في حكم الأواني‌ 

الكتاب : فقه الشيعة - كتاب الطهارة ج‌6   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 11208

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 181‌

[فصل في حكم الأواني]

______________________________
فصل في حكم الأواني‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 182‌

..........

______________________________
فصل في حكم الأواني الظروف المعمولة من جلد نجس العين، و الميتة، الانتفاع بالميتة، الظروف المغصوبة و الوضوء منها، حكم أواني المشركين و سائر الكفار، حكم غير الظروف مما في أيديهم مما يحتاج إلى التذكية، حكم المشكوك أنه من جلد الحيوان أم لا، حكم أواني الخمر، أواني الذهب و الفضة، حكم الإناء الملبس بهما، حكم المفضّض و المذهّب، حكم غير الأواني من الذهب و الفضة، ما هي الآنية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 183‌

فصل في حكم الأواني

[ (مسألة 1) لا يجوز استعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين، أو الميتة]

(مسألة 1) لا يجوز استعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين، أو الميتة فيما يشترط فيه الطهارة (1) من الأكل و الشرب، و الوضوء و الغسل.

______________________________
(1)
فصل في حكم الأواني الظروف المصنوعة من جلد نجس العين لا إشكال في عدم جواز استعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين- كالكلب و الخنزير- أو الميتة من طاهر العين- كميتة الغنم- فيما يشترط فيه الطهارة، كالأكل و الشرب و الوضوء و الغسل، و الوجه ظاهر، لتنجس ما في تلك الظروف من المأكول و المشروب و المياه بالملاقاة، و لا يجوز أكل المتنجس، أو شربه، كما لا يجوز استعمال الماء المتنجس في الوضوء أو الغسل، و يكون باطلا لاشتراط الطهارة في الماء المستعمل فيهما، و هذا ظاهر، لا كلام فيه.

و إنما الكلام فيما احتياط فيه المصنف قدّس سرّه من عدم جواز استعمال هذه الظروف- المعمولة من جلد نجس العين أو الميتة- في غير ما يشترط فيه الطهارة، أو استعمال غير الظروف- كالثوب و الحذاء المصنوعين من جلدهما-، بل احتياط بترك جميع الانتفاعات منهما، و لو لم تكن من الاستعمال كتطعيم الميتة للحيوانات، أو جعلها في المصيدة للاصطياد و نحو ذلك مما لا يعد استعمالا للميتة، أو جلدها عرفا، و ظاهره الاحتياط الوجوبي، لعدم مسبوقيته بالفتوى بالجواز، و لا ملزم لهذا الاحتياط في شي‌ء من ذلك كما سنشير.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 184‌

بل الأحوط عدم استعمالها في غير ما يشترط فيه الطهارة أيضا (1)

______________________________
(1)
حكم استعمالها في غير ما يشترط فيه الطهارة احتياط المصنف قدّس سرّه بعدم استعمال الظروف المصنوعة من جلد نجس العين، أو الميتة في غير ما يشترط فيه الطهارة- كسقي الأشجار بالدلو المصنوع من جلد الميتة مثلا- و نحو ذلك، و ظاهره الاحتياط الوجوبي لعدم مسبوقيته أو ملحوقيته بالفتوى بالجواز، و هذا ينافي ما تقدم منه قدّس سرّه من الحكم بالجواز في بحث نجاسة الميتة «1» و في فصل أحكام النجاسات «2» و الصحيح هو ما ذكره هناك، لأنه مقتضى الجمع بين الروايات الناهية «3» عن الانتفاع بالميتة و الروايات الدالة على الجواز «4» فلا بد من حمل الناهية إما على ما يشترط فيه الطهارة، أو على الكراهة كما أوضحنا الكلام في ذلك في بحث نجاسة الميتة. «5»

و الحق أن يقال إنه لا دليل على الحرمة الذاتية في استعمال جلود الميتة أو نجس العين حتى فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل و الشرب، فان مجرد وضع الطعام أو الماء في الأواني المصنوعة منها لا يكون حراما.

نعم لا يجوز أكل الطعام أو الشراب النجس سواء تنجس بالإناء المصنوع من جلد الميتة أو غيرها، كما لا يحرم الوضوء أو الغسل بالماء النجس تكليفا، بل غاية ما هناك بطلانهما وضعا، لاشتراط الطهارة في الماء‌

______________________________
(1) في المسألة 19 من مسائل نجاسة الميتة في فصل النجاسات.

(2) في المسألة 31 من فصل ما يشترط في صحة الصلاة.

(3) الوسائل ج 3 ص 502 في الباب 61 من أبواب النجاسات ح 2، و ص 489 في الباب 49 منها ح 1 و غيرها مما أشرنا إليها في ج 2 من هذا الكتاب ص 474- الطبعة الثالثة.

(4) الوسائل ج 17 ص 98 في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ح 6، ط م قم.

(5) راجع ج 2 من هذا الكتاب ص 474- م 19.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 185‌

و كذا غير الظروف من جلدهما (1) بل و كذا سائر الانتفاعات غير الاستعمال (2) فإن الأحوط ترك «1» جميع الانتفاعات منهما.

و أما ميتة ما لا نفس له- كالسمك و نحوه- فحرمة استعمال جلده غير معلوم (3) و إن كان أحوط

______________________________
المستعمل في الوضوء و الغسل، فليس الحكم بالحرمة في المقام من باب التعبد، بل هو حكم على القاعدة.

(1) حكم بالانتفاع بجلد الميتة كالثياب و الأحذية المصنوعة من جلد نجس العين أو الميتة فاحتاط قدّس سرّه بعدم جواز استعمالها أيضا، كلبس الحذاء المصنوع من جلد الميتة و قد ذكرنا آنفا أنه لا ملزم لهذا الاحتياط، جمعا بين الروايات المانعة و المجوّزة للانتفاع بالميتة في غير ما يشترط فيه الطهارة.

(2) كتطعيم الميتة للحيوانات أو جعلها في المصيدة، و نحو ذلك مما لا يعد عرفا من مصاديق الاستعمال، و هذا مبنى على المنع عن جميع الانتفاعات بالميتة، و لكن الصحيح هو الجواز إلا فيما يشترط فيه الطهارة، جمعا بين الروايات المانعة و المجوّزة- كما ذكرنا مرارا.

(3) استعمال جلود ميتة ما لا نفس له فرّق المصنف قدّس سرّه بين جلد ميتة ما لا نفس- له- كالسمك و نحوه- و بين جلد ميتة ما له نفس فحكم بجواز استعمال الأول و بحرمة الثاني- فرقا بين الميتة الطاهرة و النجسة.

______________________________
(1) جاء في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف قدّس سرّه بل الأحوط ترك جميع الانتفاعات منهما: «مر منه قدّس سرّه تقوية جواز الانتفاع بهما و هو الأظهر» يعنى مرّ في (المسألة 19) من مسائل نجاسة الميتة في بحث النجاسات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 186‌

..........

______________________________
و الصحيح هو الجواز فيهما، أو الحرمة كذلك، و لا وجه للفرق بين الميتة الطاهرة و النجسة.

و ذلك لإطلاق الروايات الدالة على المنع عن الانتفاع بالميتة- لو عملنا بها- كصحيحة على بن أبي مغيرة قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام الميتة ينتفع منها بشي‌ء قال: لا.». «1»

و نحوها غيرها. «2»

فإنها بإطلاقها تشمل الميتة الطاهرة كميتة السمك.

و دعوى انصرافها إلى الميتة النجسة غير مسموعة، لعدم الدليل عليها.

فان كان المستند في المنع مثل هذه الصحيحة فلا وجه للفرق بين ميتة ما له نفس، و ما لا نفس له.

إلا أنه لا يمكن العمل بظاهر النهي أو النفي فيها، لمعارضتها بما دل على الجواز صريحا فلا بد من حملها على الكراهة جمعا، كما ذكرنا في بحث «3» نجاسة الميتة و ذلك كصحيحة البزنطي قال: «سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: نعم. يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها». «4»

______________________________
(1) الوسائل ج 24 ص 184 في الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح 1. و ج 3 ص 502 في الباب 61 من أبواب النجاسات ح 2، ط م قم.

(2) كموثقة سماعة قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها فقال: إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أما الميتة فلا» الوسائل ج 3 ص 489 في الباب 49 من أبواب النجاسات ح 2، ط م قم.

(3) ج 2 ص 434- 436.

(4) الوسائل ج 17 ص 98 في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ح 6، ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 187‌

..........

______________________________
و نحوها غيرها.
«1»

فإنها تدل على الجواز في الميتة النجسة فضلا عن الطاهرة.

و لا يمكن التخلص الا بالجمع بحمل تلك على الكراهة مطلقا، أو الحمل على ما يشترط فيه الطهارة كالأكل، لصراحة هذه في الجواز مطلقا.

نعم لو أغمضنا النظر عن هذه الروايات المطلقة جوازا و منعا، و اعتمدنا على الروايات الخاصة الدالة على المنع في خصوص الميتة النجسة لصح ما أفاده قدّس سرّه من التفصيل بين ميتة ما لا نفس له و ما له نفس، لاختصاصها بالثانية، فتبقى الأولى على الجواز.

و هي: كرواية الوشاء، قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام فقلت إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم، فيقطعونها؟ قال: هي حرام، قلت: فتستصبح بها؟

فقال: أما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب، و هو حرام». «2»

و رواية تحف العقول: «أو شي‌ء من وجوه النجس، فهذا كله حرام و محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام». «3»

فان هذه الروايات تختص بالمنع عن ميتة ماله نفس سائله، و لا تشمل ميتة ما لا نفس له، كميتة السمك، الا انه قد ذكرنا في بحث المكاسب المحرمة انه لا يمكن الاستناد إليها سندا.

هذا مضافا إلى أن هناك روايات صحيحة تدل على المنع مطلقا كما‌

______________________________
(1) كرواية على بن جعفر- الوسائل ج 17 ص 96 ح 17.

(2) الوسائل ج 24 ص 178 في الباب 32 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 و الباب 30 من أبواب الذبائح ج 24 ص 71 ح 2، ط م قم.

(3) الوسائل ج 17 ص 83 في الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ح 1 ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 188‌

و كذا لا يجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقا (1)

______________________________
عرفت، و لا تنافي بين الخاص و العام المتوافقين في المنع.

و لكن الصحيح هو ما ذكرناه آنفا من القول بالكراهة مطلقا، أو حمل المانعة على ما يشترط فيه الطهارة جمعا بينها و بين ما دل على الجواز المطلق.

(1) حرمة استعمال الظروف المغصوبة أى بأي نحو من أنحاء الاستعمال سواء في الوضوء و الغسل، أو الأكل و الشرب، أو غير ذلك، و الوجه فيه ظاهر، لحرمة التصرف في مال الغير، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، فلا يجوز التصرف فيه إلا بطيب نفسه كما في موثقة سماعة عن أبى عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

«من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرء مسلم، و لا ماله إلا بطيبة نفسه». «1»

و هذا الحكم مما لا خلاف و لا إشكال فيه.

______________________________
(1) الوسائل ج 5 ص 120 في الباب 3 من أبواب مكان المصلى ح 1 و ج 29 ص 10 في الباب 1 من أبواب القصاص في النفس ح 3 ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 189‌

و الوضوء و الغسل منها- مع العلم- باطل (1) مع الانحصار، بل مطلقا «1»

______________________________
(1)
حكم الوضوء و الغسل من الأواني المغصوبة حكم المصنف قدّس سرّه ببطلان الوضوء و الغسل من الأواني المغصوبة «2»- إذا علم بغصبيّتها- في صورة الانحصار بل مطلقا، و ظاهر التعبير بقوله قدّس سرّه (منها) هو أخذ الماء من الآنية بالاغتراف منها شيئا فشيئا، دون الوضوء و الغسل فيها ارتماسا، كما أنه قد يفرض ذلك في الأواني الكبيرة، فإن هذه الصورة خارجة عن مصبّ كلامه قدّس سرّه و سنتكلم فيها، أيضا، فهنا صورتان. «3»

أما الصورة الأولى- و هي الوضوء أو الغسل بالاغتراف من الآنية المغصوبة- فيقع الكلام فيها في موردين:

______________________________
(1) جاء في تعليقته على قول المصنف قدّس سرّه «بل مطلقا» (الحكم بالصحة مع عدم الانحصار بل مطلقا هو الأظهر).

و الوجه في الأول هو الأمر بالوضوء، و لا ينافي ذلك الامتثال بمقدمة محرمة بسوء الاختيار، و في الثاني هو الأمر الترتبي، أى المترتب على عصيان المقدمة المحرمة، و هي الاغتراف من الإناء الغصبي. و اطلب توضيح ذلك من الشرح.

(2) و في التوقيع المروي عن الاحتجاج و إكمال الدين «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه».

الوسائل ج 6 ص 337 في باب 3 من أبواب الأنفال ح: 6 في ضمن التوقيع الشريف الى محمد بن عثمان العمرى.

(3) و هناك صورة ثالثة، و هي أن يكون بنحو الصب على الأعضاء، كما إذا كان الماء في إبريق يصبه على أعضاءه، و الكلام فيه هو الكلام فيما لو كان بنحو الاغتراف منه، فان الوضوء حينئذ ليس تصرفا في الإناء ليكون محرّما، و إنما التصرف في حمله و إفراغه من الماء بصبه على أعضائه، فالتصرف المذكور يكون مقدمة محرمة للوضوء، لا نفسه، فيمكن تصحيح الوضوء بالأمر الترتبي، اى المترتب على عصيان النهى عن المقدمة المذكورة، لا بالملاك لعدم إحرازه- كما أوضحنا ذلك في الشرح.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 190‌

..........

______________________________
(الأول) فيما لو انحصر الماء في الإناء المغصوب.

(الثاني) فيما إذا لم ينحصر، لوجود ماء مباح، في إناء مباح.

لو انحصر الماء في الإناء المغصوب وجب التيمم أما المورد الأول- و هو فرض الانحصار- فلا خلاف، و لا إشكال في أن وظيفة المكلف حينئذ هي التيمم للصلاة، و غيرها مما يشترط فيه الطهارة، لتوقف وضوئه- في الفرض- على ارتكاب المحرم، و هو التصرف في الإناء المغصوب، فيكون فاقدا للماء تشريعا. و إن وجده تكوينا، إلا أن موضوع التيمم أعم من الفقدان التكويني و التشريعي.

كما يدل على ذلك ذكر المرضي في آية التيمم «1» في سياق المسافرين ممن لا يجدون الماء، مع أن الغالب وجود الماء تكوينا عند المريض، إلا أنه لا يجده تشريعا، لأن المقصود المريض الذي يتضرر بالماء نعم الغالب في المسافرين- لا سيما في البراري و القفار- عدم وجدانهم للماء حقيقة.

و الحاصل: أنه لا إشكال في أن الوظيفة الأوّلية عند انحصار الماء في الإناء المغصوب هي التيمم، و إن كان نفس الماء الموجود في الإناء مباحا، أو ملكا للمتوضئ، إلا أن اغترافه من الإناء المغصوب لمّا كان حراما، فلا يكون قادرا على الماء شرعا، و هذا مما لا كلام فيه، إلا أن الكلام فيه أنه:

هل يصح الوضوء من الإناء المغصوب بمعنى أنه لو أقدم المكلّف على ارتكاب المقدمة المحرمة و اغترف الماء من الإناء المغصوب، فهل يصح وضوءه في هذه الحالة أولا؟

______________________________
(1) و هي قوله تعالى «وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.»*- النساء: آية 43 و المائدة: آية 6.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 191‌

..........

______________________________
تصحيح الوضوء بقصد التقرب بالملاك قد يقال «1» بالصحة، بدعوى وجود الملاك في الوضوء من الآنية المغصوبة و إن لم يتعلق به الأمر، لأنه يكفي في صحة العبادة قصد التقرب بالملاك الموجود فيها، و لا حاجة إلى فعلية الأمر.

أقول: إن كبرى كفاية الملاك في قصد التقرب و إن كانت مسلّمة، إلا أن الكلام في إحرازه في المقام، لأنه لا طريق لدينا للوصول إلى ملاكات الأحكام الشرعيّة إلا تعلق الأمر بمتعلقاتها، و حيث أنه لا أمر بالوضوء المتوقف على مقدمة محرمة، لصدق عدم وجدان الماء حينئذ تشريعا، فلا كاشف لدينا عن الملاك في الوضوء المتوقف على مقدمة محرّمة كي نتقرب به، إلا عن طريق العلم بالمغيبات، و قد أوضحنا الكلام في ذلك في الأصول في «بحث الترتب».

بل نزيد في المقام: أن مقتضى إطلاق الأمر بالتيمم- في آية التيمم- «2» هو عدم وجود الملاك في الوضوء أو الغسل عند عدم وجدان الماء، لأن ظاهر الأمر بالتيمم في هذه الحالة هو الوجوب التعييني- كما هو ظاهر جميع الأوامر عند الإطلاق كما ذكرنا في الأصول- و مقتضى وجوب التيمم تعيينا هو تقييد الصلاة به، فلا تصح بدونه، فإذا صلّى مع الوضوء كانت صلاته فاقدة للشرط، و بهذا يستكشف عدم وجود الملاك فيها.

و إلى هذا يؤول ما أفاده شيخنا الأستاد قدّس سرّه من أن التفصيل- في الآية الشريفة بين الواجد و الفاقد للماء- قاطع للشركة، و أن كلا منهما مكلف بغير ما كلف به الآخر، كما في القصر و التمام، فان تكليف المسافر هو القصر،

______________________________
(1) المستمسك ج 2 ص 159.

(2) النساء: 43 و المائدة: 6.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 192‌

..........

______________________________
و لا يصح منه التمام، كما أن تكليف الفاقد للماء هو التيمم، فلا يصح منه الوضوء.

و على تقدير التنزل عن ظهور الآية الكريمة في عدم الملاك يكفينا الشك في وجوده، إذ مقتضى قاعدة الاشتغال حينئذ هو الحكم ببطلان الصلاة مع الوضوء من الآنية المغصوبة، فلا بد من الإتيان بالتيمم تحصيلا للقطع بالفراغ.

و قد تقرب «1» دعوى وجود الملاك في الوضوء من الإناء المغصوب بأن إطلاق الأمر به في آية الوضوء «2» يقتضي كون وجوبه مطلقا غير مشروط بالوجدان، فيكون ملاكه كذلك، مستشهدا على ذلك بالإجماع المحكي على حرمة إراقة الماء بعد الوقت، فالملاك يكون مطلقا غير مقيد بالتمكن من الماء.

و أما تقييد الأمر بالوضوء بوجدان الماء من جهة الجمع العرفي بين آية الوضوء، و آية التيمم «3» الدالة على مشروعية التيمم عند عدم وجدان الماء فلا يلازم تقييد ملاك الوضوء بالوجدان أيضا، لأنه تقييد اضطراري لا يدل إلا على بدليّة التيمم عن الوضوء، و مثله لا يدل على تقييد الملاك بالاختيار.

______________________________
(1) المستمسك ج 2 ص 159.

(2) و هي قوله تعالى في سورة المائدة: 6 «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.».

(3) و هي قوله تعالى في سورة النساء آية 43 «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.».

و ذيل آية 6 في سورة النساء، و هي آية الوضوء.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 193‌

..........

______________________________
فيكون المقام نظير قول القائل «إذا جاءك زيد فقدم له تمرا، فان لم تجد فماء باردا» فإنه لا يدل على أن حسن تقديم التمر مشروط بوجدانه و ان كان الأمر به مشروطا بالوجدان، بل ملاكه يكون مطلقا، إلا أنه يفوت المكلّف عند عدم الوجدان، و إن كان معذورا في ذلك.

و تندفع بأنه لا بد من تقييد الأمر بالوضوء بوجدان الماء، و إلا كان من التكليف بغير المقدور، فدعوى الإطلاق في الأمر به لا تخلو من غرابة، و أما الاستشهاد على ذلك بحرمة إراقة الماء بعد دخول الوقت فغير صحيح لاستناد الحرمة هناك إلى قبح تعجيز المكلّف نفسه عن الامتثال- كالعصيان- بعد فعلية التكليف و تنجّزه، و هذا أجنبي عن المقام من سقوط التكليف، لعدم القدرة على امتثاله من جهة توقفه على الحرام.

و أما دعوى الفرق بين القيود الاضطرارية- كعدم وجدان الماء في مشروعية التيمم و العجز عن القيام في مشروعيّة الجلوس في الصلاة و نحو ذلك- و القيود الاختيارية- كالسفر في وجوب القصر، و الحضر في وجوب الصلاة تماما- من جهة وجود الملاك في العمل المضطر الى تركه كالوضوء عند عدم وجدان الماء و القيام في الصلاة عند العجز عنه، و عدم وجوده في فاقد القيد الاختياري، كالسفر و الحضر، فغير مسموعة- كما ذكرنا- «1» لابتناء الأحكام الشرعيّة على حكم و مصالح و ملاكات لا طريق لنا إلى كشفها إلا أمر الشارع بمتعلقاتها، و المفروض عدم تعلق الأمر بالوضوء إذا توقف استعمال الماء على مقدمة محرمة، كغصب الإناء الذي فيه ماء الوضوء منحصرا، فمن أين نطمئن بوجود الملاك.

______________________________
(1) في ص 191.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 194‌

..........

______________________________
فتحصل من جميع ما ذكرناه إلى هنا: أن تصحيح الوضوء من الآنية المغصوبة متقربا بالملاك غير صحيح، لعدم دليل على وجود الملاك فيه في هذه الحالة إن لم يكن دليل على عدمه.

ابتناء البطلان على اعتبار القدرة الفعلية على أجزاء المركب لا يخفى أن ما ذكرناه إلى هنا من عدم صحة الوضوء بالاغتراف التدريجي من الإناء المغصوب مبنى على اعتبار القدرة الفعليّة على جميع أجزاء الواجبات المركبة من أول الشروع في العمل، إذ عليه لا بد أن يكون المكلف قادرا- تكوينا و تشريعا- على تمام أجزاء الوضوء من الابتداء، فلا بد و أن يكون عنده من الماء المباح بمقدار يكفى لغسل تمام أعضاء الوضوء، و على هذا المبنى لا يصح الوضوء بالاغتراف التدريجي من الآنية المغصوبة، لعدم قدرته على الأجزاء اللاحقة حينما يغترف من الماء بمقدار غسل الوجه، لأن المفروض توقف كل من الأجزاء اللّاحقة، كغسل اليد اليمنى ثم اليسرى، على اغتراف جديد، و هو حرام، فيصدق أنه فاقد للماء تشريعا، فلا يتمكن من قصد التقرب بغسل وجهه بعنوان الوضوء.

و أما إذا قلنا بكفاية القدرة التدريجيّة في تعلق التكليف بالواجبات المركّبة طبقا لتدرج العمل فيمكن تصحيح الوضوء- بالاغتراف من الإناء المغصوب تدريجا- بالأمر الترتبي على نحو الشرط المتأخر بأن يكون الأمر بالأجزاء السابقة مترتبا على العصيان المتأخر في الأجزاء اللّاحقة.

تصحيح الوضوء من الإناء المغصوب بالأمر الترتبي لا يخفى: أن تصحيح الوضوء أو الغسل بالاغتراف من الآنية المغصوبة تدريجا عند الانحصار يبتنى على أمور ثلاثة.

(أحدها) كفاية القدرة التدريجية في التكليف بالواجبات المركّبة من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 195‌

..........

______________________________
أجزاء تدريجية كالوضوء و الصلاة و نحوهما.

(الثاني) تصحيح الشرط المتأخر بأن تكون القدرة على الجزء اللاحق كافية لتعلق التكليف بالجزء السابق تحفظا على ارتباطية الإجزاء في الواجبات المركّبة.

(الثالثة) تصحيح الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم و نتيجة تطبيق هذه الأمور على مفروض المقام هو صحة الوضوء و الغسل بالاغتراف تدريجا من الإناء المغصوب.

توضيح ذلك: أنه لا ينبغي التأمل في أن العبرة- عقلا و شرعا- ليست إلا بالقدرة على كل عمل في ظرفه، و أما قبل ذلك فلا موجب لاعتبارها بوجه.

فمثلا: إذا لم يتمكن المصلّى من الركوع أول الشروع في الصلاة لوجع في ظهره- مثلا- و لكن يعلم بارتفاعه بعد التكبير و القراءة يجب عليه الركوع عن قيام من أول الشروع، لأن المفروض تمكنه من الركوع عن قيام في ظرفه، و لو متأخرا.

و هكذا إذا علم المكلف أنه يحصل له الماء تدريجا يجب عليه الوضوء، كما لو فرضنا أنه كان عنده من الماء بمقدار غسل وجهه، لا أكثر، و لكن علم أنه ينزل عليه المطر تدريجا، أو يذوب الثلج كذلك، أو يأذن له المالك شيئا فشيئا يجب عليه صرف هذا المقدار الموجود عنده من الماء في غسل وجهه بنيّة الوضوء، ثم يغسل يديه بالماء المتجدد، و لا يجوز له إراقة هذا المقدار من الماء و إن لم يكف لجميع أجزاء الوضوء.

و السرّ في ذلك هو كفاية القدرة التدريجيّة في الواجبات المركّبة من الأجزاء التدريجية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 196‌

..........

______________________________
و عليه تكون القدرة على الأجزاء اللّاحقة شرطا لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر لارتباط أجزاء المركب بعضها ببعض. و هذا معنى تصحيح الشرط المتأخر في المركبات الارتباطية.

ثم إن القدرة على الأجزاء اللّاحقة في الوضوء لما كانت متوقفة على عصيان النهى عن غصب الإناء كان الأمر بالأجزاء السابقة من الوضوء مترتبا على عصيان النهى عن الغصب متأخرا، و قد التزمنا بصحة الترتب في بحث الأصول، فإذا علم المكلّف من حاله أنه يستمر على العصيان بأخذ الماء من الإناء شيئا فشيئا صح أن يؤمر بالوضوء من الأول مترتبا على عصيان النهى عن الغصب التدريجي بالاغتراف متدرجا، لئلا يصرف الماء في شي‌ء آخر، كالرش على الأرض، لأنه بعد عصيانه و أخذه الماء من الإناء المغصوب يمكنه صرف الماء فيما يشأ، فيأمره المولى حينئذ بالوضوء، لئلا يصرفه في غيره، اهتماما بالوضوء، و قد ذكرنا في بحث الترتب أن الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم يكون على طبق القاعدة العقلية، لعدم موجب لرفع اليد عن إطلاق الأمر به إلا عند امتثال الأهم، و أما في فرض عصيان الأهم فلا موجب لرفع اليد عنه و لا نحتاج فيه إلى دليل خاص، فلا بد من الالتزام به في كل حكمين متزاحمين، كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد المزاحم للأمر بالصلاة، و كالنهي عن التصرف في الإناء المغصوب المزاحم للأمر بالوضوء أو الغسل، فإنه مع فرض عصيان الأمر بالإزالة، و النهى عن الغصب في المثالين لا بد من الالتزام بالأمر بالصلاة في الأول و الوضوء في الثاني مترتبا على عصيان التكليف المزاحم له. فنلتزم بالصحة سواء في الصلاة أو الوضوء في المثالين فان الالتزام بالترتب في كلا الموردين يكون على نحو واحد من دون فرق بينهما أصلا، لأن المكلّف إذا علم من‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 197‌

..........

______________________________
حاله أنه يستمر على ترك الإزالة عصيانا إلى آخر الصلاة جاز له الدخول في الصلاة للقدرة على الأجزاء اللّاحقة- كالقراءة و الركوع و السجود- و لو بالعصيان التدريجي للأمر بالإزالة، لعدم سقوط الأمر بها بمجرد الدخول في الصلاة، بل يبقى إلى أن تزال النجاسة عن المسجد، فيكون المكلف مستمرا في العصيان. هذا كله في حكم الوضوء من الإناء المغصوب من حيث الحكم الوضعي، و التزمنا بالصحة فيه بالأمر الترتبي، دون الملاك الاحتمالى.

و أما من حيث الحكم التكليفي فلا ينبغي للمسلم أن يرتكب الحرام، و لو أمر بالواجب على تقدير العصيان، لأنه كما يمتثل الواجب من جهة يرتكب الحرام من جهة أخرى، فينبغي له أن يكتفى بالتيمم و إن صح وضوئه لو عصى و أخذ الماء من الإناء المغصوب مناقشة المحقق النائيني قدّس سرّه و الجواب عنها و أما ما ذكره شيخنا الأستاد قدّس سرّه في بحث الترتب- و عقد له تنبيها «1» مستقلا- من أن الترتب إنما يصح فيما اعتبرت فيه القدرة العقليّة، لإحراز الملاك في المهم حينئذ فيأمر به المولى مترتبا على عصيان الأهم تحفظا على الملاك في المهم، كما في إنقاذ الغريقين أحدهما أهم من الآخر، و كما في الصلاة إذا ابتلى المكلف بإزالة النجاسة عن المسجد حين إرادته الصلاة في المسجد.

و أما إذا كانت القدرة المعتبرة في المهم شرعيّة بأن قيّد الواجب في لسان الدليل بالقدرة عليه فلا يتم فيه الترتب، لعدم وجود الملاك في المهم عند عصيان الأهم كي يأمر به المولى مترتبا على عصيان الأهم، و بما أن الوضوء أو الغسل مشروطان بالقدرة الشرعيّة، لأخذ اعتبار وجدان الماء في لسان‌

______________________________
(1) أجود التقريرات ج 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 198‌

..........

______________________________
الدليل
«1» فلا يصح فيهما الأمر الترتبي و لو عصى المكلف في تحصيل الماء.

فقد أجبنا عنه في الأصول «2» بأنه لا فرق بين القدرة العقليّة و الشرعيّة إلا من ناحية أخذ القدرة في لسان الدليل فتكون شرعيّة، و اعتبارها بحكم العقل فتكون عقلية، و أما من ناحية إمكان تعلق الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأهم فلا فرق بينهما، لعدم إمكان كشف الملاك إلا من ناحية الأمر، فلا يمكن دعوى وجود الملاك فيما كانت القدرة فيه عقلية، لاحتمال دخلها في الملاك أيضا، فلا مانع من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل بالأمر الترتبي لو عصى المكلف و أخذ الماء من الإناء المغصوب- كما هو مفروض الكلام- و بعبارة واضحة: ان مجرد حرمة المقدمة لا يلازم سقوط الأمر بذيها مطلقا، حتى في فرض العصيان و ارتكاب ذاك المحرّم، و إن أمكن ذلك ثبوتا- بحيث يكون نفس النهى عن المقدمة معجّز للعبد، و لو لم يمتثل- إلا أنه لا دليل عليه في أمثال المقام، مما أخذ التمكن و القدرة في لسان الدليل- مثل أن يقول المولى «إذا تمكنت فجئنى بالتمر و الا فجئنى بماء بارد»- فان مجرد ذلك لا يكفي في الدلالة على المطلوب، و إن كانت القدرة أعم من العقلية و الشرعيّة، كالأمر بالوضوء المشروط بالتمكن من الماء تكوينا و تشريعا، و قد تحقق في الوضوء أو الغسل فرضا.

فإذا لا محذور في الأمر بالوضوء مترتبا على عصيان النهى عن التصرف في الإناء المغصوب، كما في سائر موارد الترتب.

و بعبارة أخرى إنا لا ندعي أن الأمر بالوضوء لا يكون مشروطا‌

______________________________
(1) فان مفهوم قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.*»- سورة المائدة: 6 و سورة النساء: 4. هو تقييد الأمر بالوضوء بوجدان الماء.

(2) أجود التقريرات ج 1 ص 309- 310 و المحاضرات في الأصول ج 3 ص 95- 98.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 199‌

..........

______________________________
بوجدان الماء تكوينا و تشريعا، فان هذا مما لا إشكال و لا خلاف فيه، فإنه لا يجب الوضوء لو توقف على الغصب إلا أنه لو تجري المكلف و أخذ الماء من الإناء المغصوب و توضأ به صح وضوءه للأمر الترتبي أي الأمر بالوضوء مترتبا على عصيان في مقدمته. هذا كله فيما لو انحصر الماء في الإناء المغصوب.

إذا لم ينحصر الماء في الإناء المغصوب وجب الوضوء و أما المورد الثاني- و هو فيما إذا لم ينحصر الماء في الإناء المغصوب بأن كان هناك إنا آن أحدهما مباح و الأخر مغصوب- فهل يصح الوضوء حينئذ من الإناء المغصوب أو لا؟

لا إشكال في وجوب الوضوء حينئذ لوجدان الماء تكوينا و تشريعا، و إمكان امتثاله بالوضوء من الآنية المباحة.

إلا أن الكلام فيما لو عصى المكلف و اغترف الماء من الإناء المغصوب بسوء اختياره فهل يصح الوضوء به أو لا؟

الظاهر هو الصحة، بل لا ينبغي الإشكال فيها، لتعلق الأمر بالوضوء في هذا الحال، لما ذكرنا من أنه واجد للماء تكوينا و تشريعا، إلا أنه بسوء اختياره اغترف الماء من الآنية المغصوبة، فامتثل الواجب بارتكاب مقدمة محرمة من دون توقفه عليها بوجه، و المفروض إباحة نفس الماء، فلا مانع من التقرب بالوضوء به، فالقول بالصحة في هذا المورد أظهر منه من المورد الأول.

القول ببطلان الوضوء في كلا الموردين نعم قد يقال «1» ببطلان الوضوء في كلا الموردين، بدعوى: أن الوضوء‌

______________________________
(1) راجع الجواهر ج 6 ص 334 و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 650 س 6 في نقل هذا القول عن بعض أعلام المتأخرين، خلافا للمشهور القائلين بالصحة في صورة عدم الانحصار.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 200‌

..........

______________________________
من الآنية المغصوبة يعدّ تصرفا من الإناء عرفا، فهو مصداق للغصب بنفسه، فلا يمكن التقرب به.

و يكون المقام نظير الأكل و الشرب من أواني الذهب و الفضة في تعلق الحرمة بنفس الأكل و الشرب من الإناء.

و عليه فلا يفرق بين صورتي الانحصار و عدمه، لتعلق النهى بنفس الوضوء فيهما.

و لعلّ نظر المصنف قدّس سرّه و من أقرّه على ذلك في الحكم بالبطلان مطلقا إلى هذا الوجه.

و فيه: أن الوضوء تصرف في الماء، لا الإناء، حتى عرفا، فضلا عن الدقة العقلية، لأن الوضوء عبارة عن غسل الوجه و اليدين و مسح الرأس و الرجلين، و ليس شي‌ء من ذلك تصرفا في الإناء، بل هو تصرف في الماء أو البدن، و لو أطلق عليه أنه تصرف في الإناء فلا يكون إلا من باب المسامحة و المجاز، و من المعلوم ان الإطلاقات المجازية لا تصلح للاستناد في الأحكام الشرعيّة، و أما العرف فلا يراده مصداقا للتصرف في الإناء- كما أشرنا.

و أما الأكل و الشرب من آنية الذهب و الفضّة فقد ورد «1» النهى عنه صريحا و هذا بخلاف الوضوء من الآنية المغصوبة، فإنه لم يرد فيه نهى بعنوانه، و إنما وقع البحث فيه من ناحية توقفه على مقدمة محرمة، أو أنه بنفسه تصرف في الإناء المغصوب، و قد عرفت أن الأول و إن كان صحيحا إلا أنه لا يمنع عن الأمر الترتبي، و إن منع عن الأمر الابتدائي، لعدم وجدانه الماء تشريعا و إن وجده تكوينا فلا مجال لقياس ما نحن فيه على الأكل و‌

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 505 و ص 509 في الباب 65 و 66 من أبواب النجاسات.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 201‌

..........

______________________________
الشرب من إناء الذهب و الفضة.

هذا كله فيما لو أخذ الماء من الإناء تدريجا و بنحو الاغتراف و أما إذا صبّ الماء من الآنية المغصوبة في إناء مباح دفعة واحدة بمقدار يكفى لتمام الوضوء، فلا إشكال في الصحة، بل وجوب الوضوء عليه حينئذ، لأنه واجد للماء حقيقة و شرعا، لأن المفروض أن نفس الماء ملك له أو مباح، و إن ارتكب الحرام في الحصول عليه، إلا أنه بعد الاستيلاء عليه، وجب صرفه في الوضوء، و لا يصح التيمم.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى، و هي الوضوء من الإناء المغصوب على نحو الاغتراف منه تدريجا، و هي مورد كلام المصنف قدّس سرّه- كما أشرنا- و الغسل حكمه حكم الوضوء.

الصورة الثانية أما الصورة الثانية- و هي الوضوء في الإناء المغصوب على نحو الارتماس بغمس الوجه و اليدين فيه بقصد الوضوء- فالظاهر فيها البطلان مطلقا، سواء استلزم تموجا على السطح الداخل للإناء- كما هو الغالب- أم لم يوجب ذلك- نادرا- لصدق التصرف في الإناء على ارتماس اليد أو الوجه فيه و إن لم يستلزم تموجا في الماء، فلا ينبغي التشكيك «1» في الصدق في صورة عدم استلزامه التموج.

و عليه فلا يمكن التقرب بهذا الوضوء، لأنه مصداق للحرام بنفسه، و لا يمكن الامتثال بالحرام، و هذا من دون فرق بين الانحصار و عدمه- كما هو ظاهر- و حكم الغسل حكم الوضوء.

______________________________
(1) كما في المستمسك ج 2 ص 159.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 202‌

..........

______________________________
بقي شي‌ء و هو أنه لو أذن المالك بتفريغ إنائه عن الماء وجب مقدمة للوضوء الواجب فهل يصح حينئذ الوضوء بالاغتراف منه أو لا؟ فنقول:

أما على القول ببطلان الوضوء من الآنية المغصوبة فالظاهر هو البطلان أيضا، و إن أذن المالك بتفريغ الإناء، و ذلك لعدم تعلق إذنه بتفريغ بعض الإناء و ترك الباقي مشغولا بالماء، و بعبارة أخرى إن المأذون فيه هو تخلية الإناء رأسا، و أما الاغتراف منه بمقدار الوضوء، لا بشرط، أو بشرط لا، أى بترك الباقي على حاله مشغولا بالماء فلم يأذن فيه، فيكون الوضوء به باطلا، كما إذا لم يأذن رأسا.

نعم لو أذن المالك في مطلق التفريغ و لو لمقدار من الإناء لا التفريغ المطلق صح الوضوء بالاغتراف منه حينئذ، لأنه تفريغ للإناء في الجملة، إلا أن هذا خارج عن محل الكلام- و هو الإذن في تخلية الإناء رأسا.

و ظهر بما ذكرناه: أنه ليس الوجه في الإشكال في صحة الوضوء حينئذ هو عدم وجوب الاغتراف إذا كان بقصد الوضوء، لا بقصد التفريغ كي يجاب «1» عنه بان ملاك الوجوب الغيري لا يتوقف على قصد ذي المقدمة، بل الوجه عدم إذن المالك بمطلق التفريغ، و لو لبعض الإناء، لا عدم وجوب الاغتراف مقدمة للواجب.

هذا كله بناء على القول ببطلان الوضوء من الإناء المغصوب.

و أما على القول بالصحة بالأمر الترتبي- كما هو المختار- فيصح الوضوء في هذا الفرض أيضا، بل هو أولى بالصحة، لتحقق الإذن في الجملة و لو بتفريغ الإناء.

______________________________
(1) المستمسك ج 2 ص 159.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 203‌

نعم لو صبّ الماء منها في ظرف مباح فتوضأ أو اغتسل صح (1) و إن كان عاصيا من جهة تصرفه في المغصوب

[ (مسألة 2) أواني المشركين و سائر الكفار محكومة بالطهارة]

(مسألة 2) أواني المشركين و سائر الكفار محكومة بالطهارة ما لم يعلم ملاقاتهم لها مع الرطوبة المسرية، بشرط أن لا تكون من الجلود (2)

______________________________
(1) و هذا من دون فرق بين صورتي الانحصار و عدمه، و الوجه فيه ظاهر لأن الوضوء حينئذ يكون من الإناء المباح، لا المغصوب، و إن ارتكب الحرام بالصب منه في الإناء المباح إلا أن الصب ليس جزء من الوضوء.

(2) حكم أواني الكفار يقع الكلام في أواني المشركين و سائر الكفار في قسمين (الأول) في الأواني المصنوعة من الحديد و الصفر و نحو ذلك مما لا تكون من جلود الحيوانات (الثاني) في الأواني المصنوعة من الجلود.

أما القسم الأول فيقع الكلام فيه أولا من حيث القواعد الأوليّة، و ثانيا بلحاظ الروايات الواردة في حكم أواني الكفار. و محل الكلام انما هو صورة الشك في تنجيسهم لها، و أما إذا علم ذلك، أو علم بالطهارة فلا كلام فيه القواعد الأولية فنقول: أما حكمها بحسب القواعد الأوليّة فهي الطهارة «1» عند الشك كما في غيرها مما يشك في طهارته، و ذلك لقاعدتين (الأولى): استصحاب‌

______________________________
(1) كما هو المعروف المدعى عليه الإجماع- كما في الجواهر ج 6 ص 344، و في الحدائق ج 5 ص 503 دعوى الشهرة، و حكى عن الشيخ قدّس سرّه في الخلاف عدم جواز استعمال أواني المشركين في صورة الشك، و أورد عليه في الجواهر (ج 6 ص 344) «ان كلام الشيخ قدّس سرّه يكون في غير ما نحن فيه من البحث مع العامة في نجاستها بمباشرتهم أو لا بد من نجاسة أخرى غيرها و الا فلا خلاف فيما نحن فيه بيننا» فالكلام في الطهارة الظاهرية، لا الواقعيّة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 204‌

..........

______________________________
الطهارة فيما علم فيه الحالة السابقة، كما هو الغالب لعدم نجاستها حين صنعتها و يؤيد ذلك، بل يدل عليه في المقام.

صحيحة ابن سنان الواردة في الثوب الذي استعاره الذمي، ثم ردّه على صاحبه حيث حكم الامام عليه السّلام بطهارته بمقتضى الاستصحاب.

قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه، و أنا حاضر، إني أعير الذّمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر، و يأكل لحم الخنزير، فيرده علىّ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام صلّ فيه، و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إيّاه، و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلى فيه حتى تستيقن أنه نجسه». «1»

فإنها تدل على أن الثوب المذكور في السؤال محكوم بالطهارة الظاهرية بمقتضى الاستصحاب، لأنه أعاره للذمي و هو طاهر، و لم يعلم أنه نجسه، و مقتضى عموم تعليل عدم وجوب الغسل- بقوله «فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه» شمول الحكم لأوانى الكفار المسبوقة بالعلم بالطهارة أيضا- إذا لم يعلم بأنهم نجّسوها، إذ لا خصوصية في الثوب الذي يكون في يد الكافر، بل يعم التعليل لكل ما كان في أيديهم من اللباس و الأواني و الفرش و غيرها، إذا كانت مسبوقة بالعلم بالطهارة، فيحكم بطهارتها عند الشك في بقائها على ما كانت عليه من الطهارة، نعم لا نضايق‌

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 521 في الباب 74 من النجاسات ح 1 و مثلها في الدلالة على الحكم بالطهارة الظاهرية عند الشك ما أشار إليه في الجواهر (ج 6 ص 344) «ما ورد من الروايات في الثياب السابرية التي يعملها المجوسي، بل و ثوب المجوسي نفسه، و ما يعمله الخياط و القصار اليهودي و النصراني» فلاحظ الروايات في الوسائل ج 3 ص 519 ب 73 من النجاسات ح 1 و 2 و 7 و 9 و الوافي ج 1 م 4 ص 31 (باب التطهير من مس الحيوانات) من أبواب الطهارة عن الخبث و مورد هذه الروايات و ان كان ثيابهم الا انه لا قائل بالفرق بينها، و بين أوانيهم المشكوك طهارتها جزما.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 205‌

..........

______________________________
في الاكتفاء على دلالتها على الاستصحاب في خصوص باب الطهارة، إلا أنها تعم الثوب الذي أعاره الذي، أو كان في يده لجهة أخرى، و كذلك تعم الإناء، أو غيرها مما تكون في يده، و يحتمل عروض النجاسة لها، إذ لا خصوصيّة في الثوب، و لا في إعارته.

هذا كله فيما إذا كان الإناء مسبوقا بالطهارة، و يعلم الحكم فيما كان مسبوقا بالنجاسة، فإن مقتضى الاستصحاب هو الحكم بنجاسته.

و أما إذا لم يعلم حالته السابقة، أو كان مما علم بتوارد الحالتين (الطهارة و النجاسة) عليه، و شككنا في السبق و اللحوق، فتصل النوبة حينئذ إلى (القاعدة الثانية) و هي قاعدة الطهارة، كما هو الحال في كل مشكوك الطهارة و النجاسة إذا لم نعلم بحالته السابقة هذا كله بحسب القواعد الأولية.

الروايات و أما الرّوايات الواردة في حكم أواني الكفار فقد يتوهم دلالتها على الحكم بنجاستها عند الشك تقديما للظاهر على الأصل، لأن الظاهر من حالهم أنهم لا يجتنبون عن النجاسات، كلحم الخنزير، و الميتة، فيأكلونها في أوانيهم غالبا، فيحكم بنجاستها عند الشك لذلك، و إن كانت القاعدة الأوليّة تقتضي الطهارة، إلا أن النهى عن الأكل و الشرب فيها، أو الأمر بغسلها- كما في بعضها- يكون إرشادا إلى نجاستها، و لزوم الاجتناب عنها، و مقتضى إطلاقها شمول صورة الشك أيضا، فتكون محكومة بالنجاسة الظاهرية، و بها نخرج عن عموم قاعدة الطهارة، أو استصحابها تقديما للظاهر على الأصل فتكون قاطعة للأصول المرخصة و لكن يندفع هذا التوهم بأنه لا دلالة في شي‌ء منها على النجاسة الظاهرية في أوانيهم عند الشك- كما هو محل الكلام- لأنها في مقام بيان الحكم الواقعي من حيث‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 206‌

..........

______________________________
الطهارة و النجاسة، فإن الروايات الواردة في حكم أواني الكفار- على ما وجدنا- تكون على النحو التالي:

1- (منها) ما دلت «1» على النهى عن الأكل و الشرب في آنية الكفار مطلقا، من دون تقييد بشي‌ء، أي سواء استعملوها في أكل أو شرب النجس، أولا، و هذه تدل على نجاسة أهل الكتاب، لشمولها لمطلق استعمالهم لها و لو بمجرد مباشرتهم لها بالرطوبة، من دون نجاسة خارجيّة لأنه، من المعلوم ان مجرد ملكيتهم لها لا توجب الاجتناب جزما.

2- (و منها) ما تدل «2» على النهى عن أوانيهم مشروطا أو مقيدا بتنجيسهم لها بنجاسة خارجية، كالميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و هذه تدل بالمفهوم لا سيما مفهوم الشرط على عدم وجوب الاجتناب عنها إذا لم ينجسوها بنجاسة خارجية، و لو باشروها بأيديهم، و بها تقييد الطائفة الأولى فتدل على طهارة أهل الكتاب ذاتا، لدلالتها على أن سبب النهى هو‌

______________________________
(1) كرواية إسماعيل بن جابر قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام «لا تأكل ذبائحهم و لا تأكل في آنيتهم- يعني أهل الكتاب-».

- الوسائل ج 3 ص 518 في الباب 72 من أبواب النجاسات: ح 3 ط م: قم.

و رواية إسماعيل بن جابر و عبد اللّه بن طلحة قالا: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تأكل من ذبيحة أهل الكتاب و لا تأكل في آنيتهم».

- الوسائل ج 24 ص 210 و 212 في الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح 4 و 7 ط م قم.

و صدر صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن آنية أهل الذمة و المجوسي؟ فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، و لا من طعامهم الذي يطبخون.»- الوسائل في الباب المتقدم ح 3- ط م قم.

(2) كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة، و الدم و لحم الخنزير»- الوسائل ج 24 ص 211 في الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6- ط م قم.

و كذيل صحيحته الأخرى «و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» الوسائل في الباب المتقدم ح 3.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 207‌

..........

______________________________
تنجس أوانيهم بالنجاسة الخارجية كالخمر، و لحم الخنزير، لا مجرد أكلهم فيها، و مباشرتهم لها بأيديهم و لو بأكل ما يكون طاهرا في نفسه فتكون هذه الروايات مقيدة لإطلاق الطائفة الأولى، و دالة على طهارة أهل الكتاب ذاتا.

3- (و منها) ما دلت «1» على الأمر بغسل أوانيهم إذا اضطروا إليها.

4- (و منها) ما تدل [1] على أن النهى عن الأكل في آنيتهم نهى تنزيهي، لا تحريمي.

و هذه ايضا تدل على طهارة أهل الكتاب ذاتا، لدلالتها على أن سبب النهى و لو تنزيها إنما هو النجاسة العرضيّة في أوانيهم، لأنهم يأكلون فيها لحم الخنزير أو يشربون فيها الخمر، لا مجرد مباشرتهم لها بأيديهم.

و قد ذكرنا في بحث نجاسة أهل الكتاب أن مقتضى الجمع بين الروايات الواردة في ذلك هو القول بطهارتهم، لو لا الشهرة و ارتكاز المتشرعة على خلاف ذلك.

فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن مقتضى القاعدة هو الحكم بطهارة أواني الكفار عند الشك- كما في المتن- إلا أن يعلم بنجاستها، إما لملاقاتهم لها مع‌

______________________________
[1] كصحيحة إسماعيل بن جابر قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكل، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، و لا تتركه تقول: إنه حرام، و لكن تتركه تتنزّه عنه، إن في آنيتهم الخمر، و لحم الخنزير- الوسائل ج 24 ص 210 في الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 4- ط م قم «2».

______________________________
(1) كصحيحة زرارة عن الصادق عليه السّلام انه قال: «في آنية المجوسي إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء».

الوسائل ج 24 ص 210 في الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة، ح: 2 و ص 212 ح 8 ط م قم.

(2) ج 3 من هذا الكتاب.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 208‌

بشرط أن لا تكون من الجلود، و إلا فمحكومة بالنجاسة (1) إلا إذا علم تذكية حيوانها،

______________________________
الرطوبة المسرية- بناء على نجاسة أهل الكتاب- أو لملاقاتها مع النجاسات الخارجيّة، كالميتة و لحم الخنزير و الخمر و نحو ذلك و مع الشك في تنجسها بملاقاتهم لها، أو ملاقاة النجاسة الخارجية لا يمكن التمسك بهذه الروايات للحكم بالنجاسة، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن هذه الروايات الناهية عن الأكل في أوانيهم، أو الآمرة بغسلها لو اضطر إليها فغير صالحة لتخصيص القاعدة عند الشك لأنها في مقام بيان الحكم الواقعي سواء نجاسة أهل الكتاب أو طهارتهم، و لا تعرض لها لحكم صورة الشك التي هي محل الكلام، فلا حظ.

(1) و أما القسم الثاني من أواني الكفار فهي المصنوعة من جلد الحيوانات، و قد حكم المصنف قدّس سرّه بنجاستها عند الشك، و الوجه فيه هو استصحاب عدم تذكية الحيوان الذي أخذ منه الجلد و هكذا الكلام في سائر أجزائه من اللحم و الشحم و الألية فإنها أيضا محكومة بالنجاسة، إلا مع العلم بالتذكية أو سبق يد المسلم عليه.

أقول قد ذكرنا في بحث نجاسة الميتة «1» أن موضوع النجاسة في الأدلة إنما هو عنوان الميتة، و هو مفهوم وجودي لا يثبت بأصالة عدم التذكية، لأن الملازمة بين عدم التذكية و عنوان الميتة عقلي لا شرعي، و لا نقول بحجيّة الأصل المثبت، فلا يحكم بنجاسة الجلود و اللحوم المشكوكة التذكية.

نعم لا تجوز الصلاة في تلك الجلود، و لا يجوز أكل اللحوم و الشحوم‌

______________________________
(1) ج 2 من هذا الكتاب ص 429- 431- الطبعة الثالثة.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 209‌

أو علم سبق يد المسلم عليها (1) و كذا غير الجلود و غير الظروف مما في أيديهم، مما يحتاج إلى التذكية، كاللحم، و الشحم، و الألية، فإنها محكومة بالنجاسة «1» (2) إلا مع العلم بالتذكية، أو سبق يد المسلم عليه.

______________________________
المشكوكة التذكية، لترتب جواز الأكل
«2» و الصلاة «3» على المذكى، و استصحاب عدم التذكية ينفي موضوع الجواز، و قد تقدم تفصيل الكلام في بحث نجاسة الميتة. «4»

(1) يد المسلم أمارة التذكية من جملة أمارات التذكية يد المسلم، و قد تقدم تفصيل الكلام في ذلك أيضا في بحث نجاسة الميتة «5» فإذا كان يد الكافر مسبوقا بيد المسلم- بقيوده المذكورة هناك- حكم بالتذكية و هكذا الحال بالنسبة إلى سوق المسلمين. «6»

(2) قد تقدم آنفا أنه لا مجال للحكم بنجاسة مشكوك التذكية، سواء الجلود، أو اللحوم و الشحوم، نعم لا يجوز لبس الجلود المشكوكة في الصلاة، كما لا يجوز أكل اللحوم و الشحوم المشكوكة التذكية.

______________________________
(1) جاء في تعليقة (دام ظله) على قول المصنف قدّس سرّه «محكومة بالنجاسة»: (فيه و في الحكم بنجاسة الجلود مع الشك في وقوع التذكية على حيوانها إشكال، بل منع و قد تقدم التفصيل في بحث نجاسة الميتة).

(2) كما في قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. إلى قوله تعالى وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ- المائدة:

3 و 5.

(3) الوسائل ج 4 ص 345 في الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، ح 1.

(4) راجع ج 2 من هذا الكتاب ص 429- 430- الطبعة الثالثة.

(5) راجع ج 2 من هذا الكتاب ص 434- 435.

(6) راجع ج 2 من هذا الكتاب ص 436- 439.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 210‌

و أما ما لا يحتاج إلى التذكية فمحكوم بالطهارة، إلا مع العلم بالنجاسة و لا يكفى الظن بملاقاتهم لها مع الرطوبة (1).

و المشكوك في كونه من جلد الحيوان أو من شحمة أو أليته محكوم بعدم كونه منه (2) فيحكم عليه بالطهارة و إن أخذ من الكافر

______________________________
(1) لعدم الدليل على حجيّة مطلق الظن.

(2) حكم المشكوك كونه من الجلد.

إذا شككنا في شي‌ء أنه من جلد الحيوان أو من «اللاستيك»- مثلا- أو أنه من شحم الحيوان- مثلا- أو لا، فيحكم بطهارته و بجواز أكله لو كان مما يؤكل، و هذا مما لا إشكال فيه، و إن أخذ من يد الكافر.

و إنما الكلام في مدرك هذا الحكم، ظاهر عبارة المصنف قدّس سرّه «محكوم بعدم كونه منه» هو عدم كونه من جلد الحيوان موضوعا، لا حكما «1» و هذا مبنى على القول بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية، كما هو المختار، و ظاهره اختيار هذا القول أيضا، و تقريبه في المقام بان يقال كون هذا المشكوك جزا من الحيوان مسبوق بالعدم، و لا نعلم بصيرورته جزء منه حال حدوثه، و الأصل عدمها، فيكون طاهرا، و يجوز أكله، هذا بناء على القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي.

و أما بناء على عدمه فيرجع الى قاعدة الطهارة، و أصالة الحل فيحكم بطهارته و بجواز أكله لو كان من المأكول المردد بين كونه لحما، أو شيئا آخر، و إن أخذ من الكافر.

______________________________
(1) تعريض على المستمسك ج 2 ص 162.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 211‌

[ (مسألة 3): يجوز استعمال أواني الخمر بعد غسلها]

(مسألة 3): يجوز (1) استعمال أواني الخمر بعد غسلها، و إن كانت من الخشب، أو القرع، أو الخزف الغير المصلى بالقير، أو نحوه

______________________________
(1)
حكم أواني الخمر لا إشكال في جواز استعمال أواني الخمر بعد غسلها بالماء إذا كانت صلبة تمنع عن نفوذ الخمر إجماعا «1» لطهارتها بالغسل، و هذا ظاهر و أما إذا كانت مما ينفذ فيه الخمر، كالإناء من الخشب، أو القرع «2» أو الخزف و نحوها مما أشار إليها في المتن فالمشهور الجواز أيضا إذا غسل بالماء، و لكن عن «3» الشيخ في النهاية، و ابن الجنيد و ابن البراج القول بالمنع في هذا القسم غسل، أم لم يغسل، بدعوى بقائها على النجاسة، و لا يمكن تطهيرها.

و الصحيح هو ما ذهب اليه المشهور من إمكان تطهيرها لعموم أدلة الغسل بالماء، كسائر الموارد إذ غاية ما يمكن أن يستدل به للمنع أمران.

(الأول) «4» نفوذ الأجزاء الخمرية في باطن هذه الأواني، فيتنجس بها، و لا يمكن تطهيرها، لأن للخمر حدّة و نفوذا في الأجسام الملاقية له، فإذا لم تكن الآنية صلبة دخلت أجزاء الخمر في باطنها، و لا ينالها الماء.

و أجيب: أولا: أن هذا لا يختص بالخمر، لأنه لو تم لعم جميع النجاسات، كالبول و الماء المتنجس، و غير ذلك مما ينفذ في جوف الإناء، فلا يختص الإشكال بالخمر.

و ثانيا: إنه كثيرا ما نقطع بنفوذ الماء الطاهر إلى جوف الإناء، و في جميع‌

______________________________
(1) الجواهر ج 6 ص 325.

(2) إناء يصنع من اليقطين (كوزه كدوئى)- اللغة.

(3) الجواهر ج 6 ص 352 و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 656.

(4) كما في الجواهر ج 6 ص 352 و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 657 و غيرهما من الكتب الفقهية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 212‌

..........

______________________________
المنافذ التي وصل إليها الخمر، خصوصا إذا وضعت الآنية في الكر و الجاري إلى أن ارتوت من الماء، فينفذ الماء في الداخل، كما ينفذ الخمر فيه، و لعله أشد نفوذا.

و ثالثا: ان الباطن يطهر بغسل الظاهر تبعا، و ان لم يصدق الغسل على خصوص الباطن في مثل ذلك، لكفاية نفوذ الماء في الباطن من دون غسل، لصدق الغسل على المجموع حينئذ، كما أوضحنا الكلام في ذلك في بحث التطهير بالماء في تطهير مثل الصابون مما ينفذ فيه الماء النجس، نعم إذا اعتبر فيه التعدد، كالمتنجس بالبول يجب غسله مرتين.

و رابعا: لو سلم بقاء باطن الإناء على النجاسة فلا يمنع ذلك من القول بطهارة ظاهره بالغسل، و لا يوجب نجاسة ما يصب فيه من الماء و غيره، و إن وصلت إليها نداوته لعدم كفاية مجرد النداوة في سراية النجاسة، كما تقدم في بحث السراية.

نعم: إنما تقتضي نجاسة ما يترشح من الإناء أى القطرات الناضحة من ظهر الإناء، فإنها تلاقى الجوف فتنجس بها.

(الوجه الثاني) الروايات الناهية عن أواني الخمر و هي:

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: (في حديث) و سألته عن الظروف فقال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدّباء «1» و المزفت، و زدتم أنتم الحنتم «2» يعنى الغضار، و المزفّت «3» يعنى الزّفت الذي يكون في‌

______________________________
(1) الدبّاء القرع: و هو اليقطين (كوزه كدوئى) بضم الدال، و تشديد الباء، مقصورا و ممدودا.

(2) الحنتم: الجرة الخضراء.

(3) المزفّت: الإناء المطلي بالزفت و هو نوع من القير، أو ما يشبهه قد يؤخذ من الشجر يمنع عن نفوذ الماء.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 213‌

..........

______________________________
الزّق
«1» و يصب في الخوابي «2» ليكون أجود للخمر، قال: و سألته عن الجرار الخضر و الرصاص؟ «3» فقال: لا بأس بها.» «4»

2- رواية أبي الربيع الشامي عن ابى عبد الله عليه السلام قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن كل مسكر، فكل مسكر حرام، قلت فالظروف التي يصنع فيها منه؟ قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الدّباء، و المزفّت، و الحنتم، و النقير، قلت: و ما ذلك؟ قال: الدّباء: القرع، و المزفّت: الدنان «5»، و الحنتم: جرار خضر، و النقير: خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها. «6»

و هاتان الروايتان هما مستند المنع عن استعمال أواني الخمر التي ينفذ فيها الخمر.

و فيه: انهما مضافا الى ضعف سند الثانية ب‍ (أبى الربيع) لعدم ثبوت وثاقته، و ان كان من الشيعة «7». لا دلالة لهما على مقصودهم من عدم قبولها‌

______________________________
(1) الزق بالكسر: السقاء- (مشك) و قيل مطلق الإناء.

(2) الخوابي جمع خابية: الحب: الجرّة الضخمة.

(3) لعل المراد به الإناء المرصوص، أى المطلي بالرصاص، أو المراد به الإناء الملصق اجزائه بعضه ببعض، لاستحكامه المانع عن النفوذ.

(4) الوسائل ج 3 ص 495 في الباب 52 من أبواب النجاسات ح 1. و تمام الحديث في الوسائل ج 25 ص 357 في الباب 25 من الأشربة المحرمة، ح 1 ط م قم.

و في تعليقة الوسائل في ذيل الحديث «الدبّاء: بضم الدال و تشديد الباء مقصورا و ممدودا، و حكى عن النهاية انهم كانوا ينبذون فيها فتسرع الشدّة (أى الإسكار) في الشراب.»

(5) الدّن- بالفتح-: الراقود العظيم لا يقعد إلا أن يحفر له، ج: دنان- أقرب الموارد- و هو الحبّ:- بالضم-: و يقال له الخابية فارسي معرب خمرة.

(6) الوسائل ج 3 ص 496 في الباب 52 من النجاسات، ح 2 ط م قم.

(7) و قد وثقه سيدنا الأستاذ قدّس سرّه أخيرا، لاحظ معجم رجال الحديث ج 8 ص 76 ط سنة 1413، الطبعة الخامسة- في ترجمة «خليد ابن أوفى» اسم الرجل و ذكره أيضا في ج 22 ص 168 تحت رقم 14285 في الكنى.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 214‌

..........

______________________________
التطهير، لعدم ذكر سبب النهى فيهما، هل هو ما قيل من عدم قبولها للتطهير بعد استعمالها في المسكرات و لو مرّة، فلا تستعمل في شي‌ء و ان غسلت لبقائها على النجاسة، أو ان سبب النهى عنها شي‌ء آخر، ككونها مما يتخلف فيها- غالبا- أجزاء الخمر فيمتزج مع ما يصب فيها، أوانها تتأثر بالخمر على وجه تؤثر في فساد ما يصب فيها بالنشيش و الغليان و انقلابه خمرا ان كان نبيذا و نحوه مما يتأثر بإنائه، أو غير ذلك من المحتملات، و بالجملة لم تصرح بوجه المنع و انه عدم قبولها للطهارة- كما زعمه المستدل- فتكون مجملة من هذه الجهة، هذا أولا.

و ثانيا: ان «المزفت» الممنوع عنه في الروايتين ليست مما ينفد فيه الخمر لأنها- كما في اللغة- عبارة عن الإناء المطلي بالزّفت «1» الذي هو من أقسام القير أو شبهه مما لا خلاف و لا كلام في قبوله للتطهير و جواز استعماله بعد الغسل، لعدم نفوذ شي‌ء من المائعات في جوفه و لا ينافي ذلك تفسيره في الثانية ب‍ «الدّنان» لاحتمال ان يكون المراد به خصوص «الدّن» المزفت، اى الخابية، و هي الحب و كذلك «الحنتم» «2» المنهي عنه في الرواية الثانية، فإنه قد فسّر بالأواني التي لا ينفذ فيها الماء، بل ظاهر الصحيحة ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه عن «الحنتم» فيتحقق التنافي بين الروايتين في هذه الفقرة «3»

______________________________
(1) الزفت- بالكسر: القار، و دواء- أقرب الموارد.

(2) بالحاء المهملة و النون الساكنة و التاء المثناة الفوقانية.

(3) و عن النهاية: انه قال: «الحنتم: جرار خضر مدهونة كانت يحمل فيها الخمر إلى المدينة، ثم اتسع فقيل للخزف كله حنتم واحدة حنتمة، و انما نهى عن الانتباذ فيها لأجل دهنها، و قيل انها تعمل من طين- يعجن بالدم و الشعر، فنهى عنها ليمتنع من عملها انتهى».

- مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 657.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 215‌

..........

______________________________
و الأمر سهل لضعف الثانية.

فتحصل: إن مفاد الروايتين هو المنع عن ظروف أربعة لو تمت الثانية سندا و هي «الدبّاء و النقير و هاتان مما يمكن نفوذ الخمر فيهما، لان الدبّاء هو القرع و هو نوع من اليقطين يتخذ ظرفا، و النقير خشب منقور، و أما المزفت و الحنتم فليسا مما ينفذ فيهما الخمر أو الماء- كما ذكرنا- مضافا الى عدم ثبوت المنع في «الحنتم» لتعارض الروايتين فيه، فيعلم من ذلك كله انه ليس سبب نهى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه الأواني عدم قبولها للطهارة- كما قيل- بل لعل السبب أمر آخر- كما ذكرنا- لان قسما من هذه الأواني غير قابلة للنفوذ فلا بد من جامع آخر يكون هو الملاك للنهى.

و ثالثا: إنها معارضة بالروايات المصرحة بالجواز بعد الغسل الذي هو إرشاد إلى مطهريته لها (منها) موثقة عمار عن الصادق عليه السّلام قال سألته عن الدّن يكون فيه الخمر، هل يصلح ان يكون فيه خلّ، أو ماء كامخ (خ ل أو كامخ) «1» أو زيتون؟ قال:

إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه الخمر، أ يصلح ان يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح، أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرّات، و سئل أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات». «2»

و نحوها غيرها من الروايات «3» الدالة على طهارة أواني الخمر بالغسل،

______________________________
(1) الكامخ: ما يؤدم به: معرّب.

(2) الوسائل ج 3 ص 494 في الباب 51 من أبواب النجاسات ح 1 ط م قم.

(3) راجع الوسائل ج 3 ص 495 في الباب 51 من أبواب النجاسات، ح: 2، ط م قم. و ج 17 ص 294 في الباب 30 من أبواب الأشربة المحرمة، ح 1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 (باب جواز استعمال أواني الخمر بعد غسلها).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 216‌

و لا يضر نجاسة باطنها (1) بعد تطهير ظاهرها داخلا و خارجا بل داخلا فقط

______________________________
و قد صرّح فيها بجواز استعمال «الدّن» فيها بعد الغسل فتعارض رواية أبي الربيع الشامي فيه بالخصوص.

و مقتضى الجمع بين هذه الروايات و ما تقدم من الأخبار الناهية هو حمل النهي في تلك على الكراهة في خصوص مواردها «1» تعبدا- دون غيرها من الأواني المستعملة في الخمر- من دون إناطة الكراهة بكون الآنية رخوة أو صلبه، لعموم النهى للصلبة ايضا- كما عرفت.

بل لا مانع من الالتزام بالقول بالكراهة في مطلق الأواني التي يرسب فيها الخمر- سواء الموارد المذكورة، أو غيرها- خروجا عن شبهة الخلاف، لفتوى بعض الأعلام بها- كما عرفت- مع احتمال ان يكون سبب النهي في الصحيحة عن بعضها مما يرسب فيه الخمر كالدّين هو نفوذ الخمر في جوفها، و اللّه العالم.

(1) بل يمكن القول بطهارة باطنها أيضا تبعا للظاهر، كما أوضحنا ذلك في بحث التطهير بالماء، و أشرنا إليه آنفا، و ذلك لصدق الغسل على المجموع إذا غسل الظاهر، و رسب الماء في الباطن، بل يطهر الباطن بنفوذ الماء اليه كما إذا ارتوى الإناء بالماء بالوضع في الكر أو الجاري، كما أشرنا.

______________________________
(1) و هي «الدبّاء، و المزفّت» كما في صحيحة ابن مسلم بإضافة «الحنتم و النقير» كما في رواية أبي الربيع الشامي من باب التسامح لضعفها سندا.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 217‌

نعم يكره استعمال ما نفذ الخمر إلى باطنه (1) إلا إذا غسل على وجه يطهر باطنه أيضا (2)

______________________________
(1) لا دليل على العموم سوى فتوى بعض الأعلام
«1» فيبتني على أدلة التسامح.

و أما الروايتان المتقدمتان فيمكن دعوى كون النهى فيهما إرشادا إلى سرعة الفساد الى ما ينبذ في تلك الأواني المذكورة فيهما، هذا أولا، و ثانيا لو سلم دلالتهما على الكراهة و لو جمعا بينهما و بين الروايات المجوزّة لاختص المنع بخصوص موردهما «2» تعبدا، دون مطلق الظروف، و من هنا قال المحقق الهمداني قدّس سرّه «انه لا يبعد الالتزام بكراهة مطلق الأواني التي يرسب فيه الخمر للخروج عن شبهة الخلاف الذي مرجعه إلى الاحتياط، مع قوة احتمال أن يكون هذا هو المناط في تعلق النهى ببعض الأمثلة المذكورة في الروايتين» فلاحظ.

(2) كما إذا وضع في الكر، أو الجاري حتى إذا ارتوى من الماء، و نفذ في جوفه.

______________________________
(1) و هم الشيخ في النهاية، و ابن البراج و ابن الجنيد.

(2) و هو «الدّبا و المزفت» كما في صحيح محمد بن مسلم، أو بإضافة «الحنتم و النقير» كما في رواية أبي الربيع.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 218‌

[ (مسألة 4) يحرم استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و الشرب]

(مسألة 4) يحرم استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و الشرب (1)

______________________________
(1)
أواني الذهب و الفضة يقع الكلام في أواني الذهب و الفضة في مقامين (الأول) في حكمها من حيث الحرمة و الكراهة (الثاني) في موضوعها هل هو الأكل و الشرب فقط، أو مطلق الاستعمال كالوضوء، أو مطلق الانتفاع و لو بالتزيين، أو مطلق الاقتناء و لو من غير تزيين و كل مرحلة تكون أعم مما قبلها ثم انه يقع الكلام في مقام ثالث و هو في حكم المعاملات الواقعة عليها من البيع و الشراء و كذلك صنعها و أخذ الأجرة عليها، و حكم نفس الأجرة هل هو حرام أولا.

حرمة الأكل و الشرب في أواني الذهب و الفضة أما المقام الأول- و هو في حكم هذه الأواني- فلا إشكال و لا خلاف «1» في حرمة الأكل و الشرب منهما، و في الجواهر «2» «إجماعا منا، بل و عن كل من يحفظ عنه العلم عدا داود فحرّم الشرب خاصة، محصّلا، و منقولا مستفيضا ان لم يكن متواترا كالنصوص من الطرفين».

و أما النصوص في ذلك فهي على حد الاستفاضة من طرق الخاصة و العامّة كما في الحدائق «3» قال: و روى الجمهور عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال:

«لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، و لا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في‌

______________________________
(1) و حكى عن الشيخ في الخلاف ما يوهم الخلاف و لكنه مأول إلى الوفاق، راجع الجواهر ج 6 ص 329.

(2) ج 6 ص 328.

(3) ج 5 ص 504.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 219‌

..........

______________________________
الدنيا و لكم في الآخرة»
«1» و قال «و عن على عليه السّلام» انه قال: «الذي يشرب في آنية الذهب و الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

أى يلقى في جوفه، و هذا وعيد يقتضي التحريم.

و لكن في تعليقته «2» انه لم نجد هذه الرواية عن على عليه السّلام بل رووها عن ابن ماجة في السنن عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. «3»

و كيف كان فلا خلاف في أصل المنع بيننا، بل و أكثر العامة لو لا جلّهم «4» فما عن الشيخ قدّس سرّه «5» في الخلاف انه قال يكره استعمالها في الأكل و الشرب محمول على إرادة الحرمة بقرينة دعواه الإجماع على الحكم، و لا إجماع إلا على الحرمة، و بتصريحه في الخلاف «6» في باب الزكاة بالحرمة، و‌

______________________________
(1) صحيح البخاري 7: 99 و 146 و صحيح مسلم، 3: 1638/ 2067 و سنن الترمذي 4: 299/ 1878 و غيرهما- بنقل عن تعليقة تذكرة الفقهاء ج 2 ص 226 ط المؤسسة: قم- أو ما يقرب من هذا المضمون راجع تعليقة الحدائق ج 5 ص 504.

(2) ج 5 ص 504.

(3) صحيح مسلم 3: 1634/ 2065، سنن ابن ماجة 2: 113/ 3413، سنن الدارمي 2: 121.

(4) قال العلامة في التذكرة ج 2 ص 225 ط المؤسسة: «و يحرم استعمال المتخذ من الذهب و الفضة في أكل و شرب و غيرهما عند علمائنا أجمع، و به قال أبو حنيفة، و مالك، و أحمد، و عامة العلماء، و الشافعي في الجديد، لقول النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم» معناه يلقى في جوفه، و هذا وعيد يقتضي التحريم، و قول الصادق عليه السّلام «لا تأكل في آنية الذهب و الفضة» و النهى للتحريم، و لاشتماله على الفخر، و الخيلاء، و كسر قلوب الفقراء و قال الشافعي في القديم انه مكروه غير محرّم، و النهى فيه نهى تنزيه، لأن الغرض ترك التشبه بالأعاجم و الخيلاء، و إغاظة الفقراء، و ذلك لا يقتضي التحريم، و ليس بجيّد لاشتمال الحديث عليه»

(5) الحدائق ج 5 ص 504 و الجواهر ج 6 ص 329 و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 628.

(6) و في الوسائل ج 3 ص 508 ط م قم في ذيل ح 11 من باب 65 من أبواب النجاسات «و اعلم ان أكثر الأصحاب على تحريم آنية الذهب و الفضة، و هو المعتمد، و قد نقلوا عن جماعة من العامة عدم التحريم، فيمكن حمل ما تضمن على الكراهة على التقية أو على التحريم».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 220‌

..........

______________________________
لعلّه تبع في التعبير بالكراهة المراد بها الحرمة، أو الجامع بينها و بين الكراهة المصطلحة- بعض الروايات الواردة من طرقنا و هي على مظامين مختلفة نقسّمها على ثلاث طوائف.

(الأولى): ما اشتملت على النهى عن الأكل و الشرب فيها بصيغة النهي، أو مادّته، و هذه ظاهرة في الحرمة بلا كلام.

1- (منها) مصححة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا تأكل في آنية ذهب و لا فضّة». «1»

2- (و منها) حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تأكل في آنية من فضّة، و لا في آنية مفضّضة». «2»

3- (و منها) مصححة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السّلام انه نهى عن آنية الذهب و الفضة». «3»

4- (و منها) ما في حديث المناهي قال عليه السّلام: «نهى رسول اللّه عن الشرب في آنية الذهب و الفضة» «4» و هذه الطائفة تدل على الحرمة لأن النهي حقيقة فيها و لا يجوز الخروج عنها إلا بقرينة، و لم تتم- كما ستعرف.

الطائفة الثانية: ما تضمنت التعبير بلفظ «الكراهة» و هي عدة روايات.

1- (منها) صحيحة ابن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن آنية الذهب و الفضة؟ فكرههما الحديث. «5»

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 508 في الباب 65 من أبواب النجاسات، ح: 7 ط م قم.

(2) الوسائل ج 3 ص 509 في الباب 66 من أبواب النجاسات، ح: 1 ط م قم.

(3) الوسائل ج 3 ص 509 في الباب 65 منها ح: 3 ط م قم.

(4) في الباب المتقدم، ح: 8 و 11.

(5) الوسائل ج 3 ص 505 في الباب 65 من أبواب النجاسات، ح: 1 ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 221‌

..........

______________________________
2- و موثقة بريد عن أبى عبد اللّه عليه السّلام انه كره الشرب في الفضّة، و في القدح المفضّض، و كذلك أن يدهن في مدهن مفضّض و المشطة كذلك.
«1»

3- (و منها) صحيحة الحلبي عن أبى عبد اللّه عليه السّلام «أنه كره آنية الذهب و الفضة و الآنية المفضّضة». «2»

قد يقال «3» «انه لا ظهور للفظ «الكراهة» إلا في المرجوحية المطلقة اى المصطلح الغير المنافية للحرمة، أو الكراهة فإن الكراهة المستعملة في كلمات الأئمة عليهم السّلام بحسب الظاهر ليست مستعملة إلا في معناها اللغوي و العرفي، لا الكراهة المصطلحة عند المتشرعة، و هي بمقتضى معناها العرفي تجامع الحرمة و الكراهة فلا منافاة بين هذه الأخبار و بين الأخبار الدالة بظاهرها على الحرمة، كما قد يتوهم».

و حاصل ما قيل هو أن هذه الطائفة تدل على الأعم من الحرمة و المرجوحية فلا تنافي الطائفة الأولى كي تكون صارفة للنهى فيها عن الحرمة، لأنها أعم فلا تنافي الأخص المثبت الموافق له في الدلالة فلا تكون قرينة للعدول عن ظهورها في الحرمة.

أقول: لا حاجة إلى هذا التوجيه بل ينبغي أن تعد هذه الطائفة دالة على الحرمة أيضا، كالأولى، لا مجرد عدم المنافاة معها، لأن الكراهة- لغة «4» و عرفا- بمعنى المبغوضيّة في مقابل الحب، و انما اصطلح الفقهاء فيها في مقابل الحرمة، لتقسيمهم الأحكام إلى الخمسة، و هذا اصطلاح متأخر لم يكن في‌

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 509 في الباب 66 من النجاسات، ح: 2.

(2) الوسائل ج 3 ص 508 في الباب المتقدم، ح: 10 ط م قم.

(3) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 648 س 26- 27، الطبع الحجري.

(4) كره الشي‌ء ل كرها و كرها و كراهة.: ضدّ أحبه، فهو كاره، و الشي‌ء مكروه- أقرب الموارد.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 222‌

..........

______________________________
زمن صدور الرواية، و مع الشك تكون الروايات المذكورة مجملة من هذه الجهة فلا تصلح قرينة للعدول عن ظهور النهي- في الطائفة الأولى- في الحرمة أيضا، لعدم سراية أحد الدليلين إلى الآخر.

و بتعبير آخر ان الحب و البغض هما المنشئان للوجوب و الحرمة فقد يعبّر بهما كناية عن الحكم الذي ينشأ منهما و من المعلوم ان مقتضى إطلاق كل منهما هو الحب المطلق و البغض المطلق و لا يخرج عن إطلاقهما إلا بقرينة تدل على ضعف كل منهما فمقتضى إطلاق الكراهة هو المبغوضية المطلقة من دون ضم الجواز إليها و هو المنشأ لتشريع الحرمة.

و يؤيد ما ذكرناه ما ورد في بعض روايات الربا: ان عليا عليه السّلام «لم يكن يكره الحلال» «1» و هذا مما يدل على ان «الكراهة» لم يطلق لغة إلا على الحرمة.

بل يؤيد ذلك ما في بعض روايات المقام أيضا و هي:

صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟ قال: نعم، انما يكره استعمال ما يشرب به.» «2»

فان المراد ب‍ «الكراهة» فيها الحرمة و ذلك بقرينتين «الأولى» مقابلتها لما في السؤال من التعبير ب‍ «هل يصلح» فان المراد بها عدم الصلاح، و هو معنى الحرمة، فإن عدم صلاح ما يشرب به ليس الا المنع عنه شرعا «الثانية» حصر الكراهة فيما يستعمل في الشرب بقوله عليه السّلام «انما يكره استعمال ما يشرب به» مع ان الكراهة- بمعناها المصطلح- تعم غير الأواني أيضا‌

______________________________
(1) الوسائل ج 18 ص 151 في الباب 15 من أبواب الربا ح 1 ط م قم.

(2) الوسائل ج 3 ص 511 في الباب 67 من النجاسات، ح: 5 ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 223‌

..........

______________________________
كالمشطة، و المدهن، و غيرهما، فالمراد من «الكراهة» المنحصرة في الأواني يراد بها الحرمة لا محالة.

فتحصل مما ذكرناه: أولا: أن لفظ «الكراهة» في هذه الطائفة ظاهر في الحرمة لغة و عرفا، و ثانيا: لو سلم إرادة الأعم من الكراهة المصطلحة فلا تنافي الطائفة الأولى لأن الأعم لا ينافي الأخص، و ثالثا لو شك في انتقالها إلى الكراهة المصطلحة كانت مجملة و لا تصلح قرينة للعدول عن ظاهر النهي في الحرمة.

(الطائفة الثالثة): ما وردت بلفظ «لا ينبغي» و هي موثقة سماعة عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: لا ينبغي الشرب في آنية الذهب، و الفضّة. «1»

قد يقال «2» بظهور كلمة «لا ينبغي» في الكراهة المصطلحة- و ان جاز استعمالها على سبيل الحقيقة في المحرّمات لكن الشائع المتعارف استعمالها في الأمور الغير المناسبة، لا الحرمة- فلها ظهور عرفي في الكراهة، لكن لا على وجه يصلح لصرف الأخبار الدالة على الحرمة عن ظاهرها خصوصا مع استفاضة تلك الأخبار.

و حاصل ما قيل هو تسليم ظهور لفظ: «لا ينبغي» في الأمر الغير المناسب، أي الكراهة، لكن ظهوره في ذلك يكون أضعف من ظهور لفظ «النهي» في الحرمة فلا تصلح للعدول عن تلك، اى لا تكون قرينة للصرف عن ظهور النهي في الحرمة.

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 507 في الباب 65 من أبواب النجاسات، ح: 5 ط م قم.

(2) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 548.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 224‌

..........

______________________________
نعم في بعض الكلمات
«1» ان حمل لفظ «لا ينبغي» على التحريم بعيد، و حمل النهى على الكراهة أقرب منه، بحيث قد يستحسن القول بالكراهة، لو لا الإجماع على الحرمة.

أقول: لا ينبغي التأمل في دلالة لفظ «لا ينبغي» في الرواية على الحرمة أيضا، فيصح دعوى دلالة هذه الطائفة أيضا على المدعى، و هو الحرمة، و ذلك لدلالة هذا اللفظ لغة و عرفا على الحرمة أيضا، و ارادة الكراهة تكون اصطلاح متأخر، لا يصار إليها إلا بالقرينة، أو العلم بالانتقال الى المعنى المصطلح في زمان صدور الرواية، و ذلك لأن الانبغاء في اللغة «2» التيسر و التسهل فمعنى قوله عليه السّلام: «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب و الفضّة» أي لا يتيسّر و لا يتسهل و من المعلوم ان معنى عدم التيسر شرعا هو المنع و الحرمة، لا عدم التيسر خارجا و تكوينا، كما هو ظاهر.

و يؤيد ذلك ما ورد في حديث الاستصحاب «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ابدا» «3» فان المراد بعدم الانبغاء فيه عدم الجواز بلا إشكال لعدم جواز نقض الحالة السابقة.

و قد ورد في الآيات الكريمة بمعنى عدم التيسر خارجا.

كقوله تعالى لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ «4» اى لا يتيسر لها درك القمر، و قال تعالى حكاية عن سليمان عليه السّلام‌

______________________________
(1) المستمسك ج 2 ص 165.

(2) (انبغى): اى تيسّر و تسهّل تقول «لا ينبغي لك أن تفعل» اى لا يتيسر، و ماضيه لا يكاد يستعمل لكونه غريبا و حشيّا»- أقرب الموارد.

(3) الوسائل ج 3 ص 477 في الباب 41 ح 1 و الباب 44 ح 1 ص 482 من أبواب النجاسات ط م قم.

(4) يس: 36، 40.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 225‌

..........

______________________________
«قٰالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» «1» أي لا يتيسر لأحد حتى يكون فضلا له، دون غيره و قال تعالى قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ. «2»

و هذا بمعنى عدم التيسر تشريعا أيضا فإنه لا يجوز لهم لا عقلا و لا شرعا أن يتخذ و أمن دون اللّه تعالى أولياء إلى غير ذلك من الآيات، و الروايات.

و بالجملة: لا ينبغي التأمل في دلالة هذه الكلمة «لا ينبغي» على الحرمة لغة، فان الحرام غير ميسور للمكلف شرعا، و لو سلم ظهوره في الكراهة في لسان المتشرعة أي الأمر غير المناسب، فلا يوجب ذلك حمل الطائفة الأولى الدالة على الحرمة على الكراهة للشك في الانتقال الى المعنى المصطلح في زمن صدور الرواية، بل غايته الإجمال و المجمل لا يصلح قرينة للعدول عن ظاهر النهى خصوصا مع انحصار ذلك في رواية واحدة في مقابل الروايات الكثيرة.

فتحصل: أن الأقوى هو حرمة الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة، أو منهما. «3»

تتمة ان مقتضى ظاهر الروايات المتقدمة هو حرمة نفس الأكل و الشرب لا مجرد تناول الطعام أو الشراب من الإناء و ان كان مقدمة لهما إلا أن يتم دليل على حرمة استعمال الإناء بما هو استعمال له مطلقا، فإنه يحرم أيضا، لكن لا دليل على ذلك- كما يأتي- فالمحرم ليس الا نفس الفعلين من حيث ذاتهما‌

______________________________
(1) ص: 38، 35.

(2) الفرقان: 35، 18.

(3) كما يأتي في (المسألة 10) من حيث التعميم للأكل فيهما أو منهما.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 226‌

و الوضوء و الغسل و تطهير النجاسات و غيرها من سائر الاستعمالات (1)

______________________________
فالنتيجة: أن إيصال ما في الآنية من المأكول أو المشروب إلى الجوف- على وجه يصدق عليه عرفا الأكل أو الشرب في الآنية أو منها بالازدراد في الحلق- يكون محرّما، و ان لم يصدق عليه بنفسه استعمالا الآنية، و ان توقف عليه، ان المدار- بمقتضى الفهم العرفي من الروايات الناهية- على صدق الأكل و الشرب في الآنية، كما في أكثر الروايات، أو منها، كما في بعضها صدق عليه الاستعمال أو لا، بحيث لو تناول من الآنية و وضع الطعام في فمه بقصد الأكل فمنعه مانع من الازدراد، كما إذا كان مرّا أو مالحا و نحو ذلك فأخرجه من فمه لم يصدر منه إلا التجري، لعدم تحقق الأكل لتوقفه على الازدراد و بلع الطعام و لم يكن فرضا.

(1) حكم استعمال أواني الذهب و الفضة في غير الأكل و الشرب قد عرفت انه لا اشكال، بل لم يظهر خلاف بيننا في حرمة الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضّة، سواء صدق عليهما استعمال الآنية أم لا، للنصوص الخاصة كما تقدم.

و أما سائر الاستعمالات كالوضوء و الغسل و نحوهما فهل يكون محرما أيضا أم لا.

المشهور هو الحرمة، بل عن جمع عدم الخلاف فيه، بل عن التذكرة دعوى الإجماع على ذلك «1» حتى انه حمل التعبير بحرمة خصوص الأكل و الشرب في بعض الكلمات على المثال و القول بالحرمة هو المحكي عن العامة‌

______________________________
(1) راجع الجواهر ج 6 ص 330 في نقل الأقوال.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 227‌

..........

______________________________
أيضا.
«1»

و كيف كان فلا يمكن إثبات الحكم في المقام بالإجماع لعدم الجزم بحصوله، و احتمال استناد القائلين بالوجه الآتي و هو إطلاق الروايات.

و العمدة هو الاستدلال «2» على الحرمة بإطلاق بعض الروايات، و لكن لم يثبت أيضا كالإجماع.

(منها) رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: آنية الذهب و الفضّة متاع الذين لا يوقنون. «3»

بدعوى: ان المراد من المتاع هو ما يتمتع به اى يستفاد منه في أي استعمال شاء، كالإناء يشرب منه أو يتوضأ به و نحو ذلك فإطلاق المتاع يعم جميع الاستمتاعات.

و يدفعها أولا: ضعف سندها أما عن طريق الكليني فب‍ «سهل بن زياد و موسى بن بكر» و أما على رواية البرقي فبخصوص «موسى».

و ثانيا: ضعف الدلالة، لأن لفظ «المتاع» و إن كان عاما يطلق على مطلق الاستمتاعات بشي‌ء الا انه ينصرف الى ما يناسب الموضوع، كالثوب للّبس، و الفراش للنوم، و الخبز للأكل، و التمتع بالآنية انما هو استعمالها في الأكل أو الشرب فيها، فينصرف اللفظ إليه لا محالة، و بالجملة يشكل دعوى الإطلاق مع وجود قرينة الانصراف.

(و منها) و لعلّها العمدة في المقام «4» صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن‌

______________________________
(1) الجواهر ج 6 ص 330.

(2) كما في الجواهر (ج 6 ص 330) تبعا لمتن الشرائع و قد جرى عليه غيره كالسيد الحكيم قدّس سرّه في المستمسك ج 2 ص 166.

(3) الوسائل ج 3 ص 507 في الباب 65 من أبواب النجاسات، ح 4 ط م قم.

(4) كما يظهر من مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 549 س 4- الطبع الحجري.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 228‌

..........

______________________________
أبي جعفر عليه السّلام «انه نهى عن آنية الذهب و الفضّة».
«1»

بدعوى: أن حذف المتعلق يفيد العموم، فإنه لم يبيّن المنهي عنه في الصحيحة، فيعم الأكل و الشرب و غيرهما من الاستعمالات بعد فرض عدم صحة تعلق النهي التشريعي بذات الآنية، إذ لا بد و ان يكون المنهي عنه فعلا من أفعال المكلفين، و مع عدم ذكر فعل خاص يحمل على العموم، سواء الأكل أو الشرب، أو غيرهما من أنحاء استعمالات الأواني كالوضوء و التطهير و نحوهما.

و يدفعها: ما ذكرناه آنفا من انصراف الإطلاق الى ما يناسب الموضوع فان المناسب للآنية هو كون المحذوف الأكل و الشرب فيها لأنهما أظهر المنافع فيها فيكون منهيا عنه.

(و منها) صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام سألته عن آنية الذهب و الفضة فكرههما. «2»

و نحوها حسنة الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه كره آنية الذهب و الفضة. «3»

بدعوى: دلالتهما على أن المكروه عنده عليه السّلام مطلق استعمالاتهما و لو غير الأكل و الشرب، لحذف المتعلق المفيد للعموم، فان المراد الكراهة التشريعية (الحرمة) التي لا بد و ان تتعلق بفعل المكلف، لانه لا يعقل تعلقها بذوات الأشياء، أي الموضوعات الخارجية، كالإناء، و نحوه، كما في حرمة الميتة أو الخمر و نحوهما فان المراد حرمة الأكل في الأول و الشرب في الثاني و ان‌

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 506 في الباب 65 من النجاسات ح 3 ط م قم.

(2) الوسائل في الباب المتقدم ح 1.

(3) في الباب المتقدم، ح: 10.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 229‌

حتى وضعها على الرفوف للتزيين، بل يحرم تزيين المساجد و المشاهد المشرفة بها (1)،

______________________________
كانت الكراهة النفسية بمعنى البغض يمكن تعلقها بالموضوع الخارجي، إلا أن المراد في أمثال المقام مما يكون في مقام بيان الأحكام انما هو الحكم التشريعي، و قد ذكرنا ان معنى الكراهة لغة هو البغض و شرعا هو الحرمة، و ان أطلق على الكراهة الفقهية اصطلاحا، الا أن الروايات تحمل على المعنى اللغوي ما لم يكن قرينة على المعنى الاصطلاحي، و بالجملة تدل هذه الصحيحة على حرمة مطلق الاستعمالات كما ادعيت لحذف المتعلق.

(و فيه): ما ذكرناه في الرواية السابقة من أن قرينة مناسبة الحكم و الموضوع توجب صرفها إلى الأكل و الشرب فتحصل الى هنا: أن دعوى الإطلاق في هذه الروايات، و نحوها غير ثابتة و الإجماع غير معلوم فالأظهر عدم حرمة سائر الاستعمالات بقاء على أصالة الحل و من هنا ذكرنا في التعليقة: أن الحكم بالحرمة في غير الأكل و الشرب مبنى على الاحتياط للشهرة، و لدعوى الإجماع عن بعض‌

(1) حكم التزيين بأواني الذهب و الفضة بعد الفراغ عن حرمة الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضّة وقع الكلام «1» في المراحل الآتية.

1- استعمالها في غير الأكل و الشرب كالوضوء و التطهير بها. و نحو ذلك و قد تقدم ان المشهور هو الحرمة و لكن لا دليل على ذلك يعتمد عليه سوى توهم الإطلاق.

2- الانتفاع بها، و لو بغير الاستعمال كالتزيين بها على الرفوف.

______________________________
(1) لاحظ الجواهر ج 6 ص 342 و متن الشرائع و مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 649.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 230‌

..........

______________________________
3- اقتنائها، و لو من غير انتفاع كوضعها في صندوق للذخر.

و هذه المراحل كلها مترتبة، و كل واحدة منها تكون أعم مما قبلها، و من هنا نرى المصنف قدّس سرّه يعطف كل واحدة منها على ما قبلها ب‍ «بل» الإضرابيّة، و يبتنى التعميم بمراتبه على استفادة سعة العموم من حذف المتعلق في الروايات المطلقة التي ورد النهى فيها عن آنية الذهب و الفضة فإن الاحتمالات فيها تكون على النحو التالي.

(الأول) إرادة النهي عن خصوص الأكل و الشرب- كما هو صريح جملة أخرى من الروايات «1» الواردة في المقام- كما تقدم فتكون المطلقات على وزان تلك في اختصاص المنع بالأكل و الشرب، و هذا أوجه الاحتمالات فيها لما ذكرنا من انصراف إطلاق الروايات المذكورة بقرينة مناسبة الحكم و الموضوع، فان المناسب للأوانى انما هو استعمالها في الأكل و الشرب، فإنه أظهر الانتفاعات بها، و يكون المقام نظير ما يقال: يحرم الأم على ابنها، فان الظاهر منه نكاحها، أو يقال يحرم الحرير على الرجال أى لبسه، أو يقال تحرم الميتة أي أكلها، و هكذا، كما عرفت. فهذا هو أظهر الاحتمالات ثم بعد ذلك قد يقال ب‍ (الاحتمال الثاني) و هو إرادة مطلق الاستعمالات سواء الأكل و الشرب أو غيرهما كاستعمال الآنية في رش الماء، و الإبريق في الوضوء و أخذ الماء منه، و نحو ذلك و هذا هو المشهور المدّعى عليه الإجماع «2» كما تقدم، و لكن قد عرفت منع الإجماع التعبدي في المقام، و انصراف الروايات إلى أظهر‌

______________________________
(1) الوسائل ج 3 ص 506 في الباب 65 من النجاسات كالحديث 2 و 5 و 7 و 8 و 11 و في الباب 66 ص 509- ح 1 و 2 ط م قم.

(2) الجواهر ج 6 ص 330.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 231‌

..........

______________________________
الانتفاعات و هو الأكل و الشرب و لو سلّم التعميم هذا المقدار فلا نسلم حرمة الوضوء أو الغسل من هذه الأواني
«1» و لا يكون باطلا، إذا المحرم استعمال نفس الأواني، لا الفعل المترتب على استعمالها، كالوضوء أو الغسل، نعم أخذ الماء منها يكون محرّما، على هذا الاحتمال، و هذا غير الفعل المترتب عليه، فإذا لم يكن الإناء منحصرا في الذهب و الفضة فلا إشكال في صحة الطهارة المائية لعدم انحصار المقدمة في الحرام حينئذ، و أما إذا انحصر فينقل فرضه إلى التيمم، و يبتنى تصحيح وضوئه أو غسله على الأمر الترتبي، كما ذكرنا في الإناء المغصوب، و هو الأصح، ثم إن هذا الاحتمال لا ينافي جواز التزيين بها، من دون اى استعمال، لعدم صدق الاستعمال حينئذ، فإنه إذا وضع الإناء الذهبي على الرف- مثلا- صح أن يقال ما استعمله و انما تركه و وضعه على الرف فهو متروك لا يستعمل، فعلى هذا الاحتمال لا يحرم التزيين بها، و يجوز أخذ الأجرة عليه، لوجود منفعة محللة له، كالتزيين.

(الاحتمال الثالث) تعميم متعلق النهي أو الكراهة في الروايات المطلقة لمطلق الانتفاعات حتى التزيين «2» و ان لم يصدق عليه الاستعمال، نعم لا يكون مجرد الاقتناء و لو للذخر حراما حينئذ، لأن الاقتناء ليس من الانتفاع في شي‌ء و يكون أخذ الأجرة حينئذ حلالا أيضا لبقاء الفعل المحلل فيه، و هو الاقتناء و لكن هذا الاحتمال في التعميم ضعيف كسابقه، للانصراف المذكور و لا يشمله حتى مثل قوله عليه السّلام «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا يوقنون» «3» لانصرافه الى التمتع المناسب للأوانى و هو الأكل و الشرب‌

______________________________
(1) الجواهر ج 6 ص 332 فيه بحث.

(2) كما عن العلامة في القواعد و غيره راجع الجواهر ج 6 ص 343.

(3) الوسائل ج 3 ص 507 في الباب 65 من أبواب النجاسات، ح: 4.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 232‌

..........

______________________________
- كما تقدم.

(الاحتمال الرابع) تعميم متعلق النهي أو الكراهة في تلك المطلقات، لمطلق الفعل، أىّ فعل كان و لو كالاقتناء في صندوق للذخر بحيث يكون أصل وجود أواني الذهب و الفضة ممنوعا محرما، و هذا أضعف الاحتمالات و ان ذهب اليه المصنف قدّس سرّه تبعا لصاحب الجواهر قدّس سرّه «1» حيث انه اختاره و نسبه الى المشهور بل قال: «لا أجد فيه خلافا الا من المختلف.». «2»

فتحصل من جميع ما ذكرناه الى هنا أن الروايات الواردة في أواني الذهب و الفضة تكون على طائفتين:

(الأولى) ما دلت على النهى عن خصوص الأكل و الشرب منها، و هذه لا تدل على حرمة غيرهما توقفا على ظاهر النص.

(الثانية) الروايات المطلقة الناهية عن نفس آنية الذهب و الفضة من دون ذكر لمتعلق النهى.

و قلنا: ان ظاهر النهى فيها هو النهى عن أظهر الانتفاعات بها، و هو الأكل و الشرب كما في نظائر المقام و أما بقية الاحتمالات الثلاثة و هي «الاستعمال و الانتفاع و الاقتناء» كلها خلاف ظهور مناسبة الحكم و الموضوع، و في نفس الوقت تكون مترتبة، فإن احتمال كل واحدة منها يكون أضعف من الاحتمال السابق، و من هنا ترقى المصنف قدّس سرّه في كلامه ب‍ «بل» الإضرابية فالظاهر اقتصار الحرمة بالأكل و الشرب، و الباقي جائز و ان كان أحوط كما أشرنا في التعليقية. «3»

______________________________
(1) الجواهر ج 6 ص 343.

(2) نفس المصدر.

(3) جاء في تعليقة (دام ظله) على قول المصنف قدّس سرّه «يحرم استعمال أواني الذهب»: (الحكم بالحرمة في غير الأكل و الشرب مبنى على الاحتياط).

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 233‌

بل يحرم اقتنائها من غير استعمال (1)

______________________________
ثم انه لو قلنا بحرمة التزيين فلا يفرق الحال بين المساجد و المشاهد و غيرها لان تعظيم الشعائر لا يتحقق بالحرام.

(1) اقتناء أواني الذهب و الفضة استدل «1» للمنع بإطلاق جملة من الروايات المتقدمة المتضمنة للنهي، أو كراهة أواني الذهب و الفضة فيكون أصل وجودها ممنوعا محرّما فلا يجوز اقتنائها و لو للذخر من غير أى استعمال، أو انتفاع حتى التزيّن بها على الرفوف، و القول بالمنع المطلق منسوب «2» إلى المشهور، بل إلى عدم الخلاف، و قال في متن الشرائع «و في جواز اتخاذها لغير الاستعمال تردد و الأظهر المنع» «3» و قد أصرّ صاحب الجواهر قدّس سرّه «4» على ظهور الأدلة في العموم الى ان قال «5» «فحيث ظهر حرمة الأواني استعمالا، و قنية و غيرها كانت حينئذ كباقي الآلات المحرمة الهيئة المملوكة المادّة، فيجري فيها حينئذ بالنسبة إلى وجوب كسرها و عدم ضمان الأرش، و عدم جواز بيعها، أو بشرط الكسر فورا، أو العلم به مع وثاقة المشتري أو مطلقا، بل سائر أنواع نقلها، بل رهنها و عاريتها و غير ذلك ما يجري في تلك فتأمل».

هذا، و لكن قد عرفت منع إطلاق الروايات، و انصرافه إلى أظهر المنافع، فيختص المنع لا محالة بالأكل و الشرب، لا أكثر، و ان كان الأحوط التعميم،

______________________________
(1) لاحظ الحدائق ج 5 ص 509- 510.

(2) الحدائق ج 5 ص 509 و الجواهر ج 6 ص 343.

(3) الجواهر ج 6 ص 343.

(4) نفس المصدر.

(5) نفس المصدر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 234‌

و يحرم بيعها و شرائها (1)

______________________________
كما ذكرنا في التعليقة.
«1»

(1) حكم بيع أواني الذهب و الفضة إذا قلنا بحرمة خصوص الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة، دون سائر الاستعمالات،- كما هو الأصح- فيجوز «2» بيعها، و شرائها، و صياغتها و أخذ الأجرة عليها، لأن لها منافع محلّلة مقصودة تقتضي صحة المعاملة و أخذ الأجرة.

و أما إذا قلنا بمقالة المصنف قدّس سرّه من حرمة مطلق الأفعال المتعلقة بها حتى الاقتناء بحيث يكون وجودها مبغوضا عند الشارع فلا منفعة لها محلّلة.

فيقع الكلام حينئذ في المعاملات الواقعة عليها فنقول: أما صياغتها و أخذ الأجرة عليها فتكون ممنوعة- بناء على هذا القول- و استدل له في المتن بما روى من أنه «إذا حرم اللّه شيئا حرّم ثمنه».

و هذا الاستدلال ضعيف لما ذكرنا في بحث المكاسب المحرمة من أن هذه الرواية ضعيفة سندا، و متنا، أما السند فلأنها من طرق العامة، و لم تثبت من طرقنا، و أما المتن فلروايتهم لها في كتبهم هكذا «إن اللّه إذا حرّم أكل شي‌ء حرّم ثمنه» بإضافة لفظ «أكل» فتكون أجنبية عما نحن فيه، لأن المحرم استعمال الآنية.

بل الصحيح في الاستدلال على حرمة الإجارة و الأجرة هو عدم شمول أدلة الوفاء بالعقود للعمل المحرّم، لأن الوفاء بالعقد تسليم ما عقد عليه،

______________________________
(1) جاء في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف قدّس سرّه «حتى وضعها على الرفوف» (الحكم بحرمته و حرمة ما ذكر بعده محل إشكال بل منع، نعم الاجتناب أحوط، و أولى).

(2) كما أشار (دام ظله) في التعليقة المتقدمة آنفا.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 235‌

..........

______________________________
كصياغة الإناء في المقام، و المفروض حرمتها، للمنع عن أصل وجود الآنية فرضا، و أدلة الوفاء لا يشمل العمل المحرّم، كالكذب، و الغيبة، و قتل النفس، و نحوها إذا استأجر عليها، فعليه تكون الأجرة أيضا حراما، لأنها أكل للمال بالباطل، و هذا ظاهر.

و أما بيعها فان كان المبيع نفس المادّة- أي الذهب، و الفضة- لا بما هي آنية فلا إشكال في صحته، لأن المبيع ليس إلا الذهب أو الفضة، لا الآنية بما هي آنية، و لا إشكال في صحة بيع الذهب و الفضة، و بعبارة أخرى: ان الصور و الأشكال التي تكون من قبيل الأعراض في نظر العرف، ككون الذهب آنية أو خاتما، أو نحو ذلك، لا تكون جزأ للمبيع، و لا يقع بإزائها شي‌ء من الثمن، و إنما توجب زيادة قيمة المادّة، بخلاف الصور النوعية ككونه ذهبا أو فضة و نحوهما فإنه مقوّمة للمبيع، و عليه فان كان المبيع نفس المادّة بما هي- بأن لا تكون للصورة العارضة بما هي آنية دخلا في زيادة قيمة المبيع أصلا، فكأن صورة الإناء لم تكن- فلا إشكال في صحة البيع حينئذ، بل ذكر شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في بحث المكاسب انه يصح بيع الصنم و الصليب على هذا النحو، كأن يبيع الصنم بما هي خشبة، أو حديد و ان كان على شكل الصنم، و أما إذا كان المبيع هو الآنية بما هي آنية بحيث تكون الصورة العرضيّة أي الصورة الإنائية دخلية في زيادة قيمة المادّة فعدم جواز بيعها حينئذ مبنى على القول باعتبار المالية في المبيع، فان قلنا به فلا تصح حينئذ، لأن الهيئة الإنائية لا مالية لها شرعا، و تكون كباقي الأشياء المحرمة الهيئة، كالصنم و الصليب و نحوهما، يجب كسرها، و لا توجب ضمان الأرش لو أتلف الهيئة المذكورة متلف، كما إذا كسر الصنم أو الإناء الذهبي- مثلا- من دون إتلاف أصل المادّة و الا فيضمن المادة لأنها مملوكة كما إذا أحرق‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 236‌

..........

______________________________
الصفحة الخشبية و بالجملة فإن قلنا باعتبار المالية في المبيع بطل البيع، لان المفروض زيادة قيمة الإناء باعتبار هيئتها المحرّمة، و المفروض إلغائها شرعا، لعدم وجود منفعة محلّلة فيها فرضا، كهيئة الصنم، و أما إذا لم نقل بذلك- كما هو الصحيح- لأن حقيقة البيع عبارة عن المعاوضة و المبادلة بين الملكين، لا المالين، إذ قد يتعلق غرض العقلاء بشراء شي‌ء لم يكن له مالية عرفية- كما ذكرنا في بحث البيع- فيصح بيع أواني الذهب و الفضة و لو بعنوان الآنية، لعدم دليل على منع البيع حينئذ و ان منع عن الانتفاع بها، بل عن اقتنائها، كما هو المفروض، هذا ما تقتضيه القواعد، و الأخذ بعمومات حل البيع و التجارة.

و أما الاستدلال على المنع ببعض العمومات الدالة على حرمة المعاملات فيما إذا لم يكن للشي‌ء منفعة محلّلة فممنوع، لعدم صحتها سندا.

كالنبوي المتقدم «إذا حرم اللّه شيئا حرم ثمنه» فإنه على القول بحرمة اقتنائها تكون محرمة مطلقا، فيحرم ثمنها، و لكن قد عرفت ضعفها سندا، و عدم ثبوت متنها بهذه الكيفيّة، لما رويت بإضافة «الأكل» و كرواية تحف العقول «و كل شي‌ء يجي‌ء منه الفساد محضا يحرم بيعه، و جميع التقلبات فيه». و هذه ضعيفة السند أيضا.

فتلخص: انه يصح بيع أواني الذهب و الفضة، و لو قلنا بحرمة اقتنائها لعمومات الوفاء بالعقود، و حلّ البيع، لصدق البيع، فالمقتضي ثابت، و لم يثبت مانع شرعي، و ما يعرض للمنع ممنوع الاعتبار‌

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 237‌

[ (مسألة 5): الصفر أو غيره الملبّس بأحدهما يحرم استعماله]

(مسألة 5): الصفر «1» أو غيره (1) الملبّس بأحدهما يحرم استعماله إذا كان على وجه لو انفصل كان إناء مستقلا

______________________________
(1)
الإناء الملبّس بالذهب أو الفضة يقع الكلام في بقية الأواني التي لها نوع علقة بأواني الذهب و الفضة تعرّض المصنف قدّس سرّه لبعضها «2» في ضمن مسائل منها: الإناء الملبّس‌

______________________________
(1) الصّفر- بالضم- النحاس الأصفر.

(2) يمكن بيان أقسام أواني الذهب و الفضة على النحو التالي:

1- الآنية المصنوعة من الذهب و الفضة.

و هذه يحرم الأكل و الشرب فيها و أما باقي الاستعمالات فالأحوط استحبابا المنع.

2- الآنية الملبسة بالذهب أو الفضة على نحو يكون الكاسى إناء مستقلا كالمكسى.

و هذه حرام ايضا لشمول الإطلاق لها.

3- الإناء المفضّض، أعنى المرصّع بالفضة، لغرض الزينة، كما إذا ألصق بها قطعات من فضة، كشكل ورد، و نحوه بحيث إذا عرض على النار تنفصل منه قطعات الفضة، و هذا مكروه و يجب الاجتناب عن موضع الفضة كما في المتن.

4- الإناء المذهّب على النحو المذكور في المفضّض، اى المرصّع بقطع من الذهب.

و هذا ملحق بالمفضّض في الحرمة على المشهور لاختصاص النص بالمفضّض، و فيه تأمل كما ذكرنا في الشرح و الأحوط الاجتناب.

5- الإناء المطلي، اى المموه بماء الذهب أو الفضّة، اى الملطّخ بمائهما، و قد يعبّر عنه بالمذهّب و المفضّض أيضا، و إذا عرض على النار لا ينفصل عنه شي‌ء.

و هذا يجوز استعماله مطلقا، و يحتمل الكراهة لاحتمال شمول أخبار المفضّض له أيضا كما قيل، و فيه تأمل بل منع.

6- الإناء الممتزج من أحدهما و غيرهما كالممتزج من الذهب و النحاس- مثلا.

و هذا يتبع الاسم في الحلّية، و الحرمة، فإن كان المزيج مستهلكا في الذهب، أو الفضة فحرام لصدق إناء الذهب، أو الفضة، بل هذا هو المتعارف في الصياغات في الحلّي و الأواني، و ان كان العكس اى استهلك النقدان في المزيج فيحل، لصدق الخلاف، فإنه إناء نحاس- مثلا.

7- الإناء المغشوش و هذا ما إذا كان المزيج بمقدار لم يستهلك في الذهب أو الفضة، و في نفس الوقت لا يمنع عن صدق أحدهما على الإناء، نظير الدنانير و الدراهم المغشوشة، فهو ذهب ردي أو فضة ردية كالدينار و الدرهم المغشوشين.

و هذا أيضا حرام، لصدق إناء الذهب و الفضة، و ان كان رد يا غير جيّد، كما في نظائره من الدنانير و الدراهم المغشوشة، و تكون أرخص لا محالة.

8- الإناء المنقوش بأحدهما و هذا كما إذا نوقش الصفر أو غيره كالخزف بماء الذهب أو الفضة، بحيث لا يصدق عليه لا المفضّض و لا المطلي، إذ ليس فيه إلا النقوش الذهبيّة أو من الفضة، كما ينقش صفحات القرآن الكريم أو السقوف، و الجدران و نحو ذلك بماء الذهب و هذا جائز لا حرمة فيه بوجه، لعدم شمول أدلة التحريم، و لا الكراهة له بوجه، كما أشرنا آنفا، لعدم الصدق.

9- الإناء المخلوط منهما أى من الذهب و الفضة اختلاطا بالامتزاج و هذا حرّمه في المتن تبعا لغيره بالأولوية القطعية، أو للعلم بحرمة الجامع، و أشكل في ذلك السيد الطباطبائي الحكيم قدّس سرّه في المستمسك ج 2 ص 170- 171 و الأحوط لزوما هو الترك، لقوة استظهار الحرمة في المركب منهما من نفس أدلة تحريم كل واحد منهما مستقلا، كما في نظائر المقام، كالممتزج من لحم الميتة و الدم، أو الممتزج من لحم الخنزير و الكلب، و نحو ذلك فإنه لم يصدق عليه عنوان أحدهما، و لكن لا يمكن القول بالحلية جزما، فتأمل.

10- الإناء المركب منهما و هذا كما إذا كان بعضه ذهبا و بعضه فضة متميزا كل منهما عن الآخر.

و حكمه ما سبق في الإناء الممتزج فحكم المصنف قدّس سرّه فيه بالحرمة لما ذكر، و هو الصحيح.

11- الإناء الذي يكون فيه حلقة أو سلسلة، أو صبّة ذهبية أو من الفضة و هذا لا إشكال في جوازه للأصل و عدم الدليل على الحرمة.

12- الإناء المركب بعضه من أحد النقدين، و البعض الأخر من النحاس- مثلا- متميزا كل منهما عن الآخر، كما كان مركبا من نفس النقدين.

و الظاهر جوازه، لعدم صدق آنية الذهب، أو الفضة على مثله.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 238‌

..........

______________________________
بأحدهما، بحيث لو انفصل كان إناء مستقلا، و هذا لا إشكال في حرمته لصدق الإناء على الكاسى مستقلا، و هذا ظاهر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 239‌

و أما إذا لم يكن كذلك فلا يحرم (1) كما إذا كان الذهب أو الفضّة قطعات منفصلات لبّس بهما الإناء من الصفر داخلا أو خارجا

[ (مسألة 6): لا بأس بالمفضّض و المطلي و المموّه بأحدهما]

(مسألة 6): لا بأس بالمفضّض و المطلي و المموّه بأحدهما، نعم يكره المفضّض (2)

______________________________
(1) لعدم صدق إناء الذهب أو الفضة على ذلك، بل هو إناء صفر رصّع بقطعات من الذّهب، أو الفضة، و لا دليل على حرمته، نعم يكره استعماله كما يأتي في المسألة الآتية.

(2) الإناء المفضّض و المطلي بماء الفضة المراد من الإناء المفضّض ما زين بالفضّة كما إذا ألصق به قطعات منها، لغرض التزيين، كما ذكرنا آنفا و قد يعبّر عنه بالمرصّع «1» و أما المطلي فهو ما لطخ بماء الفضّة كلا أو بعضا فيكون مموّها أى موجبا للتمويه و الشبهة، لما عليه من ماء الفضّة، أو الذهب فيقال له: المموّه.

أما المفضّض و هو المرصّع بالفضّة فلا دليل على حرمته، كما ذكرنا في المسألة السابقة، نعم يكره استعماله في الأكل و الشرب و يجب الاجتناب عن موضع الفضّة خاصّة.

أما كراهة استعماله فهي مقتضى الجمع بين الأخبار الناهية و المجوّزة و قال في الجواهر «2» أنها «المشهور بين الأصحاب نقلا، و تحصيلا، بل في الحدائق «3» عليه عامة المتأخرين، و متأخريهم، بل لا أجد فيه خلافا إلا‌

______________________________
(1) رصّعه به: ركّبه به، رصّع الصائغ الذهب بالجواهر: نزّلها فيه يقال تاج مرصّع بالجواهر و سيف مرصّع- أقرب الموارد- و قد يرصّع إناء الصفر بالفضّة، و الذهب و هو المراد هنا.

(2) ج 6 ص 340.

(3) ج 5 ص 510 «الرابع».

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 240‌

..........

______________________________
ما حكى عن الخلاف حيث سوّى بينه و بين أواني الذهب و الفضّة في الكراهة التي صرّح غير واحد من الأصحاب بإرادته الحرمة منها هناك.».

و كيف كان فمقتضى الجمع بين الروايات هو القول بالكراهة، لأنها وردت على طائفتين.

(الأولى) ما دلت على الجواز كصحيحة عبد اللّه بن سنان أو حسنته «1» عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضّض، و اعزل فمك عن موضع الفضّة.» «2»

و صحيحة معاوية بن وهب قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الشرب في القدح فيه ضبّة من فضّة، قال: لا بأس إلا أن تركه الفضّة فتنزعها. «3»

و هاتان الروايتان تدلان على الجواز صراحة.

(الثانية) ما دلت على المنع و هي حسنة الحلبي عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال:

لا تأكل في آنية من فضّة و لا في آنية مفضّضة. «4»

و كان مقتضى الجمع هو حمل النهى فيها على الكراهة، و لا محذور في الجمع بين الحرام و المكروه فيها، لتغاير المعطوف و المعطوف عليه، و قيام القرنية في الأول دون الثاني، لأنه قد ذكرنا في محله أن مدلول النهى إنما هو اعتبار الزجر عن الفعل، كما أن مدلول الأمر هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف، و إذا لم يقترنا بالجواز حكم العقل في النهي بلزوم الامتناع، و في‌

______________________________
(1) بالوشّاء في طريقها لاحظ المعجم.

(2) الوسائل ج 3 ص 510 في الباب 66 من أبواب النجاسات، ح 5- ط: م قم.

(3) في الباب المتقدم: ح 4.

(4) في الباب المتقدم: ح 1.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 241‌

بل يحرم الشرب منه إذا وضع فمه على موضع الفضة (1)

______________________________
الأمر بلزوم الإتباع، فليس مدلول النهي الحرمة، و لا مدلول الأمر الوجوب بالدلالة الوضعية اللفظية، بل هما حكم العقل بذلك، و عليه لو قامت قرينة خاصة على الجواز في بعض المنهي عنه- كما في مورد الرواية- لا يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى فيلتزم بالحرمة في آنية الفضة، و بالكراهة في المفضّض هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كراهة استعماله، و أما حرمة الشرب من موضع الفضة فيأتي البحث عنها.

(1) حرمة الشرب عن موضع الفضة و ذلك لقوله عليه السّلام في حسنة عبد اللّه بن سنان المتقدمة «1» «و اعزل فمك عن موضع الفضّة» و ظاهر الأمر الوجوب، فإذا وجب العزل حرم الشرب لا محالة و لو على نحو من المسامحة في التعبير، ذهب الى ذلك الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و غيره «2» و في الجواهر «3» «بل لا خلاف أجده فيه بين القدماء و المتأخرين».

و لكن عن المحقق في المعتبر، و عن المدارك، و الذخيرة، و السيد الطباطبائي قدّس سرّه «4» القول باستحباب الاجتناب عن موضع الفضة، و ذلك بقرينة.

صحيحة معاوية المتقدمة لقوله عليه السّلام فيها «لا بأس» بعد السؤال «عن الشرب في القدح فيه ضبّة من فضة» من دون استفصال في الشرب بين‌

 

فقه الشيعة - كتاب الطهارة؛ ج‌6، ص: 241

______________________________
(1) ص 240.

(2) كما في الحدائق ج 5 ص 513.

(3) ج 6 ص 341.

(4) نفس المصدر.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 242‌

..........

______________________________
موضوع الفضة، و غيره فيحمل الأمر بالعزل في الحسنة على الاستحباب.

و فيه: ان نسبة صحيحة معاوية بالإضافة الى حسنة ابن سنان تكون نسبة الإطلاق و التقييد من هذه الجهة لاختصاص المنع في الحسنة بموضع الفضّة فيقيد بها إطلاق الصحيحة، و معه لا موجب لحمل الأمر بالاجتناب عن خصوص موضع الفضّة على الاستحباب بعد إمكان التقييد، كما في سائر الموارد.

تتمة في الإناء المذهّب خلت النصوص عن ذكر المذهّب لاختصاصها بالمفضّض سؤالا و جوابا و من هنا وقع الكلام في إلحاقه به في الكراهة، و وجوب عزل الفم عن موضع الذهب، و عدمه قال في الجواهر «1» «و يلحق بالإناء المفضّض الإناء المذهّب في جميع ما تقدم، و إن خلت عنه النصوص، و أكثر الفتاوى، كما اعترف به في المنتهى. الى ان قال: و يمكن ان يدعى أولويته من المفضّض أو مساواته، بل هو كذلك».

و قال صاحب الحدائق «2» «و هل يكون الإناء المذهّب أيضا كذلك؟

الظاهر نعم ان لم يكن أولى بالمنع لاشتراكهما في أصل الحكم».

أقول يستدل للإلحاق بوجهين لا نعتمد على شي‌ء منهما:

(الأول) «3»: أولوية المذهّب عن المفضّض في الكراهة و المنع، لأنه أعلى درجة منه، مع اشتراكهما في أصل حرمة الإناء منهما.

______________________________
(1) ج 6 ص 342 و نحوه في مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 651 أواخر الصفحة- الطبع الحجري- الا انه مال الى الجواز.

(2) ج 5 ص 513.

(3) كما أشار في الجواهر ج 6 ص 342 و كذا في مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 651- أواخر الصفحة، و إن أورد عليه بعدم قبول الأولوية.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 243‌

..........

______________________________
و فيه: ان الجزم بذلك غير صحيح، إذ لم يعلم ان ملاك المنع لدى الشارع مجرد علو درجة النقدين في أعين الناس، و غلاء ثمنهما، و لذا لا نلتزم بحرمة الأواني المرصّعة بالجواهرات الثمينة التي هي أعلى درجة منهما، فلعلّ المفسدة الموجبة للمنع من الفضة أقوى من الذهب، فقياس المذهّب على المفضّض لاشتراك آنية الذهب و الفضة في الحرمة قياس مستنبط العلة، لا نقول به في الشرعيات، و الأولوية الظنّية لا يعول عليها، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا، فالاقتصار على مورد النص هو مقتضى القواعد الشرعيّة في الأحكام التعبدية، و ليس المقام من موارد التسامح في أدلة السنن، لوضوح دليل القائل بالمساواة، لا سيما مع الحكم بوجوب عزل الفم عن موضع الذهب، فإنه حكم إلزامي لا يشمله أدلة التسامح، و ان كان الاحتياط حسنا.

(الوجه الثاني) «1»: رواية فضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السرير فيه الذهب، أ يصلح إمساكه في البيت؟ فقال: إن كان ذهبا فلا، و ان كان ماء الذهب فلا بأس». «2»

فإن المراد من «السرير فيه الذهب» هو المذهّب، اى المرصّع به، اى بقطعات ذهبيّة للزينة- كما هو محل الكلام- و تقريب الاستدلال بها هو أن المستفاد منها مفروغيّة المنع عن إمساك الأواني المذهّبة و نحوها و انه يكون مخالفا للصلاح، فتكون ممنوعة و من هنا سئل عن السرير المذهّب، أو يقال:

______________________________
(1) أشار إليه في الجواهر ج 6 ص 342 بعنوان «خبر السرير» و كذا الفقيه الهمداني قدّس سرّه في مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 652 قال قدّس سرّه «نعم لا يبعد دعوى استفادة كراهة مطلق الآلات المذهّبة من الإناء و غيره من رواية فضيل بن يسار.» فراجع.

(2) الوسائل ج 3 ص 510 في الباب 67 من أبواب النجاسات، ح 1 ط م قم.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 244‌

..........

______________________________
ان المستفاد منها كراهة مطلق الآلات المذهّبة من الإناء و غيره.

و فيه: أولا أنها ضعيفة السند ب‍ «محمد بن سنان، و ربعي» في طريقها. «1»

و ثانيا: منع دلالتها على ما نحن فيه، لأن السؤال و الجواب فيها، عن السرير المذهّب، فلا دلالة لها، بل لا إشعار فيها بالنسبة إلى حكم غير مورد السؤال، كالأواني نفيا أو إثباتا، و دعوى استفادة عموم المنع بالنسبة إلى مطلق الآلات المذهّبة غير مسموعة، هذا مضافا الى بداهة عدم حرمة مجرد إمساك سرير الذهب للإجماع على عدم حرمة إمساك غير الأواني الذهبيّة، و ليس من كنز الذهب الممنوع في قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ.» «2» لو أخرج المكلف زكاة ماله إذا كان مما يتعلق به الزكاة، فالمنع فيها لا يدل على الحرمة جزما، نعم لا يبعد دعوى استشعار المنع عن إمساك مطلق الأشياء المذهّبة سواء الأواني أو غيرها، و لكن ليس دليلا على ذلك.

فتحصل: أنه لا دليل على حرمة الشرب أو الأكل من الأواني المذهّبة، سواء من موضع الذهب أو غيره، و إنما الدليل يختص بالمفضّض على تفصيل تقدم، أي الحرمة في موضع الفضة و الكراهة في غيره.

و مما ذكرنا يظهر ضعف القول بحرمة المذهّب مطلقا و لو في غير الأواني كما عن الموجز «3» لما عرفت من عدم قيام دليل يعتمد عليه على الكراهة، فضلا عن الحرمة، و كذا القول بإلحاق الإناء المذهّب بالمفضّض في الكراهة، و وجوب عزل الفم عن موضع الذهب كما عن الحدائق «4» و الجواهر. «5»

______________________________
(1) معجم رجال الحديث.

(2) التوبة 9: 34.

(3) كما في مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 652 س 12.

(4) الحدائق ج 5 ص 513.

(5) الجواهر ج 6 ص 342.

فقه الشيعة - كتاب الطهارة، ج‌6، ص: 245‌

بل الأحوط ذلك في المطلي أيضا (1) «1»

______________________________
الإناء المطلي بماء الذهب أو الفضة لا دليل على حرمة استعمال الإناء المطلي بأحدهما، أو الأكل و الشرب فيه، لاختصاص المنع بآنية الذهب أو الفضّة، و أما إناء النحاس و الملطّخ بماء الذهب، أو الفضة، فلا يشمله دليل المنع فهو باق على أصالة الحل، لعدم الصدق و دليل المنع عن المفضّض لا يشمل المطلي، لانصراف «المفضّض» إلى المرصّع بالفضة، أي ما كانت الفضة فيه جرما مستقلا قد ألصقت قطعات منها بالإناء للزّينة، فلا يشمل ما كان لونا و عرضا، كما في المطلي، كلا أو بعضا.

(1) احتياط المصنف قدّس سرّه في المنع عن موضع المطلي بماء الفضة إذا كان بعض الإناء مطليا دون بعضه، و وجه الاحتياط هو احتمال شمول لفظ «المفضّض» الوارد في النص للمطلّى أيضا، كما يشمل المرصّع بالفضة «2» و حكى «3» ذلك عن كاشف الغطاء قدّس سرّه حيث قال «ان منه اى من المفضّض المموّه».

و فيه: أن الظاهر اختصاص أو انصراف لفظ «المفضّض» بالمرصّع بالفضّة، أي ما زيّن بقطع منها، فلا يشمل المطلي، و من هنا علقنا على المتن بأن الأظهر عدم البأس.

______________________________
(1) و في تعليقته (دام ظله) على قول المصنف قدّس سرّه «بل الأحوط ذلك في المطلي»: و ان كان الأظهر انه لا بأس به.

(2) في أقرب الموارد «المفضّض المموه بالفضة، أو المرصّع بها».

(3) بنقل الجواهر ج 6 ص 340 و قد تنظر صاحب الجواهر قدّس سرّه في عموم اللفظ للمطلّى، فراجع.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net