ــ[64]ــ
الكلام في شروط الرضاع الناشر للحرمة
ويقع الكلام في شروط الرضاع المحرّم ، وهي أربعة أقسام ، من حيث اعتبارها في المرضعة ، واللبن ، والرضيع ، والرضاع«1» فنقول :
حياة المرضعة
القسم الأوّل : يعتبر في المرضعة الحياة ، فلا عبرة بالرضاع من المرأة بعد موتها على المشهور عندنا(1) بل لم يعثر على حكاية القول بالخلاف صريحاً كما قيل . واستدلّ لذلك بوجوه :
الدليل الأوّل :
الأوّل : الأصل فإنّ الرضاع من الميتة يشكّ في نشره الحرمة ، فيتمسّك في مورده بعمومات حلّ النكاح(2) كما تقتضيه القاعدة في المخصّص المنفصل المردّد بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«1» لاحظ ملحق رقم (4) ص180 . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) أمّا سائر المذاهب فالحنفية والمالكية والحنابلة قالوا : لا يشترط فيها الحياة ، وقالوا : لو ماتت امرأة وبجانبها طفل ، فالتقم ثديها ورضع منه فإنّه يوجب التحريم . إلاّ أنّ الحنابلة اشترطوا أن يكون اللبن ناشئاً من الحمل ، نعم الشافعية اعتبروا الحياة في المرضعة . كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 226 ـ 232 (باقتباس وتلخيص) وكتاب الخلاف للشيخ الطوسي 5 : 104 / مسألة 14 . (2) النساء 4 : 3 ، 24 .
ــ[65]ــ
الأقل والأكثر . وعلى تقدير الغضّ عن العمومات فالاستصحاب يقتضي الحلّية أيضاً في غير مورد اليقين بالحرمة .
ويرد على هذا الوجه أنّ تماميّته تتوقّف على عدم ثبوت الإطلاق في أدلّة الرضاع ، كالآية المتضمّنة لتحريم الأخوات من الرضاعة(1) وقولهم (عليهم السلام) : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »(2)، بأن تكون مجملة وفي مقام بيان أصل التحريم ، لا في مقام بيان الحكم من جميع الجهات ، وإلاّ فاطلاقها مقدّم كما هو ظاهر .
الدليل الثاني
الثاني : الإجماع ، فإنّ الحكم المذكور قد تسالم عليه الفقهاء ، ولم ينقل الخلاف فيه عن أحد .
وفيه : أنّ محصّله غير حاصل ، فإنّ ما يحكى منه إنّما هو من قبيل الإجماع المنقول ، وهو غير حجّة . وعلى تقدير تحصيل الإجماع في المقام فهو غير كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) بعد استناد الفقهاء في الحكم المزبور إلى الوجوه المذكورة في المسألة .
الدليل الثالث
الثالث : أنّ الميتة ليست مورداً للحكم الشرعي في المقام ، فالارتضاع منها كالارتضاع من البهيمة ، لا أثر له في حرمة النكاح .
وفيه : أنّ مورد الكلام في المقام هو نشر الحرمة بين المرتضع وغير المرضعة من الأشخاص الذين هم مورد الأثر الشرعي . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) النساء 4 : 23 . (2) الوسائل 20 : 371 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب1 ح1 ، 3 ، 7 .
ــ[66]ــ
الدليل الرابع
الرابع : أنّ لفظ الإرضاع الوارد في جميع الأدلّة المبيّنة لحكم الرضاع ظاهر في الرضاع المتحقّق بالاختيار ، ومن مبادئ الاختيار الحياة ، فهي تدلّ على اعتبار الحياة بالالتزام .
وفيه : أنّ الأفعال لا تدلّ على الاختيار ، لا بمادّتها ولا بهيئتها ، كما حقّق في الاُصول(1)، فإنّ المادّة كالأكل والشرب والرضاع ونحو ذلك موضوعة لطبيعي الحدث ، وهيئة الأفعال التي هي مورد الكلام لم يؤخذ فيها الاختيار ، لصحّة إسناد الفعل بهذه الهيئة إلى غير ذوي الشعور والاختيار ، ولا وضع للمركّب من الهيئة والمادّة بالاستقلال .
وعلى تقدير الغضّ عن ذلك فالإجماع ـ كما عن المسالك(2)ـ قائم على عدم اعتبار الاختيار في نشر الرضاع الحرمة ، من دون فرق بين الاختيار في مقابل الإكراه والاختيار في مقابل صدور الفعل بلا إرادة ، ولهذا يقولون بنشر الحرمة في الرضاع من المرأة لو سعى إليها الولد وهي نائمة ، أو التقم ثديها وهي غافلة أو مغمى عليها .
وما ربما يقال من أنّ الدلالة المطابقية إذا سقطت عن الحجّية فلا مانع من الأخذ بمقتضى الدلالة الالتزامية ، يدفعه أنّ الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحجّية ، كما حقّق في الاُصول(3). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) محاضرات في اُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 500 . (2) مسالك الافهام 7 : 234 . (3) محاضرات في اُصول الفقه 2 (موسوعة الإمام الخوئي 44) : 362 وما بعدها .
ــ[67]ــ
الدليل الخامس والشيخ الأنصاري
الخامس : ما استند إليه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1) وملخّصه : أنّ آية التحريم(2) منصرفة عن بعض صور الرضاع من الميتة ، وهي صور وقوع جميع الرضعات حال الموت ، فهذه الصورة خارجة عن آية التحريم ، وداخلة في الآية المتضمّنة لحلّ ما وراء ذلك(3) ويجب إلحاق غيرها من الصور التي يشملها إطلاق آية التحريم ـ وهي صورة وقوع جميع الرضاع حال الحياة عدا جزء يسير منه وإكماله بعد الموت ، وما بين هذه الصورة والصورة المتقدّمة ـ بالصورة المتقدّمة ، لعدم القول بالفصل .
والإشكال على هذا التقريب بإمكان قلبه ، بأن يقال : إنّ صور تحقّق بعض الرضاع في حال الحياة وبعضه بعد الموت مشمولة لآية التحريم(4) قطعاً ، فهي خارجة عن الآية المتضمّنة لحلّ ما وراء ذلك(5) وتلحق بها صورة وقوع جميع الرضاع بعد الموت ـ وهي الصورة المنصرفة عنها آية التحريم(6)ـ لعدم القول بالفصل .
يندفع : بأنّ غاية الأمر تكافؤ التقريبين ، فتقع المعارضة بواسطة عدم القول بالفصل بين آية التحريم(7) وآية حلّ ما وراء ذلك ، فيرجع إلى أدلّة الإباحة من العمومات والاُصول ، ويحكم بعدم النشر فيما إذا لم يتحقّق جميع الرضاع في حال الحياة . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) كتاب النكاح (إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم 20) : 296 . (2) ، (4) النساء 4 : 23 . (3) ، (5) النساء 4 : 24 . (6) ، (7) النساء 4 : 23 .
ــ[68]ــ
هذا ملخّص ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) في المقام .
مناقشة المحقّق الخراساني
وقد أورد عليه المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في رسالته الرضاعية(1) بأنّ التعارض بين آية التحريم وآية حلّ ما وراء ذلك غير ممكن ، بعد كون آية حلّ ما وراء ذلك ناظرة إلى آية التحريم ، أي قد اُخذ في موضوعها عدم العناوين المأخوذة في آية التحريم ، إذ بعد أن يكون موضوع الدليل هو الشيء الذي لا يكون معنوناً بعنوان موضوع الدليل الآخر لا يمكن أن يشمل هذا الدليل مورداً يشمله الدليل الآخر ليقع التعارض بينهما ، وقد حرم بمقتضى دلالة آية التحريم المطابقية والالتزامية الصور الداخلة تحت إطلاقاتها والخارجة منها ، فلا تشملها آية حلّ ما وراء ذلك ، لأنّ عنوان موضوعها هو ما لم تتناوله آية التحريم .
ردّ المناقشة
ويردّه : أنّ دلالة آية التحريم الالتزاميّة على حكم الصورة الخارجة منها بالانصراف إن كانت بنحو توجب ظهور آية التحريم في هذه الصورة أيضاً فالأمر كما ذكره (قدّس سرّه) ، ووجه ظاهر ، وإن لم توجب ظهورها فيها فكلام الشيخ (قدّس سرّه) متوجّه ، لأنّ مراده من التعارض في المقام هو أنّ بعض الصور مشمولة لأدلّة التحريم قطعاً ، فلا تشملها آية حلّ ما وراء ذلك ، لضيق دائرة موضوعها . كما أنّ بعض الصور لا تشملها آية التحريم قطعاً ، لانصرافها عنها ، فتشملها آية حلّ ما وراء ذلك ، فتختلف الصور في الحكم . والإجماع قد قام على الاتّحاد في الحكم فبقرينة الإجماع يحصل العلم بخروج جميع الصور عن أحد الدليلين ودخولها في ــــــــــــــــــــــــــــ (1) كتاب الرضاع (ضمن مجموعة من كتب الآخوند (قدّس سرّه)) : 8 [لاحظ ما ذكرناه في صفحة 38] .
ــ[69]ــ
حكم الدليل الآخر ، وليس المراد بالتعارض التعارض المصطلح بين الدليلين ليرد عليه ما تقدّم ، هذا .
ولا يخفى أنّ ما في بعض الكلمات من أنّ المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) جعل آية الحل(1) حاكمة على آية التحريم(2)، ليس كما ينبغي ، فإنّ نصّ عبارته هكذا : لا يكاد يقع التعارض بين الآيتين بذلك ، فإنّ آية التحليل إنّما تكون في دلالتها ناظرة طبعاً لآية التحريم ، حيث حلّل فيها ما وراء ما حرّم في آيته .
وهي نصّ في أنّ مراده من نظر آية الحل إلى آية التحريم هو تعنون موضوعها بما وراء ذلك ، أي ما لم تتناوله آية التحريم . ومن الواضح أنّ هذا ليس من الحكومة في شيء ، لأنّ الحكومة المصطلحة هي تصرّف دليل الحاكم لموضوع المحكوم بتوسعته أو تضييقه ، هذا .
إيرادنا على الشيخ
والصحيح في الإشكال على ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) من الوجه هو منع انصراف إطلاق آية التحريم عن صورة تحقّق جميع الرضاع حال الموت ، إذ لا منشأ له إلاّ فهم الاختيار من لفظ الإرضاع الوارد في الأدلّة ، وقد تقدّم(3) أنّه لا يدلّ على الاختيار . هذا مع أنّ التقريب المزبور تبعيد للمسافة في طريق الاستدلال ، إذ هو إنّما يتمّ بالإجماع ، فليتمسّك بالإجماع من أوّل الأمر بعد عدم وجود مخالف من الخاصّة في هذا الشرط .
الدليل السادس وهو المختار الوجه السادس : أنّ لفظ « الامرأة » الوارد في نصوص الباب(4) المبيّنة ــــــــــــــــــــــــــــ (1) النساء 4 : 24 . (2) النساء 4 : 23 . (3) في ص66 . (4) الوسائل 20 : 388 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب6 ، 403 / ب15 .
ــ[70]ــ
لحدود الرضاع المحرّم لا تشمل الميتة ، إمّا لعدم الصدق ، حيث إنّ الميّت جماد ، وهو فاقد لما تتقوّم به الحيوانيّة ، فضلا عن الإنسانية ، والامرأة هي الإنسان المؤنّث . وإنّما يطلق على الميّت أنّه رجل أو امرأة أو أنّه إنسان بعلاقة المشاكلة ، أو بلحاظ الحالة السابقة . وإمّا للانصراف عنها من هذه الجهة ، فتختصّ النصوص المفسّرة للرضاع المحرّم والشارحة لقيوده بالامرأة الحيّة .
ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقل من إجمال لفظ « الامرأة » فيرجع في الرضاع من غير الحيّة إلى عمومات الحلّ(1). وهذا الوجه هو الذي يترجّح في النظر .
هذا كلّه فيما يعتبر في المرضعة .
|