الثالث : ما يظهر من كلمات الفلاسفة ، أعني بهم من كان قبل القرون الوسطى ، ومن يميل إلى مبانيهم من فلاسفة المسلمين ، كالفارابي وابن سينا وابن رشد والشيخ المقتول وغيرهم ، وخلاصة ما يظهر منهم أنّ صدور الأفعال وإن كان مستنداً إلى العباد وأنّهم الفاعلون لها ، إلاّ أنّ فاعليّتهم بالواسطة ، أي أنّ إرادتهم من علل الأفعال الطولية الواقعة في النظام الجملي ، وأنّ كلّها مستند إلى الإرادة الأزلية .
وبين هذا القول وقول الأشاعرة فرق واضح ، لأنّ إسنادهم الأفعال إلى الله عزّوجلّ إسناد بغير توسيط إرادة العبد واختياره ، فلا قدرة له على الفعل والترك أبداً ، وأمّا الفلاسفة فالفعل عندهم صادر بقدرة العبد وإرادته واختياره وإن كان جميع ذلك منتهياً إلى إرادة الله الأزلية ، ونتيجة ذلك أنّ العبد مختار في فعله ومضطرّ
ــ[30]ــ
في اختياره وإرادته ، كما يشير إليه بقوله في البيت : وباختياره اختيار ما بدا .
وهذا القول وإن كان دون القول الأوّل في وضوح فساده ، إلاّ أنّه يشترك معه في أصل الفساد ، وفي ترتّب التوالي الفاسدة عليه .
وهناك عقائد مختلفة ببيانات متشتّتة للفلاسفة المتأخّرين ، فمنهم من يريد إثبات الاختيار بمقدّمات تنتهي إلى الجبر ، ومنهم بالعكس ، وبعضهم يرى منشأ صدور الأفعال هو الأوصاف النفسية التي ليست تحت اختيار الإنسان بوجه من الوجوه ، إمّا من جهة كونها مخلوقة لله تعالى بجميع شؤونها ، أو من جهة انتقالها عن الآباء والاُمّهات بقاعدة الوراثة .
ومن المباني المهمّة عندهم المذهبان المعروفان : قانون العلّة العامّة وقانون الغاية ، فالجبر مقتضى المذهب الأوّل والاختيار مقتضى المذهب الثاني ، ونحن نتكلّم فيهما أيضاً بقدر الحاجة والكفاية إن شاء الله تعالى .
|