الفرع الرابع : القصاص حقّ من هو وليّ ووارث ، فلو عفا بعضهم فهل يسقط حقّ القصاص عن الباقين ، أم لا ؟ فيه خلاف شديد ، قال بكلّ من القولين جماعة ، وادّعيت الشهرة على كلّ منهما ، بل ادّعي الإجماع على الثاني في كلمات بعضهم ، بعد أن ذهب إليه الشيخ(3) وجماعة من المتقدّمين والمتأخّرين ، كما ذهب إلى القول الأول(4) ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوسائل 29 : 124 / أبواب القصاص في النفس ب60 ح1 . (2) وكذا صحيحه الآخر ، قال « قال أبو عبدالله (عليه السلام) في الرجل يقتل وليس له ولي إلاّ الإمام : إنّه ليس للإمام أن يعفو ، وله أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين ، لأنّ جناية المقتول كانت على الإمام ، وكذلك تكون ديته لإمام المسلمين » الوسائل 29 : 125 / أبواب القصاص في النفس ب60 ح2 . (3) الخلاف 5 : 151 / مسألة 44 ، المبسوط 7 : 55 . (4) أقول : لا يخفى أنّ صريح كلام هؤلاء ـ كما سيتّضح ممّا سننقله من كلماتهم ـ هو القول بعدم
ــ[87]ــ
العلاّمة(1) والشهيدان(2)، والأردبيلي(3)، والفاضل المقداد(4)، والكاشاني(5)، ــــــــــــــــــــــــــــ السقوط أيضاً ، فلاحظ . ولا يبعد أنّ السيد الاُستاذ (قدّس سرّه) قد اعتمد في ذلك على ما ذكره في مباني تكملة المنهاج (موسوعة الإمام الخوئي 42) : 158 في مسألة ما إذا كان للمقتول أولياء متعدّدون فهل يجوز لكلّ واحد منهم الاقتصاص من القاتل مستقلا وبدون إذن الباقين أو لا ؟ والظاهر أنّه رأى وحدة الملاك بين المسألتين ، وهو انحلال الحكم المستفاد من ظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) بانحلال موضوعه . (1) لاحظ قواعد الأحكام 3 : 624 حيث قال : ولو اختار بعض الأولياء الدية وأجاب القاتل كان للباقي القصاص ... ولو عفا البعض لم يسقط القصاص ، بل يقتصّ طالبه ... (2) لاحظ الروضة البهية 10 : 96 فقد قالا : (ولو صالحه بعض) الأولياء (على الدية لم يسقط القود عنه للباقين على الأشهر) ... . أقول : قد يستفاد من هذه العبارة حكم العفو بلا عوض ، بل صرّح به الشهيد الثاني في ص95 حيث قال : « ومن ثمّ لا يسقط بعفو البعض على مال أو مطلقاً ، بل للباقين الاقتصاص » . (3) لاحظ مجمع الفائدة والبرهان 13 : 431 ـ 432 حيث قال : إذا كانت ورثة المقتول متعدّدة ، ورضي بعضهم بالدية ، ورضي القاتل أيضاً بذلك ، ولم يرض الباقون ، بل أرادوا القصاص ، لهم ذلك ... ولو عفا بعض الورثة دون بعض جاز لغير العافي أخذ الدية بحساب حصّته ... وله القصاص أيضاً . (4) لاحظ التنقيح الرائع 4 : 446 فقد قال تعليقاً على عبارة المحقّق (لو اختار بعض الدية فدفعها القاتل لم يسقط القود على الأشهر) : هذا هو المشهور بين الأصحاب، لم نعلم فيه مخالفاً ... والفتوى على المشهور . وأيضاً لم يعلّق على قول المحقّق بعد ذلك : ولو عفا البعض لم يقتصّ الباقون حتّى يردوا عليه نصيب من عفا . (5) لاحظ مفاتيح الشرائع 2 : 139 حيث قال : إذا عفا بعض على مال أو بدونه لم يسقط حقّ الباقين من القود ...
ــ[88]ــ
وجماعة .
أقول : ما ذهب إليه الشيخ وجماعة من المتقدّمين والمتأخّرين من أنّ حقّ القصاص لا يسقط عن الباقين باسقاط البعض هو الصحيح ، قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً)( ).
وفي المراد من الولي في الآية المباركة ثلاثة احتمالات :
الأول : أنّ المراد بالولي هو مجموع الورّاث ، فيكون حقّ القصاص قائماً بالمجموع ، كحقّ الخيار والشفعة ، وعليه فاسقاط البعض هذا الحقّ موجب لسقوطه عن الباقين أيضاً .
الثاني : أنّ المراد بالولي هو الجامع لطبيعي الولي بما هو طبيعي ، كما في ملك الخمس والزكاة ، فإنّ المالك هو طبيعي الفقير والسيد ، لا المجموع ، ولا كلّ واحد منهم ، وعلى هذا أيضاً إذا أسقط البعض هذا الحقّ سقط عن الباقين أيضاً .
الثالث : أنّ المراد بالولي الطبيعي على نحو الانحلال ، أي أن يكون قائماً بكلّ واحد منهم ، فكلّ من صدق عليه أنّه وليّ قد جعل له سلطان ، فالحقّ قائم بكلّ واحد واحد منهم ، بلا توقّف على ثبوته لآخر ، وعلى هذا لو أسقط بعضهم حقّ القصاص لا يسقط عن الباقين .
والاحتمال الثالث هو الظاهر من الآية المباركة ، لأنّ الحكم ينحلّ بطبيعة الحال بانحلال موضوعه ، فلكلّ وليّ سلطان .
واحتمال أن يكون المراد بالولي هو المعنى الأول أو الثاني بعيد في نفسه ومناف لحكمة جعل القصاص التي هي حفظ الحياة ، حيث إنّ للقاتل أن يتوسّل إلى بعض الأولياء بمال أو نحوه فيسقط حقّه ، فإذا كان إسقاط حقّه موجباً ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإسراء 17 : 33 .
ــ[89]ــ
لإسقاط حقّ الباقين انتفت حكمة القصاص .
ولا وجه لقياس المقام بحقّ الخيار ونحوه ممّا يورث ، لأنّ الخيار شيء واحد قائم بواحد ، فبانتقاله إلى جماعة يكون حقّاً لهم ، لا حقّاً لكلّ واحد منهم ، حيث لم يكن المجعول خيارات متعدّدة . وفي المقام السلطنة المجعولة إنّما هي مجعولة ابتداءً للولي ـ لا أنّ ذلك منتقل من الميّت إليهم ـ فينحلّ لا محالة . وللانحلال توضيح سيأتي .
هذا مضافاً إلى عدّة روايات دالّة بصراحة على ذلك ، منها : صحيحة أبي ولاّد الحنّاط ، قال : « سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل قتل ، وله اُمّ وأب وابن ، فقال الابن : أنا اُريد أن أقتل قاتل أبي ، وقال الأب : أنا اُريد أن أعفو وقالت الاُمّ : أنا اُريد أن آخذ الدية ، قال فقال : فليعط الابن اُمّ المقتول السدس من الدية ، ويعطي ورثة القاتل السدس من الدية حقّ الأب الذي عفا ، وليقتله »(1) وهي دالّة بوضوح على أنّ حقّ القصاص لا يسقط باسقاط البعض ، إلاّ أنّ على المقتصّ إعطاء حصّة الآخرين(2).
ولكن بازاء هذه الصحيحة عدّة روايات(3) صحيحة ومعتبرة دلّت على ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوسائل 29 : 113 / أبواب القصاص في النفس ب52 ح1 . (2) قد يقال : إنّ هذه الصحيحة منافية لما تقدّم [ في ص83 ] من أنّ النساء لا حقّ لهنّ في القصاص ، فعلى أيّ شيء تعطى الاُم السدس ، وهذا موجب لسقوط الرواية . أقول : لا منافاة بين استحقاق الاُمّ الدية ، وعدم ثبوت حقّ القصاص لها . (3) منها : معتبرة أبي مريم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في من عفا من ذي سهم فإنّ عفوه جائز ، وقضى في أربعة إخوة عفا أحدهم ، قال : يعطى بقيّتهم الدية ، ويرفع عنهم بحصّة الذي عفا » الوسائل 29 : 115 / أبواب القصاص في
ــ[90]ــ
السقوط باسقاط البعض صريحاً ، وهي موافقة للمشهور من العامّة منهم أبو حنيفة(1) والشافعي(2) وأبو ثور(3)، فتحمل على التقيّة .
توضيح الانحلال : ما ذكرناه من الانحلال إنّما هو فيما إذا ثبت حقّ القصاص للولي ابتداءً ، وأمّا لو كان مجعولا للميّت ابتداءً ، ومنه ينتقل إلى الوارث ، كما لو قطعت يد أب عدواناً ، ومن باب الاتّفاق مات بسبب آخر ـ لا بالسراية ـ فلم يتمكّن من القصاص ، فينتقل حقّ القصاص إلى الورثة ، ولا يجري في هذا الحقّ ما ذكرناه من الانحلال وثبوته لكلّ واحد منهم ، لأنّه حقّ واحد انتقل إلى جماعة فيكون كحقّ الخيار قائماً بالمجموع .
|