دية الجنين :
لو كان المقتول خطأً ـ بقسميه ـ جنيناً لم تلجه الروح ـ لأنّ ديته مع الولوج دية النفس ـ فقد يكون القتل حال كونه نطفة ، أو علقة، أو مضغة ، أو بعد أن يكون عظاماً ، أو بعد أن تكسى العظام لحماً . وعلى كلّ تقدير ، المتسالم عليه بين الفقهاء ـ بل لم ينسب الخلاف إلاّ إلى العماني(2) ـ أنّه إذا كان الإتلاف في المرحلة الاُولى فالدية عشرون ديناراً ، وإن كان في الثانية فأربعون ، وفي الثالثة فستّون، وفي الرابعة فثمانون ، وفي الخامسة فمائة .
ويدلّ على ذلك معتبرة ظريف ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : « جعل دية الجنين مائة دينار ، وجعل منيّ الرجل إلى أن يكون جنيناً خمسة أجزاء ، فإذا كان جنيناً قبل أن تلجه الروح مائة دينار ، وذلك أنّ الله عزّوجلّ خلق الإنسان من سلالة ـ وهي النطفة ـ فهذا جزء ، ثمّ علقة فهو جزآن ، ثمّ مضغة فهو ثلاثة أجزاء ، ثمّ عظماً فهو أربعة أجزاء ، ثمّ يكسى لحماً فحينئذ تمَّ جنيناً ، فكملت له خمسة أجزاء مائة دينار . والمائة دينار خمسة أجزاء ، فجعل للنطفة خمس المائة عشرين ديناراً وللعلقة خمسي المائة أربعين ديناراً ، وللمضغة ثلاثة أخماس المائة ستّين ديناراً وللعظم أربعة أخماس المائة ثمانين ديناراً ، فإذا كسي اللحم كانت له مائة كاملة ، فإذا نشأ فيه خلق آخر وهو الروح فهو حينئذ نفس بألف دينار كاملة إن كان ذكراً ، وإن كان اُنثى فخمسمائة دينار . وإن قتلت امرأة وهي حبلى متم فلم يسقط ولدها ولم يعلم أذكر هو أو اُنثى ، ولم يعلم أبعدها مات أم قبلها فديته نصفان ، نصف دية الذكر ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوسائل 29 : 205 / أبواب ديات النفس ب5 . (2) راجع مختلف الشيعة 9 : 420 .
ــ[73]ــ
ونصف دية الاُنثى ، ودية المرأة كاملة بعد ذلك ، وذلك ستّة أجزاء من الجنين . وأفتى (عليه السلام) في منيّ الرجل يفزع عن عرسه فيعزل عنها الماء ولم يرد ذلك نصف خمس المائة عشرة دنانير ، وإذا أفرغ فيها عشرين ديناراً . وقضى في دية جراح الجنين من حساب المائة على ما يكون من جراح الذكر والاُنثى والرجل والمرأة كاملة ، وجعل له في قصاص جراحته ومعقلته على قدر ديته ، وهي مائة دينار »(1).
ونسب إلى العماني : أنّه إذا كسي لحماً فديته دية كاملة ، ويكون كما إذا ولجته الروح . واستدلّ على ذلك بصحيحتين :
الاُولى : صحيحة أبي عبيدة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) « في امرأة شربت دواءً وهي حامل لتطرح ولدها ، فألقت ولدها ، قال : إن كان له عظم قد نبت عليه اللحم وشقّ له السمع والبصر فإنّ عليها دية تسلّمها إلى أبيه ، قال : وإن كان جنيناً علقة أو مضغة فإنّ عليها أربعين ديناراً ، أو غرّة تسلّمها إلى أبيه ، قلت : فهي لا ترث من ولدها من ديته ؟ قال : لا ، لأنّها قتلته »(2).
الثانية : صحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة ؟ فقال : عليه عشرون ديناراً ، فقلت : يضربها فتطرح العلقة ، فقال : عليه أربعون ديناراً ، فقلت : فيضربها فتطرح المضغة ، فقال : عليه ستّون ديناراً ، فقلت : فيضربها فتطرحه وقد صار له عظم ، فقال : عليه الدية كاملة ، وبهذا قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت : فما صفة النطفة ... » ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوسائل 29 : 312 / أبواب ديات الأعضاء ب19 ح1 . (2) الوسائل 29 : 318 / أبواب ديات الأعضاء ب20 ح1 .
ــ[74]ــ
الحديث(1).
أقول : الالتزام بذلك غير ممكن .
أوّلا : لإمكان حملهما على ما إذا كسي لحماً وولجته الروح ، فترفع اليد عن الإطلاق بما إذا ولجته الروح ، لمعتبرة ظريف(2) التي هي نصّ في أنّ العظم إذا كسي لحماً ولم تلجه الروح فديته مائة دينار ، فتكون المعتبرة حينئذ مقيّدة لهاتين الصحيحتين ، والنتيجة أنّه إذا كسي لحماً وولجته الروح فالدية كاملة .
وثانياً : لو فرض أنّ الجمع المذكور ليس جمعاً عرفياً ، فتسقط الروايات للمعارضة ، ويدور الأمر بين الأقل وهو مائة دينار ، والأكثر وهو الدية كاملة والمتيقّن هو الأقل ، والزائد منفي بأصالة البراءة .
قد يقال : إنّ معتبرة ظريف معارضة ـ في دلالتها بالنسبة إلى دية الجنين ـ بصحيحة أبي عبيدة والحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: « سئل عن رجل قتل امرأة خطأً وهي على رأس ولدها تمخض ؟ فقال : خمسة آلاف درهم ، وعليه دية الذي في بطنها ، وصيف أو وصيفة ، أو أربعون ديناراً »(3) ولا شكّ في المعارضة .
حمل الشيخ هذه الصحيحة على ما إذا كان الجنين علقة أو مضغة ، وجوّز حملها على التقية(4).
أقول : الحمل على ما إذا كان الجنين علقة أو مضغة في غاية البعد ، بل لا يحتمل ، لفرض أنّ المرأة على رأس الولد ، وهي في حالة المخاض . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوسائل 29 : 314 / أبواب ديات الأعضاء ب19 ح4 . (2) المتقدّمة في ص72 . (3) الوسائل 29 : 320 / أبواب ديات الأعضاء ب20 ح6 . (4) التهذيب 10 : 287 / ذيل ح1112 ، والاستبصار 4 : 301 / ذيل ح1129 ، 1130 .
ــ[75]ــ
والمهم في المقام عدم إمكان الالتزام بمضمون هذه الصحيحة ، ولم يقل بها أحد ، لا من الخاصّة ولا من العامّة ، ولا يعقل أنّ دية الجنين على شرف الولادة أقلّ من ديته حال كونه مضغة . فتسقط هذه الصحيحة ، ويردّ علمها إلى أهله ، بعد وضوح عدم إمكان الحمل على التقيّة أيضاً .
وقد تعارض معتبرة ظريف بصحيحة داود بن فرقد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « جاءت امرأة فاستعدت على أعرابي قد أفزعها فألقت جنيناً ، فقال الأعرابي : لم يهلّ ولم يصحّ ، ومثله يطل(1)، فقال النبي : اسكت سجاعة(2) عليك غرّة وصيف عبد أو أمة »(3).
وكذا بمعتبرة السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « قضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جنين الهلالية حيث رميت بالحجر فألقت ما في بطنها ميتاً فإنّ عليه غرّة عبداً أو أمة »(4).
وكذا بصحيحة سليمان بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) « أنّ رجلا جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وقد ضرب امرأة حبلى فأسقطت سقطاً ميتاً ، فأتى زوج المرأة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فاستعدى عليه ، فقال الضارب : يارسول الله ما أكل ، ولا شرب ، ولا استهلّ ، ولا صاح ، ولا استبش(5) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) : إنّك رجل سجاعة ، فقضى فيه رقبة »(6). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الطل : هدر الدم . (2) سجاعة : سجع : نطق بكلام ] مقفّى [ له فواصل ، فهو سجاعة وساجع . (3) الوسائل 29 : 319 / أبواب ديات الأعضاء ب20 ح2 . (4) الوسائل 29 : 319 / أبواب ديات الأعضاء ب20 ح3 . (5) البشاشة : طلاقة الوجه . البش : الضحك . (6) الوسائل 29 : 319 / أبواب ديات الأعضاء ب20 ح4 .
ــ[76]ــ
أقول : لو كانت هذه الروايات واردة في خصوص العلقة والمضغة لأمكن القول بالمعارضة بينها وبين معتبرة ظريف بالإطلاق ، فإنّ كلاًّ منهما ظاهرة في الوجوب المطلق ، والإطلاق يقتضي الوجوب التعييني ، فيجمع بينهما برفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، ويلتزم بالوجوب التخييري بين أربعين ديناراً وغرّة أو بين ستّين ديناراً وغرّة .
إلاّ أنّ الالتزام بذلك غير ممكن ، لعدم ورود هذه الروايات في خصوص العلقة والمضغة ، بل هي في مطلق الجنين ، سيما التعبير بقوله : فألقته ميتاً . الظاهر في أنّ ذلك بعد ولوج الروح .
وحمل الشيخ لها على العلقة والمضغة(1) لا موجب له أصلا .
ومقتضى هذه الروايات أنّ دية الجنين ـ سواء ولجته الروح أم لا ـ غرّة على الإطلاق ، ولم يقل به أحد من أصحابنا ، نعم نسب ذلك إلى العامّة(2)، وعليه فتحمل الروايات المعارضة لمعتبرة ظريف على التقيّة .
والمتحصّل من جميع ما ذكرنا : صحّة ما ذهب إليه المشهور ، بل المتسالم عليه بين الأصحاب .
|