حكم تعذر السدر أو الكافور - حكم تعذر الماء وانتقال الفرض إلى التيمم 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء التاسع:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9654


ــ[27]ــ

يجب فيها الغسل والوضوء إلاّ أ نّه لا يحتمل أن يكون المأمور به هو المجموع ، ويكون كل من الغسل والوضوء جزءاًمن الواجب بحيث لو تعذّر الغسل سقط الوضوء أيضاً عن الوجوب وبالعكس ، أو لو شكّ في وضوئه بعد ما دخل في الغسل أو بالعكس لا يمكنه إجراء قاعدة الفراغ في السابق المشكوك نظراً إلى أ نّه عمل واحد ولا تجري قاعدة الفراغ فيه ، لعدم الفراغ من العمل ، كما وجّه شيخنا الأنصاري (قدس سره) بذلك ـ أي بكون الوضوء مثلاً عملاً واحداً ـ قول المشهور في عدم جريان القاعدة في الطهارات الثلاثة (1) .

   فان كلّ ذلك غير محتمل ، بل الغسل والوضوء واجبان مستقلاّن لا ربط لأحدهما بالآخر وإن كانت النتيجة واحدة وهي تحقق الطهارة ، وكيف كان فالأغسال واجبات متعددة ، وبهذا يمتاز غسل الميِّت عن باقي الأغسال ، حيث إنّ الواجب فيها شيء واحد ، وفي غسل الميِّت الواجب متعدد .

   وقد ورد في بعض الروايات «يغسل الميِّت ثلاث غسلات» كما في رواية الحلبي (2) وإن كانت الرواية ضعيفة ، وورد في صحيحة سليمان بن خالد أ نّه يغسل الميِّت مرّة بماء وسدر ... واُخرى بماء وكافور(3) ، وهذا يدلّنا على أنّ الأغسال واجبات متعددة فلا وجه لسقوط الجميع عن الوجوب عند تعذّر واحد منها أو اثنين ، هذا  كلّه فيما إذا تعذّر واحد من الأغسال .

    إذا تعذّر شرط أحد الأغسال

   ثمّ إذا تعذّر شرط أحدها ـ كما لو تعذّر السدر أو الكافور مع التمكّن من الغسل بالماء ، أو تعذّر الماء القراح مع التمكّن من التغسيل بماء السدر أو غيره ـ فهل يجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2 : 713 .

(2) الوسائل 2 : 481 /  أبواب غسل الميت ب 2 ح 4 .

(3) الوسائل 2 : 483 /  أبواب غسل الميِّت ب 2 ح 6 .

ــ[28]ــ

الغسل بالماء القراح مثلاً عند تعذّر ماء السدر أو يسقط الأمر بالغسل رأساً ، وينتقل إلى التيمم بدلاً عن الغسل بماء السدر المتعذّر ؟

   المشهور وجوب الغسل بالماء القراح عند تعذّر الخليط ، إلاّ أنّ الصحيح عدم وجوب الغسل حينئذ والانتقال إلى التيمم ، وذلك لأنّ الحكم بوجوب الغسل بالماء القراح حينئذ إمّا أن يستند إلى قاعدة الميسور أو إلى الاستصحاب ، ولا يتم شيء منهما .

   أمّا قاعدة الميسور ، فلمّا أشرنا إليه من عدم ثبوتها بدليل . على أنّا لو قلنا بتمامية القاعدة لا يمكن التمسّك بها في أمثال المقام ممّا يعدّ الميسور مغايراً مع المعسور لا ميسوراً منه . وهذا نظير ما إذا أوجب المولى إكرام الهاشمي مثلاً ، فتعذّر فأكرم غير الهاشمي ، لأ نّه ميسور لذلك المعسور لاشتراكهما في الانسانية ، مع أ نّهما متباينان عند العرف ، كيف ولا يستدلّون بها على وجوب الأجزاء الممكنة من الغسل عند تعذّر بعض أجزائه ، كما إذا فرضنا أنّ الماء في الغسل لا يفي إلاّ بثلاثة أخماس الميِّت أو بتسعة أعشاره ، فانّهم لا يلتزمون بوجوب الغسل في ثلاثة أخماس أو تسعة أعشار الميِّت بدعوى أ نّه ميسور من الغسل المتعذّر .

   مع أنّ الأجزاء أولى بالتمسّك فيها بالقاعدة من الشروط ، لأن في تعذّر الشرط كما في المقام قد يقال : إنّ فاقد الشرط مغاير لواجده ، لأن أحدهما بشرط شيء والآخر بشرط لا ، ولا تكون الماهية بشرط لا ميسوراً من الماهية بشرط شيء وإنّما هما متغايران فلا مجال فيه للتمسّك بالقاعدة . وهذه المناقشة لا تأتي في الأجزاء ، إذ يمكن أن يقال : إن معظم الأجزاء ممكنة وتعدّ ميسوراً من الواجب المعسـور عند العرف ومع هذا لم يلتزموا بوجوب الغسل في الأجزاء الممكنة فما ظنّك بالمشروط عند تعذّر شرطه كما في المقام .

   وأمّا الاستصحاب ، بدعوى أنّ الغسل عند التمكّن من الخليط كان واجباً قطعاً وإذا تعذّر الخليط وشككنا في بقائه على الوجوب نستصحب وجوبه ونقول إنّه الآن

ــ[29]ــ

كما  كان .

   وفيه : ما تعرّضنا له في استصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركب ، وهو أ نّه من الأصل الجاري في الأحكام ، ولا نلتزم بجريانه في الشبهات الحكمية كما ذكرنا غير مرّة .

   ثمّ على تقدير القول بجريانه في الأحكام أيضاً لا مجال له في مثل المقام ، فيما إذا تعذّر الخليط قبل موت الميِّت إذ ليس هناك حالة سابقة ، فانّ الغسل لم يجب في زمان ليستصحب وجوبه ، بل من الأوّل يشك في وجوبه وعدمه .

   اللّهمّ إلاّ أن يستصحب معلّقاً بأن يقال : لو كان الميِّت قد مات في حال التمكّن من الخليط كان الغسل واجباً لوجوب الغسل بالخليط وأ نّه الآن كما كان .

   وفيه : أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري في الأحكام فضلاً عن الموضوعات كما في المقام .

   وأمّا إذا تعذّر الخليط بعد الموت فالغسل وإن علمنا بوجوبه حينئذ إلاّ أ نّه لا مجال لاستصحابه بعد تعذّر الخليط لارتفاع موضوعه ، فانّ الواجب هو الغسل بماء السدر ولم يبق سدر ليجب التغسيل به ، ومع ارتفاع الموضوع لا مجال للاستصحاب . وهو نظير ما إذا خلط الماء بالسدر واشتغل بالتغسيل واُهرق في أثنائه، أفيمكن استصحاب وجوب التغسيل حينئذ والحكم بوجوب التغسيل في الباقي بالماء القراح ؟ ومن الظاهر أ نّه لا يجري الاستصحاب المذكور لارتفاع موضوعه وهو السدر .

   فالمتحصل : أن مقتضى القاعدة عدم وجوب التغسيل بالماء القراح حينئذ ، بل يجب التيمم بدلاً عنه ، إلاّ أنّ المشهور لما بنوا على وجوب الغسل بالماء القراح فنجمع بين التيمم والغسل بالماء القراح تحفظاً على فتوى المشهور ، وإن كانت القاعدة تقتضي عدم وجوب الغسل كما عرفت .

   ومن هذا يظهر الحال عند تعذّر الكافور أو الماء القراح ، فان مقتضى القاعدة فيهما سقوط الغسل والانتقال إلى التيمم ، إلاّ أ نّه يجمع بينه وبين الغسل بالماء القراح عند

ــ[30]ــ

تعذّر الكافور أو بينه وبين الغسل بماء السدر أو ماء الكافور عند تعذّر القراح للاحتياط ، هذا .

    ما استدلّ به صاحب الجواهر (قدس سره)

   وقد استدلّ في الجواهر على مذهب المشهور بما ورد في المحرم من أ نّه إذا مات غسل بالماء القراح بدلاً عن الغسل بالكافور (1) ، بضميمة ما دلّ على أنّ المتعذّر عقلاً كالمتعذّر شرعاً ، بتقريب أنّ الانتقال إلى الغسل بالماء القراح إنّما هو من جهة تعذّر الغسل بالكافور ، لأنّ المحرم حال حياته يحرم عليه استعمال الكافور فكذا حال مماته بتنزيل الشارع ، وحيث إنّ المتعذّر العقلي كالمتعذّر الشرعي فنتعدى عن المحرم إلى كل مورد تعذّر فيه الغسل بالكافور ونحوه عقلاً (2) .

   وأورد عليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) بأنّ الثابت أنّ المتعذّر شرعاً كالمتعذّر عقلاً دون العكس (3) .

   والّذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الحكم إذا ترتب على عنوان التعذّر لم يفرق في ترتبه بين التعذّر الشرعي والعقلي ، فما ثبت للتعذّر العقلي يثبت للشرعي أيضاً وبالعكس ، فلو ورد أنّ الصلاة قائماً إذا حرمت فتصلّى قاعداً ، معناه أنّ الشارع إذا سدّ عليك الطريق إلى الصلاة قائماً فصلّ جالساً ، ولا فرق فيه بين الانسداد العقلي والشرعي ، فما أورده شيخنا الأنصاري (قدس سره) على صاحب الجواهر (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه .

   وأمّا إذا لم يترتب الحكم على عنوان التعذّر وإنّما ورد على مورد التعذّر ـ كما في المقام ـ حيث دلّت الرواية على أنّ المحرم يغسل بالقراح بدلاً عن الغسل بالكافور ولم يعلل ذلك بأ نّه لتعذر التغسيل بالكافور ، كما أنّ الحكم لم يرد على عنوان التعذّر بأن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 503 / أبواب غسل الميِّت ب 13، المستدرك 2 : 176 / أبواب غسل الميِّت ب 13.

(2) الجواهر 4 : 140 .

(3) كتاب الطّهارة : 290 السطر 18 / في غسل الأموات .

ــ[31]ــ

ونوى بالأوّل ما هو بدل السدر ، وبالثاني ما هو بدل الكافور (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول إذا تعذّر الغسل بالكافور وجب الغسل بالقراح ، وإنّما ورد الحكم على التغسيل بالماء القراح بدلاً عن الكافور في المحرم، نعم هو مورد التعذّر، فكأن الشارع نزّل المحرم الميِّت منزلة المحرم الحي في حرمة استعمال الكافور عليه ، فلا يمكننا التعدّي عنه إلى غيره ، فانّه في الحقيقة تخصيص في الأدلّة الدالّة على أنّ الميِّت يغسل ثلاثاً بالسدر والكافور والقراح . حيث دلّ على أنّ المحرم لا يغسل بالكافور بل يغسل بالماء القراح . ومعه كيف يمكننا التعدِّي عنه إلى موارد تعذّر السدر أو الكافور مع عدم دلالة الدليل عليه .

   فالصحيح ما ذكرناه من أن مقتضى القاعدة الانتقال إلى التيمم بدلاً عن الخليط وإن كان الأحوط الجمع بين التيمم وبين الغسل بالماء القراح خروجاً عن مخالفة المشهور .

    ما ينوي بالغسل الأوّل والثاني

   (1) كما ذكره المحقق الثاني (1) (قدس سره) لمراعاة الترتيب الواجب بين الغسلات لأنّ المؤخر لو قدّم وجب إعادته ، ولأجله لا بدّ أن ينوي البدلية عن الأوّل في الغسل الأوّل وعن الثاني في الغسل الثاني .

   وقد ناقش فيه صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله : فيه تأمّل ، بل منع (2) وما ذكره (قدس سره) هو الصحيح، إذ ليس للبدلية عين ولا أثر في المقام، فانّ البدلية إنّما هي فيما إذا  كان المأمور به المتعذّر شيئاً والبدل شيئاً آخر ، فانّه عند تعدّد المتعذّر المأمور به يجب قصد البدلية كما اُفيد ، نظير ما إذا وجب على المكلّف الغسل والوضوء فتعذّرا ، فانّه ينوي في بدليهما من التيممين البدلية عن الغسل أو الوضوء ، وإلاّ لم يتميز

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع المقاصد : 1 : 372 / غسل الميِّت .

(2) الجواهر 4 : 140 .

ــ[32]ــ

   [ 881 ] مسألة 6 : إذا تعذّر الماء ييمم ثلاثة تيممات بدلاً عن الأغسال على الترتيب (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنّ التيمم المأتي به بدل عن أ يّهما .

   وأمّا في المقام فلا ، وذلك لأن وجوب الغسل بالماء القراح بدلاً عن الغسل بالسدر والكافور إنّما يثبت بقاعدة الميسور والاستصحاب ، ومقـتضاهما أنّ الغسـل بالمـاء القراح عين الواجب الأوّل لا أ نّه بدله ، فكأنّ الواجب مركب من أمرين وجزأين : الغسل بالماء القراح والخلط بالسدر أو الكافور ، أو من الشرط والمشروط ، وقد تعذّر أحد الجزأين أو الشرط وسقط عن الوجوب وبقي الجزء الآخر أو المشروط على وجوبه ، لا أنّ الغسل بالقراح بدل عن الواجب بل هو عين الواجب الأوّل فلا يجب قصد البدلية وإن كان أحوط .

    حكم ما إذا تعذّر الماء

   (1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

   أحدهما : في أنّ الغسل بالماء إذا تعذّر ولم يمكن تغسيل الميِّت بالماء والسدر وبالماء والكافور وبالماء القراح هل ينتقل الأمر إلى التيمم أو يدفن من غير غسل ، كما إذا لم يكن عنده مماثل ولو من الكتابي ولا محرم ، فانّه يدفن من دون غسل كما تقدّم .

   وثانيهما : بعد ثبوت أنّ الوظيفة حينئذ وجوب التيمم يقع الكلام في أنّ الواجب تيمم واحد بدلاً عن الجميع أو ثلاثة تيممات .

 هل ينتقل الأمر إلى التيمم ؟

   أمّا المقام الأوّل: فالمشهور بل المتسالم عليه بينهم وجوب التيمم، وقد استدلّ عليه بوجوه .

   منها :  الاجماع ، وفيه : أنّ المطمأن به أو المظنون أو المحتمل استناد المجمعين في ذلك

ــ[33]ــ

إلى أحد الوجـوه الآتية فلا يكون الاجماع تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصـوم (عليه السلام) .

   ومنها : رواية زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) «قال : إنّ قوماً أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا : يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور فان غسلناه انسلخ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يمموه»(1) .

   وهذه الرواية وإن كانت بحسب الدلالة ظاهرة إلاّ أنّها ضعيفة السند .

   ومنها :  المطلقات الدالّة على أنّ التراب أو التيمم أحد الطهورين (2) فان مقتضاها كفاية التيمم عن الغسل في المقام .

   وقد ناقش فيها صاحب الجواهر (قدس سره) بوجهين :

   أحدهما : أنّ المستفاد من المطلقات أنّ التيمم أحد الطهورين ويكفي عن الماء ، وأمّا أ نّه يكفي عن السدر والكافور فلم يدلّنا عليه دليل .

   وثانيهما : أنّ الأخبار إنّما دلّت على أنّ التيمم يكفي في رفع الحدث ، وأمّا أ نّه يكفي في رفع الخبث والحدث فلا يكاد يستفاد من الأخبار ، وغسل الميِّت إنّما كان موجباً لرفع الحدث والخبث فلا يكون التيمم بدلاً عن مثله (3) .

   ولا يمكن المساعدة على شيء من المناقشتين :

   أمّا الاُولى :  فلأن ما ذكره إنّما يتم لو كان الواجب هو الغسل بالسدر والكافور أو بالماء المضاف بهما ، وظاهر الأخبار أنّ التيمم أحد الطهورين فهو بدل عن الماء لا عن السدر والكافور . وليس الأمر كذلك ، بل الواجب هو الغسل بالماء المطلق وغاية الأمر أ نّه يشترط أن يلقى فيه قليل من السدر والكافور بحيث لا يخرج الماء عن إطلاقه ، والتيمم بدل عن المأمـور به ، والسدر والكافور من خصـوصياته لا أ نّهما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 513 /  أبواب غسل الميِّت ب 16 ح 3 .

(2) الوسائل 3 : 385 /  أبواب التيمم ب 23 .

(3) الجواهر 4 : 143 .

ــ[34]ــ

المأمور  به .

   وهو نظير ما إذا أمر بالغسل من ماء البئر فانّه إذا تعذّر قام التيمم مقامه ، ولا يتوهّم أ نّه كان مقيّداً ومتخصّصاً بخصوصية البئر ، والتيمم لا يكون بدلاً عن البئر .

   وأمّا المناقشة الثانية :  فتندفع بأ نّه إن أراد بذلك أنّ التيمم لا يوجب رفع الخبث فهو متين إلاّ أ نّه أجنبي عمّا نحن فيه .

   وإن أراد أ نّه لا يكون بدلاً عن الغسل الرافع للحدث الّذي يكفي في رفع الخبث أيضاً ، ففيه أ نّه خلاف المطلقات الّتي تدل على بدلية التيمم عن الغسل الرافع للحدث لا بشرط (1) فسواء كان رافعاً للخبث أيضاً أم لم يكن ، فيقوم التيمم مقام ذلك الغسل في رفع الحدث وإن لم يوجب ارتفاع خبثه .

   ويؤيّده ما دلّ على أن غسل الميِّت هو غسل الجنابة لخروج النطفة منه حال موته (2) ولا إشكال أنّ التيمم يقوم مقام غسل الجنابة .

   والانصاف أن هذا الوجه متين ، وبه نحكم بوجوب التيمم عند تعذّر الغسل بالماء .

   ومنها :  صحيحة عبدالرّحمن بن أبي نجران المروية في الفقيه عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) : «ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب والثاني ميت ، والثالث على غير وضوء ، وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، مَن يأخذ الماء وكيف يصنعون ؟ قال (عليه السلام) : يغتسل الجنب ويدفن الميِّت بتيمم ، ويتيمم الّذي هو على غير وضوء ، لأن غسل الجـنابة فريضة وغسل الميِّت سنّة والتيمم للآخر جائز»(3) . حيث دلّت على أنّ الميِّت عند عدم التمكّن من تغسيله يدفن بالتيمم .

   وقد استدلّ صاحب المدارك (قدس سره) بعين هذه الرواية على عدم وجوب التيمم حينئذ ، ولكن أسندها إلى عبدالرّحمن بن الحجاج ونقلها بدون لفظة «بتيمم»

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 385 /  أبواب التيمم ب 23 .

(2) الوسائل 2 : 486 /  أبواب غسل الميِّت ب 3 .

(3) الوسائل 3 : 375 /  أبواب التيمم ب 18 ح 1 ، الفقيه 1 : 59 /  222 .

ــ[35]ــ

بعد قوله (عليه السلام) «يدفن الميِّت» (1) .

   وقد أورد عليه في الحدائق أنّ الراوي للرواية في كتب الحديث عبدالرّحمن بن أبي نجران لا عبدالرّحمن بن الحجاج ، نعم لا أثر للاختلاف فيه لاعتبار كليهما (2) .

   وتوصيف صاحب المدارك لها بالصحّة وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ الصحيح هو رواية الفقيه ، وهي مشتملة على لفظة «بتيمم» بعد «يدفن الميِّت» وهي تدل على خلاف مقصوده .

   نعم ، رواها الشيخ في التهذيب بدون لفظة «بتيمم»(3) إلاّ أنّها ضعيفة من جهة اشتمالها على محمّد بن عيسى وهو مردد بين الثقة والضعيف ، ومن جهة إرسالها ، فان عبدالرّحمن يرويها عن رجل حدّثه ، هذا .

   ولكن صاحب الوسائل رواها عن الفقيه والتهذيب مشتملة على لفظة «بتيمم» حيث قال بعد نقل الرواية عن الفقيه : ونقله محمّد بن الحسن باسناده إلى الصفار نحوه . إذ لو كانت رواية التهذيب غير مشتملة على تلك اللّفظة لأشار إليه كما هو دأبه في الكتاب ، ولا سيما في الاختلافات الّتي تختلف الأحكام بها ، وحيث إن له طريقاً صحيحاً إلى التهذيب فبنقله يثبت أن نسخة التهذيب مشتملة على تلك الكلمة .

   إلاّ أن صاحب الحدائق (قدس سره) وغيره يروون عن التهذيب من دون كلمة «بتيمم» ومعه يدخل المقام في اختلاف النسخ فلا يثبت أن رواية الشيخ أ يّهما ، فلا تشملها أدلّة اعتبار الخبر ، فان باخبار كل واحد من الرواة وإن كان يثبت موضوع وخبر ـ أعني خبر الراوي الآخر ـ فيشمله أدلّة الاعتبار ، إلاّ أ نّه يتم إلى الشيخ ، وأمّا هو فلا يعلم أ نّه أخبر عن أي شيء حتّى يشمله أدلّة الاعتبار ، فلا يمكننا الاعتماد على رواية الشيخ ولو بناءً على صحّة سندها كما إذا عملنا بالمراسيل ، وبنينا على أن محمّد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المدارك 2 : 85 / غسل الميِّت .

(2) الحدائق 3 : 473 .

(3) التهذيب 1 : 109 / 285 .

ــ[36]ــ

ابن عيسى العبيدي موثق كما هو الصحيح ، وذلك لعدم ثبوت رواية الشيخ .

   ومعه يبقى صحيح الفقيه المشتمل على لفظة «بتيمم» سليماً عن المعارض .

   ولا يتوهّم أنّها معارضة برواية الشيخ ، وذلك لأنّا قد نطمئن بأن للشيخ روايتين : إحداهما مشتملة على لفظة «بتيمم» والاُخرى غير مشتملة عليها ، فيقع التعارض بين رواية الفقيه وإحدى روايتي الشيخ المشتملة على لفظة «بتيمم» وبين روايته الاُخرى الفاقدة لتلك اللّفظة ، لدلالتها على وجوب دفن الميِّت بلا تيمم ، ودلالة الروايتين الأوّلتين على وجوب دفنه بالتيمم .

   وذلك غير محتمل في المقام، لأن للشيخ رواية واحدة فقط ، ولا ندري أنّها مشتملة على تلك اللّفظة أو فاقدة لها ، ومع عدم ثبوت رواية الشيخ وأنّها أيّ شيء، لاتشملها أدلّة الاعتبار ، فلا تعارض رواية الفقيه ، هذا كلّه في رواية الشيخ .

   بل يمكن أن يقال : إنّ رواية الفقيه أيضاً لم يثبت اشتمالها على لفظة «بتيمم» وذلك لأن صاحب الوسائل والحدائق وغيرهما وإن نقلا الرواية مشتملة على تلك اللّفظة ، إلاّ أن صاحبي الوافي(1) والمنتقى(2) نقلا الرواية عن الفقيه فاقدة للكلمة ، بل وكذلك العلاّمة المجلسي (قدس سره) في نسخة الفقيه المصحّحة بتصحيحه الموجودة عندنا فانّها أيضاً فاقدة للفظة «بتيمم» .

   ومقتضى نقل هذين أو هؤلاء الثقاة ، أن نسخ الفقيه كانت فاقدة لكلمة «بتيمم» فتكون رواية الفقيه كرواية التهذيب مرددة بين اشتمالها على الكلمة وعدمه ، فلا تثبت رواية الفقيه أنّها أيّ شيء ، فلا تشملها أدلّة الاعتبار .

   ودعوى : أنّ الأمر إذا دار بين النقيصة والزيادة تؤخذ بالزيادة ، لأنّ الغالب هو السهو والاشتباه بنقل الرواية مع إسقاط لفظة أو أقل أو أكثر ، وأمّا الاشتباه والسهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوافي 6 : 569 / 4955 ، أبواب التيمم ب 61 .

(2) المنتقى 1 : 346 /  أبواب التيمم .

ــ[37]ــ

باضافة لفظة أو أكثر فهو نادر .

   مندفعة بأن غاية ما يترتب على ذلك هو الظن باشتمال الرواية على لفظة «بتيمم» فسقطت منها ، والظن لا أثر له شرعاً ، بل المظنون عدم اشتمال الرواية على تلك الكلمة كما يؤيّده سياق التعليل الوارد فيها ، لأنّ التيمم لو كان جائزاً للميت أيضاً لكان الأولى أن يقول (عليه السلام) والتيمم لهما جائز ، ولم يكن وجه لقوله (عليه السلام) «والتيمم للآخر جائز» أي للمحدث بالأصغر ، إلاّ أن هذا الظن كسابقه لا يمكن الاعتماد عليه .

   نعم ، لم يظهر معنى صحيح للتعليل الوارد فيها ، وذلك لأن قوله (عليه السلام) «لأنّ الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميِّت سنّة» إن اُريد منه أن غسل الجنابة واجب فلا أثر له ، لأن غسل الميِّت أيضاً واجب .

   وإن اُريد منه أن غسل الجنابة ممّا ثبت وجوبه بالكتاب دون غسل الميِّت ، فانّه ثبت وجوبه من السنّة ، فهو صحيح لقوله تعالى ( ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... )(1) المفسّر بالاغتسال ، وقوله تعالى ( ... وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... )(2) وقد ورد الفرض والسنّة بهذا المعنى في بعض الروايات ، كالأخبار الواردة في إعادة الصلاة من الركوع والسجود والطهور والقبلة دون التشهّد ونحوه ، حيث ورد فيها أنّ الركوع والسجود والطهور والقبلة فرض والتشهّد سنّة (3) .

   إلاّ أنّ الوضوء للمحدث بالأصغر أيضاً فرض ثبت بالكتاب لقوله تعالى ( ... إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... )(4) .

   والّذي أظن أن صاحب المدارك (قدس سره) نقل الرواية عن الفقيه غير مشتملة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

(2) النِّساء 4 : 43 .

(3) روى مضمونه في الوسائل 6 : 401 /  أبواب التشهّد ب 7 ح 1 .

(4) المائدة 5 : 6 .

ــ[38]ــ

على لفظة «بتيمم» كصاحبي الوافي والمنتقى ، وإن اشتبه في إسنادها إلى عبدالرّحمن بن الحجاج ولم يسندها إلى عبدالرّحمن بن أبي نجران ، وذلك لأ نّه وصف الرواية بالصحّة ، ولا يكاد يخفى عليه صحّة الرواية وضعفها ، ولا نحتمل في حقّه أن يروي الرواية عن الشيخ مع إرسالها ويعبّر عنها بالصحّة ، كيف وهو من فرسان ميدان الرجال ولا يخفى عليه مثله (1) .

   فتحصل : أنّ الرواية لا يمكن الاستدلال بها على وجوب دفن الميِّت بالتيمم ولا على وجوب دفن الميِّت من غير تيمم ، هذا .

   وقد يستدل على وجوب دفنه بالتيمم  ـ كما في الجواهر (2) ـ  برواية التفليسي : «سألت أبا الحسـن (عليه السلام) عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ما يكفي أحدهما أ يّهما يغتسل ؟ قال (عليه السلام) : إذا اجتمعت سنّة وفريضة بدئ بالفرض» (3) .

   وفيه : أنّها لا تدل على وجوب دفن الميِّت بالتيمم ، وإنّما تدل على أ نّه لا بدّ من الابتداء بالفرض ، وأمّا أ نّه يدفن الميِّت مع التيمم فلا ، على أن سندها ضعيف بالتفليسي .

   ورواية الحسين بن النضر الأرمني قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما ، أ يّهما يبدأ به ؟ قال : يغتسل الجنب ويدفن(4) الميِّت ، لأنّ هذا فريضة وهذا سنّة» (5) .

   وفيه : أنّها أيضاً لا تدل على وجوب دفن الميِّت بالتيمم أو بدونه إلاّ بالاطلاق وسندها ضعيف بالحسين بن النضر الأرمني لعدم توثيقه ولا مدحه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقد نقل خارج البحث عن بعض الطلبة أن صاحب المدارك نقل الرواية في بحث التيمم عن الفقيه وراجعناه ورأينا الأمر كما نقله وعليه فنقله عنه هو المتعيّن [ راجع المدارك 2 : 251 ] .

(2) الجواهر 5 : 256 / كتاب التيمم .

(3) الوسائل 3 : 376 /  أبواب التيمم ب 18 ح 3 .

(4) وفي التهذيب 1 : 110 / 287 ، والاستبصار 1 : 102 / 331 «ويترك» .

(5) الوسائل 3 : 376 /  أبواب التيمم ب 18 ح 4 .

ــ[39]ــ

والأحوط تيمّم آخر بقصد بدليّة المجموع ، وإن نوى في التيمم الثالث ما في الذمّة من بدلية الجميع أو خصوص الماء القراح كفى في الاحتياط ((1)) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    هل الواجب ثلاثة تيمّمات

   وأمّا المقام الثاني :  وهو أنّ الواجب هل هو تيمم واحد بدلاً عن الجميع ، أو أنّ الواجب ثلاثة تيممات ؟

   المشهور بينهم هو الأوّل ، نظراً إلى أنّ الأغسال وإن كانت متعدِّدة إلاّ أنّ الأثر المترتب عليها واحد وهو حصول الطهارة للميت ، فإذا تعذّرت وجب التيمم بدلاً عنها وحيث إنّ الأثر واحد فلا يجب بدلاً عنها إلاّ تيمم واحد .

   وعن العلاّمة (2) والمحقق الثاني (3) (قدس سرهما) وجوب ثلاثة تيممات لتعدّد الواجب ، وهذا هو الصحيح ، وذلك لأن ما ذكره المشهور من وجوب تيمم واحد نظراً إلى وحدة الأثر منتقض بما إذا وجب على المكلّف ضمّ الوضوء إلى الغسل ـ كما في غير غسل الجنابة ـ أو ضمّ الغسل إلى الوضوء ـ كما في الاستحاضة المتوسطة ـ فانّ الأثر المترتب عليهما شيء واحد وهو حصول الطهارة للمكلّف ، إلاّ أ نّه إذا تعذّر على المكلّف وجب عليه تيممان بدلاً عن الجميع ، فانّ المشهور لا يلتزم بذلك في مثله بل يلتزمون بوجوب التيمم بدلاً عن الغسل تارة وبدلاً عن الوضوء تارة اُخرى ، كما أ نّه إذا وجد ماء بمقدار أحدهما يأتي به ويتيمم بدلاً عن الآخر .

   وحل ذلك : أنّ الأثر المترتب عليهما وإن كان واحداً كما ذكر المشهور ، إلاّ أن كلاًّ من الغسل والوضوء مأمور به في نفسه ، وقد استفدنا من أدلّة البدلية أنّ التيمم بدل عن الغسل والوضوء فمع تعذّرهما تنتهي النوبة إلى بدلهما ، فتيمم بدل عن الغسل وتيمم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما أ نّه يكفي فيه قصد ما في الذمّة في أحد التيممين الأوّلين .

(2) نهاية الإحكام 2 : 227 /  أحكام تغسيل الميِّت .

(3) جامع المقاصد 1 : 373 / غسل الميِّت .

ــ[40]ــ

آخر بدل عن الوضوء .

   والأمر في المقام كذلك ، لأنّ الواجب متعدد وهو كل واحد من الأغسال ، ومن ثمة ورد في بعض الأخبار أنّ الواجب في غسل الميِّت ثلاثة أغسال(1) وفاقاً لصاحب الجواهر (قدس سره) حيث عبّر بلفظة «كل» بقوله : «إن كل واحد من الأغسال الثلاثة كغسل الجنابة»(2) ومع تعدد الواجب لا بدّ من تعدد التيمم بدلاً عن الأغسال المتعذرة ، هذا .

   بل يمكن أن يقال : إن ما ذكره المشهور من أن أثر الأغسال واحد وهو حصول الطهارة فبدلها تيمم واحد لو تمّ ، فانّما يتم على مسلكهم من أنّ الطهارة مترتبة على الغسل والوضوء والتيمم ، وتلك محصلات للطهارة وأسباب لها ، ومن هنا ذهبوا إلى عدم جريان البراءة عند الشك في اعتبار شيء في الغسل والوضوء والتيمم ، نظراً إلى أنّ المأمور به أمر بسيط وهو الطهارة ولا شك فيه ، وإنّما الشك في المحصّل ومعه لا بدّ من الاحتياط .

   وبهذا علل شيخنا الأنصاري (قدس سره) عدم جريان قاعدة التجاوز في تلك الاُمور، بدعوى أنّ الطهارة شيء واحد لايتحقق التجاوز فيها عند الشك في الأثناء(3) .

   وأمّا بناءً على ما سلكناه من أنّ الطهارة هي نفس الوضوء أو الغسل، فانّه اعتبر نوراً في الأخبار أو نوراً على نور (4) ، لا أنّها شيء آخر يترتب عليها ، وقد ورد في صحيحة زرارة «وهو على وضوء» (5) وفي جملة من الأخبار أنّ الوضوء ينقضه كذا ولا ينقضه كذا (6) ومن الظاهر أنّ الكون على الشيء أو انتقاضه إنّما يتصوّر فيما إذا كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 479 /  أبواب غسل الميِّت ب 2 ح 1 ، 2 وغيرهما .

(2) لاحظ الجواهر 4 : 133 ولكن لم يعبّر بلفظة (كل) إلاّ أن عبارته دالّة عليه .

(3) فرائد الاُصول 2: 713 .

(4) الوسائل 1 : 377 /  أبواب الوضوء ب 8 ح 8 .

(5) الوسائل 1 : 245 /  أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 .

(6) الوسائل 1 : 245 ـ 256 /  أبواب نواقض الوضوء  ب 1 ـ 3 .

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net