البحث عن صفات الله الذاتية والفعلية
السادس : العناوين الاشتقاقية المحمولة على الله تعالى على قسمين :
الأوّل : ما يكون مبدأ العنوان الاشتقاقي متّحداً مع الذات المقدّسة خارجاً كالعالم والقادر والحي ، فإنّ القدرة والعلم والحياة من الصفات التي هي متّحدة مع الذات المقدّسة ، ولا مغايرة بينها وبين الذات ، بخلاف الذوات الممكنة المتّصفة بها حيث إنّ بينها التغاير خارجاً تغاير الصفة والموصوف والعرض والمعروض ، وأمّا الذات المقدّسة فيستحيل اتّصافها بالعرض ، لاستحالة التركيب فيها ، فعلمه عين قدرته وهما عين ذاته .
الثاني : ما لا يكون مساوقاً للذات ولا اتّحاد بينهما ، بل تكون حادثة ومنتزعة من فعله ، ويسمّى هذا القسم بالصفات الفعلية ، كالرازقية والخالقية وغيرهما ، وسيجيء الفرق بين القسمين من الصفات بعد هذا إن شاء الله( ). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ص50 ـ 51 . (2) في ص17 .
ــ[15]ــ
ثمّ إنّ في كون هذه الاُمور المتغايرة من الصفات الذاتية ـ وهي العلم والقدرة والحياة مثلا ـ عين الذات مع أنّها واحدة بسيطة من جميع الجهات غموضاً أوجب إشكالات ثلاثة ، لا بأس بالتعرّض لها والجواب عنها .
الأوّل : أنّ مبادي هذه الصفات لما كانت متّحدة مع الذات فكان حملها عليها من قبيل حمل الشيء على نفسه ، الذي لا فائدة فيه .
والجواب عنه كما ذكره المحقّق صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) أنّ المدّعى هو اتّحاد الذات مع تلك الصفات خارجاً لا مفهوماً ، والذي يستلزم حمل الشيء على نفسه هو الاتّحاد في المفهوم ، دون الخارج والمصداق .
الثاني : أنّه يعتبر في حمل العنوان الاشتقاقي على شيء مغايرة مبدئه لذلك الشيء ، وإذ قلنا باتّحاد المبادي مع الذات المقدّسة استلزم ذلك القول بمجازية استعمال هذه المشتقّات عند حملها على الله تعالى ، وهو خلاف الأصل ، بل خلاف الوجدان ، لأنّا لا نرى عناية في هذه الاستعمالات أصلا .
وقد أجاب عن ذلك صاحب الكفاية (قدّس سرّه) بما حاصله : أنّ المعتبر هو التغاير المفهومي ، وهو حاصل ، وأمّا التغاير الخارجي فهو غير معتبر أصلا(2).
والصحيح في الجواب : أنّ التغاير لا يعتبر أصلا ، لا في المفهوم ولا في المصداق ، ويشهد لذلك صحّة قولنا : الضوء مضيء ، وغير ذلك ، والمستشكل قد التبس عليه الأمر ، فخلط المغايرة المعتبرة بين الموضوع والمحمول من وجه بالمغايرة بين الذات ومبدأ المشتقّات ، والذي يقتضيه البرهان هو الأول دون الثاني ، ففي ــــــــــــــــــــــــــــ (1) كفاية الاُصول : 56 . (2) كفاية الاُصول : 56 .
ــ[16]ــ
قولنا : الله عالم ، محمول القضية هو لفظ عالم ، وقد حقّقنا في بحث المشتق(1) أنّه دالّ على الذات المقيّدة بثبوت المبدأ لها نحو ثبوت ، ومن الضروري أنّ مفهوم الذات المقيّدة بثبوت العلم لها مغاير لما هو المفهوم من لفظ الجلالة ، فقد حصل التغاير المعتبر في القضية بين الموضوع والمحمول ، وأمّا التغاير بين موضوع القضية ومبدأ الاشتقاق فلم يدلّ على اعتباره دليل .
الثالث : إشكال استحالة انتزاع مفاهيم متعدّدة مختلفة من ذات واحدة بلا اختلاف جهات وحيثيّات ، وقد ذكر صاحب الأسفار(2) بداهة استحالة انتزاع مفهوم واحد من اُمور متعدّدة بلا جهة اشتراك بينها ، فالعكس أيضاً كذلك .
والجواب : أنّ الذات المقدّسة بما أنّه لا نقص فيها أصلا فالعقل إذا توجّه إلى كماله الذاتي غير المتناهي ينتزع منه مفاهيم عديدة حسب اختلاف اعتباراته وجهات لحاظه ، فإذا لاحظ حضور جميع الموجودات لديه ينتزع من هذا الحضور مفهوم العالم ، وإذا لاحظ كون الممكنات بأجمعها تحت سلطانه ينتزع عنه مفهوم القادر ، فاختلاف الجهات إنّما هو في لحاظ العقل واعتباره ، وهو لا ينافي بساطة الذات على الإطلاق وعدم تركّبه أصلا .
عباراتنا شتّى وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
وأمّا الصفات الفعلية التي ليس بينها وبين الذات اتّحاد فإنّها تنتزع من نفس الأفعال ، كالخالق والرازق والمحيي والمميت وغيرها ، فهي حادثة بحدوث الأفعال . ولا يخفى أنّ إرادته ومشيّته تعالى وتقدّس من قبيل القسم الثاني ، ويظهر ذلك بعد إيضاح الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) محاضرات في اُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 305 . (2) راجع الأسفار 1 : 133 .
ــ[17]ــ
وما ذكروه من الفرق بينهما اُمور ثلاثة :
الأوّل : عدم جواز اتّصاف الذات المقدّسة بنقيض في الصفات الذاتية ، فيستحيل أن لا تكون الذات عالماً ولا قادراً ولا حيّاً ، بخلاف الصفات الفعلية فإنّها تنفكّ عن الذات وتتّصف بنقيضها ، فيصحّ أن يقال : إنّه تعالى لم يكن خالقاً قبل خلقه ، ولم يكن رازقاً قبل رزقه .
ولا يخفى أنّ الصفات الفعلية على قسمين ، فإنّها تارة تكون من العناوين الأوّلية لنفس الفعل كالخالقية والرازقية ، واُخرى تكون من العناوين المنتزعة منه كالصدق والعدل .
وفي القسم الأوّل يصحّ اتّصاف الذات به وبعدمه ، بخلاف القسم الثاني فإنّ سلبه إنّما هو بسلب منشأ انتزاعه لا بسلب نفسه ، فلا يصدق على الله تعالى أنّه ليس بصادق ، ولكن يصدق أنّه لم يحدث كلاماً كان على تقدير صدوره صدقاً .
الثاني : أنّ الملاك في كون الصفة ذاتية عدم صحّة تعلّق القدرة بها إيجاداً وإعداماً ، فلا يعقل أن يعمل القدرة في سلب العلم والقدرة عن نفسه ، بخلاف الصفات الفعلية فيجوز فيها تعلّق القدرة بالفعل والترك ، كالخلق والرزق ، فإنّه تعالى قادر على أن يخلق ويرزق ، كما أنّه قادر على أن لا يخلق ولا يرزق . وكذلك الأوصاف الفعلية المنتزعة عن الفعل ، كالصدق والعدل على ما عرفت .
الثالث : صحّة تعلّق الإرادة بوجودها وعدمها ، فالصفة إذا كانت من الصفات الذاتية امتنع تعلّق الإرادة بوجودها أو بعدمها ، بخلاف ما إذا كانت من الصفات الفعلية ، فيجوز فيها تعلّق الإرادة بكلّ من وجودها وعدمها .
ولا يخفى أنّ هذا الوجه إن كان مرجعه إلى الوجه الثاني ـ وهو إمكان تعلّق القدرة وعدمه ـ فهو ، وإلاّ فهو ليس بسديد ، لأنّ الإرادة نفسها من الصفات الفعلية على ما نشرحها بعد هذا ، ومع ذلك لا تكون متعلّقة لإرادة اُخرى ، فلا يكون ما
ــ[18]ــ
ذكر ضابطة بين القسمين .
إذا عرفت الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية فاعلم أنّه قد وقع الخلاف بين المتكلّمين في بعض الأوصاف ـ كالإرادة ـ في أنّها من أي القسمين ، ومن جميع ما ذكرنا تحصّل أنّها أيضاً من الصفات الفعلية ، نعم القدرة على الإرادة قديمة ومن الصفات الذاتية ، وهذا ليس مختصّاً بها ، بل القدرة على جميع الصفات الفعلية من هذا القبيل ، وأمّا نفس الإرادة والخلق والإحياء والإماتة ـ مثلا ـ فهي من الصفات الفعلية .
وأمّا الاستدلال على كونها من الصفات الفعلية بتعلّقها بالاُمور الجزئية المتغيّرة الموجبة لتغيّر الصفة ، فلو كانت من الصفات الذاتية لزم التغيّر المستحيل في الذات المقدّسة فمحلّ نظر .
والجواب عنه عين الجواب عن إشكال العلم ، فكما أنّ تعلّقه بالاُمور الجزئية المتغيّرة لا يوجب تغيّراً في الذات ، لأنّ المتغيّر من العلم جهة إضافته إلى المعلوم ، لا نفس العلم وحقيقته المساوقة للذات ، وكذلك الإرادة لو كانت من الصفات الذاتية .
والعمدة في الفرق هو ما ذكرناه من صحّة تعلّق القدرة بها وعدمها .
|