الاستشهاد لترجيح رواية خمس عشرة
ثمّ إنّه ربما يستشهد بروايتين على صدور روايات العشر على وجه التقيّة فلابدّ من الأخذ بمعارضها ، وهي رواية الخمس عشرة رضعة :
إحداهما : موثّقة(1) عبيد بن زرارة ، قال : « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّا أهل بيت كبير ، فربما كان الفرح والحزن الذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فربما استخفّت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها وبينه رضاع ، وربما استخفّ الرجل أن ينظر إلى ذلك ، فما الذي يحرّم من الرضاع ؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم ، فقلت : وما الذي ينبت اللحم والدم ؟ فقال : كان يقال عشر رضعات ، قلت : فهل تحرم عشر رضعات ؟ فقال : دع ذا ، وقال : ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع »(2).
بدعوى أنّها تدلّ على عدم النشر بالعشر ، لأنّه نقل ذلك عن غيره وترك الجواب ، وهما من قرائن التقيّة ، فهي تكون قرينة على أنّ ما يدلّ على نشر الحرمة بالعشر من الروايات صدرت على وجه التقيّة ، لا لبيان الحكم الواقعي ، هكذا ذكر صاحب الحدائق(3) وغيره من المتأخّرين .
وقد استفاد منها الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(4) أنّ الإمام (عليه السلام) لم يرتض الاكتفاء بالعشر ، وإن لم يذكر ما يكفي في نشر الحرمة ، ولم يحمل صدورها ــــــــــــــــــــــــــــ (1) [لعلّ المناسب التعبير عنها بالصحيحة اصطلاحاً] . (2) الوسائل 20 : 379 / أبواب ما يحرم بالرضاع ب2 ح18 . (3) الحدائق 23 : 344 ـ 345 . (4) كتاب النكاح (إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم 20) : 312 .
ــ[117]ــ
على وجه التقيّة .
الجواب عنها
إلاّ أنّ التأمّل فيها يعطي خلاف ما ذكروه ، وذلك لأنّ هذه الرواية بنفسها واردة مورد التقيّة ، بقرينة أنّ الإمام (عليه السلام) لم يبيّن فيها ما هو الحدّ المحرّم ، ولم يجب عن سؤال الراوي عن ذلك ، وقد أجمل الجواب وقال : « ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع » وهذا ظاهر لا ينبغي الإشكال فيه ، وأمّا استفادة أنّ التحديد بالعشر صادر منهم (عليهم السلام) على وجه التقيّة فلا ، لأنّ التحديد بها وعدم التحديد بها كلاهما خلاف التقيّة ، لأنّ أكثر العامّة بنوا على كفاية المسمّى وذهب بعضهم إلى اعتبار الرضعة الواحدة ، وبعض آخر إلى اعتبار خمس رضعات ، ولم يزد على هذا العدد إلاّ الشاذّ منهم فذهب إلى اعتبار العشر(1)، على ما راجعنا كتب الفقه والتفسير للعامّة .
فليس القول بالعشر من الأقوال المعروفة لديهم كي يتّقى منه في تلك الروايات ، والتحديد به خلاف التقيّة ، لأنّ مقتضى التحديد عدم كفاية الأقلّ ولو كان تسع رضعات ، مع أنّ جمهور العامّة أفتوا بكفاية الأقل ، ولم يحدّد بالعشر إلاّ الشاذّ منهم(2)، والتحديد بالأكثر خلاف التقيّة أيضاً ، وهو ظاهر .
وأمّا نسبة القول بالعشر في الرواية إلى الغير فهو لا يدلّ على عدم ارتضائه إذا كان ذلك في مقام التقيّة ، إذ ربما يكون المتكلّم قائلا بشيء إلاّ أنّه ينسبه إلى الغير تقيّة عمّن لا يقول به ، وقد عرفت أنّ نفس هذه الرواية صادرة على وجه التقيّة ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ص109 ، الهامش رقم (5) . (2) المغني لابن قدامة 9 : 193 ـ 194 ، والاُمّ للشافعي 5 : 26 وما بعدها ، وكتاب رحمة الاُمّة على هامش كتاب الميزان 2 : 107 ، [راجع أيضاً ص96 وما بعدها من هذه الرسالة] .
ــ[118]ــ
وإلاّ لصرّح الإمام (عليه السلام) بالحدّ الواقعي مع تكرار السائل عليه .
وأمّا قوله (عليه السلام) : « دع ذا » فهو أمر بترك السؤال عن الحدّ ، لا أمر بترك القول بالعشر .
ومن تمسّك بهذه الرواية لكفاية النشر بالعشر لم يكن مجازفاً في دعواه ، لأنّه (عليه السلام) مع كونه في مقام التقيّة في ذكر الجواب صريحاً ذكر القول بالعشر ناسباً له إلى الغير ، ثمّ أصرّ السائل عليه بأن يصرّح بالحدّ الواقعي ، فأمره (عليه السلام) بترك السؤال وطلب التصريح بالجواب ، وهذا لو لم يدلّ على كفاية العشر في نشر الحرمة يشعر بذلك ، فلا تعجب من هذا المستدلّ . كذا في بعض المؤلّفات(1).
|