في الردّ على ما استدلّوا به للكلام النفسي
السابع : ذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكلّم من الصفات الذاتية لله تعالى القائمة بالذات ، وسمّوه بالكلام النفسي(1)، فلابدّ قبل تحقيق ذلك من بيان مرادهم من الكلام النفسي .
فنقول : قد حكي عنهم أنّ للكلام ـ غير ألفاظه ومفاهيمه وغير التصديق ــــــــــــــــــــــــــــ (1) شرح المواقف 8 : 91 ، شرح المقاصد 4 : 143 .
ــ[19]ــ
بثبوت النسبة في الخارج وعدمه في الأخبار ، وإيجاد النسبة من الطلب والتمنّي والترجّي وغيرها في الإنشاء ـ أمراً يسمّى بالكلام النفسي، قائماً بالنفس وراء العلم والإرادة وغيرهما من الصفات النفسية المعروفة ، وهو مدلول الكلام اللفظي .
ولكن لا يخفى ما في هذه الحكاية ، فإنّ ظاهر كلماتهم كما يشهد عليه النظر فيها هو أنّ هناك أمراً قائماً بالنفس يكشف عنه الكلام اللفظي ، وهو فرد من نوع الكلام ، لا أنّه من مداليل الكلام اللفظي كي يستشهد عليه بقول القائل :
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فعليه تكون نسبة الكلام اللفظي إلى الكلام النفسي نسبة الكاشف إلى المنكشف ، نظير كشفه عن حياة المتكلّم وعقله وشعوره ، لا نسبة الدالّ إلى المدلول .
ثمّ إنّهم استدلّوا على إثبات الكلام النفسي بوجوه أربعة :
الأوّل : ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالّة على ثبوت التكلّم له تعالى ، كقوله عزّوجلّ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(1) وحيث كان الكلام اللفظي مركّباً من الحروف المتعاقبة المتدرّجة المتصرّمة ، فلو كان هو المقصود في هذه الآيات لزم أن تكون الذات المقدّسة محلا للحوادث ، وهو يخالف القدم والبساطة بخلاف ما لو كان المراد منه الكلام النفسي ، حيث إنّه ليس من مقولة الألفاظ ، فلا يلزم المحذور .
الثاني : أنّ لازم صدق المتكلّم عليه تعالى هو أن يكون قيام التكلّم به قيام الصفة بالموصوف ، إذ لو كان من باب قيام الفعل بالفاعل لما صحّ هذا الصدق ، ومن ثمّ لا يصحّ إطلاق النائم والقائم والذائق عليه تعالى مع أنّه خالقها ، وذلك ليس إلاّ من جهة أنّ قيام مثل هذه المبادي بالذات من باب قيام الفعل بالفاعل ، لا الصفة ــــــــــــــــــــــــــــ (1) النساء 4 : 164 .
ــ[20]ــ
بالموصوف .
ولا يخفى أنّ عدّ هذا وجهاً مستقلا لا يخلو عن مناقشة ، إذ هو كما تراه أصل موضوعي لتتميم الوجه الأوّل ، لأنّ إثبات اللازم الفاسد في الفرض الأوّل بعد إثبات أنّ قيام التكلّم بالذات قيام الصفة بالموصوف ، والمتكفّل لإثباته هو هذا الوجه .
والجواب عنه : هو أنّ المراد من المبدأ في المتكلّم لا يخلو عن أحد أمرين : إمّا نفس الكلام الذي هو الكيف المسموع المتحصّل من تموّج الهواء واصطكاكه ، أو التكلّم .
وعلى الأوّل فلا يصحّ اتّصاف أيّ شخص به اتّصاف الموصوف بصفته ، من دون فرق بين الله تعالى وغيره ، ضرورة أنّ المتكيّف بهذا الكيف والمتّصف به هو الهواء ، لا الشخص المتكلّم به .
وعلى الثاني فالواجب أو الممكن وإن كان متّصفاً به ، إلاّ أنّ من الظاهر كونه من قبيل الأفعال دون الأوصاف ، فيكون معنى قولنا : الله متكلّم ، أنّه موجد للكلام(1)، وعليه يكون المقصود من الكلام المأخوذ مبدأً هو الكلام اللفظي بلا استلزام المحذور .
وبما ذكرناه من كون المبدأ هو التكلّم دون الكلام بطل النقض بعدم صدق النائم أو الذائق عليه تعالى مع أنّ مباديها مخلوقة له تعالى ، على أنّ المبدأ لو فرض كونه الكلام أيضاً لم يكن النقض وارداً ، إذ لا اطّراد في صدق ما كان على زنة فاعل كغيره من الأوزان ، فقد يكون ذلك فيما كان المبدأ من الأوصاف كالأمثلة المزبورة وقد يكون المبدأ من الأفعال كالخالق والرازق والباسط والقابض ، فلا ملازمة بين ــــــــــــــــــــــــــــ (1) لا يخفى أنّ المناسب : للتكلّم .
ــ[21]ــ
عدم صدق النائم ونحوه عليه تعالى وبين كون الكلام أمراً نفسياً وراء الكلام اللفظي .
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لا إشكال في صحّة إطلاق المتكلّم عليه تعالى بلحاظ كلامه اللفظي ، فلو كان صحّة الإطلاق كاشفة عن قيام المبدأ بالذات قيام الصفة بموصوفها لزم كون الكلام اللفظي أيضاً من صفاته تعالى ، فيلزم كونه محلا للحوادث ، فلا مناص من الالتزام بكون الإطلاق من جهة قيام الكلام به قيام الفعل بفاعله .
وأمّا الوجه الأوّل فيظهر الجواب عنه بما ذكرناه في الأمر السادس(1) من الفرق البيّن بين الصفات الذاتية والصفات الفعليّة ، وأنّ التكلّم من قبيل القسم الثاني كما عرفته ، نعم لو كان المقصود من التكلّم القدرة عليه فهي من الصفات الذاتية ، كما هو في جميع الصفات الفعلية ، فإنّ القدرة على جميعها ذاتية ، هذا أوّلا .
وثانياً : أنّ قدم الكلام كما يستلزم قدم متكلّمه كذلك يستلزم قدم مخاطبه في هذه الموارد ، أي أمثال (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) إذ المقصود من الكلام فيها هو الكلام القائم بالطرفين ، فعليه يلزم قدم موسى (على نبيّنا وآله وعليه السلام) .
الوجه الثالث : ما ورد من الآيات الدالّة على علمه تعالى بما يكون في النفس وحسابه عليه ، كقوله عزّ من قائل : (إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(2) فما يكون مخفياً في النفس وغير ظاهر هو المراد من الكلام النفسي .
ويرد عليه : أنّ المقصود من كلمة (مَا) الموصولة في هذه الآية الشريفة هو نيّة السوء والحسن ، وأنّ معناها على الظاهر : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من ــــــــــــــــــــــــــــ (1) في ص17 . (2) البقرة 2 : 284 .
ــ[22]ــ
النيّات الحسنة والقبيحة يحاسبكم به الله ، وهكذا جميع ما ورد بهذا المضمون من الآيات والروايات .
وقد أيّدوا هذا الوجه بقول القائل : إنّ في نفسي كلاماً لا اُريد إبرازه .
وفيه : أنّ المراد منه في أمثال هذه المقامات أنّ المعاني التي رتّبها في النفس لا يريد إبرازها كما كان يبرزها بالكلام فيما لو كان في مقام الإبراز ، هذا مضافاً إلى أنّا لا ننكر وجود الكلام في النفس وجوداً تصوّرياً قبل وجوده الخارجي ، كغيره من الأفعال الاختيارية على ما سيجي بيانه(1)، وإنّما الكلام في وجود أمر آخر غير العلم ونحوه من الاُمور النفسانية مسمّى بالكلام النفسي ، وليس في شيء من الآيات المزبورة والتأييد إشعار بذلك ، فضلا عن الدلالة .
الوجه الرابع : هو أنّ كل متكلّم ولا سيّما لو كان مخاطبه من ذوي المراتب العالية لا يصدر الكلام بالبديهة والصدفة ، بل لابدّ له من التروّي وترتيب الكلمات والجمل وتنظيمها في النفس ثمّ إلقائها إلى المخاطب ، وكثيراً يشاهد هذا في الموارد التي تكون فيها عناية خاصّة بالألفاظ ، كالخطابة والشعر وغيرهما ، فهذا المرتّب والمنظّم في النفس أوّلا هو المقصود من الكلام النفسي .
والجواب عنه : أنّ هذا التروّي والترتيب في النفس لا يختصّ بالكلام ، بل كلّ فعل صادر من الفاعل المختار الملتفت يتوقّف صدوره منه على تصوّره والعلم به وترتيبه ، وحينئذ لابدّ للأشعري من الالتزام بأنّ كلّ فعل صادر من الفاعل له فردان : فرد خارجي وهو ما يصدر عنه في الخارج ، وفرد نفسي وهو تصوّر ذلك الفعل الخارجي ، فتنقسم الكتابة والمشي والقيام إلى خارجي ونفسي ، ولا نظن أن يلتزم به الأشعري . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) بعد قليل .
ــ[23]ــ
ثمّ إنّ الدليل الحاصر المتحصّل من السبر والتقسيم على نفي الكلام النفسي من رأسه هو أن يقال : إنّ ما نجده للكلام اللفظي من الاُمور منحصر في سبعة : الأوّل : ألفاظه المفردة من دون ملاحظة معانيها وهيئتها ، الثاني : معاني تلك الألفاظ ، الثالث : الألفاظ مقيّدة بهيئتها التركيبية ، الرابع : المعنى المتحصّل من الكلام بهيئته ، الخامس : تصوّر تلك الاُمور جميعاً ، السادس : التصديق بثبوت النسبة ، ثبوتية كانت أو سلبية ، السابع : مطابقة النسبة للواقع وعدمها .
والأخيران منها يختصّان بالجملة الخبرية .
وأمّا في الجمل الإنشائية فالاُمور الخمسة المتقدّمة مع أمر سادس ، وهو الصفة القائمة بالنفس من الاعتبارات الإنشائية ، كالطلب ونحوه . وليس للكلام أمر وراء هذه الاُمور المذكورة كي نسمّيه بالكلام النفسي المنكشف بالكلام اللفظي .
أمّا الثلاثة الاُول فليست هي بالكلام النفسي ، إذ ليس اللفظ ولا معناه ولا هيئته التركيبية كلاماً نفسياً حتّى عند الأشعري .
وأمّا الرابع ـ وهو معنى الهيئة التركيبية ـ فلما عرفته من أنّ الكلام النفسي ليس من مدلول الكلام اللفظي ، بل هو منكشف به .
وأمّا الخامس فلأنّ الكلام النفسي عندهم ليس من قبيل التصوّر والعلم ، ولا غيرهما من الصفات المعروفة .
وأمّا السادس ـ وهو التصديق بثبوت النسبة ـ فلوضوح أنّ المتكلّم ربما يعلم بكذب كلامه وأنّ النسبة ليست بثابتة في الخارج ، مضافاً إلى تصريحهم بأنّه ليس من قبيل التصديق أيضاً .
وأمّا السابع ـ وهو مطابقة النسبة في الخارج وعدمها ـ فليس من الكلام النفسي بالبداهة .
ــ[24]ــ
فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّه وإن لم يقم البرهان العقلي على استحالة الكلام النفسي ، إلاّ أنّ الوجدان أقوى شاهد على عدمه ، وما ذكروه من الوجوه لإثباته قد عرفت أنّه لا يصلح شيء منها لذلك .
|