حكم تسنيم القبر - نقل الميت إلى بلد آخر 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء التاسع:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 11952


ــ[327]ــ

 فصل

في مكروهات الدّفن

    وهي أيضاً اُمور :

   الأوّل : دفن ميتين في قبر واحد بل قيل بحرمته مطلقاً ، وقيل بحرمته مع كون أحدهما امرأة أجنبية ، والأقوى الجواز مطلقاً مع الكراهة ، نعم الأحوط الترك إلاّ لضرورة ، ومعها الأولى جعل حائل بينهما ، وكذا يكره حمل جنازة الرجل والمرأة على سرير واحد ، والأحوط تركه أيضاً  (1) .

   الثاني : فرش القبر بالساج ونحوه من الآجر والحجر إلاّ إذا كانت الأرض ندية ، وأما فرش ظهر القبر بالآجر ونحوه فلا بأس به ، كما أن فرشه بمثل حصير وقطيفة لا بأس به وإن قيل بكراهته أيضا .

   الثالث : نزول الأب في قبر ولده خوفاً من جزعه وفوات أجره ، بل إذا خيف من ذلك في سائر الأرحام أيضاً يكون مكروهاً ، بل قد يقال بكراهة نزول الأرحام مطلقاً إلاّ الزوج في قبر زوجته والمحرم في قبر محارمه .

   الرابع : أن يهيل ذو الرحم على رحمه التراب ، فانه يورث قساوة القلب .

   الخامس : سدّ القبر بترات غير ترابه ، وكذا تطيينه بغير ترابه ، فانه ثقل على الميِّت .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل في مكروهات الدّفن

    (1) تقدّم الكلام في ذلك في المسألة الثانية عشرة من مسائل الدّفن مفصّلاً فلاحظ.

ــ[328]ــ

   السادس : تجصيصه أو تطيينه لغير ضرورة وإمكان الإحكام المندوب بدونه والقدر المتيقن من الكراهة إنما هو بالنسبة إلى باطن القبر لا ظاهره وإن قيل بالإطلاق .

   السابع : تجديد القبر بعد اندراسه إلاّ قبور الأنبياء والأوصياء والصلحاء والعلماء .

   الثامن : تسنيمه ، بل الأحوط تركه (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    كراهة تسنيم القبر

   (1) لا إشكال في أن تربيع القبر وتسطيحه مستحب في الشريعة المقدسة ، لورود الأمر به في جملة من الروايات (1) ، كما أن تسنيم القبر مكروه لأنه شعار أهل الخلاف .

   وقد وقع الكلام في حرمته ، واستدل عليها بالنهي عن التسنيم في الفقه الرضوي(2) إلاّ أنه لا يمكن الاعتماد عليه كما تقدم غير مرة .

   وبرواية أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من حدّد قبراً ...»(3) بناء على أن النسخة الصحيحة «حدد» أي جعل القبر محدداً وعلى وجه التسنيم .

   لكن تقدّم(4) أن سند الرواية ضعيف، لورود الذم في أبي الجارود فقد ورد أنه كذاب وأنه كافر ، كما أن متنها لم يثبت لتردِّده بين احتمالات ونسخ متعدِّدة .

   واستدل عليها بالأخبار الآمرة بتربيع القبر ، لأنه إذا وجب حرم خلافه وهو التسنيم :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ونذكر مصادرها عند ذكرها .

(2) المستدرك 2 : 346 / أبواب أحكام الدفن ب 38 ح 2 ، فقه الرضا : 175 .

(3) الوسائل 3 : 208 / أبواب الدّفن ب 43 ح 1 . واستظهر الاُستاذ في [ المعجم 8 : 335  ]وثاقة أبي الجارود زياد بن المنذر ، فالأولى الإشكال في السند من جهة محمد بن سنان .

(4) في ص 311 .

ــ[329]ــ

   التاسع : البناء عليه عدا قبور من ذكر ، والظاهر عدم كراهة الدّفن تحت البناء والسقف .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   منها : رواية السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سويته ولا كلباً إلاّ قتلته»(1) أي جعلت القبر على غير صورة التسنيم والتحديد . لكن الرواية ضعيفة لأن في سندها النوفلي عن السكوني (2) فلا يمكن الاستدلال بها على الحرمة ، بل غاية الأمر أن يستدل بها على الكراهة بناء على التسامح في أدلّة السنن .

   ومنها : رواية جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «ما على أحدكم إذا دفن ميته وسوى عليه وانصرف عن قبره أن يتخلف عند قبره ثم يقول ...» (3) أي لماذا لا يتخلف أحد أرحام الميِّت عند قبره ليلقنه الشهادتين ، حيث جعلت تسوية القبر مفروغاً عنها عند الأمر بالتخلف عند قبر الميِّت .

   وفيه : أن الرواية ضعيفة السند بعمرو بن شمر وغيره .

   كما أن دلالتها على المدعى قاصرة ، لأن المراد بالتسوية فيها هو إتمام الدّفن والقبر لا التسوية في مقابل التسنيم ، بل التسوية بهذا المعنى تستعمل اليوم أيضاً فتقول للطعام المطبوخ إنه مستوي أي تام الطبخ .

   ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث : قال : «وإذا حثي عليه التراب وسوي قبره فضع كفك على قبره ...»(4) ، وهي وإن كانت معتبرة سنداً إلاّ أنها قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن التسوية بمعنى الإتمام لا بمعنى التربيع ، لعدم مناسبته مع حث التراب عليه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 209 / أبواب الدّفن ب 43 ح 2 .

(2) رجع سيدنا الاُستاذ عن ذلك فيما بعد في المعجم 7 : 122 .

(3) الوسائل 3 : 201 / أبواب الدّفن ب 35 ح 2 .

(4) الوسائل 3 : 197 /  أبواب الدّفن ب 33 ح 1 .

ــ[330]ــ

   العاشر : اتخاذ المقبرة مسجداً إلاّ مقبرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والعلماء.

   الحادي عشر : المقام على القبور إلاّ الأنبياء (عليهم السلام) والأئمة (عليهم السلام) .

   الثاني عشر : الجلوس على القبر .

   الثالث عشر : البول والغائط في المقابر .

   الرابع عشر : الضحك في المقابر .

   الخامس عشر : الدّفن في الدور .

   السادس عشر : تنجيس القبور وتكثيفها بما يوجب هتك حرمة الميِّت .

   السابع عشر : المشي على القبر من غير ضرورة .

   الثامن عشر : الاتّكاء على القبر .

   التاسع عشر : إنزال الميِّت في القبر بغتة من غير أن توضع الجنازة قريباً منه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   ومنها : رواية محمد بن مسلم قال : «سألت أحدهما (عليهما السلام) عن الميِّت فقال : تسله من قبل الرجلين وتلزق القبر بالأرض إلاّ قدر أربع أصابع مفرجات تربع قبره» (1) .

   وهي ضعيفة السند بسهل بن زياد على طريق الكلـيني(2) ، على أن متنها ليس ثابتاً إذ نقلت الروايـة «وترفع قـبره» بدلاً عن «تربع قـبره» ، إلى غير ذلك من الروايات(3) . والمتحصل : أن التسنيم لا دليل على حرمته وإن كان الأحوط تركه كما في المتن .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 181 / أبواب الدّفن ب 22 ح 2 .

(2) الكافي 3 : 195 / 3 .

(3) الوسائل 3 : 182 / أبواب الدّفن ب 22 ح 5 ، 194 ب 31 ح 9 ، 12 وغيرها من الموارد .

ــ[331]ــ

ثم ترفع وتوضع في دفعات كما مر .

   العشرون : رفع القبر عن الأرض أزيد من أربع أصابع مفرجات .

   الحادي والعشرون : نقل الميِّت من بلد موته إلى بلد آخر (1) إلاّ إلى المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة والمواضع المحترمة كالنقل من عرفات إلى مكة والنقل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    جواز نقل الميِّت إلى بلد آخر

   (1) الكلام في هذه المسألة إنما هو في جواز نقل الميِّت في نفسه مع قطع النظر عما قد يستلزمه من النبش أو فساد الميِّت وتعفنه . والكلام يقع في جهات :

    الجهة الاُولى :  أن نقل الميِّت بما هو نقل إلى الأماكن المتبركة أو غير المتبركة أمر سائغ ، وقد ادعى الإجماع على جوازه على كراهة جماعة كالمحقق (1) والعلاّمة (2) والشهيد (3) والمحقق الكركي (4) .

   وهذا الإجماع إن تمّ فهو وإلاّ فمقتضى القاعدة جواز النقل من دون كراهة ، وذلك للإطلاقات حيث إن ما دلّ على وجوب الدّفن لم يقيد ببلد الموت ومكانه .

   وقد اسـتدلّ على الكـراهة بعد الإجمـاع المتقدِّم برواية الدعـائم عن علي (عليه السلام) : «أنه رفع إليه أن رجلاً مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فانهكهم عقوبة وقال : ادفنوا الأجساد في مصارعها ، ولا تفعلوا فعل اليهود تنقل موتاهم إلى بيت المقدس ... إلخ» (5) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المعتبر 1 : 307 .

(2) التذكرة 2 : 102 .

(3) الذكرى : 64  السطر الأخير .

(4) جامع المقاصد 1 : 450 .

(5) المستدرك 2 : 313 / أبواب الدّفن ب 13 ح 15 ،  دعائم الإسلام 1 : 238 .

ــ[332]ــ

إلى النجف فان الدّفن فيه يدفع عذاب القبر وسؤال الملكين ، وإلى كربلاء والكاظمية وسائر قبور الأئمة بل إلى مقابر العلماء والصّلحاء ، بل لا يبعد استحباب النقل من بعض المشاهد إلى آخر لبعض المرجّحات الشرعية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وفيه : أن روايات دعائم الإسلام ضعيفة لإرسالها فلا يمكن الاعتماد عليها في الكراهة إلاّ بناء على التسامح في أدلّة السنن والمكروهات .

   واستدل بالأخبار الآمرة بالتعجيل في تجهيز الميِّت ودفنه وأنه لو مات أول النهار استحب أن يدفن قبل الزوال لتكون قيلولته في قبره . وقد عقد في الوسائل لذلك باباً نقل فيه عدة روايات (1) .

   والوجه في الاستدلال بها أن استحباب التعجيل في الدّفن يستلزم كراهة النقـل لأن فيه تأخيراً في الدّفن . ولكن الروايات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند فلا يثبت بها استحباب التعجيل فضلاً عن كراهة النقل والتأخير .

   نعم يمكن الاستدلال على استحباب التعجيل بقوله تعالى: (فَاسْتَبقُوا ا لْخَيْرَاتِ )(2) وقوله تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَبِّكُمْ )(3) حيث دلّتا على استحباب التعجيل والمسارعة في كل ما هو مأمور به شرعاً .

   إلاّ أن استحباب التعجيل في الدّفن لا يقتضي كراهة النقل ، فان التأخير موجب لعدم العمل بالاستحباب لا أنه ارتكاب للمكروه . على أن النقل لا يلازم التأخير ، بل قد يكون الدّفن موجباً لترك المسارعة والتعجيل في الدّفن بخلاف النقل ، كما إذا  كان الهواء بارداً غايته أو حارّاً غايته بحيث لا يمكن الحفر إلاّ في مدة طويلة أو لم يكن هناك آلة الحفر موجودة ولكن يمكن النقل إلى بلد ثان بالوسائط المستحدثة السريعة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 471 / أبواب الاحتضار ب 47 .

(2) البقرة 2 : 148 .

(3) آل عمران 3 : 133 .

ــ[333]ــ

ودفنه في زمان قريب .

   فالمتحصل : أنه لم تثبت كراهة في النقل بوجه فهو أمر سائغ من دون كراهة . وهذا الحكم لا يفرق فيه بين النقل إلى الأماكن القريبة والبعيدة كما هو ظاهر .

 

   الجهة الثانية :  النقل إلى الأماكن المتبركة كالمشاهد المشرفة وغيرها من الأماكن التي يتقرّب بالدّفن فيها إلى الله سبحانه جائز بل مستحب ، كالنقل إلى بيوت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالمعصومة (عليها السلام) وغيرها من قبور الأئمة وبناتهم، أو النقل إلى قبر عالم من العلماء أو سيد من السادات للتوسّل بهم والاستشفاع بقبورهم ، بل عن المحقق في المعتبر أنه مذهب علمائنا خاصّة ، وعليه عمل الأصحاب من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى الآن وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه (1) .

   ولا كراهة فيه بوجه ، لأن المدرك في الكراهة إن كان هو الإجماع المدعى فلا إجماع في النقل إلى الأماكن المتبركة ، وإن كان المدرك هو استحباب المسارعة إلى الخيرات فالنقل إلى المشاهد المشرفة وما بحكمها هي عين المسارعة إلى الخـيرات لأنه توسل واستشفاع بهم (عليهم السلام) ، نعم لو تمت رواية الدعائم من حيث السند لدلّت على مبغوضية النقل ولو إلى الأماكن المتبركة ، لدلالتها على ذم نقل الموتى إلى بيت المقدس كما عرفت ، إلاّ أنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها .

   ويؤيد ما ذكرناه رواية علي بن سليمان قال : «كتبت إليه أسأله عن الميِّت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم فأيهما أفضل ؟ فكتب : يحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل» (2) .

   والمروي عن إرشاد الديلمي وفرحة الغري من قضية اليماني الحامل لجنازة أبيه فقال له علي (عليه السلام) : لِمَ لا دفنته في أرضكم ؟ قال أوصى بذلك ، فقال له : ادفن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المعتبر 1 : 307 .

(2) الوسائل 13 : 287 / أبواب مقدمات الطواف ب 44 ح 2 .

ــ[334]ــ

فقام فدفنه في الغري(1) فانه يدل على التقرير منه (عليه السلام) لذلك .

   والمتحصل : أن نقل الميِّت إلى المشاهد المشرفة وما بحكمها لا كراهة فيه سواء أوصى الميِّت بذلك أم لم يوص به ، هذا .

   وعن الشهيد (قدس سره) التفصيل بين الشهيد فلا بدّ أن يدفن في مصرعه وبين غيره فلا مانع من نقله إلى غير بلد الموت(2) . وهذا التفصيل لم يظهر له مستند في الأخبار ، وهو (قدس سره) اعتمد في ذلك على رواية الدعائم المتقدمة ، وقد عرفت ضعفها لإرسالها . فلا فرق بين الشهيد وغيره ، فان نقل الميِّت إلى المشاهد المشرفة للتوسّل بهم (عليهم السلام) والاستشفاع والتبرك راجح كما تقدّم .

    الجهة الثالثة :  فيما إذا استلزم نقل الميِّت تغيراً فيه ، وهذا على قسمين وصورتين :

   الصورة الاُولى : أن يكون التغير مستنداً إلى اختيار المكلف كتقطيع الميِّت .

   الصورة الثانية : ما إذا لم يستند التغير إلى اختياره بل تغير الميِّت وأنتن لحرارة الهواء أو طول المدة ونحوهما .

   أمّا الصورة الاُولى : فلا نعرف من يفتي بجواز النقل المستلزم للتغير الصادر عن الاختيار من الأصحاب سوى الشيخ الكبير حيث نسب إليه القول بجواز النقل وإن استلزم التقطيع وجعل الميِّت إرباً (3) . واستدل على ذلك بوجوه :

   منها : أصالة الإباحة ، لعدم العلم بحرمة النقل المستلزم لتقطيع الميِّت والأصل إباحته .

   ومنها : إطلاقات كلمات الأصحاب حيث ذكروا أن النقل من بلد الموت إلى غيره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 2 : 310 / أبواب الدّفن ب 13 ح 7 ، إرشاد القلوب : 440 . ليس في المصدر : في الغري .

(2) الذكرى : 65  السطر 5 .

(3) حكاه عنه في الجواهر 4 : 348 .

ــ[335]ــ

والظاهر عدم الفرق في جواز النقل بين كونه قبل الدّفن أو بعده ، ومن قال بحرمة الثاني فمراده ما إذا استلزم النبش ، وإلاّ فلو فرض خروج الميِّت عن قبره بعد دفنه بسبب من سبع أو ظالم أو صبي أو نحو ذلك لا مانع من جواز نقله إلى المشاهد مثلاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جائز على كراهة ما لم يستلزم التقطيع إلاّ إلى المشاهد المشرفة ، حيث لم يقيدوا ذلك بما إذا لم يستلزم التقطيع الاختياري .

   ومنها : إطلاق ما دل على جواز النقل كرواية اليماني المتقدمة ، على أن الميِّت في تلك المدّة [ التي ] ينقل فيها من اليمن إلى الغري يتغير عادة ، فبذلك لا بدّ من الحكم بجواز التقطيع للنقل إلى المشاهد المشرفة .

   وهذا مما لا يعد هتكاً للميت بل هو كرامة له ، فان الأحياء قد تقطع بعض أعضائهم لأجل مصلحة تقتضي التقطيع من دون أن يعد ذلك هتكاً له ، هذا .

   ولا يمكن المساعدة على شيء من ذلك . أما قضية الأصل فلأن تقطيع الميِّت في نفسه محرم ، بل فيه الدية ، وفي قطع الرأس دية كاملة ، ومعه كيف يمكن دعوى أن الأصل إباحة التقطيع لدى النقل بل هو أمر محرم .

   وأما إطلاق كلمات الأصحاب ففيه : أن استثناء المشاهد المشرفة إنما يرجع إلى إفتائهم بكراهة النقل ، بمعنى أن النقل مكروه إلاّ إذا كان النقل إلى المشاهد المشرفة لا  أنه استثناء من حرمة النقل المستلزم للتقطيع الاختياري .

   وأما إطلاق أدلة النقل فليس لنا دليل يعتمد عليه في النقل يكون مطلقاً بالإضافة إلى استلزامه التقطيع الاختياري ، وإنما قلنا بجواز النقل لعدم قيام الدليل على حرمته كما تقدم ، ورجحانه في النقل إلى المشاهد من جهة أنه توسل واستشفاع بهم (عليهم السلام) . ورواية اليماني ضعيفة كما عرفت .

   على أن النقل لو كان له دليل معتمد عليه لم يمكن التمسك باطلاقه بالإضافة إلى النقل المستلزم للتقطيع الاختياري ، وذلك لأن الدليل إنما ينظر إلى إثبات الجواز أو

ــ[336]ــ

ثم لا يبعد جواز النقل إلى المشاهد المشرفة وإن استلزم فساد الميِّت إذا لم يوجب أذية المسلمين ، فان من تمسك بهم فاز ، ومن أتاهم فقد نجا ، ومن لجأ إليهم أمن ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله تعالى ، والمتوسل بهم غير خائب صلوات الله عليهم أجمعين .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرجحان للنقل بعنوانه لا من جهة العناوين الاُخرى كاستلزامه التقطيع المحرم ، نظير ما دلّ على استحباب أكل الرمان ، حيث لا يمكن التمسك باطلاقه لإثبات استحباب أكله وإن كان الرمان مال الغير من دون إذنه ، فانه يدل على استحباب أكل الرمان بعنوانه الأولي لا بعنوان كونه مغصوباً محرماً .

   وأمّا دعوى أن التقطيع للنقل إلى المشاهد المشرفة لا يعد هتكاً بل هو كرامة له فتندفع بأن الهتك أمر عرفي ، ولا ينبغي التردد في أن تقطيع بدن الميِّت يعد عند العرف هتكاً للميت . ولا يقاس ذلك بتقطيع بعض الأعضاء حال الحياة ، والفارق هو النظر العرفي كما بيناه .

   فالمتحصل : أن النقل إذا كان مستلزماً للتغير في الميِّت بفعل المكلف واختياره محكوم بحرمته .

   وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان النقل يستلزم التغير في الميِّت لكن لا بفعل المكلف بل لحرارة الهواء أو لطول المدة ونحوهما فقد ذكر الماتن (قدس سره) أن النقل جائز حينئذ ما لم تنتشر رائحته على نحو يوجب أذية المسلمين .

   وذهب صاحب الجواهر(1) إلى حرمته واستدلّ عليها بوجوه :

   الأوّل : أن ذلك هتك للميِّت وهتك لحرمته وإن لم تنتشر رائحته في الخارج .

   ويدفعه : أن إبقاء الميِّت مدّة ينتن في تلك المدّة إنما يعد هتكاً إذا لم يقصد به النقل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 4 : 348 .

ــ[337]ــ

إلى مكان يناسبه ، وإلاّ فهو كرامة للميت واحترام له لدى العرف ، فيختلف ذلك باختلاف ما يقصد من النقل عرفاً ، فاذا كان المقصود به هو الدّفن في الأمكنة الشريفة له فلا يعد عرفاً هتكاً بل هو نوع احترام وتجليل له ، ولا سيما إذا لم تظهر رائحته إلى الخارج ، فانّ الميِّت ينتن لا محالة إما تحت الأرض أو فوقها .

   الثاني : أن الحكمة في الأمر بدفن الميِّت إنما هي عدم انتشار رائحته خارج القبر فالنقل المستلزم لانتشار رائحته مناف للحكمة الداعية إلى الأمر به وهو أمر غير جائز .

   والجواب عنه : أن الحكمة في الأمر بالدّفن وإن كانت تلك إلاّ أن الكلام في تلك الحكمة هل هي علة تامة لوجوب الدّفن أو أنها حكمة من الحكم النوعية التي تدعو إلى جعل الوجوب ؟

   ولا ينبغي توهم كونها العلة التامة لوجوب الدّفن ، وإلاّ لزم الالتزام بعدم وجوب الدّفن فيما إذا أمكن إبقاء الميِّت في الخارج على نحو لا يطرأ عليه النتن والفساد كما في زماننا هذا ، بل في الأزمنة المتقدِّمة أيضاً حيث كانوا يحفظون الميِّت بالدواء من غير أن يفسد أو ينتن ، وكذا فيما إذا كانت الأرض على وجه لا تمنع عن انتشار رائحة الميِّت بدفنه ، مع أنّ الدّفن واجب في كلتا الصورتين من غير نكير .

   وهذا يدلنا على أن عدم انتشار الرائحة حكمة نوعية داعية إلى جعل وجوب الدّفن ، وبما أنه مطلق حيث لم يقيد بما إذا انتشرت رائحة الميِّت وتغير أم لم تنتشر ولم يتغير فلا بدّ من الالتزام بوجوب الدّفن في كلتا الصورتين .

   الثالث : أن تأخير الدّفن عن الغسل والصلاة والتجهيز إذا كان مستلزماً لطروء الفساد على الميِّت أمر غير جائز ، فانه لا بدّ حينئذ من تقديم الدّفن من غير غسل ثم يصلّى على قبره ، فاذا لم يجز التأخير المسـتلزم لطروء الفساد بالإضافة إلى الواجب كالغسل والصلاة فلا يجوز تأخيره بالإضافة إلى الأمر المستحب وهو النقل إلى المشاهد المشرفة بطريق أولى .

ــ[338]ــ

   والجواب عن ذلك : أن عدم جواز تأخير الدّفن في مفروض المسألة أمر لم يرد في نص ولم يقم عليه إجماع تعبّدي ، وإنما أفتى به جماعة ، نعم لا إشكال في جواز الدّفن قبل التغسيل والصلاة عليه حينئذ وأما حرمة تأخيره فلا ، فاذا لم يعد إبقاؤه وتأخيره المستلزم لطروء الفساد عليه إهانة في حقه ـ كما لا يعد ـ فلا يمكننا الحكم بحرمة النقل.

   نعم قد يتوهم أن ما دل على الأمر بالدّفن عام زماني ويدلّ على وجوب الدّفن في كل آن ، ومن ثمة لو خرج الميِّت عن قبره بسبب من الأسباب وجب دفنه ثانياً ، وإنما خرجنا عن عمومه بمقدار التغسيل والصلاة عليه ونحوهما ، وأمّا بالإضافة إلى النقل فلا ، فمقتضى العموم أو الإطلاق الزماني في دليل الدّفن عدم جواز النقل حينئذ .

   وفيه : أن هذا الوجه لو تمّ لاسـتلزم الحكم بوجوب الدّفن وعدم جواز تأخيره حتى فيما نقطع بعدم طروء الفساد على الميِّت لو بقي ساعة أو ساعتين لبرودة الهواء ، كما يستلزم عدم جواز النقل إلى المشاهد المشرفة حتى إذا لم يستلزم طروء الفساد عليه مع أنه ممّا لا يمكن الالتزام به .

   وهذا الوجه أيضاً ساقط، وسره أنّ ما دلّ على وجوب الدّفن كقوله (عليه السلام): «يغسل ويكفن ثم يصلى عليه فيدفن» ليس له إطلاق زماني بوجه ، وإنما يدلّ على وجوب الدّفن كوجوب غيره من الاُمور اللاّزمة في التجهيز .

   وعليه فالصحيح ما أفاده الماتن (قدس سره) من جواز النقل ، بل رجحانه إلى المشاهد المشرفة وإن كان ذلك مستلزماً لطروء الفساد على الميِّت لا باختيار المكلف .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net