وهذا ظاهر ، والتقصير مما يتمكن منه أغلب الناس ، لأن أخذ شيء من شعر الرأس أو الأظافر أمر متيسّر للأغلب ولو في الخلوة ، فالتمتع في الحج فاقد لشرط التقيّة . نعم ، إنها إحدى المتعتين اللتين حرمهما الخليفة الثاني إلاّ أن تابعيه قد قبلوا منه تحريم متعة النساء ولم يقبلوا منه تحريم متعة الحج ، بل وقع فيه الخلاف بينهم ، فعن مسند أحمد : أن عبدالله بن عمر حج متمتعاً فقيل له هل تخالف سنة أبيك ؟ فقال : يا سبحان الله سنة أبي أحق أن يتبع أم سنة رسول الله (ص) وفي خبر آخر سنة الله ، فليراجع .
فالتقية في متعة الحج فاقدة للشرط بحسب الأغلب ، فلو وجد مورد ولم يتمكن فيه من التمتع على طريقة الشيعة فهو من النذرة بمكان ، والأخبار منصرفة عن مثله إلى ما هو الغالب لا محالة .
وأما المسح على الخفين ، فلأجل أن وجوب المسح عليهما ليس من المسائل الاتفاقية عندهم ، بل الأكثر منهم ذهبوا إلى التخيير بين المسح عليهما وغسل الرجلين ، وذهب بعضهم إلى أفضلية المسح على الخفّين (1) إذن فلا موضوع للتقية في المسح على الخفين ، بل ينتزع الخفين عن رجليه من غير خوف ولكنه يغسلهما تقيّة كما ورد الأمر بغسلهما في بعض الأخبار وقد حملناه على التقيّة (2) .
وعلى الجملة : أن عدم جريان التقيّة في الاُمور المذكورة إنما هو من جهة خروجها عن التقيّة بحسب الموضوع أو الشرط ، فان شئت قلت بحسب الموضوع فقط لأنه الجامع بين الموضوع الذي أشرنا إليه والشرط ، ولا نظر للرواية إلى عدم جريان التقيّة فيها بحسب الحكم حتى تكون مخصصة للعمومات والاطلاقات ، وذلك للقطع بأن الأمر إذا دار بين المسح على الخفين وضرب أعناق المؤمنين لم يرض الشارع بترك
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تعليقة ص 112 .
(2) الوسائل 1 : 421 / أبواب الوضوء ب 25 ح 13 ، 14 ، 15 .
ــ[221]ــ
المسح بدعوى حرمة المسح على الخفين وعدم جوازه من باب التقيّة ، وعلى ما ذكرناه لا مانع من المسح على الخفين إذا اقتضت التقيّة ذلك بحسب العمومات والاطلاقات . ولمّا آل الأمر إلى هنا فمن الجدير جداً أن نتعرض إلى أحكام التقيّة على وجه البسط والتفصيل .
|