الرابع : لا ينبغي لعاقل أن يشكّ في أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، وأنّ إدراكه هذا بديهي وممّا يستقلّ به ، ونعني بإدراك العقل حسنَ شيء أو قبحَه إدراكَه أنّ الإتيان بفعل ما من وضع الشيء في مورده ، أو من وضعه في غير مورده ، وهذا المعنى معنىً جامع لجميع أفراد الحسن والقبح ، وإن كانت تلك الأفراد مختلفة غايته في الشدّة والضعف بحسب الموارد والأزمنة والأمكنة ، واختلاف الأفراد في ذلك لا ينافي بداهة إدراك الجامع وما هو جهة الاشتراك بين الأفراد حقيقة .
بل أقول : إنّ إنكار إدراك الإنسان الحسن والقبح على حذو إنكار الإنسان وجود نفسه ، وهل يسع الإنسان أن ينكر أنّه هو وأنّه ليس غيره ، ألا وإنّ استقلال العقل بالحسن والقبح هو المبدأ الوحيد الذي به تقوم جميع الشرائع والاجتماعيات .
فلو وجد في الخارج من ينكر الخير والشرّ إن كان مقصوده بذلك اختلاف
ــ[7]ــ
أفرادهما ونسبيّتهما فهو صحيح ، إذ لا جامع مقولي يجمع تلك الاُمور النسبية ، بل يختلف الحسن والقبح باختلاف الموارد والإضافات ، كما أنّ جميع الاُمور النسبيّة كذلك .
وإن أراد به أنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح في محالّهما ، فلا يدرك أنّ هذا الفعل حسن وذاك قبيح ، وهذا ظلم وذاك عدل ، فقد عرفت أنّ القول بذلك على حذو إنكار الإنسان وجود نفسه ، وكيف يمكن القول به مع أنّ المسؤوليات الاجتماعية والشرعية كلّها تدور على ذلك، إذن لا ينبغي هذا القول إلاّ من فاقد الشعور ، أو ممّن حذا حذو السوفسطيقي كإنكاره جميع المحسوسات والمعقولات على خلاف بداهة عقله . فإذا تبيّن ذلك فاعلم أنّه قد ذهب الأشعريون إلى عدم حكم العقل بالحسن والقبح( )، وقد خالفوا بذلك جميع أهل الأديان وغيرهم ، والذي أوقعهم في ذلك أمران :
الأول : أنّه لو كان الكذب مثلا ممّا يحكم العقل بقبحه لم يتغيّر عن ذلك ولو توقّف عليه إنجاء نبي بل مؤمن ، أو إصلاح ذات بين ، ونحو ذلك ، مع أنّ القائلين بإدراك العقل الحسن والقبح لم يتوقّفوا في حسن ذلك عقلا وشرعاً .
الثاني : أنّه لو قال قائل : لأكذبنّ غداً ، فإن حسن منه الوفاء بالوعد كان الكذب حسناً ، وهو خلف ، وإن كان الكذب قبيحاً فيكون الوفاء بالوعد قبيحاً وهو خلف أيضاً .
والجواب عنهما على ما أفاده المحقّقون من علمائنا (رضوان الله عليهم أجمعين) ومنهم سيّدنا الاُستاذ (مدّ ظلّه) إنّما يتّضح بتنقيح مقدّمة ، وتقريرها أن يقال : إنّ ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع المواقف 3 : 261 / المقصد الخامس ، وشرح المقاصد 4 : 282 .
ــ[8]ــ
الأفعال الصادرة اختياراً من العباد على أقسام ثلاثة :
القسم الأوّل : ما لا يعقل انفكاكه عن الحسن أو القبح كما لا يعقل انفكاك العلّة التامّة عن معلولها ، وذلك مثل العدل والظلم ، فمتى صدق على فعل أنّه ظلم كان قبيحاً لا محالة ، كما أنّه متى صدق عليه العدل كان حسناً بالضرورة ، وفي مثل ذلك يستحيل ارتفاع الحسن أو القبح إلاّ بارتفاع موضوعه وتغيّره ، فلا يكون عدم الاتّصاف بالحسن أو القبح حينئذ من جهة التخصيص في حكم العقل ، بل من جهة التخصّص وكون سلب الحكم من جهة انتفاء موضوعه ، مثلا إنّ ضرب اليتيم للتشفّي أو الإيذاء ظلم ، وهو قبيح ، لكنّه متى كان بقصد التأديب لا يكون ظلماً ، فلا يكون قبيحاً ، لا أنّه ظلم وليس بقبيح .
ومن ذلك يظهر الحال في العدل والإحسان وإطاعة المولى الحقيقي ، فإنّها لا تنفكّ عن الحسن أبداً ، إلاّ مع تغيّر في عناوينها ، فينتفي الحكم بانتفاء موضوعه .
القسم الثاني : ما يعقل فيه الانفكاك عن الحسن أو القبح بعروض عنوان آخر مغيّر لحكمه مع بقاء العنوان الأوّلي بحاله ، إلاّ أنّ الفعل في ذاته وفي طبعه يكون حسناً أو قبيحاً ، فنسبة الفعل إلى أحدهما كنسبة المقتضي إلى مقتضاه ، وذلك مثل الصدق والكذب ، فإنّهما في نفسهما يتّصفان بالحسن والقبح ، لكنّه لا يمنع العقل من طروء بعض الحالات والاعتبارات الموجب لانقلابهما عمّا كانا عليه .
فالصدق في نفسه وإن كان حسناً ، إلاّ أنّه إذا ترتّب عليه سفك الدماء ونهب الأموال بل أقلّ وأيسر من ذلك ارتفع حسنه ، وكان من القبائح الواضحة التي يدركها كلّ عاقل ، وكذلك الكذب فإنّه في نفسه وإن كان قبيحاً ، إلاّ أنّه إذا ترتّب عليه صيانة النفوس وحراسة الأعراض والأموال لم يكن قبيحاً ، بل كان ممّا استقلّ العقل بحسنه وندب الشرع إليه .
وإن شئت قلت : إنّ العقل لم يستقلّ بحسن كلّ صدق ولا بقبح كلّ كذب ، بل
ــ[9]ــ
إنّما استقلّ بحسن الصدق الذي لا تترتّب عليه مفسدة ، وبقبح الكذب الذي لم يعرض عليه عنوان حسن عقلا وشرعاً .
القسم الثالث : ما لا يكون في نفسه متّصفاً بالحسن ولا بالقبح ، وإنّما يكون اتّصافه بواحد منهما بتبع عروض عنوان آخر ، كالمشي بلا غرض يوجبه ، ونحوه من الأفعال المباحة عقلا وشرعاً ، فإنّها في نفسها لا تكون قبيحة ولا حسنة ، كما أنّه إذا كانت لغاية قبيحة أو حسنة كانت قبيحة أو حسنة ، ومع قطع النظر عن عروض العنوان الخارجي لا يتّصف بشيء منهما ، والعقلاء لا يمدحون فاعله بفعله هذا ، ولا يذمّونه .
إذا عرفت ذلك ظهر لك جواب الأشعري فيما ذكره من الأمرين ، وتوضيح الجواب : أنّ استقلال العقل بقبح الكذب وحسن الصدق ليس على حذو استقلاله بقبح الظلم وحسن العدل لئلاّ يعقل التخلّف في مورد ما ، وإنّما استقلّ بقبح الكذب فيما لم يتعنون بعنوان حسن عقلا وشرعاً ، كما إذا كان موجباً لإنجاء مؤمن أو إصلاح ذات بين ونحو ذلك ، والكذب في أمثال هذه الموارد لم يكن محكوماً بحكم العقل بالقبح من الأوّل ، لا أنّه كان قبيحاً وارتفع قبحه ، فعدم ثبوت الحكم له إنّما هو لعدم دخوله في موضوع القضيّة العقليّة ، لا أنّه خرج عنها بالتخصيص .
وأمّا النقض بالوعد على الكذب فيدفعه أنّ العقل لم يستقل بحسن الوفاء بالوعد مطلقاً ، وإنّما استقلّ به فيما إذا لم يكن الموعود به قبيحاً عقلا وشرعاً ، وإلاّ كان العمل بالوعد قبيحاً لا محالة ، وليس ذلك من باب التخصيص ، بل هو من باب التخصّص وارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه .
ثمّ لا يخفى أنّا لم نرد بلفظ الحكم في قولنا : يحكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل واللطف على الله تبارك وتعالى ، معناه الاصطلاحي المتبادر إلى الذهن من البعث والإلزام والإيجاب ونحو ذلك كي يقال باستحالته ، إذ كيف يعقل حكومة
ــ[10]ــ
العقل المقهور على خالقه القاهر جلّ شأنه ليلزمه بشيء أو يزجره عنه ، وهو الحاكم على عباده والقاهر عليهم ، بل المراد بذلك هو إدراك الواقع وما هو أمر ثابت في نفس الأمر، وهو على حذو قولنا : إنّ العقل يحكم باستحالة اجتماع النقيضين ، وبأنّ الاثنين مكرّر الواحد ، وأنّ الواحد نصف الاثنين ، فهل يتوهّم عاقل أنّ معنى الحكم في أمثال ذلك هو البعث أو ما يقاربه من المعاني ؟ كلاّ .
وبالجملة : إذا قلنا : يحكم العقل بوجوب فعل ما أو قبحه على الله تعالى أردنا به إدراك العقل استلزام الوجوب الذاتي والغناء المطلق لوجود شيء وعدمه فحكمه هذا من فروع الحكمة النظرية ، لا من قبيل الحكمة العملية .
وبما ذكرنا تندفع شبهة اُخرى للأشاعرة ، حيث منعوا قبح الظلم على الله تعالى ، بتوهّم أنّه تعالى هو الحاكم المطلق في سلطانه ، ولا يحكم أحد عليه بالقبح . وهذه الشبهة إنّما نشأت من الجهل بمعنى الحكم في المقام ، وبعد ما ظهر لك ذلك لا يبقى للشبهة المزبورة وقع علمي أبداً ، إلاّ أنّه مع ذلك سنتعرّض لأصل الشبهة وجوابها تفصيلا فيما بعد إن شاء الله تعالى(1).
|