الجهة الثالثة : أن الاضطرار والتقيّة هل يقتضيان ارتفاع الآثار المترتبة على الفعل الاضطراري لولا الاضطرار والتقيّة ـ إذا كان لدليل ثبوتها إطلاق أو عموم ـ أو أن الآثار المترتبة على الفعل لا ترتفع من جهة الاضطرار إليه وإتيانه تقيّة ؟ استشكل
ــ[232]ــ
شيخنا الأنصاري (قدس سره) في ارتفاع الآثار من جهة التقيّة والاضطرار ، نظراً إلى أن المرفوع في حديث الرفع ليس هو جميع الآثار المترتبة على الفعل المأتي به بداعي التقيّة أو الاضطرار ، وإنما المتيقن رفع خصوص المؤاخذة على الفعل ، وأما ارتفاع جميع آثاره بالاضطرار فلم يقم عليه دليل ثم أمر بالتأمل (1) .
ولا بدّ لنا في المقام من التكلم على جهات ثلاث :
الجهة الاُولى : أن التقيّة والاضطرار هل يوجبان ارتفاع الأحكام التكليفية المتعلقة بالفعل المأتي به تقيّة أو اضطراراً أو لا يوجبان ؟ كما إذا اضطر إلى ارتكاب فعل حرام كشرب الخمر ونحوه ، أو إلى ترك واجب من الواجبات كترك صوم يوم من شهر رمضان .
الجهة الثانية : أن التقيّة والاضطرار هل يرفعان الأحكام المترتبة على الفعل المأتي به تقيّة ، أعني الأحكام التي نسبتها إلى الفعل المأتي به نسبة الحكم إلى موضوعه المترتب عليه لا نسبة الحكم إلى متعلقه كما في الجهة الاُولى ، بلا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والوضعية ؟ وذلك كوجوب الكفارة المترتبة على ترك الصوم في نهار شهر رمضان ، أو على إتيان بعض المحرمات على المحرم في الحج ، وكالضمان المترتب على إتلاف مال الغير من جهة الاضطرار كالمخمصة ونحوها أو من جهة التقيّة ، كما إذا قسم الحاكم السنِّي مال شيعي وأعطى له حصته فقبلها وأتلفها تقيّة .
الجهة الثالثة : أن الجزئية أو الشرطية ـ إذا اضطر إلى ترك جزء أو شرط أو تركهما تقيّة ـ أو المانعية إذا اضطر إلى إتيان ما هو مانع من العمل أو أتى به تقيّة ، هل ترتفع للتقية والاضطرار حتى يحكم بصحة ما أتى به لمطابقته المأمور به ويسقط عنه وجوب الاعادة والقضاء ، أو لا ترتفع ؟
أمّا الجهة الاُولى : فلا ينبغي الاشكال في أن الاضطرار إلى فعل المحرم أو ترك الواجب يرفع الالزام عن ذلك الفعل ، لحديث الرفع وغيره مما دلّ على حلية الفعل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسالة في التقيّة : 320 السطر 26 .
ــ[233]ــ
عند الاضطرار ، وليس المرتفع في حديث الرفع خصوص المؤاخذة أو استحقاق العقاب ، لأنهما أمران خارجان عما تناله يد الجعل والتشريع رفعاً ووضعاً ، ولا مناص من أن يكون المرفوع أمراً تناله يد التشريع وهو منشأ لارتفاع المؤاخذة واستحقاق العقاب وليس هذا إلاّ الالزام ومع ارتفاعه يبقى الفعل على إباحته .
كما أن الأمر كذلك عند الاتيان بالمحرم أو ترك الواجب تقيّة ، حيث إن التقيّة واجبة كما عرفت ومع وجوبها لا يعقل أن يكون الفعل باقياً على حرمته أو وجوبه ، بل ترتفع حرمته إذا أتى به تقيّة كما يرتفع وجوبه إذا تركه كذلك ، بل هذا هو المقدار المتيقن من حديث الرفع وغيره من أدلّة التقيّة ، وهذا ظاهر .
وأمّا الجهة الثانية : فالذي تقتضيه القاعدة في نفسها ، أن العمل الاضطراري أو الذي أتى به تقيّة كلا عمل ، لأنه معنى رفعه فكأنه لم يأت به أصلاً ، كما أنه لازم كون العمل عند التقيّة من الدين ، فاذا كان الحال كذلك فترتفع عنه جميع آثاره المترتبة عليه لارتفاع موضوعها تعبداً ، فلا تجب عليه الكفارة إذا أفطر في نهار شهر رمضان متعمداً ، لأن إفطاره كلا إفطار ، أو لأن إفطاره من الدين ولا معنى لوجوب الكفّارة فيما يقتضيه الدين والتشريع .
هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة ، فلو كنّا نحن وهذه القاعدة لحكمنا بارتفاع جميع الآثار المترتبة على الفعل عند التقيّة والاضطرار ، سواء أ كانت الآثار حكماً تكليفياً أم كانت حكماً وضعياً .
ويؤيد ذلك صحيحة أحمد بن أبي عبدالله عن أبيه عن صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعاً عن أبي الحسن (عليه السلام) «في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك ؟ فقال : لا ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضع عن اُمتي ما اُكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا» (1) لأن الحلف بالاُمور المذكورة وإن لم يكن صحيحاً حال الاختيار أيضاً ، إلاّ أن قوله (عليه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 23 : 226 / أبواب كتاب الايمان ب 12 ح 12 .
ــ[234]ــ
السلام) في ذيل الصحيحة قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واستشهاده بحديث الرفع أقوى شاهد على أن الرفع غير مختص بالمؤاخذة بل يشمل الآثار كلّها .
وما ورد من قوله (عليه السلام) «اي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إليَّ من أن يضرب عنقي» (1) .
وقوله «فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله» (2) حيث إن عدم ذكره (عليه السلام) إعطاء الكفارة بعد الافطار يدل على أن وجوب الكفارة يرتفع بالافطار تقيّة ، وإلاّ لكان المتعيّن التعرض له ، لأنه أشد وأعظم من وجوب القضاء .
وما رواه الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث شرائع الدين قال : «ولا يحل قتل أحد من الكفّار والنصّاب في التقيّة إلاّ قاتل أو ساع في فساد ذلك إذا لم تخف على نفسك ولا على أصحابك ، واستعمال التقيّة في دار التقيّة واجب ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقيّة يدفع بذلك ظلماً عن نفسه» (3) .
وعلى الجملة : إن مقتضى القاعدة المؤيدة بعدّة من الروايات أن الاضطرار والتقيّة يوجبان ارتفاع جميع الآثار المترتبة على الفعل المأتي به بداعيهما ، بلا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، نعم يستثنى عن ذلك موردان :
أحدهما : ما إذا كان نفي الآثار عن العمل المأتي به عن تقيّة أو اضطرار خلاف الامتنان على نفس الفاعل ، كما إذا اضطر ـ لا سمح الله ـ إلى بيع داره أو ثيابه لصرف ثمنهما في معالجة أو معاش ، فان الحكم وقتئذ ببطلان بيعه على خلاف الامتنان في حقه ، بل مستلزم لتضرره ومشقته ، بل ربما يؤدي إلى موته مرضاً أو جوعاً في بعض الموارد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 10 : 131 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 57 ح 4 .
(2) الوسائل 10 : 132 / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 57 ح 5 .
(3) الوسائل 16 : 210 / أبواب الأمر والنهي ب 24 ح 22 .
ــ[235]ــ
وثانيهما : ما إذا كان نفي الآثار عن العمل المأتي به بداعي الاضطرار أو التقيّة على خلاف الامتنان في حق غيره ، كما إذا أتلف مال غيره لاضطرار كما في المخمصة أو للتقية كما مثلناه سابقاً ، فان الحكم بعدم ضمانه لمال الغير تستلزم تضرر مالك المال المتلف وهو على خلاف الامتنان في حقه ، والحديث لا يجري في الموارد الفاقدة للامتنان .
وأمّا الجهة الثالثة : أعني ما إذا ترك جزءاً أو شرطاً تقيّة أو للاضطرار ، كما إذا صلّى بلا سورة أو من دون البسملة لعدم كونهما جزءاً من المأمور به عند المخالفين مثلاً ، أو صلّى مع المانع تقيّة ، كما إذا صلّى في شيء من الميتة لطهارتها عندهم بالدبغ ، فهل يقتضي التقيّة أو الاضطرار سقوط الجزئية أو الشرطية أو المانعية حينئذ أو لا يقتضي ؟ وكلامنا في المقام إنما هو فيما لو كنّا نحن والأخبار الواردة في التقيّة عموماً كحديث الرفع ، أو خصوصاً كما ورد في التقيّة بخصوصها ، مع قطع النظر عمّا دلّ على صحّة الصلاة الفاقدة لشيء من أجزائها أو شرائطها عند الاضطرار ، فهل تقتضي أدلّة التقيّة صحّة العمل وقتئذ بحيث لا تجب إعادته أو قضاؤه أو لا تقتضي ؟
|