في أنّ الوجدان من أقوى الأدلّة الضرورية
الثامن : لابدّ في كلّ مطلوب من أن ينتهي إلى إحدى الضروريات الست فإنّها التي يكتسب بها جميع المطالب النظرية ، وهي كما ذكرها الفلاسفة في محلّها(1) منحصرة في الست :
الاُولى : الأوّليات ، وهي التي لا تحتاج في تصديقها إلى أزيد من التفات النفس إليها بعد تصوّر طرفيها ، كالتصديق بأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وبأنّ الكلّ أعظم من الجزء .
الثانية : الحسّيات ، كالشمس مضيئة ، والنار حارّة ، وأمثالهما ممّا لا يحتاج في التصديق به إلاّ إلى التفات الحاسّة إليه .
الثالثة : الوجدانيّات ، وهي التي تحضر في النفس بإحدى قواها الباطنية كإدراك أنّ لنا شهوة وغضباً ، وكعلمنا بذواتنا .
والفرق بين الثانية والثالثة أنّ الإدراك في الثانية لا يكون إلاّ بالحواس الظاهرية ، وفي الثالثة بالحواس الباطنية ، وأنّ المدرك في الثانية لا يكون إلاّ من الاُمور الجزئية ، وأمّا في الثالثة فهو قد يكون اُموراً كلّية ، وذلك فيما كانت آلة الحضور عند النفس هي القوّة العقلانية .
الرابعة : الفطريات ، وهي التي يكون الحكم بها مستغنياً عن التفات الحاسّة ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإشارات والتنبيهات 1 : 213 / النهج السادس ، شرح المنظومة (المنطق) 1 : 323 .
ــ[25]ــ
إليها ، وقد يعبّر عنها بالتي قياساتها معها ، كانقسام الزوج إلى عددين متساويين .
الخامسة : التجربيّات ، وهي التي تتحصّل من تكرّر المشاهدة ، أو مقارنتها لقياس استثنائي خفي في بدو النظر ، مثل قولنا : لو كانت هذه القضية اتّفاقية لما تكرّرت دائماً ، إلاّ أنّها متكرّرة دائماً فليست باتّفاقية .
والفرق بين التجربيّات والاستقراء الناقص أنّ التجربيّات ممّا تفيد العلم والاستقراء الناقص لا يفيد إلاّ ظنّاً ، وأمّا الاستقراء التامّ فالظاهر أنّه يلحق بالتجربيّات .
السادسة : المتواترات ، وهي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان .
وهذا البحث له تفصيلات أعرضنا عن ذكرها لعدم ارتباطها بالمقام ، وإنّما المقصود من ذكر هذه الاُمور الست التنبيه على أنّها هي التي ينقطع السؤال عند انتهاء المطلوب إليها ، وقد أوجبت الغفلة عن تعيين محالّها وتميّزها أن يكون الاستنتاج بها عقيماً ، فربما يدّعي أحد المتخاصمين الوجدان على إثبات مطلوبه وفي الموضوع نفسه يدّعي الآخر الوجدان على نفيه ، وليس هذا إلاّ ناشئاً عن عدم الوصول إلى معنى الوجدان .
فإن قلت : على هذا تخرج القضية الوجدانية عن الضرورية ، وإلاّ فكيف يستدلّ بها الخصمان في موضوع واحد وتكون مدركاً لمطلوبين متناقضين ، وقد وقعت في الحكمة الطبيعية والإلهية مسائل قد ادّعى كلّ واحد من الطرفين البداهة والوجدان على خلاف صاحبه ، وهذا ممّا يوجب الوهن في التمسّك بالوجدان .
قلت : نعم ، ولكن أمثال هذه الموارد التي تعارضوا في ادّعاء الوجدان فيها إنّما كان للمغالبة في المسألة ، أو من جهة خلط مقدّمة ضرورية إلى مقدّمة نظرية كحديث إثبات الهيولى ، حيث كان استدلال كلّ من الطرفين مركّباً من مقدّمتين : نظرية وبديهية ، وهناك موارد اُخرى أوجبت دعوى الوجدان فيها القصور في
ــ[26]ــ
الالتفات إليها ولو من ناحية ما ، فلربما لا تلتفت النفس تمام الالتفات إلى أمر وهي تتخيّل حضوره فيها بجميع ما له من الشؤون ، فيدّعى الوجدان مع أنّ الالتفات لو كان تامّاً لكان الوجدان على خلافه ، وما ذلك إلاّ لاختلاف ما هو شرط في دعوى الوجدان .
ونظير هذا في المطالب المفتقرة إلى الاستدلال ما عن بعض المعاصرين من الفلاسفة ، حيث يقول : إنّ كثيراً ما تكون جميع المقدّمات المرتّبة لتحصيل مطلوب صحيحة تامّة ، ولكن الغفلة عن اشتراط شرط في المقدّمة أو اشتراط عدمه يوجب كون الاستنتاج عقيماً ، وهذا منبّه جيّد .
فما يدور في ألسنة البعض من أنّ الوجدان ليس حاكماً لأنّ الخصم أيضاً يدّعيه ، فهو من القصور وعدم التنبّه لما ذكرناه من أنّ قصوراً ما في شؤون الحكم الوجداني من اكتساب طرفي القضية وغيره يوجب منافرة الحكم عن النفس .
|