هل غسل الجنابة مستحب أو واجب - أدلّة القائلين بالوجوب النّفسي لغسل الجنابة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء السادس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 14284


 فصل

[  في كيفية الغسل وأحكامه  ]

    غسل الجنابة مستحب نفسي وواجب غيري للغايات الواجبة ومستحب غيري للغايات المستحبة . والقول بوجوبه النفسي ضعيف (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وأمّا إذا لم يعلم الحالة السابقة فلا يجري فيها شيء من استصحابي الطّهارة والحدث في نفسهما أو يجريان ويتساقطان بالمعارضة ومعه لا بدّ من الرجوع إلى ما هو الأصل في المسألة ، وهو في مقامنا هذا البراءة عن حرمة دخول المسجد أو غيره ممّا يحرم على الجنب .

 فصل غسل الجنابة ليس بواجب نفسي

   (1) لا إشكال ولا كلام في محبوبية غسل الجنابة شرعاً لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ ا لْمْتَطَهِّرِينَ ) (1) فان الغسل من الجنابة طهارة والمغتسل منها متطهر وإنما الخلاف في أن محبوبيته نفسيّة أو غيريّة ؟ المعروف المشهور بينهم أنه واجب غيري ، وخالف في ذلك من القدماء ابن حمزة (2) ومن المتوسطين العلاّمة (3) ومن المتأخِّرين الأردبيلي(4) وصاحبا المدارك(5) والذخيرة (6). ولا تكاد تظهر ثمرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 222 .

(2) الوسيلة : 54 .

(3) المختلف 1 : 159 / 107 .

(4) مجمع الفائدة والبرهان 1 : 136 .

(5) المدارك 1 : 265 .

(6) الذخيرة : 55 / السطر 30 .

ــ[349]ــ

عمليّة لهذا النزاع بعد العلم باشتراط الصلاة والصوم بالطّهارة وعدم الجنابة ـ  أعني توقفهما على غسل الجنابة  ـ  إلاّ في موارد نادرة كمن أجنب قبل الوقت وعلم بأنه يقتل بعد ساعة وقبل دخول الوقت ، فانه بناءٌ على أنه واجب نفسي يجب الإتيان به بخلاف ما إذا كان واجباً شرطياً ، وهذا من الندرة بمكان . نعم تظهر الثمرة ـ  غير العمليّة  ـ في استحقاق العقاب ، لأنه إذا تركه وترك الصلاة مثلاً فعلى القول بوجوبه النفسي يعاقب بعقابين بخلاف ما إذا قلنا بوجوبه الغيري فانه لا يعاقب حينئذ إلاّ عقاباً واحداً لتركه الصلاة فحسب ، فالمسألة عادمة الثمرة عملا .

   وكيف كان، استدلّ للقول بوجوبه النفسي بوجوه : منها : قوله سبحانه: (وَإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(1) بدعوى أن ظاهر الأمر بالاغتسال وإطلاقه أنه واجب نفسي . ويدفعه أن صدر الآية المباركة وذيلها أقوى قرينة على أن المراد به هو الوجوب الغيري ، أعني كونه إرشاداً إلى شرطية الطّهارة من الحدث في الصلاة . أما صدرها فلقوله تعالى : (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) لأنه قرينة ظاهرة على أن الأمر بكل من الغسل والوضوء غيري وإرشاد إلى الشرطية . وأمّا ذيلها فلقوله تعالى : (أو جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِّنَ ا لْغَائِطِ أَوْ لَـمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّباً ) حيث اُقيم التيمم بدلاً عن الغسل ، فلو كان الغسل واجباً نفسياً فلا بدّ من الالتزام بأن التيمم أيضاً واجب نفسي وهو ممّا لا يلتزمون به فالآية لا دلالة لها على المدّعى .

   وأمّا الأخبار ، فاظهر ما استدلّ به على هذا المدعى من الأخبار ما ورد في أن الدين الذي لا يقبل الله تعالى من العباد غيره ولا يعذرهم على جهله شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والصلوات الخمس وصوم شهر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

ــ[350]ــ

رمضان والغسل من الجنابة (1) .

   وربّما يقال : إنّ دلالتها على المدّعى ظاهرة ، حيث عدّ غسل الجنابة من دعائم الدِّين ، ويبعد جدّاً أن يراد به الوجوب الغيري لمكان أنه مقدّمة للصلاة ، إذ للصلاة شرائط ومقدّمات اُخر لا وجه لتخصيصه بالذكر حينئذ من بينها . وهذه الرواية وإن كانت معتبرة بحسب السند لوجود الحسين بن سيف في أسانيد كامل الزيارات ، ولكنه يمكن المناقشة في دلالتها بأنا لا نحتمل أن يكون غسل الجنابة من الأركان دون الجهاد والزكاة وأمثالهما مع أنها عدته من الأركان وتركت أمثال الجهاد والأمر بالمعروف وغيرهما مما هو أعظم من غسل الجنابة بمرات كثيرة ، وليس هو بتلك المثابة من الأهميّة قطعا .

   وأمّا الاستدلال بغيرها من الأخبار فيدفعه أنها ممّا لا دلالة له على المدّعى كالاستدلال بما ورد من قولهم : «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»(2) وقولهم : «أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من ماء»(3) وذلك لأنها إنما هي بصدد بيان ما هو الحد لموضوع تلك الأحكام وأنّ حدّه هو الالتقاء ، وليست في مقام بيان أنها واجبة نفسيّة أو غيريّة ، بل تحد الموضوع لتلك الأحكام الأعم من النفسيّة والغيريّة وتدلّ على أن حدّ وجوب الغسل على ما هو عليه من النفسيّة أو الغيريّة هو الالتقاء ، ولا دلالة لها على وجوبها النفسي أبدا .

   وعلى الجملة : إنّها إنما سيقت لبيان أن الموضوع لتلك الأحكام أي شيء من غير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 28 / أبواب مقدّمة العبادات ب 1 ح 38 . رواها البرقي في المحاسن [ 1 : 449  / 1037 ] . هكذا : أنه سئل عن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره ، ولا يعذرهم على جهله ، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والصلاة الخمس وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة وحج البيت والإقرار بما جاء من عند الله جملة والائتمام بأئمة الحق من آل محمّد ، الحديث .

(2) الوسائل 2 : 183 / أبواب الجنابة ب 6 ح 2 ، 5 .

(3) الوسائل 2 : 184 / أبواب الجنابة ب 6 ح 5 .

ــ[351]ــ

أن يكون لها نظر إلى أن الوجوب المرتب عليه نفسي أو غيري ، بل لا نظر لها إلى الحكم أصلاً ، وإنما تدلّ على أن ما هو الموضوع لتلك الأحكام المستفادة من أدلّتها ـ  لا من تلك الروايات  ـ أي شيء .

   على أنا لو سلمنا ظهورها في أن غسل الجنابة واجب نفسي فحالها حال بقيّة الأوامر الواردة في غسل الثياب عن الأبوال أو غيرها من النجاسات ، حيث ورد «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1) والأوامر الواردة في غسل الحيض والاستحاضة والنفاس وأنها إذا طهرت فلتغتسل ، والأوامر الواردة في الوضوء والتيمم فانها في حدّ أنفسها ظاهرة في الوجوب النفسي ، ولكن العلم القطعي الخارجي بل الضرورة القائمة على أن الصلاة مشروطة بالطّهارة من الحدث والخبث يوجب انصرافها إلى الأوامر الغيرية الإرشادية إلى شرطية الطّهارة للصلاة ، فالحال في تلك الروايات أيضاً كذلك فتكون منصرفة إلى الوجوب الغيري الإرشادي دون الوجوب النفسي .

   وعمدة ما اعتمدوا عليه في هذا المدعى أن غسل الجنابة لو لم يكن واجباً نفسياً للزم جواز تفويت الواجب بالاختيار ، وذلك لأن المكلّف إذا أجنب في ليالي شهر رمضان فإما أن نقول إن غسل الجنابة قبل طلوع الفجر واجب نفسي في حقّه ، وإما أن نقول واجب غيري ، وإمّا أن نقول بعدم وجوبه أصلاً . والأوّل هو المدّعى ، وأما على الآخرين فيلزم المحذور ، وذلك لأنّ الواجب الغيري يستحيل أن يتصف بالوجوب قبل وجوب ذي المقدّمة ، فان المعلول لا يتقدّم على علّته ، فلو كان الغسل مقدّمة فهو غير واجب قبل الفجر ، فإذا جاز ترك الغسل قبل الفجر لم يجب عليه الصوم غداً لاشتراطه بالطّهارة عند الصبح وقد فرضنا جواز تركها فجاز له تفويت الواجب بالاختيار ، ومعه لا مناص من الالتزام بوجوبه النفسي لئلا يرد هذا المحذور .

   والجواب عن ذلك :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 405 /  أبواب النجاسات ب 8  ح 2 ، 3 .

ــ[352]ــ

   أوّلاً : أن ذلك غير مختص بغسل الجنابة ، بل الأمر كذلك في كل مقدّمة لا يمكن الإتيان بها بعد دخول وقت الواجب كغسل الحيض والنفاس والاستحاضة فيما إذا طهرت قبل طلوع الفجر ، فلازم ذلك الالتزام بالوجوب النفسي في الجميع .

   وثانياً : أن الحصر غير حاصر ، فان لنا أن نلتزم بوجوب الغسل للغير لا بوجوبه النفسي ولا الغيري ، وهذا لا بملاك مستقل غير ملاك الواجب ليرد محذور تعدّد العقاب عند ترك الواجب لترك مقدّمته ، بل بملاك نفس ذي المقدّمة لا بوجوبه النفسي ولا الغيري . وقد بيّنا في محلِّه أن الواجب للغير غير الواجب الغيري(1) فنلتزم بأن غسل الجنابة وغيره من المقدّمات غير المقدورة في ظرف الواجب واجب للغير ، فلا يتعيّن القول بالوجوب النفسي حينئذ للفرار عن المحذور .

   وثالثاً : يمكننا القول بوجوبه الغيري ، لأن الصوم إنما وجب من أوّل اللّيل بل من أوّل الشهر ، لقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(2) بناء على أنّ المراد بالشهادة هو الرؤية ، فالوجوب قبل طلوع الفجر فعلي والواجب استقبالي وظرفه متأخر كما التزمنا بذلك في جميع الواجبات المعلّقة ، ومع فعلية الوجوب تجب المقدّمة ولا يشترط في وجوبها فعليّة ظرف الواجب أيضا .

   ورابعاً : يمكننا إنكار وجوب الغسل حينئذ راساً ولا نلتزم بوجوبه ولو مقدّمة لأنا لا نلتزم بوجوب مقدّمة الواجب عند فعلية وجوب ذي المقدّمة شرعاً فضلاً عما إذا لم يجب ، وإنما تجب المقدّمة عقلاً تحصيلاً للغرض الملزم ، فان ترك المقدّمة تفويت اختياري للواجب ، بلا فرق في ذلك قبل الوقت وبعده ، لأنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان ، وحيث إن الإتيان بالواجب موقوف على إتيان مقدّمته ولو قبل الوقت فالعقل مستقل بلزوم إتيانه كذلك ، لأن تركه ترك للغرض الملزم بالاختيار .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 355 .

(2) البقرة 2 : 185 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net