إذا كان هناك إناءان أحدهما نجس والآخر طاهر فاُريق أحدهما 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8399

 

الماء المستعمل في الاستنجاء

    القسم الرابع من الماء المستعمل :

   (1) هذا هو القسم الرابع من أقسام الماء المستعمل ، فهل هو كالمستعمل في رفع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 211 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 1 .

ــ[301]ــ

ولو من البول (1) فمع الشروط الآتية طاهر (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحدث الأكبر والأصغر من حيث طهارته ، وجواز استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة من شربه واستعماله في رفع الحدث والخبث ؟

   فيه خلاف بين الأعلام . ويقع الكلام في طهارته ونجاسته أوّلاً ، وبعد إثبات طهارته نتكلم ثانياً في كفايته في رفع الحدث والخبث وعدمها . وبناء على القول بطهارته لا بدّ في منع كفايته في رفعهما من إقامة الدليل عليه ، فان مقتضى القاعدة كفاية الماء الطاهر في رفع كل من الحدث والخبث ، وينعكس الأمر إذا قلنا بنجاسته فان جواز استعماله في رفع الحدث والخبث وعدم تنجيسه لما لاقاه يتوقف على إقامة الدليل عليه ، فان القاعدة تقتضي عدم كفاية الماء المتنجس في رفع شيء من الحدث والخبث .

   (1) سنشير إلى الوجه في إلحاق الماء المستعمل في الاستنجاء من البول بالماء المستعمل في الاستنجاء من الغائط ، مع عدم صدق الاستنجاء في البول فانتظره .

   (2) لا ينبغي الاشكال في أن القاعدة تقتضي نجاسة الماء المستعمل في الاستنجاء لأنه ماء قليل لاقى نجساً وهو ينفعل بالملاقاة ، كما أن مقتضى القاعدة منجسية كل من النجس والمتنجس لما لاقاه ، ولا سيما إذا كان المتنجس من المائعات فان تنجيس المتنجس وإن كان مورد الخلاف بين الأصحاب ، إلاّأن منجسية الماء المتنجس أو غيره من المائعات مما لا خلاف فيه بينهم ، وذلك لموثقة عمار الآمرة بغسل كل شيء أصابه ذلك الماء (1) وعليه فالماء المستعمل في الاستنجاء نجس ومنجس لكل ما لاقاه هذا كلّه حسبما تقتضيه القاعدة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عمّار بن موسى الساباطي «أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً ، أو اغتسل منه ، أو غسل ثيابه ، وقد كانت الفأرة متسلخة فقال : إن كان رآها في الاناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ، ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء...» المروية في الوسائل 1 :  142 / أبواب الماء المطلق ب 4 ح 1 .

ــ[302]ــ

   وأمّا بالنظر إلى الأخبار : فقد دلّ غير واحد منها على عدم نجاسة الملاقي لماء الاستنجاء ، أو على عدم البأس به على اختلاف ألسنتها ، وهذه الأخبار وإن وردت في خصوص الثوب إلاّ أن الظاهر أن لا خصوصية له ولا فرق بينه وبين سائر الملاقيات .

   وكيف كان لا إشكال في طهارة الملاقي لماء الاستنجاء ولا خلاف فيها بينهم . وإنما الكلام في وجه ذلك ، وأن طهارته هل هي مستندة إلى طهارة الماء المستعمل في الاستنجاء ، وإلى أن عدم نجاسته من جهة عدم المقتضي لها فالسالبة سالبة بانتفاء موضوعها ، وخروج الملاقي لماء الاستنجاء عما دلّ على تنجس الملاقي للمائع المتنجس خروج موضوعي ، أو أنها مستندة إلى ما دلّ عليها تخصيصاً لما دلّ على منجسية النجاسات والمتنجسات فماء الاستنجاء وإن كان في نفسه محكوماً بالنجاسة إلاّ أنه لا  ينجس ملاقيه ؟ ولا بدّ في استكشاف ذلك من مراجعة روايات الباب .

   فمنها : ما عن يونس بن عبدالرحمن ، عن رجل ، عن الغير أو عن الأحول أنه قال لأبي عبدالله (عليه السلام) في حديث : «الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به ؟ فقال : لا بأس ، فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس به ؟ قال : قلت : لا والله ، فقال : إن الماء أكثر من القذر»(1). وهذه الرواية لولا ما في ذيلها من التعليل لأمكن أن يرجع نفي البأس في كلامه (عليه السلام) إلى الثوب ومعنى نفي البأس عن الثوب طهارته ، وعليه كانت الرواية ساكتة عن بيان طهارة الماء المستعمل ونجاسته إلاّ أن التعليل المذكور يدلنا على أن نفي البأس راجع إلى الماء المستعمل في الاستنجاء لأنه أكثر من القذر فلا يتغيّر به ، ولأجل طهارته لا ينجس الثوب فالسالبة سالبة بانتفاء موضوعها وأن عدم نجاسة الملاقي من جهة أنه لا مقتضي لها .

   ولكن الرواية مع ذلك مخدوشة سنداً ودلالة : أمّا بحسب السند ، فلجهالة الرجل الذي روى عنه يونس فهي في حكم المرسلة ودعوى أن يونس من أصحاب الاجماع فمراسيله كمسانيده ، ساقطة بما مرّ مراراً من عدم إمكان الاعتماد على المراسيل كان مرسلها أحد أصحاب الاجماع أم كان غيره .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 222 / أبواب الماء المضاف ب 13 ح 2 .

ــ[303]ــ

   وأمّا بحسب الدلالة ، فلأنها في حكم المجمل حيث إن التعليل الوارد في ذيلها كبرى لا مصداق لها غير المقام ، فان معناه أن القليل لا ينفعل بملاقاة النجس إلاّ أن يتغيّر به وتقدم بطلان ذلك بأخبار الكر وغيرها مما دلّ على انفعال القليل بمجرد ملاقاة النجس وإن لم يتغيّر به ، والتغيّر إنما يعتبر في الكر فهذه الرواية ساقطة .

   ومنها : حسنة محمد بن النعمان الأحول بل صحيحته قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به ؟ فقال : لا بأس به» (1) وهذه الرواية وإن كانت تامة بحسب السند إلاّ أن دلالتها كالسابقة في الضعف ، وذلك لأن قوله «لا بأس به» يحتمل أن يكون راجعاً إلى وقوع ثوبه في الماء ، ويحتمل أن يرجع إلى نفس الثوب ، فلا دلالة لها على طهارة الماء المستعمل في الاستنجاء .

   ومنها : موثقة محمد بن النعمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «قلت له : أستنجي ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب ؟ فقال : لا بأس به» (2) . وهذه الرواية إن قلنا إنها ناظرة إلى نفي البأس عما لاقته غسالة المني بقرينة قوله «وأنا جنب» فتخرج عما نحن بصدده ، وهي حينئذ من أحد أدلة عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة ، وأمّا إذا قلنا إنها ناظرة إلى نفي البأس عما لاقاه ماء الاستنجاء كما هو الأظهر ـ  لأن إضافة قوله «وأنا جنب» مستندة إلى ما كان يتوهم في تلك الأزمنة من نجاسة الماء الملاقي لبدن الجنب  ـ فحال هذه الرواية حال سابقتها من حيث عدم تعرضها لطهارة الماء المستعمل في الاستنجاء ونجاسته .

   ومنها : صحيحة عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجّس ذلك ثوبه ؟ قال : لا» (3) وهي صريحة الدلالة على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء ، ولكنها غير متعرضة لطهارة نفس ذلك الماء ونجاسته ، ولم تدل على أن عدم نجاسة الثوب مستند إلى طهارة الماء ، أو مستند إلى تخصيص ما دلّ على منجسية المتنجسات .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) ، (3) الوسائل 1 : 221 / أبواب الماء المضاف ب 13 ح 1 ، 4 ، 5 .

ــ[304]ــ

   فتحصّل إلى هنا أن الأخبار الواردة في المقام كلها ساكتة عن بيان طهارة ماء الاستنجاء وإنما دلت على طهارة ملاقيه فحسب .

   وعليه فيقع الكلام في الحكم بطهارة الماء المستعمل في الاستنجاء من جهة استلزام الحكم بطهارة الملاقي الحكم بطهارة نفس الماء ، أو من جهة الملازمة العرفية بين طهارة الملاقي وطهارة الملاقى .

   أمّا من ناحية استلزام الحكم بطهارة الملاقي طهارة نفس الماء فلا ينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بينهما عقلاً ، لاحتمال أن يكون الماء نجساً ، وإنما لم ينجس الملاقي تخصيصاً لعموم ما دلّ على منجسية المتنجسات ، فلا مناص من التمسك بعموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بالملاقاة ، ولا مجال للتمسك بعموم ما دلّ على منجسية النجس والمتنجس كي تثبت بأصالة عدم تخصيصه طهارة ماء الاستنجاء ، ويستكشف بذلك أن خروجه عن ذلك العموم تخصصي لا تخصيصي ، فانّه لو كان نجساً لكان الحكم بطهارة ملاقيه موجباً لتخصيص العموم .

   والوجه في عدم إمكانه ما أشرنا إليه في محله من أن التمسك بالعموم إنما يسوغ فيما إذا شكّ في حكم فرد بعد إحراز فرديته والعلم بدخوله في موضوع العموم ، كما إذا شككنا في وجوب إكرام زيد العالم ، فانه لا مانع في مثله من التمسك بعموم إكرام العلماء مثلاً بمقتضى بناء العقلاء وبه يثبت وجوب إكرامه ، وأمّا إذا انعكس الحال وعلمنا بالحكم في مورد وشككنا في أنه من أفراد العام ، كما إذا علمنا بحرمة اكرام زيد وترددنا في أنه عالم أو جاهل ، فلم يثبت بناء من العقلاء على التمسك بأصالة العموم لاثبات أنه ليس بعالم .

   ومقامنا هذا من هذا القبيل ، لأ نّا علمنا بعدم منجسية ماء الاستنجاء بمقتضى الأخبار المتقدمة وإنما نشك في أنه من أفراد الماء المتنجس ليكون عدم منجسيته تخصـيصاً في عموم ما دلّ على منجسية الماء المتنجس ، أو أنه طاهر حتى يكون خروجه عن ذلك العموم تخصصاً ، فلا يمكننا التمسك بأصالة العموم لاثبات طهارة ماء الاستنجاء ، بل لا مناص من الرجوع إلى عموم ما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة

ــ[305]ــ

ويرفع الخبث أيضاً لكن لا يجوز استعماله ((1)) في رفع الحدث (1) ولا في الوضوء

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبه يحكم بنجاسته ونلتزم بتخصيص ما دلّ على منجسية الماء المتنجس في خصوص ماء الاستنجاء ، فان عمومه ليس من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، وعليه فالمتعيّن هو ما ذهب إليه الشهيد (قدس سره) كما يأتي عن قريب من أن ماء الاستنجاء نجس لا يجوز اسـتعماله في رفع شيء من الحدث والخبث . نعم ، ثبت العفـو عن الاجتناب عن ملاقيه حسب الأخبار المتقدمة .

   وأمّا من جهة الفهم العرفي فلا ينبغي التأمل في أن العرف يستفيد من حكمه (عليه السلام) بعدم نجاسة الثوب الملاقي لماء الاستنجاء عدم نجاسته بأتم استفادة ، حيث لم يعهد عندهم وجود نجس غير منجس . ويزيد ذلك وضوحاً ملاحظة حال المفتي والمستفتي، فانّه إذا سأل العامي مقلده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بانّه لا بأس به فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء حينئذ . فكما أن الحكم بنجاسة ملاقي شيء يدل بالملازمة العرفية على نجاسة ذلك الشيء نفسه كذلك الحكم بطهارة الملاقي يدل بالملازمة العرفية على طهارة ما لاقاه ، فلا سبيل إلى إنكار الملازمة العرفية بين الملاقي والملاقى من حيث الطهارة والنجاسة ، فاذا ورد أن ملاقي بول الخفاش مثلاً طاهر يستفاد منه عرفاً طهارة بول الخفاش أيضاً .

   وبهذا الفهم العرفي نحكم بطهارة ماء الاستنجاء شرعاً ، فيجوز شربه كما يجوز استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة من الغسل والوضوء ورفع الخبث على ما هو شأن المياه الطاهرة ، إلاّ أن يقوم دليل خارجي على عدم كفايته في رفع الحدث أو الخبث .

   فاذا عرفت طهارة ماء الاستنجاء فيقع الكلام في أنه مع الحكم بطهارته شرعاً هل يكفي في رفع الخبث والحدث أو لا يكفي في رفعهما أو أن فيه تفصيلاً ؟

   (1) الأقوال في المسألة ثلاثة :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط .

ــ[306]ــ

والغسل المندوبين

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   الأوّل : نجاسة ماء الاستنجاء وعدم جواز استعماله في رفع شيء من الخبث والحدث . نعم ، ثبت العفو عن الاجتناب عن ملاقيه بالروايات ذهب إليه الشهيد (قدس سره) (1) وكل من رأى نجاسته .

   الثاني : طهارته وجواز استعماله في رفع كل من الحدث والخبث ، اختاره صاحب الحـدائق (قدس سره) وقوّاه ونسبه إلى المحقق الأردبيلي (قدس سره) (2) في شرح الارشاد مستنداً إلى أنه ماء محكوم بالطهارة شرعاً فيترتب عليه جميع الآثار المترتبة على المياه الطاهرة .

   الثالث : الحكم بطهارته وكفايته في رفع الخبث دون الحدث ، ذهب إليه الماتن (قدس سره) وجملة من محققي المتأخرين ، للاجماعات المنقولة على أن الماء المستعمل في إزالة الخبث لا يرفع الحدث .

   وقد ظهر بطلان القول الأول بما ذكرناه في المسألة المتقدمة ، لأن الالتزام بنجاسة ماء الاستنجاء على خلاف ما تقتضيه الأخبار المتقدمة عرفاً فلا مناص من الحكم بطهارته .

  وأمّا القولان الآخران فالأشبه بالقواعد منهما هو الذي اختاره صاحب الحدائق (قدس سره) وذلك لعدم ثبوت ما يمنع عن استعمال ماء الاستنجاء في رفع الحدث بعد الحكم بطهارته شرعاً ، سوى الاجماعات المدعى قيامها على أن الماء المستعمل في إزالة الخبث لا يرفع الحدث كما ادعاه العلاّمة (قدس سره) (3) وتبعه جملة من الأعلام كصاحب الذخيرة (4) وغيره . وهذه الاجماعات مختلفة فقد اشتمل بعضها على كبرى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الذكرى : 9 السطر 8  .

(2) الحدائق 1 : 469 ، 477 .

(3) المنتهى 1 : 142 .

(4) الذخيرة : 243 السطر 28 .

ــ[307]ــ

كلية طبقوها على ماء الاستنجاء ، كالاجماع المدعى على أن الماء المزيل للنجاسة لا يرفع الحدث ، حيث طبقوه على ماء الاستنجاء لأنه أيضاً ماء مزيل للنجاسة . واشتمل بعضها الآخر على دعوى الاجماع على عدم رافعية خصوص ماء الاستنجاء.

   ولا يمكن الاعتماد على شيء من تلك الاجماعات ، وذلك :

   أمّا أوّلاً : فلما أثبتناه في محله من عدم حجية الاجماعات المنقولة والاجماعات المدعاة في المقام من هذا القبيل ، فان المراد بالاجماع المنقول هو الاجماع الذي لم يبلغ نقله حد التواتر كي يفيد القطع بقول المعصوم (عليه السلام) وإن نقله غير واحد منهم ، ومن الظاهر أن ما ادعاه العلاّمة وغيره من الاجماع غير مفيد للقطع بحكم الإمام بعدم جواز استعمال ماء الاستنجاء في رفع الحدث ، بل ولا يفيد الظن الشخصي أيضاً بالحكم ، وغاية ما هناك أن يفيد الظن نوعاً وهو مما لا يمكن الاعتماد عليه .

   وأمّا ثانياً : فلأن بعض مدعي الاجماع في المسألة استند في حكمه ذلك إلى رواية عبدالله بن سنان ، ومع العلم بمدرك المجمعين أو احتماله كيف يكون الاجماع تعبدياً كاشفاً عن قول الإمام (عليه السلام) بل يكون الاجماع مدركياً ولا بدّ من مراجعة مدركه ، فاذا ناقشنا فيه سنداً أو دلالة يسقط الاجماع عن الاعتبار ، ومن ذلك يظهر أ نّا لو علمنا باتفاقهم أيضاً لم يمكن أن نعتمد عليه لأنه معلوم المدرك أو محتمله فلا يحصل العلم من مثله بقول الإمام (عليه السلام) .

   وأمّا ثالثاً : فلأن من المحتمل أن دعواهم الاجماع إنما هي من جهة ذهابهم إلى نجاسة الغسالة مطلقاً ، وعلى ذلك فحكمهم بعدم ارتفاع الحدث بماء الاستنجاء على القاعدة ، فان النجس لا يكفي في رفع الحدث ، فليس هذا من الاجماع التعبدي في شيء .

  وأمّا رواية عبدالله بن سنان (1) التي استند إليها بعض المانعين فهي التي قدمنا نقلها (2) عن أحمد بن هلال حيث ورد فيها «الماء الذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 215 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 13 .

(2) في ص 283 .

ــ[308]ــ

الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه وأشباهه» وتقريب الاستدلال بها أن ذكر الوضوء في الرواية إنما هو من باب المثال والغرض مطلق رفع الحدث به فيعم الغسل أيضاً ، كما أن الثوب ذكر فيها من باب المثال فان المستعمل في غسل غير الثوب أيضاً محكوم بهذا الحكم ، ويدل عليه ذيل الحديث «وأمّا الذي يتوضأ الرجل به فيغسل وجهه ويده في شيء نظيف فلا بأس ...» أو نلحق الغسل بالوضوء من جهة قوله (عليه السلام) «وأشباهه» أي لا يجوز الوضوء وأشباه الوضوء كالغسل ، فالرواية تدل على أن الماء إذا غسل فيه شيء طاهر نظيف فلا بأس باستعماله في الوضوء والغسل وأمّا إذا غسل فيه شيء غير نظيف فلا يصح استعماله في رفع الحدث مطلقاً ، ومن ذلك يظهر حكم ماء الاستنجاء أيضاً فان مقتضى الرواية عدم كفايته في رفع شيء من الغسل والوضوء حيث غسل به شيء قذر .

   ويدفعه : أن الرواية كما قدمناها ضعيفة سنداً ودلالة ، أمّا بحسب السند ، فلأجل أحمد بن هلال الواقع في طريقها فانّه مرمي بالنصب تارة وبالغلو اُخرى ، وبما أن البعد بين المذهبين كبعد المشرقين استظهر شيخنا الأنصاري (1) (قدس سره) أن الرجل لم يكن له دين أصلاً (2) .

   وأمّا بحسب الدلالة ، فلأن الاستدلال بها إنما يتم فيما إذا قلنا بطهارة الغسالة مطلقاً أو بطهارة بعضها ونجاسة بعضها الآخر ، حيث يصح أن يقال حينئذ إن الرواية دلت باطلاقها على أن الحدث لا يرتفع بالغسالة مطلقاً ولو كانت محكومة بالطهارة كماء الاستنجاء . وأمّا إذا بنينا على نجاسة الغسالة فلا يمكن الاستدلال بها على عدم كفاية ماء الاستنجاء في رفع الحدث ، حيث لا بدّ حينئذ من الاقتصار على مورد الرواية وهو الغسالة النجسة ، ولا يمكن التعدي عنه إلى ماء الاستنجاء لأنه محكوم بالطهارة ولعلّه (عليه السلام) إنما منع عن استعمال الغسالة في رفع الحدث من جهة نجاستها فالرواية لا تشمل ماء الاستنجاء كما أن أكثر المانعين لولا جلهم ذهبوا إلى نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الطهارة :  57 السطر 19 .

(2) تقدّم [ في ص 288 ] أن الرجل موثق ولا ينافيه رميه بالنصب أو الغلو كما مرّ .

ــ[309]ــ

وأمّا المسـتعمل في رفع الخبث غير الاسـتنجاء فلا يجوز استعماله في الوضـوء والغسل ، وفي طهارته ونجاسته خلاف ، والأقوى أن ماء الغسلة المزيلة للعين نجس ، وفي الغسلة غير المزيلة الأحوط الاجتناب ((1)) (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الغسالة مطلقاً ، ومن هنا ناقشنا في تمامية الاجماع المدعى على المنع فان اتفاقهم هذا مستند إلى نجاسة الغسالة عندهم وليس اجماعاً تعبدياً .

   فالمتحصل أن ما ذهب إليه صاحب الحدائق ونسبه إلى الأردبيلي (قدس سره) من كفاية ماء الاستنجاء في رفع الحدث والخبث هو الأوفق بالقواعد ، وإن كان الأحوط مع التمكن من ماء آخر عدم التوضؤ والاغتسال منه ، كما أن الاحتياط يقتضي الجمع بينهما وبين التيمم في سعة الوقت لهما ، ويقتضي تقديمهما على التيمم مع الضيق ، فان الاكتفاء بالتيمم حينئذ خلاف الاحتياط .

   (1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

   أحدهما : في جواز استعماله في رفع الخبث والحدث .

   وثانيهما : في طهارته ونجاسته .

   أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام في ماء الاستنجاء بعينه ، فان قلنا بنجاسته فلا يجوز شربه ولا استعماله في رفع الخبث والحدث ، كما أنه إذا قلنا بطهارته تصح إزالة الخبث به ويجوز استعماله في رفع الحدث كما يجوز شربه لأنه ماء طاهر . ولا دليل على عدم جواز استعماله في رفع الحدث غير الاجماعات المنقولة ورواية ابن هلال ، وقد تقدم الكلام عليهما .

   وأمّا المقام الثاني : فملخص الكلام فيه أن الغسالة إن كانت متغيرة بالنجاسة في أحد أوصافها فلا ينبغي الاشكال في نجاستها وهو خارج عن محل النزاع ، وأمّا إذا لم تتغيّر بأوصاف النجس فقد وقع الخلاف في طهارتها بين الاعلام ، فذهب في المتن إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وإن كان الأظهر طـهارة الغسـالة التي تتعقـبها طهارة المحل ، فحكمها حكم ماء الاسـتنجاء المحكوم بالطهارة .

ــ[310]ــ

التفصيل بين غسالة الغسلة المزيلة للعين فحكم بنجاستها ، وبين غسالة الغسلة غير المزيلة ـ  إمّا لإزالة العين قبلها بشيء أو لأجل عدم العين للنجاسة  ـ فاحتاط فيها بالاجتناب . وذهب جماعة إلى نجاستها مطلقاً ، والتزم جماعة اُخرى بطهارتها كذلك ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره) حيث استدلّ على طهارتها بوجوه وأصر عليها غايتـه ، بل جعل طهارتها من الواضحات (1) ، وهناك قول رابع وهو التفصيل بين غسالة الغسلة التي تتعقبها طهارة المحل فهي طاهرة سواء أ كانت مزيلة للعين أم لم تكن ، وبين غيرها مما لا تتعقبه طهارة المحل فهي نجسة ، فاذا كان المتنجس مما يكفي في تطهيره الغسل مرة واحدة فغسالة الغسلة الاُولى طاهرة لتعقبها بطهارة المحل ، وأمّا إذا احتاج تطهيره إلى تعدد الغسلات فغسالة الغسلة الأخيرة هي المحكومة بالطهارة لتعقبها بالطهارة دون غيرها من الغسلات ولعلّ هذا التفصيل هو الصحيح .

   ولا يخفى أن القول بطهارة الغسالة لا يحتاج إلى إقامة الدليل إذ الأصل في المياه هو الطهارة ونجاستها تحتاج إلى دليل . فان قام دليل على نجاسة الغسالة فهو ، وإلاّ فلا مناص من الالتزام بطهارتها ، ولا بدّ في ذلك من النظر إلى أدلّة القائلين بالنجاسة ، وقد استدلوا على ذلك بوجوه :

   أحدها : ما ادّعاه العلاّمة (قدس سره) من الاجماع على نجاسة الماء القليل المستعمل في غسل الجنابة والحيض إذا كان على بدن المغتسل نجاسة كما نقله في الحدائق (2) .

   وثانيها : عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس .

   وثالثها : الأخبار الدالّة على نجاسة الغسالة بخصوصها كما يأتي عن قريب .

   أمّا الوجه الأول : فيدفعه : أن الاجماع المدعى من الاجماع المنقول بخبر الواحد وهو مما لا يمكن الاعتـماد عليه ، ولا سيما في أمثال المقـام فان مورد كلام العلاّمة (قدس سره) هو الماء الذي يستعمله الجنب والحائض وعلى بدنهما نجاسة من دم أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 1 : 348 .

(2) الحدائق 1 : 478 .

ــ[311]ــ

مني ، وهما لا يزولان بمجرّد صب الماء على البدن ومعه يحكم بنجاسة الماء لملاقاته لعين النجس ، وليس في هذا أي تناف للقول بطهارة الغسالة التي لم تكن معها عين فللقائل بالطهارة أن يلتزم بنجاستها فيما إذا كانت معها عين النجس .

   وأمّا الوجه الثاني : فيرده أن منطوق ما دلّ على أن الماء إذا بلغ كراً لا ينجّسه شيء سالبة كلية ، وهي عام أفرادي ولها إطلاق بحسب الأحوال أيضاً ، ومفادها أن كل شيء صدق عليه عنوان الماء عرفاً إذا بلغ قدر كر لا ينفعل بشيء في جميع حالاته كوروده على النجس وبالعكس وغير ذلك ، وأمّا مفهومه فهو كما بيناه في بحث انفعال القليل وبعض المباحث الاُصولية موجبة جزئية ، ومفادها أن الماء غير البالغ قدر كر ينفعل بشيء ، وليس لها عموم أفرادي ولا إطلاق أحوالي ، فلا يستفاد منها في نفسها انفعال الماء القليل بملاقاة كل واحد من أفراد النجاسات .

   نعم ، أثبتنا عمومها بمعونة القرينة الخارجية وهي الاستقراء التام في أفراد النجاسات ، والاجماع القطعي على عدم الفرق بين آحادها من الكلب والميتة وغيرهما ، وأيضاً ألحقنا المتنجسات بالأعيان النجسة بما دلّ على أن المتنجس منجّس إما مطلقاً أو فيما إذا لم يكن مع الواسطة كما قرّبناه في
محلّه(1). وبهذا كله نحكم بثبوت العموم ، وأن الماء القليل ينفعل بملاقاة كل واحد من أفراد النجاسات والمتنجسات . وأمّا الإطلاق الأحوالي أعني انفعال الماء القليل بملاقاة النجس في جميع حالاته فلا  يستفاد من المفهوم لأنه موجبة جزئية ، ولا دليل على العموم من القرائن الخارجية . فاذن لا دليل لنا على انفعال الماء القليل حال كونه غسالة .

   وتوضيح ذلك : أن المتنجس إذا كان مما يعتبر في تطهيره تعدد الغسل ـ  كالثوب المتنجس بالبول والأواني ونحو ذلك مما فيه عين النجس ، كما إذا كان في المتنجس عين النجاسة ولم تكن تزول بصب الماء عليه مرة واحدة ، والجامع أن لا تكون الغسلة الاُولى متعقبة بطهارة المحل  ـ نلتزم فيه بنجاسة الغسالة لأنه ماء قليل لاقى نجساً ولا  يفرق في ذلك بين حالاته بحسب الذوق العرفي كما بيناه في رد تفصيل السيد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 137 .

ــ[312]ــ

المرتضى (قدس سره) بين ورود القليل وكونه موروداً (1) فان العرف لا يرى فرقاً بينهما بارتكازه ، وإنما يرى انفعاله معلولاً لمطلق الملاقاة ولو حال كونه غسالة وارداً أو موروداً .

   وأمّا إذا كان المتنجس مما لا يعتبر في تطهيره تعدد الغسل ـ  كالمتنجس بغير البول فيما إذا كانت نجاسته حكمية ، وكذا فيما إذا كانت عينية ولكن زالت عينها قبل غسله والجامع أن تكون الغسلة الاُولى متعقبة بطهارة المحل  ـ فلا يمكن الحكم فيه بنجاسة الغسالة ، والوجه فيه أن القول بنجاسة الغسالة حينئذ يستلزم الالتزام بأحد محذورين : فإمّا أن نلتزم بطهارة الماء القليل حين ملاقاته للمتنجس وما دام في المحل ويحكم بنجاسته عند انفصاله عنه بالعصر أو بغيره ، وإمّا أن نقول بانفعاله من حين وصوله للمتنجس ونجاسته مطلقاً قبل انفصاله عنه وبعده ، إلاّ أن خروجه من المتنجس يوجب الحكم بطهارة المتنجس كما هو صريح بعضهم . ولا يمكن الالتزام بشيء منهما :

   أمّا أوّلهما : فلأن القليل لو كان محكوماً بالطهارة حال اتصاله بالمتنجس لم يكن وجه لنجاسته بعد الانفصال ، فلنا أن نسأل عن أنه لماذا تنجس بعد خروجه عن المحل مع فرض طهارته قبل الإنفصال ؟

   ودعوى : أن السبب في تنجسه إنما هي ملاقاته للمتنجس ، وهي تقتضي انفعال الماء القليل على ما دلّ عليه مفهوم روايات الكر .

   مندفعة : بأن أخبار الكر إنما تدل بمفهومها على نجاسة القليل من حين ملاقاته للنجس أو المتنجس ، ولا دلالة لها على انفعالها بعد ملاقاة النجس بزمان من دون أن يتنجس به حين ملاقاته ، فهذا الالتزام بعيد عن الفهم العرفي .

   وأمّا ثانيهما : فلأن طهارة المحل مع فرض نجاسة الماء المستعمل في تطهيره أمر بعيد ، وكيف يطهر بغسله بالماء النجس ، وذلك لأ نّا إذا بنينا على نجاسة الماء حال اتصاله بالمتنجس لزم الحكم بنجاسة المقدار المتخلف منه في الثوب بعد عصره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في شروط التطهير بالماء قبل المسألة [ 308 ] .

ــ[313]ــ

وانفصال غسالته ، فان الماء لا ينفصل عن الثوب بتمامه ، ومع نجاسته كيف يحكم بطهارة المحل فلا مناص من الحكم بنجاسته ، وكذا الحال فيما إذا كان المتنجس بعض الثوب ، فان غسله يستلزم عادة سراية الماء إلى غير الموضع المتنجس منه ولو بمقدار يسير ، وإذا حكمنا بنجاسة الماء فلا محالة يوجب نجاسة غير الموضع المتنجس أيضاً فهذا الوجه كالوجه السابق بعيد عن الأنظار العرفية ، وإن كانا غير مستحيلين عقلاً بحيث لو قام دليل على طهارة الثوب بذلك لم يكن مانع من الالتزام بطهارة المحل ونجاسة غسالته ، كيف وقد عدّ الماتن (قدس سره) خروج الغسالة من شرائط التطهير بالماء ، والتزم كغيره من الأعلام بانفعال الماء القليل حين اتصاله بالثوب وقد عرفت بعده ، وإن لم يكن في الاستبعاد بمثابة الوجه الأول فلا مناص حينئذ من الالتزام بطهارة الغسالة .

   ولا يمكن الاستدلال على نجاسته في هذه الصورة بعموم أدلّة انفعال القليل بالملاقاة ، وذلك لأ نّا وإن بنينا على عدم التفرقة عرفاً في انفعال الماء القليل بين حالاته ، إلاّ أنه إنما يتم في الغسالة غير المتعقبة بطهارة المحل دون ما تتعقبه الطهارة لاستلزام القول بانفعاله ـ  حال كونه غسالة  ـ الالتزام بأحد المحذورين المتقدمين ، وقد عرفت استبعادهما حسب الفهم العرفي ، ونحتمل وجداناً أن تكون للماء القليل ـ  حال كونه غسالة  ـ خصوصية تقتضي الحكم بعدم الانفعال ، ومقتضى القاعدة طهارة الغسالة ، لأنها الأصل الأولي في المياه حتى يقوم دليل على نجاستها ، وليس للمفهوم إطلاق أحوالي حتى يتشبث به في الحكم بنجاسة القليل في جميع حالاته .

   وأمّا الوجه الثالث : فقد استدلوا على نجاسة الغسالة بعدة روايات :

   منها : رواية عبدالله بن سنان المتقدمة (1) حيث دلت على أن الماء الذي غسل به الثوب أو اغتسل فيه من الجنابة لا يصح استعماله في الوضوء وأشباهه ، فلو كانت الغسالة طاهرة لم يكن وجه لمنع استعمالها في الوضوء .

   وترد هذا الاستدلال جهتان : إحداهما : ضعف سندها كما تقدم ، وثانيتهما : المناقشة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 283 .

ــ[314]ــ

في دلالتها ، وذلك لأن المنع فيها من استعمال الغسالة في رفع الحدث حكم تعبدي وغير مستند إلى نجاستها . ومن هنا التزم جمع بطهارة ماء الاستنجاء ومنعوا عن استعماله في رفع الحدث . فلا دلالة للرواية على نجاسة الغسالة بوجه .

   هذا غاية ما يمكن أن يقال في المنع عن دلالة الرواية على نجاسة الغسالة ، إلاّ أن الصحيح أن دلالة الرواية غير قابلة للمناقشة فيما نحن فيه كما اتضح في التكلّم على استعمال الماء المستعمل في الاستنجاء في رفع الحدث الأكبر أو الخبث(1) . فالصحيح في المنع عن الاستدلال بالرواية هي الجهة الاُولى فقط أعني ضعفها بحسب السند .

   ومنها : ما عن العيص بن القاسم ، قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء ؟ فقال : إن كان من بول أو قذر ، فيغسل ما أصابه» (2) وقد رواها في الوسائل عن الشهيد في الذكرى وعن المحقق في المعتبر ، ونقلها صاحب الحدائق عن الشيخ في الخلاف (3) وكأنه الأصل فيها ، ومع هذا لم يسندها في الوسائل إلى الشيخ .

   ثم إن للرواية ذيلاً وهو «وإن كان وضوء الصلاة فلا يضره» ولكن لم يثبت كونه من الرواية ومن هنا لم ينقله صاحب الوسائل (قدس سره) وأسنده في الحدائق إلى بعضهم قائلاً «وزاد بعضهم في آخر هذه الرواية ... الخ» وكيف كان فقد دلت الرواية على نجاسة الغسالة ، ولأجلها حكم (عليه السلام) بغسل ما أصابه من الطشت .

  ويدفعه أيضاً أمران : أحدهما : المناقشة في سندها ، حيث لم يعلم أن الشيخ نقلها من كتاب العيص وهو الذي يعبّر عنه بالوجادة ، لاحتمال أن ينقلها عن شخص آخر نقلها عن العيص ، وذلك الشخص المتوسط مجهول عندنا . فالرواية مقطوعة لا يعتمد عليها في شيء . نعم ، لو ثبت أن الشيخ نقلها عن كتاب العيص لم يكن مناص من الحكم بصحتها لأن طريق الشيخ إلى كتاب العيص حسن على ما صرح به في الحدائق وغيره (4) إلاّ أنه لم يثبت كما عرفت ، ولم يظهر أن الرواية كانت مورداً لاعتماده (قدس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 307 .

(2) الوسائل 1 : 215 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 14 .

(3) الحدائق 1 : 478 .

(4) بل طريقه إليه صحيح . ثم إن الطريق وإن وقع فيه ابن أبي جيد وهو ممن لم يذكر بمدح ولا    قدح إلاّ انّه لما كان من مشايخ النجاشي (قدس سره) وهو قد التزم بأن لا يروي عمّن فيه غمز أو ضعف إلاّ مع واسطة بينه وبينه فيستفاد منه توثيق جميع مشايخه الذين روى عنهم من دون واسطة ومنهم ابن أبي جيد فلاحظ .

ــ[315]ــ

سره) فانّها لو كانت كذلك عنده لأوردها في كتابيه في الأخبار ، ولم يوردها إلاّ في الخلاف (1) ، وكأنه نقلها على وجه التأييد ، فان الفقيه قد يتوسع في الكتب الاستدلالية بما لا يتوسع في كتب الأخبار .

   وثانيهما : المناقشة في دلالتها بأن الأمر بالغسل فيها مستند إلى نجاسة ما في الطشت لا إلى نجاسة الغسالة ، وتوضيحه : أنه قد علق الحكم بغسل ما أصابه في الرواية ، بما إذا كان الوضوء من بول أو قذر ، والبول من الأعيان النجسة يبس أم لم ييبس .

   وأمّا ما عن المحقق الهمداني من أن البول قد يغسل بعد جفافه ولا تبقى له عين حينئذ (2) فظاهر الفساد لوضوح أن البول من الأعيان النجسة سواء أ كان رطباً حال غسله أم كان يابساً .

   وكذا الحال في القذر ، لأنه أيضاً بمعنى عين النجاسة من عذرة أو دم ونحوهما على ما تساعد عليه المقابلة بالبول ، إذ القذر ـ  بفتح الذال  ـ غير القذر ـ  بكسره  ـ فان الثاني بمعنى المتنجس وما يتحمّل القذارة ، وعلى هذا لا بدّ في غسلهما من إزالة عينهما وبذلك يتنجس الماء المزال به عين النجاسة لملاقاته لعين النجس ، وأمّا ما يصب على المتنجس مستمراً أو ثانياً أو ثالثاً فهو ماء طاهر كما مر إلاّ أنه يتنجس بعد وقوعه في الطشت بما فيه من الغسالة الملاقية لعين النجس ، فنجاسة ما في الطشت مستندة إلى امتزاج الغسالة الثانية أو الثالثة مع القليل الملاقي لعين النجس قبل زوالها ، وغير مستندة إلى نجاسة الغسالة كما لا يخفى ، فنجاسة الماء في الطشت في مفروض الرواية مما لا خلاف فيه حتى من القائلين بطهارة الغسالة ، فلا يمكن الاستدلال بها على نجاسة الغسالة في محل الكلام .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخلاف 1 : 179 .

(2) مصباح الفقيه (الطهارة) : 647 السطر 18 .

ــ[316]ــ

   ومنها : موثقة عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سئل عن الكوز والاناء يكون قذراً كيف يغسل ؟ وكم مرة يغسل ؟ قال : يغسل ثلاث مرات ، يصب فيه الماء فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ، ثم يفرغ ذلك الماء ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه وقد طهر ...» الحديث (1) فلو كانت الغسالة طاهرة لم يكن وجه لوجوب إفراغ الماء عن الاناء في المرتبة الثالثة .

   والجواب عن هذا أن مجرد جعل الماء في الإناء لا يوجب صدق عنوان الغسل بالماء القليل ولا يتحقق بذلك مفهومه ، مثلاً إذا أخذ ماء بكفه أو جعل الماء في إناء ليشربه لا يقال إنه غسل كفه أو إناءه بالماء ، بل يتوقف صدق عنوان الغسل على إفراغهما منه ، فالأمر بالافراغ من جهة تحقق عنوان الغسل الواجب ثلاث مرات في تطهير الاناء بالماء القليل ، وغير مستند إلى نجاسة الغسالة .

   ومنها : الأخبار الناهية عن غسالة الحمّام (2) فان الغسالة لو كانت طاهرة لم يكن وجه للنهي عن غسالة الحمام ، وهذه الأخبار وإن كانت معارضة بما دلّ على طهارة غسالته (3) إلاّ أنها عللت طهارتها باتصال الغسالة بالمادّة أو بماء الحياض الصغار المتصلة بالمادّة بالأنابيب ، ومنها يظهر أن الغسالة محكومة بالنجاسة لولا اتصالها بمادتها .

  ولكن الاستدلال بهذه الأخبار إنما ينفع في مقابل القائلين بطهارة الغسالة مطلقاً كما التزم بها صاحب الجواهر (قدس سره) (4) لأن تلك الأخبار كما بيناها تدل على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 497 / أبواب النجاسات ب 53 ح 1 .

(2) كما في موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : «وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمام...» وفي روايته الاُخرى : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام» وغيرهما من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 ، 4 .

(3) كصحيحة محمد بن مسلم وغيرها من الأخبار الدالّة على طهارة ماء الحمام المعللة في بعضها «بأن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً» ، «وأنه بمنزلة الجاري» وفي بعضها : «إذا كانت له مادّة» وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 148 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 2 ، 7 ، 1  ،  4 .

(4) الجواهر 1 : 348 .

ــ[317]ــ

نجاسة الغسالة في نفسها ، ولا ينفع على مسلكنا من التفصيل بين الغسلة المتعقبة بطهارة المحل وسائر الغسالات ، وذلك لأن غسالة الحمام مجمع غسالات متعددة كغسالة المني والدم والكافر والناصب وغيرها من الأعيان النجسة ، والماء القليل إذا صبّ على عين النجاسة ينفعل بملاقاتها ، وأمّا الغسالات الاُخر المتعقبة بطهارة المحل فهي وإن كانت طاهرة في نفسها إلاّ أنها تتنجس في خصوص المقام من جهة اجتماعها مع الغسالة الملاقية لعين الدم أو المني وغيرهما ، وبذلك ينفعل مجمع الغسالة في الحمّامات .

   ولا إطلاق في هذه الروايات كي يتمسك به في الحكم بنجاسة الغسالة مطلقاً لاختصاص الأخبار بغسالة الحمام ، وهي تلاقي الأعيان المختلفة ، فلا تشمل الغسالة غير الملاقية لعين النجس من الغسلة المتعقبة بطهارة المحل .

   فالمتحصّل من جميع ذلك أنه لا دلالة في شيء من الأخبار المتقدمة على نجاسة الغسالة على الاطلاق ، فالغسالة من الغسلة المتعقبة بطهارة المحل باقية على طهارتها من غير حاجة إلى إقامة الدليل على طهارتها .

 

   بقي هنا شيء وهو أن شيخنا الهمداني (قدس سره) ذكر في ضمن كلامه في المقام أن استثناء الأصحاب خصوص ماء الاستنجاء عن عموم انفعال القليل بالملاقاة يشعر باختصاصه بالخروج وعدم طهارة غيره من الغسالات ، فانّها أيضاً لو كانت طاهرة لم يبق وجه لاستثناء خصوص ماء الاستنجاء، لأنه من أحد أفرادها. فتخصيصهم له بالذكر يدلنا على مسلمية نجاسة الغسالة عندهم (1) .

   وهذا الذي أفاده متين إلاّ أن غاية ما يترتب على ذلك هو استكشاف نجاسة خصوص ما كان كنفس ماء الاسـتنجاء من الغسالات الملاقية لعين النجس دون الغسالة غير الملاقية له ، لأن ماء الاستنجاء غسالة لاقت لعين البول والعذرة بل ويتغيّر بهما كثيراً ولو في قطراته الأولية ومقتضى القاعدة نجاسـته ، ولكنهم حكموا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 64 السطر 35 .

ــ[318]ــ

   [ 134 ] مسألة 1 : لا إشكال في القطرات التي تقع في الإناء عند الغسل ، ولو قلنا بعدم جواز استعمال غسالة الحدث الأكبر (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بطهارته تخصيصاً لما دلّ على نجاسة الغسالة الملاقية لعين النجس ، فكأنهم ذكروا أن الغسالة الملاقية لأعيان النجاسات نجسة غير غسالة الاستنجاء ، لما دلّ على طهارتها مع ملاقاتها للبول والعذرة ، وليس في هذا أدنى دلالة على نجاسة الغسالة غير الملاقية للنجس .

    القطرات المنتضحة في الاناء

   (1) لا إشكال في أن القطرات الواقعة في الاناء من الماء المستعمل في رفع الجنابة غير مانعة عن الاغتسال بالماء الموجود في الاناء ، وهذا على القول بجواز رفع الحدث بالماء المستعمل في الجنابة ظاهر ، وأمّا على القول بالمنع فالأمر أيضاً كذلك لعدم شمول أدلّة المنع لماء الاناء . بيان ذلك : ان ما دلّ على عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في الجنابة أحد أمرين :

   أحدهما : الاجماع على أن الماء المستعمل في رفع الجنابة لا يرفع الحدث كما ادّعاه بعضهم ، وهو ـ  مضافاً إلى عدم تماميته في نفسه ، لوجود المخالف في المسألة  ـ لا يقتضي المنع عن استعمال ماء الاناء ، لأن الاجماع لم ينعقد على عدم جواز رفع الحدث بما وقعت عليه قطرات من الماء المستعمل ، لذهاب أكثر الأصحاب إلى الجواز فالإجماع على المنع غير متحقق قطعاً .

   وثانيهما : رواية عبدالله بن سنان التي دلّت على عدم جواز الوضوء وأشباهه من الماء المستعمل في رفع الجنابة أو في رفع الخبث ، وهي أيضاً ـ  على تقدير صحتها سنداً  ـ لا تشمل المقام ، وذلك لأن الموضوع للمنع فيها هو عنوان الماء المستعمل في إزالة الخبث أو في رفع الحدث ، ومن البديهي أن نضح قطرات يسيرة في ماء الإناء لا يوجب صدق عنوان الماء المستعمل عليه ، لاستهلاك القطرات في ضمنه ، وهذا لا  بمعنى استهلاك الماء في الماء فان الشيء لا يستهلك في جنسه بل يوجب ازدياده، بل

ــ[319]ــ

بمعنى أنه يوجب ارتفاع عنوانه ، فلا يصدق على ماء الاناء أنه ماء مستعمل في إزالة الخبث أو في رفع الحدث ، فأدلة المنع لا تشمله . ثم على تقدير تسليم شمولها لماء الاناء ففيما ورد في المسألة من الأخبار غنى وكفاية (1) لدلالتها على عدم البأس بما ينتضح من قطرات ماء الغسل في الاناء .

   وما ذكرناه في المقام إذا كان المنتضح قطرة أو قطرات يسيرة ممّا لا إشكال فيه وإنما الاشكال فيما إذا كانت كثيرة ، كما إذا جمع غسالته وألقاها على ماء آخر ، وهو بمقدار ثلثه أو نصفه بحيث لم يستهلك أحدهما في الآخر فهل يصح الوضوء والغسل من مثله ؟

   ذهب شيخنا الأنصاري (قدس سره) إلى الجواز (2) وهو الصحيح ، والسر في ذلك : أن عدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل في رفع الجنابة على خلاف القاعدة ومناف لطهوريته ، فان الماء المستعمل طاهر ومقتضى إطلاق طهوريته جواز الاكتفاء به في رفع الحدث ، فهب أ نّا خرجنا عن مقتضى القاعدة برواية عبدالله بن سنان ، وقد عرفت أن موضوع المنع فيها هو عنوان الماء المستعمل ، ومن الظاهر أن الماء إذا تركب من المستعمل وغير المستعمل لم يصدق عليه عنوان المستعمل بوجه ، لأن المستعمل جزؤه لا جميعه كما هو الحال في غيره من المركبات ، فان الذهب مثلاً لا يصدق على المركب من الفضة والذهب كما لا يصدق عليه الفضة أيضاً ، وكذا في غيره فان المركب من شيء لا يصدق عليه عنوان ذلك الشيء ، ومع عدم صدق عنوان الماء المستعمل على المركب من الماءين يبقى تحت إطلاقات طهورية الماء لا محالة ومقتضاها جواز الاكتفاء به في رفع الحدث .

   وعلى الجملة الماء المستعمل إما أن يستهلك في ضمن ماء الاناء لقلته ، وإما أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي صحيحة الفضيل قال : «سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء ؟ فقال : لا بأس هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جعل عليكم في الدِّين من حرج ) المروية في الوسائل 1 : 211 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 1 وغيره من أخبار الباب .

(2) كتاب الطهارة :  58 السطر 25 .

ــ[320]ــ

   [ 135 ] مسألة 2 : يشترط في طهارة ماء الاستنجاء اُمور :

   الأوّل : عدم تغيره في أحد الأوصاف الثلاثة (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يندك ماء الاناء في المستعمل لكثرته ، وإما ان يتركب الماء من كل منهما من دون استهلاك أحدهما في الآخر . فعلى الأوّل لا إشكال في الجواز لعدم صدق عنوان المستعمل عليه قطعاً . وعلى الثاني لا إشكال في المنع لصدق أنه ماء مستعمل جزماً . وأمّا على الثالث فلا مانع فيه أيضاً من الجواز ، لفرض عدم صدق المستعمل على المركب منه ومن غيره إذ المركب من الداخل والخارج خارج .

    شرائط طهارة ماء الاستنجاء :

   (1) وإلاّ فهو محكوم بالنجاسة ، لعموم ما دلّ على نجاسة الماء المتغير بأوصاف النجس ، والسر في هذا الاشتراط هو أن السؤال والجواب في روايات الباب ناظران إلى ناحية ملاقاة الماء القليل للعذرة فحسب ، ولا نظر لهما إلى سائر الجهات ، لأن انفعال القليل بالملاقاة كان مرتكزاً في أذهان الرواة ولأجله سألوهم عن حكم الماء القليل في الاستنجاء الملاقي لعين النجس وأجابوا بعدم انفعاله ، فلا يستفاد منها طهارته فيما إذا تغيّر بأوصاف النجس أيضاً ، فان التغيّر ليس أمراً غالبياً في ماء الاستنجاء بل هو نادر جداً فيخرج عن إطلاقات الأخبار لا محالة .

   ثم إن أبيت عن ذلك وجمدت على ظواهر الأخبار بدعوى أنها مطلقة ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في طهارة ماء الاستنجاء بين صورتي تغيره وعدمه ، وأغمضت عن عموم ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر ، وعدم معهودية ماء متغيّر لم يحكم عليه بالنجاسة شرعاً من القليل والكثير وماء الأنهار والآبار والأمطار ، ولم تلتفت إلى أن السؤال والجواب في الأخبار ناظران إلى عدم سببية ملاقاة النجاسة للانفعال في ماء الاستنجاء .

   قلنا : إن النسبة على هذا بين أخبار ماء الاستنجاء ، وما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر عموم من وجه، لأن الطائفة الاُولى تقتضي طهارة ماء الاستنجاء مطلقاً تغيّر بالنجس

 

ــ[321]ــ

   الثاني : عدم وصول نجاسة إليه من خارج (1) .

   الثالث : عدم التعدي الفاحش على وجه لا يصدق معه الاستنجاء (2) .

   الرابع : أن لا يخرج مع البول أو الغائط نجاسة اُخرى مثل الدم (3) . نعم ، الدم

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أم لم يتغيّر به ، كما أن الطائفة الثانية دلت على نجاسة الماء المتغيّر كذلك سواء استعمل في الاستنجاء أم لم يستعمل ، فتتعارضان بالاطلاق في مادّة الاجتماع ، والترجيح مع الطائفة الثانية لأن فيها ما هو عام وهو صحيحة حريز : «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب ...» (1) وبما أن دلالته بالوضع فيتقدم على إطلاق الطائفة الاُولى لا محالة ، وبذلك يحكم بنجاسة ماء الاستنجاء عند تغيّره بأوصاف النجس .

   (1) بأن كانت يده متنجسة قبل الاستنجاء أو كان المحل كذلك أو تنجس بشيء أصابه حال الاستنجاء ، والوجه في هذا الاشتراط هو أن أدلّة طهارة ماء الاستنجاء إنما تقتضي عدم انفعاله بملاقاة عين الغائط أو البول حال الاستنجاء ، وأمّا عدم انفعاله بوصول النجاسة إليه خارجاً فلم يقم عليه دليل ، فيشمله عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس .

   (2) هذا في الحقيقة مقوّم لصدق عنوان الاستنجاء وليس من أحد الشروط وإنما ذكروه تنبيهاً ، وحاصله اعتبار أن يكون الماء المستعمل مما يصدق عليه أنه ماء مستعمل في الاستنجاء ـ الذي هو بمعنى غسل موضع الغائط المعبّر عنه بالنجو ـ وهذا إنما يصدق فيما إذا لم يتجاوز الغائط عن الموضع المعتاد ، وأمّا إذا تجاوز عنه كما إذا كان مبتلى بالاسهال فأصاب الغائط فخذه أيضاً ، فلا يصدق على غسل الفخذ عنوان الاستنجاء بوجه فيبقى الماء تحت عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل ، ولعلّ هذا مما لا خلاف فيه .

   (3) بمعنى أنه كما يشـترط في طهارة ماء الاسـتنجاء أن لا تصل إليه نجاسـة من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 137 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 .

ــ[322]ــ

الذي يعد جزءاً من البول ((1)) أو الغائط لا بأس به (1) .

   الخامس : أن لايكون فيه الأجزاء من الغائط(2) بحيث يتميز أمّا إذا كان معه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخارج ، كذلك يشترط فيها عدم وصول النجاسة إليه من الداخل ـ  كالدم الخارج مع الغائط أو البول  ـ وهذا كما أفادوه ، لما مرّ من أن الاستنجاء بمعنى غسل موضع النجو وهو الغائط ، وأمّا غسل الدم فهو ليس من الاستنجاء في شيء .

   (1) لا وجه لهذا الاستثناء ، لأن الدم الخارج من الغائط مثلاً إن كان منعدماً في ضمنه بالاستهلاك فلا كلام في طهارة الماء حينئذ ، إلاّ أنه خارج عن اختلاط الدم بالغائط حيث لا دم ليعد جزءاً من الغائط . وأمّا إذا لم يستهلك فيه وكان موجوداً معه فتعود المناقشة المتقدمة ويقال : الاستنجاء بمعنى غسل موضع النجو ، ولا يصدق على غسل الدم وموضعه ، فلا مناص من الحكم بنجاسته فهذا الاستثناء مشكل .

   وأشكل منه ما إذا خرج الدم مع البول ، وذلك لأنه لم يدل دليل لفظي على الماء المستعمل في إزالته ، إذ الاستنجاء كما مرّ بمعنى غسل موضع النجو أو مسحه بالأحجار ، والنجو هو ما يخرج من الموضع المعتاد من غائط أو ريح وهو لا يشمل البول . وغسله ليس من الاستنجاء في شيء إلاّ أ نّا ألحقنا البول بالغائط من جهة الملازمة العرفية ، لعدم معهودية الاستنجاء من الغائط في مكان ، ومن البول في مكان آخر إذا العادة جرت على الاستنجاء منهما في مكان واحد ، وقد حكم على الماء المستعمل في إزالتهما بالطهارة ، فيستفاد من ذلك طهارة الماء المستعمل في إزالة البول أيضاً ، والمقدار المسلّم من هذه الملازمة هو طهارة الماء المستعمل في إزالة نفس البول . وأمّا المستعمل في البول مع الدم فلم تتحقق فيه ملازمة ، فان خروج الدم معه أمر قد يتفق ، وليس أمراً دائمياً أو غالبياً ، فلا يمكن الحكم بطهارته .

   (2) والوجه في هذا هو أنّ المتعارف في الإستنجاء ما إذا بقي من النجاسة في الموضع شيء يسير بحيث لا يوجد شيء من أجزائها المتمايزة في الماء وهو الذي حكمنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على نحو يستهلك في البول أو الغائط .

ــ[323]ــ

دود أو جزء غير منهضم من الغذاء أو شيء آخر لا يصدق عليه الغائط فلا بأس به .

   [ 136 ] مسألة 3 : لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء سبق الماء على اليد وإن كان أحوط (1) .

   [ 137 ] مسألة 4 : إذا سبق بيده بقصد الاستنجاء ثم أعرض ثم عاد لا بأس إلاّ إذا عاد بعد مدة ينتفي معها صدق التنجس بالاستنجاء فينتفي حينئذ حكمه (2) .

   [ 138 ] مسألة 5 : لا فرق في ماء الاستنجاء بين الغسلة الاُولى والثانية في البول الذي يعتبر فيه التعدّد (3) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيه بالطهارة ، وأمّا إذا كان الباقي في الموضع كثيراً خارجاً عن العادة على نحو وجد بعض أجزائها في الماء متميزاً حين الاستنجاء أو بعد الفراغ عنه ، فلا يمكن الحكم فيه بطهارة الماء وذلك لأن الأجزاء الموجودة في الماء نجاسة خارجية ، وملاقاتها توجب الانفعال فلا مناص من الحكم بنجاسته . وأمّا ما دلّ على طهارة ماء الاستنجاء فهو إنما دلّ على أن ملاقاة الماء القليل لعين النجاسة في موضعها لا توجب الانفعال ، دون ما إذا كانت الملاقاة في غير موضع النجس .

   (1) هذا هو الشرط السادس الذي اشترطه بعضهم في طهارة ماء الاستنجاء إلاّ أن جملة من المحققين (قدس الله أسرارهم) لم يرتضوا باشتراطه ، وهو الصحيح فان كلاً من سبق الماء على اليد وسبق اليد على الماء أمر متعارف في الاستنجاء ، والاطلاق يشملهما وهو المحكم في كلتا الصورتين. نعم، لو أصابت يده الغائط لا لأجل الاستنجاء بل بداعي أمر آخر لم يحكم عليها بالطهارة ، لعدم صدق الاستنجاء عليه .

   (2) لأجل عدم صدق الاستنجاء في حقه .

   (3) ليس الوجه في ذلك هو الاطلاق كما في بعض الكلمات ، حيث لا دليل لفظي على طهارة الماء المستعمل في إزالة البول حتى يتمسك باطلاقه، بل مستنده هو الملازمة العرفية التي قدمنا تقريبها آنفاً ، فان العادة جرت على الاستنجاء من البول والغائط في

ــ[324]ــ

   [ 139 ] مسألة 6 : إذا خرج الغائط من غير المخرج الطبيعي فمع الاعتياد كالطبيعي ((1)) ومع عدمه حكمه حكم سائر النجاسات في وجوب الاحتياط من غسالته (1) .

   [ 140 ] مسألة 7 : إذا شكّ في ماء أنه غسالة الاستنجاء أو غسالة سائر النجاسات يحكم عليه بالطهارة ((2)) (2) وإن كان الأحوط الاجتناب .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مكان واحد مرة أو مرتين ، وقد حكم على المستعمل في إزالتهما بالطهارة .

   (1) قد فصّل الماتن (قدس سره) بين ما إذا كان خروج الغائط من غير الموضع المعتاد اعتيادياً ، كما إذا انسد مخرجه لمرض أو علاج ، وجعلت له ثقبة اُخرى ليخرج منها غائطه فحكم فيه بطهارة الغسالة ، وما كان خروجه عنه اتفاقياً ، كما إذا أصاب بطنه سكين فخرج من موضع إصابته غائط فحكم في غسالته بالنجاسة ، لأنه أمر اتفاقي لا يطلق عليه الاستنجاء .

   ولكن ما أفاده في نهاية الإشكال ، لأن الاستنجاء لا يصدق على غسل موضع الغائط أو مسحه في ما إذا خرج من غير موضعه ، إذ النجو هو ما خرج من الموضع المعتاد من ريح أو غائط ، وليس معناه مطلق ما خرج من البطن ، فالغائط الخارج من غير موضعه ليس بنجو ، وغسله أو مسحه لا يسمى استنجاء ، من دون فرق في ذلك بين كون الموضع العرضي اعتيادياً وعدمه ، هذا ولا أقل من انصراف الأخبار إلى الاستنجاء المتعارف .

    ما شكّ في كونه ماء الاستنجاء :

   (2) لقاعدة الطـهارة لأجل الشك في تأثر الماء وانفعاله ، أو لاستصحابها لعلمه بطهارة الماء قبل استعماله ، وما ذكره (قدس سره) يتوقف على القول بأن التخصيص ولو كان بمنفصل يوجب تعنون الباقي تحت العام بعنوان وجودي أو ما هو كالوجودي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فيه إشكال بل منع .

(2) بل يحكم عليه بالنجاسة إذا كان طرف العلم الاجمالي من الغسالات النجسة .

ــ[325]ــ

   [ 141 ] مسألة 8 : إذا اغتسل في كر كخزانة الحمام أو استنجى فيه لا يصدق عليه غسالة الحدث الأكبر أو غسالة الاستنجاء أو الخبث (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعليه فان عموم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس قد خصص بماء الاستنجاء ، فلا محالة يتعنون الباقي بعنوان المستعمل في سائر النجاسات ، أو بغير المستعمل في الاستنجاء، لأن عنوان الغير نظير العنوان الوجودي ، فيقال القليل المستعمل في سائر النجاسات أو غير المستعمل في الاستنجاء ينفعل بملاقاة النجس ، ومن الظاهر أن صدق هذا العنوان على الغسالة المفروضة غير محرز ، لاحتمال أنه من المستعمل في الاستنجاء ، ومع الشك في الانطباق لا يمكن التمسك بالعام ، فيرجع فيه إلى قاعدة الطهارة كما مر .

   وأمّا بناء على ما سلكناه من أن التخصيص بعنوان وجودي إنما يوجب تعنون العام بالعنوان العدمي ، فاذا ورد أكرم العلماء ثم خصص بلا تكرم فساقهم ، يكون الباقي تحت العموم معنوناً بالعالم الذي ليس بفاسق على نحو سلب الوصف ، لأن الظاهر من مثله عرفاً أن صفة الفسق مانعة من الاكرام ، فالعالم الذي لا تكون معه تلك الصفة هو الباقي تحت العموم لا العالم المقيد بالعدالة أو بغير الفسق ، وعليه فالماء القليل في المقام ـ  المحكوم بالانفعال على تقدير ملاقاة النجس  ـ إنما يتقيد بأن لا يكون مستعملاً في الاستنجاء وهو عنوان عدمي ولا وجه لتقييده بما يكون مستعملاً في سائر النجاسات أو بغير المستعمل في الاستنجاء .

   وحينئذ لا مانع من إحراز أن المشكوك من أفراد العموم بالاستصحاب ، لأن الماء المشكوك فيه لم يكن متصفاً بصفة ماء الاستنجاء في زمان وهو الآن كما كان ، فهو ماء قليل لاقى نجساً بالوجدان وليس بماء الاستنجاء بحكم الاستصحاب ، فبضم الوجدان إلى الأصل نحرز أنه من الأفراد الباقية تحت العام ويحكم عليه بالانفعال ، ومعه لا يبقى لقاعدة الطهارة أو لاستصحابها مجال .

    الماء المستعمل الكثير :

   (1) إذا بنينا على أن الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر أو في الاستنجاء أو في

ــ[326]ــ

سائر الأخباث على تقدير طهارته كما في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل لا يرفع الحدث فهل يختص هذا بالماء القليل أو يعم الكثير أيضاً ؟

   الصحيح أن المنع يختص بالقليل ، والمسألة اتفاقية بين الأصحاب . وقد ذكر المحقق (قدس سره) في المعتبر أن هذا المنع عن الاستعمال حتى في الكثير لو تمّ لمنع من الاغتسال في البحر أيضاً فيما اغتسل فيه جنب أو استنجى به أحد ، فانّه على هذا لا يفرق بين كر وأكرار ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، فالمنع مختص بالقليل .

   بل إن رواية عبدالله بن سنان (1) التي هي سند القول بالمنع إنما دلت ـ  على تقدير تسليم دلالتها  ـ على عدم جواز رفع الحدث بالماء الذي اغتسل به الجنب أو اُزيل به الخبث ، ومن الظاهر أن هذا كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره)(2) يختص بالماء الذي مسّ بدن الجنب وأصابه ، إذ لو لا مماسته وإصابته للبدن إما بوروده على الماء أو بورود الماء عليه لم يصدق عليه أنه ماء اغتسل به الجنب ، ومن الظاهر أن ذلك لا يصدق في مثل البحر والنهر والخزانة ونحوها إلاّ على خصوص الناحية التي اغتسل فيها الجنب ، ولا يصدق على الناحية الاُخرى التي لم يمس بدنه ولا أصابه فهل ترى صدق عنوان الاغتسال به على كأس منه إذا أخذناه من غير الناحية التي اغتسل فيها الجنب . وكذا الحال فيما إذا صبّ الكر على بدنه ، لأن ما ارتفع به حدثه ، واغتسل به هو المقدار الذي مسّ بدنه دون غيره .

   نعم ، لو كانت العبارة المذكورة في الرواية «اغتسل فيه» بدل جملة «اغتسل به» لصدق ذلك على جميع ماء النهر فانّه ماء اغتسل فيه الجنب . فعلى هذا فالمقتضي للمنع في غير الطرف الذي اغتسل فيه الجنب قاصر في نفسه ، بل نقول إذا كان الماء القليل في ساقية طولها عشرون ذراعاً مثلاً ، واغتسل الجنب في طرف منه لا يصدق على الطرف الآخر عنوان الماء الذي اغتسل به جنب ، وكذا فيما إذا استنجى أو غسل ثوبه في ناحية منه ، وعليه فالمنع يختص بالأجزاء التي مست بدن الجنب عرفاً دون غيره .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المتقدمة في ص 283 .

(2) كتاب الطهارة :  58 السطر 19 .

ــ[327]ــ

   ثم لو تنزّلنا عن ذلك فهناك صحيحتان قد دلتا على عدم المنع من استعمال الماء الكثير في غسل الجنابة وإن اغتسل به الجنب .

   إحداهما : صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحياض التي ما بين مكة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها ؟ قال : وكم قدر الماء ؟ قال : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال : توضأ منه» (1) وذلك لوضوح أنه لا موضوعية لبلوغ الماء نصف الساق أو الركبة بل المراد بذلك بلوغه حدّ الكر ، فان الماء الذي يرده الجنب في الصحاري ويغتسل فيه يبلغ حدّ الكر لا محالة ، وقد رخّص (عليه السلام) في رفع الحدث به ، وإن اغتسل فيه الجنب .

   وثانيتهما : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : «كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الانسان من بول أو يغتسل فيه الجنب ما حدّه الذي لا يجوز ؟ فكتب لا توضأ من مثل هذا إلاّ من ضرورة إليه» (2) والوجه في الاستدلال بها أن النهي فيها محمول على الكراهة ، لعدم الفرق عند القائلين بالمنع بين حالتي التمكن والاضطرار .

   وقد ورد في رواية محمّد بن علي بن جعفر المتقدمة(3) «من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه ...» (4) وهي أيضاً قرينة على إرادة الكراهة من النهي في الصحيحة المتقدمة ، لأنها في مقام الإرشاد إلى التحفظ من سراية الجذام .

   ثم إنه إذا بنينا على أن الماء الذي رفع به الحدث الأكبر أو استعمل في إزالة الخبث لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً ، وقلنا باختصاص هذا الحكم بغير الكر من جهة الصحيحتين فلا موجب للتعدي من الكر إلى غيره من المعتصمات ، لأن الدليل قد دلّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 162 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 12 .

(2) الوسائل 1 : 163 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 15 .

(3) في ص 280 .

(4) الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 2 .

ــ[328]ــ

   [ 142 ] مسألة 9 : إذا شكّ في وصول نجاسة من الخارج أو مع الغائط يبني على العدم (1) .

   [ 143 ] مسألة 10 : سلب الطهارة أو الطهورية عن الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر أو الخبث، استنجاءً أو غيره ، إنما يجري في الماء القليل دون الكر فما زاد كخزانة الحمّام ونحوها(2).

   [ 144 ] مسألة 11 : المتخلّف في الثوب بعد العصر من الماء طاهر فلو اُخرج بعد ذلك لا يلحقه حكم الغسالة. وكذا ما يبقى في الاناء بعد إهراق ماء غسالته(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باطلاقه على المنع من رفع الحدث بكل ماء استعمل في غسل الجنابة أو في رفع الخبث ، وإنما خرجنا عن هذا العموم بهاتين الصحيحتين في خصوص الكر ، وأمّا بقية المعتصمات فلم يقم على عدم المنع منها دليل ، فان اعتصام ماء وعدم انفعاله لا ينافي عدم جواز استعماله في رفع الحدث ، فالمطر وذو المادّة وإن كانا لا ينفعلان بشيء إلاّ أن ذلك لا يوجب ارتفاع الحدث بهما فيما إذا صدق عليهما عنوان الماء المستعمل في غسل الجنابة أو في رفع الخبث ، اللّهمّ إلاّ أن يقوم إجماع قطعي على عدم الفرق في ذلك بين الكر وغيره من المياه المعتصمة .

   (1) قد عرفت أن طهارة ماء الاستنجاء مشروطة بعدم وصول نجاسة خارجية إليه فان أحرزنا ذلك فهو ، وأمّا إذا شـككنا في إصابتها فالأصل أنه لم يلاق نجاسـة اُخرى وأنها لم تصل إليه ، وبالجملة النجاسة التي قد استنجى منها غير مؤثرة في نجاسة الماء ، وغيرها مدفوع بالأصل .

   (2) هذا على سبيل منع الخلو ، يريد بذلك سلب الطهارة والطهورية عن بعض أقسامه وسلب الطهورية عن بعضها الآخر ، ولكنه تكرار للمسألة المتقدمة .

    الماء المتخلّف بعد العصر

   (3) هناك أمران :

   أحدهما : طهارة المتخلف في الثوب بعد عصره بالمقدار المتعارف .

   وثانيهما : أن المتخلف فيه إذا أخرج بعد ذلك لا يكون غسالة فلا يلحقه حكمها

ــ[329]ــ

   [ 145 ] مسألة 12 : تطهر اليد تبعاً بعد التطهير فلا حاجة إلى غسلها ، وكذا الظرف الذي يغسل فيه الثوب ونحوه (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وليس الأمر الثاني متفرعاً على الأول بأن يكون عدم كونه غسالة مستنداً إلى طهارته لأنه ليس كل غسالة نجسة حتى يتوهّم أن الماء إذا حكم عليه بالطهارة فهو ليس بغسـالة ، وهذا كغسالة الاسـتنجاء وغسالة الغسلة المتعقبة بطهارة المحل على ما اخترناه .

   وعليه فتفريعه (قدس سره) بقوله : فلو اُخرج ... الخ في غير محله ، فلو انّه كان عكس الأمر وقال إن المتخلف في الثوب ليس بغسالة فهو طاهر كان أولى ، وكيف كان فلا اشكال في حكم المسألة ، فانّه لا اشكال في أن المتخلف في الثوب بعد عصره ماء آخر وليس من الغسالة في شيء ، فان الغسالة هي ما يغسل به الشيء ، والذي غسل به الثوب مثلاً هو الماء المنفصل عنه بالعصر المتعارف ، ولم يغسل بالماء الذي لم ينفصل عنه ، لما تقدم من أن مفهوم الغسل متقوم باصابة الماء للمغسول به وانفصاله عنه ، فلا يتحقق الغسل من دون انفصال الماء ، فالغسالة هي الماء المنفصل عنه بالعصر ، وبخروجها يتصف المحل بالطهارة وإن كان رطباً ، لوضوح عدم اشتراط صدق الغسل بيبوسة المحل ، ومع صدقه لا مناص من الحكم بطهارة المحل ، ومعه تتصف الأجزاء المتخلفة فيه بالطهارة ، ولا يصدق عليها عنوان الغسالة إذا انفصلت عن الثوب بعد ذلك . وكذا الحال في غسل الأواني إذ الماء بعد إصابتها وانفصاله عنها ـ  وهما المحققان لمفهوم الغسل  ـ يبقى فيها شيء من أجزائه وهو طاهر ولا يعدّ من الغسالة كما مرّ ، فلو كثرت الأواني أو الثياب واجتمع من مياهها المتخلّفة فيها مقدار أمكن به الوضوء أو الغسل ، لم يكن مانع من استعماله فيهما بعد الحكم بطهارته وعدم صدق الغسالة عليه .

    طهارة اليد ونحوها بالتبع

   (1) وقد استدلّ على طهارة اليد والظرف بالملازمة ، واستبعاد الحكم بنجاستهما مع طهارة المغسول من دون أن يتنجس بهما ، فبالسكوت في مقام الحكم بطهارة المغسول

ــ[330]ــ

وعدم التعرّض لحكم اليد والظرف يستكشف طهارتهما بتبع طهارة المغسول ، وقد ذكروا نظير ذلك في يد الغاسل وفي السدة والخرقة في غسل الميت ، وحكموا بطهارتها بالتبعية ، هذا .

   ولكن الصحيح أنه لا دليل على طهارة اليد والظرف بتبع طهارة المتنجس المغسول . نعم ، الغالب غسلهما حين غسل المتنجس ، وعليه فطهارتهما مستندة إلى غسلهما كما أن طهارة المغسول مستندة إلى غسله ، حيث لا يعتبر غسلهما عليحدة ولا مانع من تطهيرهما معه فيحكم بطهارة الجميع مرة واحدة . نعم ، لو أصاب الماء أعالي اليد والظرف في الغسلة الاُولى فيما يحتاج فيه إلى تعدد غسله ، ولم يبلغه الماء في الغسلة المطهّرة لم يمكن الحكم بطهارتهما بالتبعية لعدم الدليل عليه ، وبعبارة اُخرى إنما نحكم بطـهارة اليد والمركن عند تطهير الثياب مثـلاً ، لانغسـالهما بغسل الثوب ، لا لأجـل تبعيتهما للثوب في الطهارة إذ لا شاهد على الطهارة بالتبعية في المقام ، هذا كلّه في اليد والظرف . وأمّا طهارة يد الغاسل أو السدة والخرقة فسيأتي الكلام عليها في محلّه إن شاء الله .

    بقيت هناك شبهة وهي أن مقتضى صحيحة محمّد بن مسلم (1) كفاية غسل المتنجس بالبول في المركن مرتين في تطهيره ، ومقتضى ما قدمناه هو الحكم بطهارة المركن أيضاً ، لانغساله بغسل الثوب فيه مرتين ، مع أن الحكم بطهارة مثله لا يستقيم إلاّ على القول بالتبعية ، فان الوجه في طهارته لو كان هو انغساله بغسل الثوب فيه لم يمكن الحكم بطهارته بمجرد غسله مرّتين ، لأن المركن من قبيل الأواني ، وهي لا تطهر إلاّ بغسلها ثلاث مرات على ما نطقت به موثقة عمار (2) فالحكم بطهارته بغسل الثوب فيه مرّتين لا وجه له غير القول بطهارته بتبع طهارة الثوب .

   ويدفعها: أن الآنية في لغة العرب عبارة عن الظروف المستعملة في خصوص الأكل والشرب أو فيما هو مقدمة لهما كالقدر ، ولم يظهر لنا مرادفها في الفارسية وليس معناها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(2) الوسائل 3 : 496 / أبواب النجاسات ب 53 ح 1 .

ــ[331]ــ

   [ 146 ] مسألة 13 : لو اُجري الماء على المحل النجس زائداً على مقدار يكفي في طهارته ، فالمقدار الزائد بعد حصول الطهارة طاهر وإن عدّ تمامه غسلة واحدة ولو كان بمقدار ساعة ، ولكن مراعاة الاحتياط أولى (1) .

   [ 147 ] مسألة 14 : غسالة ما يحتاج إلى تعدد الغسل كالبول مثلاً إذا لاقت شيئاً ، لا يعتبر فيها التعدد وإن كان أحوط (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مطلق الظروف ، وعليه فلا يعتبر في تطهير المركن غسله ثلاث مرات ، لاختصاص ذلك بالآنية . بل وكذلك الحال في ما ورد من النهي عن استعمال أواني الذهب والفضة فان الحرمة مختصة بما هو معد للأكل والشرب أو لما هو مقدمة لهما ، ولا تعم مطلق الظروف وإن لم تكن آنية . وعلى الجملة ينحصر الوجه في طهارة المركن واليد بما أشرنا إليه آنفاً من انغسالهما بغسل الثوب ونحوه .

   (1) فان الماء الجاري عليه زائداً على المقدار المعتبر في غسله وطهارته لا يعد من الغسالة في شيء فلا يحكم بنجاسته على تقدير القول بنجاستها ، كما لا نمنع عن جواز استعماله في رفع الحدث إذا قلنا بالمنع في الغسالات ، والوجه فيه : أن المعتبر في تطهير المتنجس هو إجراء الماء عليه على نحو يعدّ غسلاً عرفاً ، وقد أسلفنا أن الغسل يتحقّق بخروج الغسالة وانفصال الماء عن المغسول به ، وعليه إذا أجرينا الماء على متنجس وأزلنا به عين النجس ثم انفصلت عنه غسالته فقد طهر بحكم الشرع ، فالماء الجاري عليه بعد المقدار الكافي في طهارته ماء ملاق للجسم الطاهر ، ولا يعد من الغسالة كي لا يرتفع بها الحدث على القول به ، بل الغسالة هي الماء الخارج بعد إجراء الماء عليه بمقدار يكفي في غسله ، وأمّا ما ذكره الماتن من الاحتياط باحتمال عد مجموع ما يخرج منه غسالة لاتصاله فهو ضعيف غايته .

    عدم اعتبار التعدّد في ملاقي الغسالة

   (2) إنما تعرض (قدس سره) لهذه المسألة في المقام لمناسبة طفيفة ، وحقها أن تؤخر إلى مبحث المطهرات ، ويتكلّم هناك في أن التعدد في الغسل يعتبر في أي غسالة ولا

ــ[332]ــ

يعتبر في أيها ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه ، وإنما نتكلّم عنها بمقدار يناسب المقام فنقول : الكلام في هذه المسألة يقع من جهتين :

   إحداهما : من جهة الأصل العملي ، وأنه إذا شككنا في طهارة شيء ونجاسته بعد غسله مرة واحدة ـ  لاختلاف النجاسات في ذلك حيث يعتبر في بعضها الغسل مرتين كما في البول ، وتكفي المرة الواحدة في بعضها الآخر كما يعتبر في بعضها الغسل سبع مرّات  ـ فهل يرجع فيه إلى استصحاب النجاسة للعلم بتحققها سابقاً والشك في زوالها بالغسل مرة ، أو أن المرجع حينئذ هي قاعدة الطهارة ؟ وهذه المسألة تبتني على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية وعدمه ، فعلى الأول يرجع في المقام إلى استصحاب النجاسة حتى نتيقن بزوالها ، كما أنه على الثاني يرجع إلى قاعدة الطهارة .

   وثانيتهما : من جهة الدليل الاجتهادي وأنه إذا بنينا على جريان استصحاب النجاسة في أمثال المقام فهل هناك دليل اجتهادي من عموم أو اطلاق يقتضي كفاية الغسل مرة كي يمنع عن جريان الأصل العملي حينئذ ؟ هذه الجهة هي التي يقع الكلام فيها في المقام ، وأمّا الجهة الاُولى فتحقيقها موكول إلى محلّه وقد ذكرنا فيه أن الصحيح عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية فنقول :

   الصحيح أن في المقام اطلاقات تقتضي الاكتفاء في تطهير المتنجسات بالغسل مرة واحدة وهي مانعة عن جريان استصحاب النجاسة ، وبها نحكم بكفاية الغسل مرة فيما لاقته غسالة متنجسة ، ولا تجري أحكام المتنجس إلى غسالته فلا نعتبر التعدد في غسالة ما يعتبر فيه التعدّد . ومن هنا اتفق الأصحاب (قدس سرهم) على عدم وجوب التعفير فيما لاقاه الماء المستعمل في تطهير ما ولغ فيه الكلب وعلى كفاية غسله مرّة واحدة . وعلى الجملة أن مقتضى تلك الاطلاقات الاكتفاء بالغسل مرة واحدة في تطهير أي متنجس من أي نجس . وتستفاد هذه الاطلاقات من الأوامر الواردة في غسل المتنجسات من دون تقييده بمرّتين أو أكثر ، وإليك بعضها :

   منها : صحيحة زرارة قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئاً وصلّيت ثم إني ذكرت بعد ذلك ؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله . قلت : فانّي لم أكن رأيت

ــ[333]ــ

   [ 148 ] مسألة 15 : غسالة الغسلة الاحتياطيّة إستحباباً يستحب الاجتناب عنها (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته ، قال : تغسله وتعيد ...» الحديث (1) حيث اشتملت على الأمر بغسل الثوب المتنجس من دون أن يقيده بمرتين أو أكثر .

   ومنها : موثقة عمار الساباطي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أنه سئل عن رجل ليس عليه إلاّ ثوب ولا تحل الصلاة فيه ، وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع ؟ قال : يتيمم ويصلي فاذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة» (2) وقد دلت على أن الثوب إذا لم تحل فيه الصلاة لنجاسته ـ لا لأجل مانع آخر ككونه مما لا يؤكل لحمه بقرينة قوله بعد ذلك : وليس يجد ماء يغسله ـ يطهر بمطلق غسله من دون تقييده بمرتين أو أكثر .

   ومنها : ما عن أبي الحسن (عليه السلام) «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلاّ أن يعلم أنه قد نجسه شيء بعد المطر ، فان أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله وإن كان الطريق نظيفاً لم تغسله» (3) ومنها غير ذلك من الأخبار الواردة في أبواب النجاسات الآمرة بمطلق الغسل في تطهير المتنجسات يقف عليها المتتبع في تلك الأبواب ، هذا كلّه على أن القذارة الشرعية كالقذارات العرفية ، فكما يكتفى في الثانية بازالتها بالغسل فلتكن الاُولى أيضاً كذلك من دون أن يتوقف على تعدد الغسل .

   (1) وذلك لأن حال ماء الغسالة حينئذ حال المغسول به بعينه فكما أن استحباب الاجتناب عنه بملاك احتمال نجاسته، لأن قاعدة الطهارة أو استصحابها تقتضي طهارته فكذلك غسالته بناء على نجاسة الغسالة أو عدم جواز استعمالها في رفع الحدث ، فان قاعدة الطهارة وإن كانت تقتضي طهارتها إلاّ أن ملاك استحباب الاجتناب ـ  وهو احتمال نجاسة الغسالة أو عدم كفايتها في رفع الحدث  ـ يرجح الاجتناب عنها ، كما كان يقتضي ذلك في نفس المغسول به .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 479 / أبواب النجاسات ب 42 ح 2 .

(2) الوسائل 3 : 485 / أبواب النجاسات ب 45 ح 8 .

(3) الوسائل 3 : 522 / أبواب النجاسات ب 75 ح 1 .

ــ[334]ــ

 فصل

[  في الماء المشكوك  ]

    الماء المشكوك نجاسته طاهر (1) إلاّ مع العلم بنجاسته سابقاً ، والمشكوك إطلاقه لا يجري عليه حكم المطلق(2) إلاّ مع سبق إطلاقه ، والمشكوك إباحته محكوم بالاباحة إلاّ مع سبق ملكية الغير أو كونه في يد الغير المحتمل كونه له (3) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل في الماء المشكوك

    (1) حتى يعلم نجاسته ولو بالاستصحاب كما إذا كان مسبوقاً بالنجاسة ويدل على ذلك قوله (عليه السلام) في موثقة عمار : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر ...» (1) وقوله (عليه السلام) «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنه قذر» (2) ويدل عليه أيضاً جميع ما دلّ على حجية الاستصحاب بضميمة ما دلّ على طهارة الماء في نفسه .

   (2) لأن الشك في إطلاق مائع وإضافته بعينه هو الشك في أنه ماء أو ليس بماء فلا بدّ في ترتيب الآثار المرغوبة من الماء عليه من رفع الحدث أو الخبث من اثبات أنه ماء ، فان أحرزنا ذلك ولو بالاستصحاب فهو ، وإلاّ فلا يمكننا ترتيب شيء من آثار الماء عليه .

   (3) للبحث في ذلك جهتان :

   إحداهما : حلية التصرفات فيه من أكله وشربه وصبه وغيرها من الانتفاعات المترقبة منه .

   وثانيتهما : صحة بيعه وغيرها من الآثار المتوقفة على الملك .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4 .

(2) الوسائل 1 : 134 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 5 .

ــ[335]ــ

   أمّا الجهة الاُولى : فلا ينبغي الاشكال في جواز الانتفاعات والتصرفات الواقعة فيه ، لقوله (عليه السلام) : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» (1) وقد يقال ـ  كما أشار إليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) في ذيل تنبيهات البراءة  ـ بأن الأموال خارجة عن أصالة الحلية والأصل فيها حرمة التصرف حتى يعلم حليته للاجماع ولرواية محمّد بن زيد الطبري : «لا يحل مال إلاّ من وجه أحلّه الله» (2) حيث دلت على أن الأموال محكومة بالحرمة حتى يتحقق سبب حليتها ، ومع الشك في وجود السبب المحلل يجري الأصل في عدمه (3) .

   ولكن الصحيح أن الأموال كغيرها فتجري فيها أصالة الحل ما لم يعلم حرمتها بدلالة دليل أو قيام أصل مثبت لحرمتها ، وذلك لأن الاجماع المدعى لا نطمئن بكونه تعبدياً كاشفاً عن رأي الإمام .

   وأمّا الرواية فيدفعها : أوّلاً : ضعف سندها حيث إن جملة ممن وقع في طريقها مجاهيل والمجلسي (قدس سره) وإن قوّى وثاقة سهل بن زياد (4) ، إلاّ أنها لم تثبت كما لم تثبت وثاقة غيره من رجال السند .

   وثانيا : أن الرواية قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن المراد من قوله (عليه السلام) «لا يحل مال ...» الخ لو كان هو ما ادعاه المستدل ـ  من أن كل مال محكوم بحرمة التصرّف فيه حتى يتحقق سبب حليته  ـ لم تكن فيه جهة ارتباط بالسؤال ، حيث إن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قدّمنا أن هذه الجملة وردت في عدة روايات وبيّنا مواضعها في تعليقة ص 259 ، فراجع .

(2) والرواية هي عن محمد بن الحسن وعن علي بن محمد جميعاً عن سهل عن أحمد بن المثنى عن محمد بن زيد الطبري قال : «كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الاذن في الخمس فكتب إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم إن الله واسع كريم ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهم ، لا يحل مال إلاّ من وجه أحله الله ، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا ، وعلى موالينا (أموالنا) وما نبذله ، ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته ...» الحديث المروي في الوسائل 9 : 538 / أبواب الأنفال ب 3 ح 2 .

(3) فرائد الاُصول 1 : 371 .

(4) رجال المجلسي (الوجيزة) : 224 .

ــ[336]ــ

السائل إنما سأله عن الإذن في التصرف في الخمس ، وهل له ربط بحرمة التصرف في الأموال حتى يتحقق سبب حليته ، فالظاهر أن مراده (عليه السلام) بذلك الاشارة إلى قوله عزّ من قائل : (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض ) (1) فان الخمس ملكهم (عليهم السلام) فلو أرادوا الاذن لأحد في التصرف فيه لم يجز ذلك إلاّ في ضمن معاملة عن تراض من هبة أو بيع أو غيرهما من الأسباب المحللة للتصرف وإلاّ كان من أكل المال بالباطل . ثم اعتذر (عليه السلام) عن إيقاع المعاملة على الخمس بأن الخمس عوننا على ديننا ودنيانا فلا نتمكن من هبته ولا من غيرها من المعاملات ، وهذا لا لأجل عدم جوازها شرعاً ، بل لأن الخمس عونهم على معيشتهم وبذلهم فلو خرج من أيديهم لم يتمكنوا من المعيشة والبذل ، وعليه فالرواية أجنبية عن المقام رأساً .

   وثالثاً : لو أغمضنا عن سندها ودلالتها فأصالة الاباحة والحلية من أحد الأسباب المحللة للتصرف في المال المشكوك إباحته ، هذا كلّه في الجهة الاُولى .

   وأمّا الجهة الثانية : أعني جواز ترتيب الآثار المتوقفة على الملك فالتردد في أن المال ملكه أو ملك غيره يتصوّر على وجوه :

   الأوّل : ما إذا كان المال مسبوقاً بالاباحة والحلية الأصليتين ، وقد علم بسبق أحد إليه بالحيازة ولا يعلم أنه هو نفسه أو غيره ، ولا مانع في هذه الصورة من استصحاب بقاء المال على إباحته السابقة إلى زمان الشك ، وهو يقتضي الحكم بحلية المال له فعلاً ومعناه عدم تسلّط الغير عليه بالحيازة وإلاّ لم يكن مباحاً في حقه ، وبعد ذلك يتملكه بالحيازة ، فيثبت بالاستصحاب أنه مال لم يتملكه غيره وهو الموضوع للتملّك شرعاً وبضمه إلى الوجدان أعني تملكه يثبت أنه ملكه ، ويترتب عليه جميع آثار الملكية من الانتفاعات والمعاملات .

   الثاني : ما إذا كان المال حينما وجد وجد مملوكاً له أو لغيره من غير أن تكون له حالة سابقة متيقنة ، ولا يجوز في هذه الصورة ترتيب آثار الملك عليه ، وهذا كما في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 29 .

ــ[337]ــ

البيضة لا يدري أنها لدجاجته أو لدجاجة غيره أو الثمرة لشجرته أو لشجرة غيره أو الصوف لغنمه أو لغنم غيره ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، وفي هذه الصورة يجري استصحاب عدم دخوله في ملكه بسبب من الأسباب ، فان الملكية إنما تتحقق بأسبابها وهي مشكوكة التحقق في المقام والأصل عدم تحققها ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم دخوله في ملك الغير بأسبابه ، فانّه لا يثبت به دخوله في ملك نفسه .

   هذا ثم لو سلمنا جريان كلا الأصلين وتساقطهما بالمعارضة ، فلنا أن نجري الأصل في النتيجة المترتبة عليهما ، لأنه إذا شككنا في صحة بيعه حينئذ من جهة تعارض الأصلين نستصحب عدم انتقاله إلى المشتري ، وهو معنى فساد البيع . وعلى الجملة لا يجوز في هذه الصورة شيء من التصرفات المتوقفة على الملك ، وأمّا سائر التصرفات من أكله وشربه وأمثالهما فلا إشكال في جريان أصالة الحل والحكم بجوازها ، لأنها مشكوكة الحرمة حينئذ وكل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام .

   الثالث : ما إذا كان المال ملكاً لأحد سابقاً ثم علم بانتقاله إما إليه أو إلى غيره ، وفي هذه الصورة أيضاً لا يمكن ترتيب شيء من الآثار المتوقفة على الملك ، لاستصحاب عدم دخول المال في ملكه بأسبابه ، لأن الملك يتوقف على سبب لا محالة وهو أمر حادث مشكوك والأصل عدمه ، ولا يعارضه استصحاب عدم دخوله في ملك الغير لأنه لا يثبت دخوله في ملك نفسه ، ثم على تقدير جريانهما وتساقطهما بالمعارضة لا مانع من الرجوع إلى الأصل الجاري في النتيجة أعني أصالة عدم انتقاله إلى المشتري إذا شككنا في صحة بيعه كما ذكرناه في الصورة المتقدمة .

   هذا على أ نّا لو قلنا بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي لم يكن مانع من استصحاب ملكية الغير في المقام ، لأن ذلك الكلي كان متحققاً في ضمن فرد ـ  أعني المالك السابق  ـ وهو قد ارتفع قطعاً ، ونشك في قيام غيره مقامه فنستصحب كلي ملك الغير ، وبهذا يثبت عدم كونه ملكاً له ، إلاّ أ نّا لا نقول بالاستصحاب في القسم الثالث من الكلي .

   وأمّا بالاضافة إلى سائر التصرفات فهل تجري فيها أصالة الحل ؟

ــ[338]ــ

   قد يقال بجريانها ، لأنها مشكوكة الحرمة والحلية ، ومقتضى عموم كل شيء لك حلال إباحتها كما في الصورتين المتقدمتين ، إلاّ أن الصحيح عدم جريانها في هذه الصورة ، وذلك لأن المال كان ملكاً لغيره على الفرض ، ومقتضى قوله تعالى : (لا  تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض ) (1) وقوله (عليه السلام) «لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه» (2) عدم حليته له إلاّ بالتجارة عن تراض أو بطيب نفسه ، والأصل عدم انتقاله بهما ، وبه نحكم بعدم حلية التصرفات في المال ولا يبقى معه مجال لأصالة الحلية كما هو ظاهر ، ولا تقاس هذه الصورة بالصورتين المتقدمتين ، لعدم العلم فيهما بكون المال ملكاً لغيره سابقاً حتى يجري استصحاب عدم انتقاله بالتجارة أو بطيب نفسه .

   الرابع : ما إذا كان المال مسبوقاً بملكيتين بأن علم أنه كان ملكه في زمان وكان ملك غيره في زمان آخر ، واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ، ففي هذه الصورة يجري استصحاب كل واحد من الملكيتين ويتساقطان بالمعارضة على مسلكنا ، ولا يجري شيء منهما على مسلك صاحب الكفاية (قدس سره) لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فلا أصل بالاضافة إلى الملكية ولا سبيل لاثباتها ، فلا يجوز في هذه الصورة شيء من التصرفات المتوقفة على الملك ، وأمّا سائر التصرفات فتجري أصالة الحل بالاضافة إليها كما مرّ للشك في حرمتها ، وليس في البين أصل يحرز به بقاء ملك الغير حتى يوجب حرمتها كما في الصورة المتقدمة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 29 .

(2) قد ورد مضمونه في موثقة زرعة عن سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث قال : من كانت عنده أمّانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فانّه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفس منه» . ورواه في الكافي بسند صحيح وفيما عن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال في خطبة الوداع «أيها الناس إنما المؤمنون اخوة ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس منه» المرويتين في الوسائل 5 : 120 / أبواب مكان المصلِّي ب 3 ح 1 ، 3 . وفي الباب 3 من أبواب الأنفال في حديث محمد بن زيد الطبري «ولا يحل مال إلاّ من وجه أحله الله» كما قدمنا نقلها في تعليقة ص 335 . وغيره من الأخبار المروية في الباب المذكور .

ــ[339]ــ

   [ 149 ] مسألة 1 : إذا اشتبه نجس أو مغصوب في محصور كاناء في عشرة يجب الاجتناب عن الجميع (1) ، وإن اشتبه في غير المحصور كواحد في ألف ((1)) مثلاً لا يجب الإجتناب عن شيء منه (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    الشبهة المحصورة

   (1) أمّا في المشـتبه بالنجس فلاحتمال نجاسة كل واحد من المشـتبهين ، والوضوء بالنجس غير سائغ . وهل يتمكن من التوضؤ بكل منهما بأن يتوضأ من أحدهما ثم يغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، ويتوضأ منه حتى يقطع بالتوضؤ من ماء طاهر ؟ فهي مسألة اُخرى يأتي عليها الكلام في محلّها إن شاء الله . وأمّا في المشتبه بالمغصوب فلاحتمال حرمة التصرف في كل واحد من المشتبهين فضلاً عن التوضؤ به .

    الشبهة غير المحصورة

   (2) ما أفاده (قدس سره) يتوقف على مقدمتين :

   إحداهما : إثبات التفرقة بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة بوجوب الاجتناب في الاُولى دون الثانية ، وهي ممنوعة لما حققناه في محلّه (2) من أن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي منجّز لمتعلقه مطلقاً كانت أطرافه كثيرة أم لم تكن ، فيما إذا أمكنت الموافقة والمخالفة القطعيتين أو إحداهما ولم يكن في البين مانع من ضرر أو حرج ، فلا اعتبار بكثرة الأطراف ولا بقلتها . بل لا مفهوم محصل للشبهة غير المحصورة في نفسها أصلاً فضلاً عن الحكم بعدم وجوب الاجتناب فيها ، وتحقيق الحال في ذلك موكول إلى علم الاُصول .

   وثانيتهما : إثبات أن الألف دائماً من الشبهة غير المحصورة بعد تسليم سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز في مثلها ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد ، لأن الألف في مثل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في كون اشتباه الواحد في ألف من الشبهة غير المحصورة دائماً وفي عدم وجوب الاجتناب عنها إشكال بل منع .

(2) مصباح الاُصول 2 : 375 .

ــ[340]ــ

   [ 150 ] مسألة 2 : لو اشتبه مضاف في محصور يجوز أن يكرّر الوضوء أو الغسل إلى عدد يعلم استعمال مطلق في ضمنه ، فاذا كانا اثنين يتوضأ بهما ، وإن كانت ثلاثة أو أزيد يكفي التوضؤ باثنين ، إذا كان المضاف واحداً ، وإن كان المضاف اثنين في الثلاثة يجب استعمال الكل ، وإن كان اثنين في أربعة تكفي الثلاثة . والمعيار أن يزاد على عدد المضاف المعلوم بواحد (1) . وإن اشتبه في غير المحصور جاز استعمال كل منها ((1)) كما إذا كان المضاف واحداً في ألف . والمعيار أن لا يعدّ العلم الاجمالي علماً ، ويجعل المضاف المشتبه بحكم العدم ، فلا يجري عليه حكم الشبهة البدوية أيضاً ولكن الاحتياط أولى (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العلم بنجاسة إناء واحد من ألف إناء ليس من غير المحصورة في شيء . بل قد يكون أكثر من الألف أيضاً كذلك ، كما إذا علم بنجاسة حبة من حبات الاُرز في طعامه ، وهو مشتمل على آلاف حبة ، ولا نظن أحداً يفتي بعدم وجوب الاجتناب حينئذ بدعوى أنه من الشبهة غير المحصورة . نعم ، لا مانع من عدّ العلم بحرمة امرأة من ألف نساء من الشبهة غير المحصورة ، إلاّ أنك عرفت عدم الفرق في تنجيز العلم الاجمالي بين المحصورة وغيرها فعلى ما ذكرناه لا يجوز التوضؤ من شيء من الأواني في ما مثّل به في المتن .

   (1) وذلك لأنه يوجب القطع بالتوضؤ من المطلق . ثم إن الوجه في جواز الوضوء منها بتلك الكيفية هو أن التوضؤ من المضاف ليس كالوضوء من المغصوب محرماً شرعاً ، فلا مانع من التوضؤ به مقدمة للعلم بالتوضؤ من المطلق ، وهذا بخلاف المشتبه بالمغصوب ، لأن التوضؤ منه حرام فلا يجوز جعله مقدمة للعلم بالامتثال .

   (2) هذه المسألة تبتني على ما هو محل الخلاف بين الأعلام من أن الشبهة غير المحصورة ـ  بناء على عدم وجوب الاجتناب عن أطرافها  ـ هل يكون العلم فيها كلا  علم ، أو أن الشبهة فيها كلا شبهة ؟ مثلاً إذا علمنا بحرمة أحد اُمور غير محصورة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل اللاّزم هو الاحتياط بتكرار الوضوء حتى يعلم بحصول التوضؤ بالماء المطلق .

 
 

ــ[341]ــ

يفرض العلم بحرمته كعدمه ، فكأنه لا علم بحرمتها من الابتداء فحالها حال الشبهات البدوية فلا مناص من الرجوع إلى الاُصول العملية المختلفة حسب اختلاف مواردها ففي المثال يرجع إلى أصالة الحل لأجل الشك في حرمتها ، أو أن الشبهة يفرض كلا  شبهة ، فكأنّ الفرد المحرم غير متحقق واقعاً فلا محرّم في البين ، ولا بدّ من الحكم بحلية الجميع إذ المحرّم محكوم بالعدم على الفرض وغيره حلال .

   وعلى هذا فان قلنا في المقام إن العلم باضافة ما في أحد الأواني كلا علم فلا يمكننا الحكم بصحة التوضؤ من شيء منها لأن العلم باضافة واحد منها وإن كان كالعدم إلاّ أن الأصل الجاري في المقام إنما هو أصالة الاشتغال ، وذلك لاحتمال إضافة كل واحد من الأطراف ، ومعه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء ، فلا بدّ من الاحتياط بمقتضى قاعدة الاشتغال حتى يقطع بطهارته وفراغ ذمته .

   وأمّا إذا قلنا إن الشبهة كلا شبهة ، وأن المضاف الموجود في البين كالعدم فنحكم بصحة التوضؤ من كل واحد من الأواني ، وذلك للعلم باطلاق الجميع ، فان المضاف منها معدوم والباقي كلّه ماء مطلق ، فلا تدخل الأطراف في الشبهات البدوية ولا نحتاج فيها إلى إجراء الاُصول .

   هذا ولا يخفى أنه إن كان ولا بدّ من تعيين أحد هذين الاحتمالين فالمتعين منهما هو الأوّل ، وذلك لأن احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الأطراف أمر وجداني فلا بدّ معه من وجود المؤمّن ، ولا مؤمّن إلاّ الأصل الجاري فيه ، وقد فرضنا أن الأصل في المقام هو أصالة الاشتغال دون البراءة .

   نعم ، لو تمّ ما ذكروه في وجه عدم وجوب الاجتناب عن أطراف العلم الاجمالي من أن العقلاء لا يعتنون بالاحتمال إذا كان ضعيفاً من جهة كثرة الأطراف ، صح ما ذكر من أن الشبهة في أطراف الشبهة غير المحصورة كلا شبهة ، إلاّ أنه لا يتم لما ذكرناه في محلّه من أن ضعف الاحتمال إنما يوجب عدم الاعتناء به فيما إذا تعلق بمضرة دنيوية . وأمّا إذا تعلق بأمر اُخروي أعني به العقاب فلا يفرق في لزوم الحاجة معه إلى المؤمّن بين ضعفه وقوته ، فان احتمال العقاب ولو كان ضعيفاً يجب دفعه عقلاً وتمام الكلام في محلّه .

ــ[342]ــ

    [ 151 ] مسألة 3 : إذا لم يكن عنده إلاّ ماء مشكوك إطلاقه وإضافته ولم يتيقن أنه كان في السابق مطلقاً (1) يتيمم للصلاة ونحوها (2) ، والأولى الجمع بين التيمّم والوضوء به .

   [ 152 ] مسألة 4 : إذا علم إجمالاً أن هذا الماء إما نجس أو مضاف، يجوز شربه(3)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   والذي يهوّن الأمر أن العلم الاجمالي منجّز للتكليف مطلقاً كانت الشبهة محصورة أم غير محصورة ، فلا تصل النوبة إلى تعيين أحد الاحتمالين المتقدمين .

   (1) وإلاّ يجب التوضؤ به لاستصحاب إطلاقه .

   (2) لأن مقتضى استصحاب العدم الأزلي عدم اتصاف المائع بالاطلاق ، لأنه صفة وجودية كنّا على يقين من عدمها ومن عدم اتصاف المائع بها قبل وجوده ونشك في اتصافه بها حين حدوثه ، والأصل عدم حدوثها وعدم اتصاف المائع بها ، ومع عدم تمكن المكلف من الطهارة المائية ينتهي الأمر إلى الطهارة الترابية وهذا مما لا إشكال فيه على ما اخترناه من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية .

   وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه أو فرض الكلام فيما إذا كانت للمائع حالتان مختلفتان فكان متصفاً بالاطلاق في زمان وبالاضافة في زمان آخر واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ففيه اشكال ، حيث لا مجرى لاستصحاب العدم الأزلي في هذه الصورة ، للقطع بتبدله إلى الوجود واتصاف المائع به جزماً ، وإنما لا ندري زمانه ، ويتولّد من ذلك علم إجمالي بوجوب الوضوء في حقه كما إذا كان المائع مطلقاً أو بوجوب التيمم لاحتمال كونه مضافاً ، ولا أصل يحرز به أحدهما فهل مثل هذا العلم الاجمالي أعني ما كانت أطرافه طولية كالوضوء والتيمم يقتضي التنجيز ويترتب عليه وجوب الاحتياط ؟ يأتي حكمه في المسألة الخامسة إن شاء الله .

    العلم الإجمالي بالنجاسة والاضافة :

   (3) إذ لا علم تفصيلي ولا اجمالي بحرمته ، لأن العلم الاجمالي بأنه نجس أو مضاف لا أثر له بالاضافة إلى جواز شربه لعدم فعلية متعلقه على كل تقدير فان المضاف ممّا

ــ[343]ــ

ولكن لا يجوز التوضؤ به(1) ، وكذا إذا علم أنه إما مضاف أو مغصوب (2) ، وإذا علم أنه إما نجس أو مغصوب ، فلا يجوز شربه أيضاً ، كما لا  يجوز التوضؤ به (3) والقول بأنه يجوز التوضؤ به ضعيف جداً (4) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجوز شربه . نعم ، نحتمل حرمته بدواً وهو مدفوع بأصالة الإباحة .

   (1) للعلم التفصيلي ببطلانه ، فانّه كما لا يجوز الوضوء بالماء النجس كذلك يبطل بالماء المضاف .

   (2) فيجوز شربه إذ لا علم بحرمته تفصيلاً ولا على نحو الاجمال ، ويدور أمره بين الاباحة والحرمة ابتداء ومقتضى أصالة الحل إباحته ، ولكن لا يجوز الوضوء به ، للعلم ببطلانه على كل تقدير ، إذ الوضوء بكل من المضاف والمغصوب باطل .

    العلم الإجمالي بتنجس الماء أو غصبيته :

   (3) للعلم بحرمة شربه وبعدم جواز الوضوء به إما من جهة كونه نجساً وإما لكونه غصباً .

   (4) ذهب إلى ذلك بعض المحققين وهو الشيخ محمد طه نجف وتبعه المحقق الشيخ علي آل صاحب الجواهر (قدس سرهما) في هامش المتن ، وقد جوّزا التوضؤ بالماء في مفروض المسألة ومنعا عن شربه ، وقد بنيا هذه المسألة على ما ذكره المشهور في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، وادعى عليه الاجماع في مفتاح الكرامة من أن الغصب لا يمنع عن صحة العبادة بوجوده الواقعي ، وإنما يمنع عنها بوجوده العلمي المحرز للمكلف ، وبما أن الغصب غير محرز في المقام لا على نحو التفصيل وهو ظاهر . ولا على نحو الاجمال لأن العلم الاجمالي إنما يتعلق بالجامع بين الأطراف أعني الجامع بين الغصب والنجس ، ولم يتعلق بخصوص الغصب ولا بخصوص النجس وعليه فلا يترتب أثر على أحد طرفي العلم الاجمالي في المقام ، لعدم بطلان الوضوء على تقدير كون الماء مغصوباً . نعم ، يبطل على تقدير كونه نجساً ، إلاّ أن نجاسته مشكوك فيها ومقتضى أصالة الطهارة طهارته من جهة التوضؤ به .

ــ[344]ــ

   وبتقريب آخر : تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على تعارض الاُصول في أطرافه وتساقطها ومع عدم جريانها لا يكون مؤمّن في البين ، واحتمال التكليف من دون مؤمّن يقتضي تنجز الواقع فلا محيص من الاحتياط ، وليس الأمر كذلك في المقام فان حرمة شربه لا شك فيها ، وأصالة الاباحة لصحة الوضوء به لا مجرى لها في نفسها لما مرّ من أن الغصب بوجوده الواقعي غير مانع من صحة العبادة فلا تجري فيه أصالة الاباحة للقطع بصحة العبادة معه ، فتبقى أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء بلا معارض ، ومقتضاها جواز الوضوء به .

   وبما ذكرناه في تقريب ما ذهبا إليه يندفع ما قد يورد عليهما من النقض بما إذا علم إجمالاً بغصبية أحد الماءين ، فانّه لا خلاف عندهم في عدم جواز التوضؤ من الماءين حينئذ والمقام أيضاً كذلك .

   والوجه في الاندفاع أن الغصبية في المثال محرزة وواصلة إلى المكلف بالعلم الاجمالي وبه تتنجز في حقه ، ويجب الاجتناب عن المغصوب من الماءين ، وقد عرفت أن الغصب المحرز بشيء من علمي التفصيلي والاجمالي مانع عن صحة العبادة .

   فالصحيح في دفع ذلك أن يقال : أوّلاً : أن ما ذهبا إليه فاسد مبنى ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه ، لما بيّناه في بحث اجتماع الأمر والنهي (1) من أ نّا إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة ، وكانت المبغوضية ناشئة عن مثل الماء في الوضوء والمكان في المسجد ، فلا محالة تكون المبغوضية مانعة عن صحة العبادة بوجودها الواقعي وإن لم يعلم بها المكلف ، وذلك لعدم امكان التقرب بما هو مبغوض واقعاً .

   وثانياً : أن تطبيق المبنى المتقدم ـ لو تمّ في نفسه ـ على محل الكلام غير صحيح وذلك لأن الغصب بوجوده الواقعي وإن لم يمنع عن صحة العبادة كما هو المفروض ، إلاّ أنه مانع لا محالة عن جواز سائر التصرفات من رشّه واستعماله في إزالة القذارة وسقيه للحيوان أو للمزارع وغيرها من الانتفاعات لحرمة التصرف في مال الغير من دون اذنه ، كما أن النجاسة الواقعية مانعة عن صحة العبادة بلا خلاف . ومن هذا يتولّد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4 : 233 .

ــ[345]ــ

   [ 153 ] مسألة 5 : لو اُريق أحد الاناءين المشتبهين من حيث النجاسة أو الغصبية لا يجوز التوضؤ بالآخر وإن زال العلم الاجمالي (1) ، ولو اُريق أحد المشتبهين من حيث الاضافة لا يكفي الوضوء بالآخر ، بل الأحوط الجمع ((1)) بينه وبين التيمم (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

علم اجمالي بأن الماء في مفروض المسألة إما لا يجوز التوضؤ به ـ  كما إذا كان نجساً  ـ وإما لا يجوز التصرف فيه ـ  كما إذا كان مغصوباً  ـ وإجراء أصالة الطهارة حينئذ لاثبات طهارته من جهة الوضوء معارضة بأصالة الاباحة الجارية لاثبات حلّية التصرّف فيه ، ومع تعارض الاُصول وتساقطها لا مناص من الاحتياط لعدم المؤمّن في البين .

    زوال أحد طرفي العلم :

   (1) والوجه في ذلك هو ما ذكرناه في الاُصول من أن تنجيز الواقع لا ينفك عن العلم الاجمالي ما دام باقياً ، وإراقة أحد الماءين لا توجب زوال العلم وارتفاعه ، لأن العلم بحدوث نجاسة مرددة بين الماء المراق وغيره موجود بعد الاراقة أيضاً . نعم ، ليس له علم فعلي بوجود النجاسة في البين لاحتمال أن يكون النجس هو المراق إلاّ أنه لا ينافي بقاء العلم الاجمالي بالنجاسة . وبعبارة أخصر أصالة الطهارة في أحد الاناءين حدوثاً معارضة بأصالة الطهارة في الآخر حدوثاً وبقاءً .

   (2) ما أفاده (قدس سره) من أحد المحتملات في المسألة ، وهناك احتمالان آخران :

   أحدهما : جواز الاكتفاء بالتوضؤ بالباقي منهما من غير حاجة إلى ضم التيمم إليه .

   وثانيهما : وجوب التيمم فحسب . وهذه هي الوجوه المحتملة في المسألة .

   والوجه فيما ذهب إليه في المتن من إيجاب الجمع بين الطهارتين هو دعوى أن العلم الاجمالي كما يقتضي التنجيز فيما إذا كانت أطرافه عرضية كذلك يقتضي تنجيز متعلقه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وإن كان لا يبعد جواز الاكتفاء بالتيمم .

ــ[346]ــ

فيما إذا كانت طولية ـ كالوضوء والتيمم ـ في هذه المسألة وفي المسألة الثالثة ، وذلك للعلم بوجوب الوضوء إن كان الباقي مطلقاً وبوجوب التيمم إن كان مضافاً ، ومقتضاه الجمع بين الطهارتين .

   وأمّا مبنى جواز الاكتفاء بخصوص التوضؤ من الباقي فالظاهر انحصاره في الاستصحاب ، حيث إن التوضؤ به كان واجباً قبل فقدان أحدهما للاحتياط واشتباه المطلق بالمضاف ، والأصل أنه باق على وجوبه بعد فقدان أحد الطرفين .

   ويدفعه : أن الوضوء لا بدّ من أن يكون بالماء المطلق شرعاً ، واستصحاب وجوب التوضؤ بالباقي لا يثبت أنه ماء مطلق فلا يحرز بهذا الاستصحاب أنه توضأ بالماء المطلق .

   وأمّا مبنى الاحتمال الأخير ـ وهو الذي نفينا عنه البعد في تعليقتنا ـ فهو أن العلم الاجمالي لا ينجز متعلقه فيما إذا كانت أطرافه طولية . بيان ذلك : أن وجوب الوضوء إنما هو مترتب على عنوان واجد الماء ، كما أن وجوب التيمم مترتب على عنوان فاقد الماء ، لأنه مقتضى التفصيل في قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النِّساء فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيداً طيِّباً ) (1) . ثم إن المراد بالفقدان ليس هو الفقدان الحقيقي ، وإنما اُريد به عدم التمكن من استعمال الماء وإن كان حاضراً عنده وذلك للقرينة الداخلية والخارجية .

   أمّا القرينة الداخلية : فهي ذكر المرضى في سياق المسافر والجنب فان الغالب وجود الماء عند المريض ، إلاّ أنه لا يتمكن من استعماله لا أنه لا يجده حقيقة . نعم ، لو كان اقتصر في الآية المباركة بذكر المسافر فقط دون المرضى لكان حمل عدم الوجدان على الفقدان الحقيقي بمكان من الامكان ، فان المسافر في البراري والفلوات كثيراً ما لا يجد الماء حقيقة .

   وأمّا القرينة الخارجية : فهي الأخبار الواردة في وجوب التيمم على من عجز عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

ــ[347]ــ

       [ 154 ] مسألة 6: ملاقي الشـبهة المحصـورة لا يحكم عليه بالنجاسة لكن الأحوط
الاجتناب ((1)) (1).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استعمال الماء لمرض أو ضرر ونحوهما . والمراد بالتمكن من استعمال الماء ليس هو التمكن من غسل بدنه ، بل المراد به أن يتمكن المكلف من استعماله في خصوص الغسل أو الوضوء ، لوضوح أن الماء إذا انحصر بماءالغير وقد أذن مالكه في جميع التصرفات في مائه ولو في غسل بدنه ، ولكنه منعه عن استعماله في خصوص الغسل والوضوء يتعيّن عليه التيمم لصدق عدم تمكنه من استعمال الماء وإن كان متمكناً من غسل بدنه فاذا تمهد ذلك فنقول :

   المكلف في مفروض المسألة يشك في ارتفاع حدثه على تقدير التوضؤ بالمائع الآخر لاحتمال أن يكون مضافاً ، ومعه لا مناص من استصحاب حدثه ، لما بنينا عليه في محله من جريان الاستصحاب في الاُمور المستقبلة ، ومقتضى هذا الاستصحاب أن التوضؤ من الباقي كعدمه ، وأن الشارع يرى أن المكلف فاقد الماء حيث إنه لو كان واجداًبتمكنه من استعمال المائع الباقي لم يبطل غسله أو وضوؤه ولم يحكم الشارع ببقاء حدثه ، فبذلك يظهر أنه فاقد الماء ووظيفته التيمم فحسب سواء توضأ بالباقي أم لم يتوضأ به ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب بقاء حدثه على تقدير التيمم ، إذ لا يثبت به أن المكلف واجد للماء وأن المائع الباقي مطلق . وعلى الجملة وجوب التيمم مترتب على عدم تمكن المكلف من رفع حدثه بالماء ، فاذا حكم الشارع ببقاء حدثه وعدم ارتفاعه بالتوضؤ من المائع الباقي يترتب عليه وجوب التيمم لا محالة .

    حكم ملاقي الشبهة المحصورة

   (1) لا يمكن الحكم بنجاسة كل واحد من الأطراف في موارد العلم بنجاسة أحد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا إذا كانت الملاقاة بعد العلم الاجمالي ، وإلاّ وجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً على تفصيل ذكرناه في محلّه .

ــ[348]ــ

شيئين أو أشياء ، لعدم احراز نجاسته واقعاً لفرض الجهل به ، ولا بحسب الظاهر لعدم ثبوتها بأمارة ولا أصل فالحكم بنجاسة كل واحد منهما تشريع محرم . نعم ، إنما نحتمل نجاسته ، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الأطراف ، إلاّ أنه محض احتمال ، فاذا كان هذا حال كل واحد من الأطراف فما ظنك بما يلاقي أحدها ، فان الحكم بنجاسته من التشريع المحرم . فاذا وقع في كلام فقيه ـ كالمتن ـ أن ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة فليس معناه أن أطراف الشبهة محكومة بالنجاسة دون ملاقي بعضها كما قد يوهمه ظاهر العبارة في بدء النظر ، بل معناه أن الملاقي لا يجب الاجتناب عنه ويجوز استعماله فيما هو مشروط بالطهارة بخلاف نفس الأطراف وإن شئت قلت : إن ملاقي الشبهة يحكم بطهارته دون أطرافها ، وفي الاستدراك بكلمة «لكن» أيضاً اشعار بما بيّناه من المراد وإلاّ فلا معنى لكون الاجتناب أحوط .

    ثم انّ صور المسألة خمس :

   الصورة الاُولى : ما إذا حصلت الملاقاة بعد حدوث العلم الاجمالي بالنجاسة ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الاناءين مثلاً ، وبعد ما تنجز الحكم وسقطت الاُصول فيهما بالمعارضة لاقى أحدَهما شيء ثالث فهل يحكم بطهارة الملاقي حينئذ للشك في نجاسته أو يجب الاجتناب عنه كالملاقى ؟

   الصحيح أن يفصّل في هذه الصورة بين ما إذا لم يختص أحد الأطراف بأصل غير معارض فنلتزم فيه بطهارة الملاقي وبين ما إذا كان لبعض الأطراف أصل كذلك فنلتزم فيه بوجوب الاجتناب عنه .

   وتوضيحه : أن لهذه الصورة شقين لأن الاُصول في أطراف العلم الاجمالي قد تكون متعارضة بأجمعها سببية كانت أم مسببية ، موضوعية أم حكمية ، عرضية أم طولية كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين ، لأن استصحاب عدم ملاقاة النجس في كل واحد منهما ـ  وهو أصل موضوعي وفي مرتبة سابقة على غيرها من الاُصول  ـ معارض باستصحاب عدم الملاقاة في الآخر وهما أصلان عرضيان ، وكذا الحال في استصحاب الطهارة في كل واحد منهما ـ  وهما أصلان حكميان  ـ ثم في المرتبة الثانية قاعدة الطهارة

ــ[349]ــ

في كل منهما تعارضها قاعدة الطهارة في الآخر وهي أصل سببي ، وفي المرتبة الثالثة تتعارض أصالة الاباحة في أحدهما بأصالة الإباحة في الآخر ، وعلى الجملة لا يمكن الرجوع في هذه الصورة إلى شيء من تلك الاُصول .

   وقد يختص أحد أطرافه بأصل غير معارض بشيء ، وهذا كما إذا علمنا بنجاسة هذا الماء أو ذاك الثوب ، فان استصحاب عدم ملاقاة النجاسة في أحدهما معارض باستصحاب عدمها في الآخر ، كما أن قاعدة الطهارة كذلك ، إلاّ أن الماء يختص بأصل آخر لا معارض له في طرف الثوب، وهو أصالة الاباحة المقتضية لحلّية شربه، وحيث إنها غير معارضة بأصل آخر فلا مانع من جريانها ، وذلك لما ذكرناه في محله من أن تنجز الحكم في أطراف العلم الاجمالي غير مستند إلى نفسه وإنما هو مستند إلى تعارض الاُصول في أطرافه وتساقطها ، فان احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الأطراف حينئذ من غير مؤمّن عبارة اُخرى عن تنجز الواقع بحيث يترتب العقاب على مخالفته ، وأمّا إذا جرى في أحد أطرافه أصل غير معارض فلا يكون العلم الاجمالي منجزاً فان الأصل مؤمّن من احتمال العقاب على تقدير مصادفته الواقع وبما أنه غير معارض فلا مانع من جريانه لعدم العلم التفصيلي ولا العلم الاجمالي في مورده . وقد ذكرنا في محله أن الأصل الجاري في كل من الطرفين إذا كان مسانخاً للأصل الجاري في الآخر واختص أحدهما بأصل طولي غير معارض بشيء لا مانع من شمول دليل ذلك الأصل الطولي للطرف المختص به بعد تساقط الأصلين العرضيين بالمعارضة فنقول :

   أمّا الشق الأوّل : فملاقي أحد أطراف الشبهة محكوم بالطهارة فيه وذلك لقاعدة الطهارة واستصحاب عدم ملاقاته النجس ، فانّهما في الملاقي غير متعارضين بشيء لأنه على تقدير نجاسته يكون فرداً آخر من النجس غير الملاقى ، واستناد نجاسته إليه لا يقتضي أن تكون نجاسته هي بعينها نجاسة الملاقى الذي هو طرف للعلم الاجمالي لأن النجاسة كالطهارة ، فكما إذا طهّرنا متنجساً بالماء نحكم بطهارته كما كنّا نحكم بطهارة الماء ، فكل واحد من الماء والمغسول به فرد من الطاهر باستقلاله ، إذ ليست طهارة الثوب بعينها طهارة الماء وإن كانت ناشئة منها ، فكذلك الحال في نجاسة الملاقي

ــ[350]ــ

الناشئة من نجاسة الملاقى ، وحيث إنّا نشك في حدوث فرد آخر من النجس ، ولا علم بحدوثه لاحتمال طهارة الملاقى واقعاً فالأصل يقتضي عدمه .

   ودعوى : أن هناك علماً إجمالياً آخر ، وهو العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر ومقتضاه الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي كالملاقى .

   مدفوعة : بأن العلم الاجمالي وإن كان ثابتاً كما ذكر إلاّ أن العلم الاجمالي بنفسه قاصر عن تنجيز الحكم في جميع أطرافه ، بل التنجيز مستند إلى تساقط الاُصول في أطراف العلم الاجمالي بالمعارضة ، وعليه فلا يترتب أثر على هذا العلم الاجمالي الأخير ، لأن الحكم قد تنجز في الطرف الآخر بالعلم الاجمالي السابق ونحتمل انطباق النجاسة المعلومة بالاجمال عليه ، والمتنجز لا يتنجز ثانياً ، فيبقى الأصل في الملاقي غير مبتلى بالمعارض فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة أو استصحاب عدم ملاقاة النجس فيه .

   وأمّا الشق الثاني : فلا مناص فيه من الاجتناب عن الملاقي كالملاقى ، وذلك لأن استصحاب عدم الملاقاة في الماء أو قاعدة الطهارة فيه وإن كان معارضاً بمثله في الثوب فيتساقطان بالمعارضة وتبقى أصالة الحلية في الماء لجواز شربه سليمة عن المعارض إلاّ أن الثوب إذا لاقاه شيء ثالث يتشكل من ذلك علم اجمالي آخر ، وهو العلم بنجاسة الملاقي للثوب أو بحرمة شرب الماء ، فالأصل الجاري في الماء يعارضه الأصل الجاري في ملاقي الثوب ، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وبذلك يتنجز الحكم في الأطراف فيجب الاجتناب عن ملاقي الثوب كما يجب الاجتناب عن الماء .

    الصورة الثانية : ما إذا حصلت الملاقاة والعلم بها قبل حدوث العلم الاجمالي ، كما إذا علمنا بملاقاة شيء لأحد الماءين في زمان وبعد ذلك علمنا بنجاسة أحدهما إجمالاً فهل يجب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة ؟

   قد اختلفت كلمات الأعلام في المقام فذهب صاحب الكفاية (قدس سره) (1) إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي حينئذ من جهة أن العلم الاجمالي قد تعلق بنجاسة هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 363 .

ــ[351]ــ

الطرف أو بنجاسة الملاقى والملاقي معاً ، فأحد طرفي العلم واحد والطرف الآخر اثنان لتقدم الملاقاة والعلم بها على حدوث العلم الاجمالي . وهو نظير العلم الاجمالي بنجاسة هذا الاناء الكبير أو ذينك الاناءين الصغيرين ، أو العلم بفوات صلاة الفجر أو بفوات صلاتي الظهرين بعد خروج وقتها ، فان قاعدة الحيلولة كما لا تجري بالاضافة إلى صلاة الظهر ، لمعارضتها بمثلها بالاضافة إلى صلاة الفجر كذلك لا تجري بالنسبة إلى صلاة العصر ، لتعارضها بمثلها بالاضافة إلى صلاة الفجر . وعلى الجملة : وحدة أحد طرفي العلم الاجمالي وتعدد الآخر لا يمنع عن تنجز الحكم في الجميع .

   وقد تنظّر في ذلك شيخنا الاُستاذ (1) تبعاً لشيخنا الأنصاري (قدس سرهما) (2) وذهبا إلى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة أيضاً . وذلك من جهة أن العلم الاجمالي وإن كان حاصلاً بوجوب الاجتناب عن هذا الماء أو الماء الآخر وملاقيه ، إلاّ أن الشك في نجاسة الملاقي مسبب عن الشك في نجاسة الملاقى ، والأصل الجاري في السبب متقدم بحسب المرتبة على الأصل الجاري في المسبب ، وبما أن الأصل السببي الجاري في الملاقى في المرتبة السابقة مبتلى بالمعارض أعني الأصل الجاري في الطرف الآخر فيتساقطان ويبقى الأصل في المسبب سليماً عن المعـارض وأمّا العلم الاجمالي الآخر المتعلق بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر فقد عرفت الجواب عنه في الصورة الاُولى فلا نعيد .

   ومما ذكرناه يظهر فساد قياس المقام بالعلم الاجمالي بفوات صلاة الفجر أو الظهرين أو بنجاسة الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين ، فان الشك في إحدى صلاتي الظهرين أو الاناءين الصغيرين غير مسبب عن الشك في الآخر بل كلاهما في عرض واحد وطرف للعلم الاجمالي في مرتبة واحدة ، وهذا بخلاف المقام لأن الشك في الملاقي مسبب عن الشك في الملاقى ، والأصلان الجاريان فيهما طوليان فاذا سقط الأصل المتقدم بالمعارضة فلا محالة يبقى الأصل المسببي سليماً عن المعارض .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 2 : 263 .

(2) فرائد الاُصول 2 : 425 .

ــ[352]ــ

   هذا ولكن الظاهر أنه لا يمكن تتميم شيء من هذين القولين على إطلاقهما ، لأن لهذه الصورة أيضاً شقين :

   أحدهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الاجمالي المتأخر عن الملاقاة وعن العلم بها متقدماً عليهما ، كما إذا علمنا بحدوث الملاقاة يوم الخميس وفي يوم الجمعة حصل العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين يوم الأربعاء فالكاشف ـ  وهو العلم الاجمالي  ـ وإن كان متأخراً عن الملاقاة والعلم بها إلاّ أن المنكشف متقدم عليهما .

   وثانيهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الاجمالي المتأخر عن الملاقاة وعن العلم بها مقارناً معهما ، وهذا كما إذا علمنا بوقوع ثوب في أحد الاناءين يوم الخميس وفي يوم الجمعة حصل العلم الاجمالي بوقوع قطرة دم على أحد الاناءين حين وقوع الثوب في أحدهما .

   أمّا الشق الأول : فالحق فيه هو ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ، وهذا لا من جهة تقدم الأصل الجاري في الملاقى على الأصل في الملاقي رتبة ، فان ذلك لا يستقيم من جهة أن أدلّة اعتبار الاُصول إنما هي ناظرة إلى الأعمال الخارجية ومتكفلة لبيان أحكامها ، ومن هنا سميت بالاُصول العملية ، وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه ، ومع فعلية الشك في كل واحد من الملاقي والملاقى لا وجه لاختصاص المعارضة بالأصل السببي بعد تساوي نسبة العلم الاجمالي إليه وإلى الأصل المسببي .

   نعم ، التقدم الرتبي إنما يجدي على تقدير جريان الأصل في السبب بمعنى أن الأصل السببي على تقدير جريانه لا يبقي مجالاً لجريان الأصل المسببي ، وأمّا على تقدير عدم جريانه فهو والأصل المسببي على حد سواء . بيان ذلك : أن الأصل السببي إنما يرفع موضوع الأصل الجاري في المسبب فيما إذا كانت بينهما معارضة ، والمعارضة في المقام غير واقعة بين الأصل السببي والمسببي ، وإنما المعارضة بين كل من الأصل الجاري في السبب والمسبب وبين الأصل الجاري في الطرف الآخر ، ومن الظاهر أن نسبة العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر على حد سواء بالاضافة إلى الجميع وليست فيها سببية ولا مسببية . نعم ، الشك في الملاقي مسبب عن الشك في الملاقى .

ــ[353]ــ

   وبعبارة اُخرى أحد طرفي العلم مركب من أمرين يكون الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر ، والأصل الجاري فيه متأخر عن الأصل الجاري في الآخر . وأمّا بالاضافة إلى الأصل الجاري في الطرف الآخر للعلم الاجمالي فلا تأخر ولا تقدم في البين ، وعليه فمقتضى العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن الجميع .

   ودعوى : أن الأصل الجاري في الملاقي كما أنه متأخر عن الأصل في الملاقى كذلك متأخر عن الأصل في الطرف الآخر ، وذلك لتساوي الملاقى مع الطرف الآخر رتبة والمتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر أيضاً .

   تندفع : بأنها دعوى جزافية . إذ لا بدّ في التقدم والتأخر من ملاك يوجبه كأن يكون أحدهما علة والآخر معلولاً له وهذا إنما هو بين الملاقي والملاقى لا بين الملاقي والطرف الآخر ، حيث لا علّية ولا معلولية بينهما . بل الوجه في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي حينئذ إنما هو تقدم المنكشف بالعلم الاجمالي على الملاقاة والعلم بها ، وإن كان الكاشف وهو العلم متأخراً عنهما ، فان الاعتبار بالمنكشف لا بالكاشف لوجوب ترتيب آثار المنكشف ـ وهو نجاسة أحد الاناءين ـ من زمان حـدوثه فيجب في المثال ترتيب آثار النجاسة المعلومة بالاجمال من يوم الأربعاء لا من زمان الكاشف كما لا يخفى ، وعلى هذا فقد تنجزت النجاسة بين الاناءين والشك في طهارة كل منهما يوم الأربعاء قد سقط الأصل الجاري فيه بالمعارضة في الآخر ، وبقي الشك في حدوث نجاسة اُخرى في الملاقي ، والأصل عدم حدوثها ، ولا معارض لهذا الأصل لما عرفت من أن العلم الاجمالي الثاني المتولد من الملاقاة بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر مما لا أثر له .

   نعم ، التفصيل الذي قدمناه هناك بين ما إذا اختص أحد الأطراف بأصل غير معارض وما إذا لم يختص به ، يأتي في هذه الصورة أيضاً حرفاً بحرف .

   وأمّا الشق الثاني : فالحق فيه هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) من وجوب الاجتناب عن الملاقي أيضاً ، وذلك لاتحاد زمان حدوث النجاسة بين الاناءين والملاقاة ، فاذا علمنا بطرو نجاسة يوم الخميس إما على الملاقي والملاقى وإما على الطرف الآخر فهو علم إجمالي أحد طرفيه مركب من أمرين ، وطرفه الآخر متحد

ــ[354]ــ

نظير العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين ، أو العلم بفوات صلاة الفجر أو صلاتي الظهرين . وأمّا اختلاف مرتبة الأصل في الملاقي والأصل الجاري في الملاقى فقد عرفت عدم الاعتبار به .

    الصورة الثالثة : ما إذا حصلت الملاقاة قبل حدوث العلم الاجمالي وكان العلم بها متأخراً عن حدوثه ، كما إذا لاقى الثوب أحد الماءين يوم الأربعاء ولكنه لم يعلم بها وحصل العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما إجمالاً يوم الخميس وحصل العلم بالملاقاة يوم الجمعة ، فهل يحكم بطهارة الملاقي في هذه الصورة ؟ فيه خلاف بين الأصحاب ولها أيضاً شقان .

   أحدهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الاجمالي متقدماً على الملاقاة بحسب الزمان وإن كان الكاشف ـ  أعني العلم الاجمالي  ـ متأخراً عنهما ، كما إذا لاقى الثوب أحد الماءين يوم الأربعاء ، وعلمنا يوم الخميس بطروّ نجاسـة على أحدهما يوم الثلاثاء وحصل العلم بالملاقاة يوم الجمعة .

   وثانيهما : ما إذا كان المنكشف بالعلم الاجمالي متحداً مع الملاقاة زماناً بأن لاقى الثوب أحد الاناءين يوم الخميس ، وعلمنا يوم الجمعة بطروّ نجاسة على أحد الاناءين يوم الخميس ، وحصل العلم بالملاقاة حال طروّ النجاسة يوم السبت .

   أمّا الشق الأوّل : فلا يجب فيه الاجتناب عن الملاقي ، فان النجاسة المرددة قد تنجزت بالعلم الاجمالي المتأخر من حين حدوثها ، وبه تساقطت الاُصول في كل واحد من الاناءين ، فالعلم بالملاقاة بعد ذلك لا يولد إلاّ احتمال حدوث نجاسة جديدة في الملاقي ، والأصل عدم حدوثها .

   وبعبارة اُخرى : لم يتعلّق العلم الاجمالي إلاّ بنجاسة أحد الاناءين ولم يتعلّق بالملاقي بوجه . بل في زمان حدوثه قد يكون الملاقي مقطوع الطهارة ، أو لو كان مشكوك النجاسة كان يجري فيه الاستصحاب ، فالعلم بالملاقاة بعد ذلك لا يترتّب عليه غير احتمال حدوث فرد آخر من النجس والأصل عدمه . والتفصيل الذي قدمناه في الصورة الاُولى بين عدم اختصاص بعض الأطراف بأصل غير معارض

ــ[355]ــ

واختصاصه به جار في المقام أيضاً .

   وأمّا الشق الثاني : فقد يقال بطهارة الملاقي فيه أيضاً ، ويظهر ذلك من بعض كلمات صاحب الكفاية (قدس سره) حيث ذكر أن العبرة بالكاشف دون المنكشف ، وبما أن العلم الاجمالي كان متقدماً على حصول العلم بالملاقاة فقد تنجزت النجاسة بذلك في الطرفين وتساقطت الاُصول قبل حدوث العلم بالملاقاة ، وعليه فلا يترتب على العلم بها إلاّ احتمال حدوث نجاسة جديدة ، والأصل عدمها وبذلك يفرق بين صورتي تقدم العلم بالملاقاة على العلم الاجمالي وتأخره عنه .

   إلاّ أن هذا الكلام بمعزل عن التحقيق ، والسر في ذلك أن أي منجّز عقلي أو شرعي إنما يترتب عليه التنجيز ما دام باقياً ففي زمان حدوثه يترتب عليه التنجيز بحسب الحدوث فقط ، ولا يبقى أثره وهو التنجّز بعد زواله وانعدامه ، وعلى هذا بنينا انحلال العلم الاجمالي ـ بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة ـ بالظفر بواسطة الأمارات على جملة من الأحكام لا يقصر عددها عن المقدار المعلوم بالاجمال ، حيث قلنا إن التكليف فيما ظفرنا به من الأحكام متيقن الثبوت ، وفيما عداه مشكوك بالشك البدوي يرجع فيه إلى البراءة ، لارتفاع أثر العلم الاجمالي وهو التنجز بانعدامه .

   وعلى الجملة أن العلم الاجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي بشيء ، فكما إذا علمنا بنجاسة شيء تفصيلاً ثم تبدل إلى الشك الساري يرجع إلى مقتضيات الاُصول ، ولا يمكن أن يقال إن النجاسة متنجزة بحدوث العلم التفصيلي ولا يرتفع أثره بعد ارتفاعه لوضوح أنه إنما يمنع عن جريان الاُصول ما دام باقياً لا مع زواله وانعدامه ، فكذلك العلم الاجمالي لا يترتب عليه أثر بعد انعدامه ، وفي المقام وإن حصل العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين ابتداء إلاّ أ نّه يرتفع بعد العلم بالملاقاة المقارنة لحدوث النجاسة ويوجد علم إجمالي آخر متعلق بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر ومقتضى ذلك وجوب الاجتناب عن كل واحد من الملاقي والملاقى .

   هذا تمام الكلام في صور ملاقي الشبهة المحصورة والغالب منها هو الصورة الاُولى وقد مرّ أن الملاقي فيها محكوم بالطهارة .

ــ[356]ــ

   [ 155 ] مسألة 7 : إذا انحصر الماء في المشتبهين تعيّن التيمم (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   انحصار الماء في المشتبهين

   (1) الكلام هنا في مقامين :

   الأوّل : في مشروعية التيمم وجوازه ، وهو مما لا إشكال فيه وقد ثبت ذلك بالنص ففي موثقة سماعة قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره ؟ قال: يهريقهما جميعاً ويتيمم» (1) وبمضمونها موثقة عمار(2) وهل الحكم المذكور على طبق القاعدة أو أنه تعبّدي ؟ .

   تظهر ثمرة الخلاف في إمكان التعدي عن موردهما ـ  وهو الماءان القليلان بمقتضى قوله : وقع في أحدهما قذر ، لأن الذي ينفعل بوقوع القذر فيه ليس إلاّ القليل  ـ فيصح على الأوّل دون الثاني ، ولا بدّ لتحقيق الحال في المقام من بيان صور التوضؤ والاغتسال بالماءين المشتبهين فنقول : إن لاستعمالهما صوراً ثلاثاً :

   الاُولى : أن يتوضأ بأحدهما ويصلي أوّلاً ، ثم يغسل مواضع إصابة الماء الأوّل بالماء الثاني ، ويتوضأ منه ويصلي ثانياً .

   الثانية : أن يتوضأ بكل واحد من المشتبهين ، ويصلي بعد كل واحد من الوضوءين من غير تخلل غسل مواضع إصابة الماء الأول بالثاني بين الوضوءين ، أو يصلي بعدهما مرة واحدة .

   الثالثة : أن يتوضأ بأحدهما من غير أن يصلي بعده ، ثم يغسل مواضع إصابة الماء الأول بالماء الثاني ، ويتوضأ منه ويصلي بعد الوضوءين مرة واحدة .

   أمّا الصورة الاُولى : فلا إشكال في أنها توجب القطع بفراغ الذمّة وإتيان الصلاة متطهراً بالطهارة الحدثية والخبثية حيث إنه طهّر مواضع إصابة الماء الأوّل بالثاني

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 151 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 2 .

(2) الوسائل 1 : 155 / أبواب الماء المطلق ب 8 ح 14 .

ــ[357]ــ

وهي نظير اشتباه المطلق بالمضاف فان الوضوء منهما يوجب القطع بحصول الطهارة لا  محالة ، ومعه لا ينبغي التأمّل في إجزاء ذلك ، بل لولا جواز التيمم حينئذ بمقتضى الروايتين المتقدمتين لقلنا بوجوب التوضؤ من المشتبهين على الكيفية المتقدمة لتمكن المكلف من الماء وعدم كونه فاقداً له ، إلاّ أن ملاحظة المشقة النوعية على المكلفين في التوضؤ ـ  بتلك الكيفية المتقدمة  ـ من الماءين المشتبهين دعت الشارع إلى عدم الحكم بتعيّن الوضوء حينئذ بتجويز التيمم في حقهم ، وما ذكرناه في هذه الصورة لا يختص بالماءين القليلين ويأتي في الكثيرين أيضاً كما هو ظاهر .

   أمّا الصورة الثانية : فهي غير موجبة للقطع باتيان الصلاة متطهراً ، لاحتمال أن يكون الماء الأوّل هو النجس ، ومعه يحتمل بطلان كلا وضوئيه ، أمّا وضوؤه الأوّل فمن جهة احتمال نجاسة الماء ، وأمّا وضوؤه الثاني فلأجل احتمال نجاسة مواضع الوضوء . وهذا أيضاً غير مختص بالقليلين كما هو ظاهر . فالمتعين حينئذ أن يتيمم أو يتوضأ على كيفية اُخرى ، ولا يمكنه الاكتفاء بالتوضؤ من الماءين بهذه الكيفية وهذا أيضاً لا كلام فيه .

   وإنما الاشكال في الصورة الثالثة : وأنه هل يمكن الاكتفاء بصلاة واحدة بعد التوضؤ من كلا الماءين المشتبهين وتخلل الغسل بينهما مع قطع النظر عن النص ؟

   ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) (1) أن الماءين إن كانا قليلين فوجوب التيمم حينئذ على طبق القاعدة من غير حاجة فيه إلى النص ، وذلك للعلم التفصيلي بنجاسة بدن المتوضئ أو المغتسل عند إصابة الماء الثاني إما لنجاسـته أو لنجاسـة الماء الأوّل وبما أن الثاني ماء قليل لا يكفي مجرد إصابته في طهارة بدنه فبعد غسل مواضع الوضوء أو الغسل بالماء الثاني يشك في طهارة بدنه فيستصحب نجاسته المتيقنة حال إصابة الماء الثاني . ولا يعارضه استصحاب طهارته المعلومة إجمالاً إما قبل الغسل بالماء الثاني أو بعده ، وذلك للجهل بتاريخها وعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيها ، وهذا بخلاف النجاسة فان تاريخها معلوم ، وهو أول آن إصابة الماء الثاني بدنه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 179 .

ــ[358]ــ

ولأجل أن التوضؤ من المشتبهين يوجب ابتلاء بدن المتوضئ بالنجاسة والخبث ، أمره الشارع بالتيمم حينئذ ، لأن الطهارة المائية لها بدل وهو التيمم ، ولا بدل للطهارة الخبثية فهي متقدمة على الطهارة المائية في نظر الشارع .

   وأمّا إذا كانا كرين فوجوب التيمم على خلاف القاعدة ، ولا نلتزم به مع قطع النظر عن النص ، وذلك لأن ثاني الماءين إذا كان كراً ، ولم يشترط في التطهير به تعدد الغسل كان مجرد وصوله ـ  على تقدير طهارته  ـ إلى أعضاء المتوضئ موجباً لطهارتها ، ومعه يقطع بصحة الوضوء إما لطهارة الماء الأول فالتوضؤ به تام ، وإما لطهارة الماء الثاني وقد فرضنا أنه غسل به أعضاء الوضوء ثم توضأ فوضوؤه صحيح على كل تقدير .

   نعم ، له علم إجمالي بنجاسة بدنه في أحد الزمانين إما عند وصول الماء الأول إلى بدنه أو حال وصول الماء الثاني إليه ، إلاّ أن هذا العلم الاجمالي لا أثر له ، للعلم الاجمالي بطهارة بدنه أيضاً ، ومع العلم بالحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما لا يجري الاستصحاب في شيء منهما ، ومع عدم جريان الاستصحاب يرجع إلى قاعدة الطهارة ، وهي تقتضي الحكم بطهارة بدنه . هذا كلّه على مسلكه (قدس سره) من عدم جريان الأصل فيما جهل تاريخه .

   وأمّا على ما سلكناه في محله (1) من عدم التفرقة في جريان الاستصحاب بين ما علم تأريخه وما جهل فالنص على خلاف القاعدة في كلتا صورتي قلة الماءين وكثرتهما ، وذلك لتعارض استصحاب الطهارة مع استصحاب النجاسة في صورة قلة الماءين ، فان المكلف كما يعلم بنجاسة بدنه في زمان كذلك يعلم بطهارة بدنه في زمان آخر ، لأن المفروض أنه غسل مواضع إصابة الماء الأول بالماء الثاني ، وبعد تساقط الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الطهارة في كل من القليلين والكثيرين أو القليل والكثير.

   ولكن التحقيق عدم جريان قاعدة الطهارة في شيء من الصورتين وأن النص فيهما على طبق القاعدة ، وذلك لمكان العلم الاجمالي بنجاسة بعض أعضاء المتوضئ ومقتضى ذلك عدم جواز الرجوع إلى أصالة الطهارة . وبيان ذلك : أن الماء الثاني كراً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 194 .

ــ[359]ــ

كان أم قليلاً إنما يرد على بدن المتوضئ متدرجاً ، لاستحالة وروده على جميع أعضائه دفعة واحدة حقيقة حتى في حالة الارتماس ، لأن الماء حينئذ إنما يصيب رجليه مثلاً أوّلاً ثم يصل إلى غيرهما من أعضائه شيئاً فشيئاً ، فيعلم المكلف بمجرد إصابة الماء الثاني لأحد أعضائه بنجاسة هذا العضو على تقدير أن يكون النجس هو الماء الثاني ، أو بنجاسة غيره كما إذا كان النجس هو الماء الأول ، ومقتضى هذا العلم الاجمالي وجوب غسل كل ما أصابه من الماءين ، ومعه لا مجال لقاعدة الطهارة في صورتي قلة الماءين وكثرتهما ، فالرواية في الصورة الثالثة كالثانية على طبق القاعدة ، ولا مانع من التعدي عن موردها إلى غيره .

   والمقام الثاني : في أنه هل يجوز التوضؤ من الماءين المشتبهين على الكيفية المتقدمة في الصورة الاُولى أو أن المتعين هو التيمم ؟

   والأوّل هو الصحيح ، لأن الأمر وإن كان يقتضي التعيين في نفسه إلاّ أنه في المقام لما كان وارداً في مقام توهّم الحظر أوجب ذلك صرف ظهوره من التعيين إلى التخيير وذلك لأن المكلف حينئذ واجد للماء حقيقة كما قدمناه ، ومقتضى القاعدة تعيّن الوضوء ، ولكن الشارع نظراً إلى أن في التوضؤ من المشتبهين على الكيفية السابقة حرجاً نوعياً على المكلفين قد رخص في إتيان بدله وهو التيمم ، فالأمر به إنما ورد في مقام توهّم المنع عنه ، وهو قرينة صارفة لظهور الأمر في التعيين إلى التخيير .

   وقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في بعض تعليقاته على المتن ـ عند حكم السيد (قدس سره) بجواز التوضؤ في موارد الحرج وتخييره المكلف بين الوضوء والتيمم ـ أن هذا يشبه الجمع بين المتناقضين لأن موضوع وجوب التيمم إنما هو عنوان فاقد الماء كما أن موضوع وجوب الوضوء عنوان واجد الماء ، وكيف يعقل اجتماع عنواني الفاقد والواجد في حق شخص واحد ؟ فالتخيير بين الوضوء والتيمم غير معقول .

   وقد أجبنا عنه في محله بأن موضوع وجوب التيمم وإن كان فاقد الماء إلاّ أن باب التخصيص واسع ، ولا مانع من تجويز التيمم للواجد في مورد ولو لأجل التسهيل تخصيصاً في أدلة وجوب التوضؤ على الواجد ، فاذا كان الجمع بينهما ممكناً فالمتبع في

ــ[360]ــ

   وهل يجب إراقتهما أو لا ؟ الأحوط ذلك وإن كان الأقوى العدم (1) .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net