زوال التغيّر بنفسه 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7250


    زوال تغيّر الماء بنفسه

   (1) أي من غير إلقاء كر عليه أو من غير اتصاله بالجاري ونحوهما . والكلام فيه في مقامين :

   أحدهما : فيما إذا كان الماء قليلاً .

   وثانيهما : فيما إذا كان معتصماً .

   أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه تارة من حيث الأدلّة الاجتهادية ، واُخرى من حيث الاُصول العملية . أمّا من حيث الدليل الاجتهادي فقد ادعي الاجماع على أن الماء المتغيّر القليل إذا زال عنه تغيّره بنفسه يبقى على نجاسته . وهذا الاجماع المدعى إن تمّ فهو ، وعلى تقدير أن لا يتم الاجماع التعبدي فيتمسك في الحكم بالنجاسة بالاطلاقات على ما ستعرف ، ومع الغض عنها فتنتهي النوبة إلى الاُصول العملية ويأتي تفصيلها في البحث عن المتغيّر الكثير إن شاء الله .

   وأمّا المقام الثاني : فالكلام فيه أيضاً تارة من ناحية الأصل العملي ، واُخرى من جهة الدليل الاجتهادي . أمّا من ناحية الاُصول العملية فقد استدلّ على نجاسة الماء المذكور بعد زوال تغيّره بالاستصحاب للعلم بنجاسته حال تغيّره ، فإذا شككنا في بقائها وارتفاعها بزوال تغيّره بنفسه فمقتضى الاستصحاب بقاؤها . وجريان الاستصحاب في المقام يبتني على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهية وعدم تعارضه باستصحاب عدم الجعل في أزيد من المقدار المتيقن ، وأمّا بناء على ما سلكناه من المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام فالاستصحاب ساقط لا محالة ونأخذ بالمقدار المتيقن من الحكم بالنجاسة ، وهو زمان بقاء التغيّر بحاله ، ونرجع فيما زاد عليه إلى قاعدة الطهارة في كل من الكر والقليل .

ــ[84]ــ

   وأمّا من جهة الأدلّة الاجتهادية فقد استدلّ على طهارة المتغيّر الكثير بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بوجوه :

   منها : ما ورد من أن الماء إذا بلغ كراً لم يحمل خبثاً (1) . فإنّه بعمومه يشمل الدفع والرفع كليهما فكما أ نّه لا يحمل الخبث ويدفعه كذلك يرفعه إذا كان عليه خبث ، وإنّما خرجنا عن عمومه في زمان التغير خاصة للأدلّة الدالّة على نجاسة الماء المتغيّر ، فإذا زال عنه تغيّره فلا بدّ من الحكم بطهارته لأن المرجع في غير زمان التخصيص إلى عموم العام دون الاستصحاب، إذ العموم والاطلاق يمنعان عن الاستصحاب بالبداهة كما بيّنّاه في بحث الاُصول وفي بحث الخيارات من كتاب المكاسب (2) .

   والجواب عن ذلك بوجهين : فتارة بضعف سند الرواية ، واُخرى بضعف دلالتها لأن ظاهر قوله (عليه السلام) «لم يحمل» أ نّه يدفع الخبث ولا يتحمّله إذا اُلقي عليه لا  أ نّه يرفعه بعد تحميل الخبث عليه بوجه . ثم لو تنزلنا فلا أقل من إجمال الرواية لتساوى احتمالي شمولها للرفع وعدمه .

   كذا قيل ولكنه قابل للمناقشة لأن «لم يحمل» بمعنى لا يتّصف وهو أعم من الرفع والدفع كما سيظهر وجهه عند التعرض لحكم الماء القليل المتنجس المتمم كراً إن شاء الله (3) .

   ومنها : أن الحكم بالنجاسة إنّما اُنيط على عنوان المتغيّر شرعاً بحسب الحدوث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 1 : 198 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 6 عن عوالي اللئالي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونسبه المحقق (قدس سره) في المعتبر [ 1 : 52 ـ 53 ] إلى السيد والشيخ وقال : إنّا لم نروه مسنداً والذي رواه مرسلاً المرتضى والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به . وكتب الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) خالية منه أصلاً . وفي سنن البيهقي ص 260 المجلد 1 إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث «لم يحمل خبثاً» وكذا في سنن أبي داود كما قدّمنا في محلّه فراجع ص 204 .

(2) مصباح الفقاهة 6 : 327 .

(3) في ص 204 .

ــ[85]ــ

والبقاء كما في غيرها من الأحكام وموضوعاتها ، مثلاً حرمة شرب الخمر اُنيطت على عنوان الخمر حدوثاً وبقاءً ، فكما أن الحرمة تدور مدار وجود موضوعها وترتفع بارتفاعه ، فلتكن النجاسة أيضاً مرتفعة عند ارتفاع موضوعها وهو التغيّر .

   وهذا الاستدلال مجرد دعوى لا برهان لها ، لأن الدليل إنّما دلّ على أن الماء إذا تغيّر يحكم عليه بالنجاسة ، وأمّا أن التغيّر إذا ارتفع ترتفع نجاسته فهو مما لم يقم عليه دليل ولا يستفاد من شيء من الأخبار ، فهي ساكتة عن حكم صورة ارتفاع التغيّر عن الماء ، بل يمكن أن يقال إن مقتضى إطلاقاتها نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً زال عنه تغيّره أم لم يزل .

   ومنها : صحيحة ابن بزيع لقوله (عليه السلام) فيها : «حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» حيث إنّه (عليه السلام) بيّن أن العلّة في طهارة ماء البئر هي زوال التغيّر عن طعمه ورائحته فيستفاد منها أن كل متغيّر يطهر بزوال تغيّره .

   وهذا الاستدلال يبتني على أمرين : أحدهما : أن تكون «حتى» تعليلية لا غائية فكأ نّه (عليه السلام) قال ينزح ماء البئر ويطهر بذلك لعلّة زوال ريحه وطعمه . وثانيهما : أن يتعدى من موردها وهو ماء البئر إلى جميع المياه وإن لم يكن لها مادّة وهذان الأمران فاسدان .

    أمّا الأمر الأوّل : فلأن المنع فيه ظاهر ، لأن ظاهر «حتى» في الرواية أ نّه غاية للنزح بمعنى أ نّه ينزح إلى مقدار تذهب به رائحته ويطيب طعمه ، كما هو ظاهر غيرها من الأخبار . نعم احتمل شيخنا البهائي (قدس سره) كونها تعليلية كما تقدّم نقله (1)وربّما يستعمل بهذا المعنى أيضاً في بعض الموارد فيقال : أسلم حتى تسلم إلاّ أن حملها على التعليلية في المقـام خلاف الظاهر من جهة سائر الأخبار ، وظهور نفس كلمة «حتى» في إرادة الغاية دون التعليل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 77 .

ــ[86]ــ

   وأمّا الأمر الثاني : فلأ نّا لو سلّمنا أن كلمة «حتى» تعليلية فلا يمكننا التعدِّي عمّا له مادّة وهو البئر إلى غيره مما لا مادّة له ، فإن التعليل ربّما يكون بأمر عام كما ورد (1) في الخمر من أنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمه بل لخاصيته التي هي الاسكار ، وفي مثله لا مانع من التعدِّي إلى كل مورد وجد فيه ذلك الأمر لأ نّه العلّة للحكم فيدور مداره لا محالة . واُخرى يكون التعليل بأمر خاص فلا مجال للتعدي في مثله أصلاً كما هو الحال في المقام فإنّه (عليه السلام) علل حكمه هذا بذهاب الريح وطيب طعمه ، والمراد بالريح هو ريح ماء البئر خاصة لقوله قبل ذلك : «إلاّ أن يتغيّر ريحه ....» فإن الضمير فيه كالضمير في قوله : ويطيب طعمه يرجعان إلى ماء البئر لا إلى مطلق الماء ، ومع اختصاص التعليل لا وجه للتعدي عن مورده ، بل مقتضى إطلاق قوله (عليه السلام) «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ...» أن تغيّر ريح الماء أو طعمه يوجب التنجيس مطلقاً سواء أزال عنه بعد ذلك أم لم يزل ، نظير إطلاق ما دلّ على نجاسة ملاقي النجس ، فإنّه يقتضي نجاسة الملاقي مطلقاً سواء أشرق عليه الشمس مثلاً أم لم تشرق وسواء أ كانت الملاقاة باقية أم لم تكن ، وكذا إطلاق ما دلّ على عدم جواز التوضؤ بما تغيّر ريحه أو طعمه (2) ، فإنّه باطلاقه يشمل ما إذا زال عنه التغير أيضاً ومن هنا لا نحكم بجواز التوضؤ من مثله .

   وعلى الجملة لا يمكن التعدي من الصحيحة إلى غير موردها لاختصاص تعليلها ولا أقل من احتمال التساوي والاجمال ، فلا يبقى حينئذ في البين ما يقتضي طهارة المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه ، حتى يعارض التمسك بالاطلاقين المقتضيين لنجاسته فالترجيح إذن مع الأدلّة الدالّة على نجاسته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي قال : «إن الله عزّ وجلّ لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبـتها» وفي رواية اُخرى : «حرمها لفعلها وفسـادها» ، الوسائل 25  :  342 / أبواب الأشربة المحرمة ب 19 ح 1 ، 3 .

(2) كما في صحيحة حريز ، وروايتي أبي بصير ، وأبي خالد القماط وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 137 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 ، 3 ، 4 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net