ما استدل به من الأخبار على أن الأصل في كل واجب أن يكون عباديا 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الخامس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5952


   وأما ما استدلّ به من الأخبار على أن الأصل في كل واجب أن يكون عبادياً يعتبر في سقوط أمره قصد التقرب والامتثال ، فهو جملة من الروايات الواردة بمضمون أن الأعمال بالنيّات (2) ولا عمل إلاّ بنيّة (3) ولكل امرئ ما نوى(4) بدعوى أن النفي في هذه الأخبار إنما ورد على نفي وصف الصحة دون الذات ، لوضوح تحقق الذات مع عدم قصد القربة والامتثال ، فتدلنا على أن العمل الفاقد لنية القربة فاسد لا يترتب عليه أي أثر ، هذا .

   والمحتملات فيما اُريد بالنيّة في هذه الروايات اُمور :

   الأوّل : أن المراد بها نيّة القربة وقصد الامتثال ، وهذا الاحتمال هو الذي يبتني عليه الاستدلال في المقام .

   ويردّه : مضافاً إلى أن النيّة ليست بحسب العرف واللغة بمعنى قصد القربة والامتثال أن لازم حمل النيّة على ذلك لزوم تخصيص الأكثر وهو أمر مستهجن ، فان العبادات في جنب التوصليات قليلة في النهاية ، والصحة في التوصليات لا تنتفي بعدم قصد القربة والامتثال . على أنه ينافيه بعض الروايات كما يأتي قريباً إن شاء الله .

   الثاني : أن يراد بها قصد عناوين الأفعال ، وأن الفعل إذا اُتي به من دون أن يقصد عنوانه وقع فاسداً ولا يترتب عليه أيّ أثر في الخارج ، مثلاً إذا غسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ولكنه لا بقصد عنوان الوضوء لم يترتّب عليه أيّ أثر لدى

ـــــــــــــ
(2) ، (3) ، (4) الوسائل 1 : 46 / أبواب مقدّمة العبادات  ب 5 .

ــ[411]ــ

الشرع .

   وعلى هذا الاحتمال تكون الأخبار المذكورة أجنبية عن المدعى ، وإنما تدلنا على أن الفعل الاختياري يعتبر في صحته أن يكون صادراً بالارادة وقصد عنوانه ، ولا يستفاد منها اعتبار نيّة القربة والامتثال في كل واجب .

   ولكن الأخبار المذكورة لا دلالة لها على هذا المعنى أيضاً ، وذلك لأن بيان اعتبار الاختيارية وقصد عنوان الفعل بالاضافة إلى الأفعال المتقومة بالقصد كالتعظيم والاهانة ، والعبادات الشرعية حيث يعتبر فيها زائداً على قصد القربة قصد عناوين الأفعال وصدورها عن الارادة والاختيار ، وكذا الحال في العقود والايقاعات ، من قبيل توضيح الواضحات غير المناسب للإمام (عليه السلام) لوضوح أن تلك الأفعال لا يتحقق إلاّ بقصد عناوينها .

   وأما بالاضافة إلى التوصليات وغيرها من الأفعال التي لا تقوم بقصدها وإرادة عناوينها فهو يستلزم محذور تخصيص الأكثر ، لأنها بأجمعها إلاّ نادراً تتحقق من غير قصد عناوينها ، كما إذا  أوجدها غيره أو  أوجدها غفلة من دون قصد عناوينها كغسل الثوب للصلاة وغيره من التوصليات .

   هذا ، على أن هذا الاحتمال كالاحتمال السابق عليه ينافي بعض الأخبار الواردة في المقام ، وقد ورد في روايتين عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : «لا قول إلاّ بعمل ولا قول ولا عمل إلاّ بنيّة ولا قول وعمل ونيّة إلاّ باصابة السنة» (1) حيث يستفاد منهما أن المراد بالنيّة ليس هو قصد القربة ولا قصد عناوين الأفعال وإلاّ فلا  معنى لاصابتهما السنة .

   فالصحيح أن يقال : إن المراد بالنية أمر ثالث وهو الداعي والمحرك نحو العمل ، وأن كل ما صدر عن المكلفين من الأفعال أمر مستحسن فيما إذا كان الداعي إليه حسناً ، كما أنه أمر مستقبح فيما إذا كان الداعي إليه قبيحاً ، وهذا كضرب اليتيم لأنه إذا كان بداعي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 47 / أبواب مقدّمة العبادات  ب 5 ح 2 ، 4 .

ــ[412]ــ

التأديب يتصف بالحسن ويثاب عليه وإذا كان بداع التشفي أو الايذاء اتصف بالقبح وعوقب عليه ، وكالنوم لأنه إذا كان بداع الاستراحة ثم الاشتغال بالعبادة فلا محالة اتصف بالحسن ، كما إذا كان بداع الاستراحة ليجدد قواه حتى يقتل مؤمناً بعد ذلك مثلاً اتصف بالقبح .

   وهكذا الصلاة ، فان الداعي إليها إذا كان هو التقرب وقصد الامتثال اتصفت بالحسن ويُثاب عليها ، كما إذا كان الداعي إليها هو الرياء ونحوه اتصفت بالقبح وعوقب عليها ، وهكذا بقية الأعمال والأفعال لأنها كالجسد والنيّة بمثابة الروح ، فكما أن الأنبياء (عليهم السلام) متحدون بحسب الصورة مع الأشقياء ، لأن كُلاً منهما بصورة الانسان لا محالة ، وإنما يختلفان ويفترقان بحسب الروح والحقيقة ، فان روح النبيّ روح طيِّبة ولأجل اتحادها مع البدن نحو اتحاد اتصف بدنه أيضاً بوصف روحه وروح الشقي روح خبيثة فبدنه أيضاً خبيث .

   كذلك الأفعال الصادرة من العباد ، لأنها كالأجساد يشبه بعضها بعضاً ، وإنما يفترقان من ناحية أرواحها وهي النيّات والدواعي ، فالفعل إذا صدر بداع حسن فيتصف بالحسن وإن كان صادراً بداع قبيح فهو قبيح .

   وبهذا يصح أن يقال لا عمل إلاّ بنية وأن الميزان في الحسن والقبح والثواب والعقاب إنما هو الدواعي والنيات ، فان كان الداعي حسناً فالعمل أيضاً حسن وإن كان قبيحاً فالعمل أيضاً قبيح .

   وبما ذكرناه قد صرح في ذيل بعض الروايات حيث قال : «فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عزّ وجلّ . ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى» (1) فان الغزو من كل من الشخصين فعل واحد لا اختلاف فيه بحسب الصورة والجسد ، لأن كُلاً منهما مقاتل وجعل نفسه معرضاً للقتل ، غير أنهما يختلفان بحسب الروح الداعية إليه والمحركة نحوه ، فان كان الداعي له إلى ذلك هو الله عزّ وجلّ فقد وقع عليه أجره ، ومن كان داعيه عرض الدنيا لم يكن له إلاّ ما نوى .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 48 / أبواب مقدمة العبادات ب 5 ح 10 .

ــ[413]ــ

   ويؤيِّد ما ذكرناه أنه عبّر في الرواية بالجمع حيث إنه قال : «الأعمال بالنيّات» ولم يقل الأعمال بالنية ، وذلك للدلالة على أن الدواعي مختلفة فربما يكون الداعي حسناً وربما يكون قبيحاً وثالثة لا يكون حسناً ولا قبيحاً ، كما إذا شرب الماء بداعي رفع العطش ولم يشربه بداع آخر ، فيصح أن يقال الأعمال بالنيّات لاختلاف الأفعال بحسب اختلاف الدواعي .

   فالمتحصل من ذلك : أنه لا دليل على أن الأصل في كل واجب أن يكون قربيّاً عبادياً ، بل لا بدّ من مراجعة أدلته ، فان دلت على اعتبار قصد القربة والامتثال فيه فيكون عبادياً وإلاّ كان توصلياً يسقط أمره بمجرد الاتيان به ، وقد عرفت أن مقتضى الارتكاز المتشرعي أن الوضوء واجب عبادي فيعتبر في صحته أن يؤتى به بداعي القربة والامتثال .

   ثم إن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) عند استدلاله على أن العبادة لا يعتبر فيها خصوص قصد الامتثال بل يكفي في العبادية أن يؤتى بالعمل ويضاف إلى الله سبحانه نحو اضافة تمسك بقوله (عليه السلام) في الوضوء «يأتي به بنية صالحة يقصد بها ربّه» (2) وهذه الرواية لم نعثر عليها في أبواب الوضوء ولا في غيرها من سائر الأبواب فليلاحظ .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فوائد الاُصول 1 ـ 2 : 151 .

(2) الرواية بتلك الألفاظ التي نقلناها عنه (قدس سره) غير موجودة في كتب الحديث ، نعم روى مضمونها في الوسائل في حديث : «إن العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه الله عزّ وجلّ فيدخله الله بهما الجنة» المروية في الوسائل 1 : 61 / أبواب مقدمة العبادات ب 8 ح 8 . أيضاً روى عن يونس بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب ، فقال : إذا كان أول صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان» رواها في الوسائل 1 : 107 / أبواب مقدمة العبادات ب 24 ح 3 فلاحظ فكلمة صالحة غير موجودة في الرواية ولفظة «قصد» مبدلة بلفظة يريد ، كما أنها واردة في الصلاة دون الوضوء وهو (قدس سره) أيضاً لم يدع ورودها في الوضوء ، فاستدلاله (قدس سره) تام في نفسه إلاّ أن استشهاده بتلك الرواية غير صحيح ، لأنه مبني على الاشتباه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net