الثالث : وهو عمدة ما استدلّوا به لإثبات مطلوبهم ، وتقريره كما يظهر من كلماتهم أخذاً من الفلاسفة(3) أن يقال : إنّ الفعل الصادر عن العبد إمّا أن يكون على نحو الاضطرار والوجوب فهو المطلوب ، أو يكون مسبوقاً بالاختيار والإرادة ، بحيث تكون نسبة الفعل والترك إلى الفاعل على السواء ، فيختار أحد الطرفين ، وعليه فإمّا أن يكون هذا الاختيار بلا مرجّح فهو ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجّح ــــــــــــــــــــــــــــ
(3) راجع نقد المحصّل : 325 ، كشف المراد 308 ـ 309 .
ــ[39]ــ
وهو محال ، أو يكون الصدور بمرجّح فننقل الكلام إليه فنقول : هل كان صدور هذا المرجّح الذي هو من الممكنات بلا مرجّح فعاد المحذور، وإن كان بمرجّح آخر فننقل الكلام إليه ، وكذلك يتكرّر السؤال ، فإمّا أن يتسلسل فيلزم اجتماع العلل غير المتناهية الطولية على معلول واحد، وإمّا أن ينتهي إلى الضرورة والوجوب ، وهو المطلوب .
وبالجملة : الفعل الخارجي بما أنّه من الممكنات لابدّ في وجوده من علّة موجبة سابقة عليه ، وإلاّ فهو على إمكانه ، ومعه يستحيل وجوده ، لأنّه يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجّح ، وهو ممتنع .
والتحقيق في جواب ذلك يظهر بعد الالتفات إلى مقدّمتين :
إحداهما : هي التي أسلفناها(1) في شرح القاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) حيث قد بيّنا فيها أنّ سبق الوجوب على الوجود إنّما هو في العلل والمعاليل التكوينية ، وأمّا الأفعال الصادرة عن العباد المسبوقة بالإرادة والاختيار فلا تحتاج إلى سبق الوجوب عليه ، وإنّما تفتقر فيه إلى مرجّح ، وهذا الاحتياج ليس من باب استحالة صدور الفعل بدونه ، بل لإخراج الفعل عن السفهية والعبثية إلى العقلائية كما سيأتي(2).
ثانيهما : أنّ البحث في مسألتنا هذه ـ وهي تحليل كيفية صدور الأفعال من العباد ـ بحث معنوي ، لا يتغيّر بتغيّر الألفاظ وإلقائه في الاصطلاحات الفنّية المندمجة ، بل لو فرضنا أنّه لم يوضع لفظ العلّة والمعلول والإرادة والوجوب في لغة العرب أصلا كان لنا أن نبحث عن حقيقة هذه المسألة الواقعية . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ص11 وما بعدها . (2) لعلّه أراد ما سيذكره في ص51 ، وإلاّ فلا يأتي غيره .
ــ[40]ــ
وإذا تمهّدت هاتان المقدّمتان فاعلم أنّ ما نجد من المبادي للفعل إلى حين تحقّقه وصدوره في الخارج فهي أربع مراحل ، وبسيرها يكمل وجود الفعل ويتحقّق في الخارج :
الاُولى : تصوّر الفعل وإدراكه إدراكاً مطلقاً ، بمعنى ارتسامه في الذهن ، أو التفات النفس إليه .
الثانية : إدراك ملائمته للفاعل ملائمة روحية أو جسمية .
الثالثة : عدم وجود مزاحم مكافئ لتلك الملائمة من المفسدة .
الرابعة : الاشتياق والميل إليه ، وحينئذ يعقد الفاعل قلبه على الفعل ، فيعمل قدرته فيفعل .
ولا يخفى أنّ عقد القلب الذي ذكرناه في آخر المراحل هو المراد من الإرادة وهو فعل من أفعال النفس ، لا من صفاتها كما تقدّم في المقدّمات(1)، وليس وجوده مسبوقاً بالوجوب المصطلح عليه كما سمعته من مراتبه السابقة ، هذا .
وأمّا سؤال السائل عن المرجّح لإعمال القدرة الذي هو نفس الاختيار المأخوذ عن طلب الخير في شيء ، فيندفع بأنّ إعمال القدرة وإن كان في نفسه فعلا من أفعال النفس إلاّ أنّه ليس ممّا يقصد بنفسه كي يسأل عن مرجّحه ، بل تعلّق القصد به تعلّق تبعي آلي حيث إنّه مقصود لغيره، وسيجي في البحث عن قول الفلاسفة(2) أنّ السؤال عن مرجّح الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه عين السؤال عن مرجّح الفعل .
وملخّص الكلام : أنّ أساس الشبهة إنّما هو على طبق القاعدة المعروفة ــــــــــــــــــــــــــــ (1) في ص16 . (2) في ص50 ـ 51 .
ــ[41]ــ
(الشيء ما لم يجب لم يوجد) فإذا منعنا شمولها للأفعال الإرادية والاختيارية فتندفع الشبهة من أصلها .
وأمّا ما اشتهر في ألسنة الجمهور من استحالة الترجيح بلا مرجّح فإن كان مرجعه إلى استلزامه الترجّح بلا مرجّح فهو صحيح ، لرجوعه إلى حدوث الممكن من غير مؤثّر في وجوده ، وإن لم يكن مرجعه إلى ذلك بل إلى اختيار الفاعل المختار أمراً ما بلا رجحان فلا استحالة فيه .
والعلاّمة (قدّس سرّه) في شرح التجريد(1) في هذا الباب نقل الاعتراف منهم بوقوعه ، وقد مثّلوا لذلك باختيار أحد الكأسين المتساويين من جميع الجهات للعطشان ، واختيار أحد الرغيفين كذلك للجوعان ، وبمن فرّ عن سبع سالكاً أحد طريقين موصلين إلى مقصوده من دون ترجيح بينهما .
ودعوى أنّ تعلّق الإرادة والاختيار بنفسه كاف في ترجيح ما تعلّق به سفسطة واضحة ، إذ البداهة تقتضي عدم تعلّق لحاظ الفاعل به لحاظاً استقلالياً ، بل هو غافل عنه بالمرّة ، فكيف يكون هو مرجّحاً ، هذا .
وقد أجاب جمع من المحقّقين عن الشبهة المزبورة ببيانات مختلفة ومنهم خاتم المحقّقين (قدّس سرّه) على ما حكى عنه في هامش القبسات نقلا عن نقد المحصّل ، فقد أجاب عنها بما هذه عبارته : وكلّ فعل يصدر عن فاعل بسبب حصول قدرته وإرادته فهو باختياره ، وكلّ ما لا يكون كذلك فهو ليس باختياره ، وسؤال السائل أنّه بعد حصول القدرة والإرادة هل يقدر على الترك كمن يقول : الممكن بعد أن يوجد هل يمكن أن يكون معدوماً حال وجوده ، ومحال أن تكون قدرته إنّما تحصل ــــــــــــــــــــــــــــ (1) كشف المراد : 309 .
ــ[42]ــ
بقدرته، وإلاّ لتسلسل(1).
فالظاهر من كلامه (قدّس سرّه) إلى هنا أنّ وجود الفعل بعد تحقّق القدرة وتعلّق الإرادة به يجب لا محالة ، كما يظهر من تنظيره بقول من يقول : الممكن إلخ .
والظاهر أنّه (قدّس سرّه) يعترف بصحّة القاعدة ، وأنّ الفعل قبل وجوده يكون واجباً عند حصول القدرة والإرادة كما صرّح به في التجريد في المسألة السادسة في عنوان (إنّا فاعلون)(2) بقوله : والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب(3).
وقال العلاّمة في شرحه بعد تقرير أصل الشبهة بقوله : والجواب أنّ الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن ، وواجب بالنظر إلى داعيه ، وذلك لا يستلزم الجبر ، فإنّ كلّ قادر فإنّه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي ، كما في حقّ الواجب(4).
فعليه يكون ترتّب الفعل على القدرة والإرادة ترتّباً وجوبياً غيرياً ، وأمّا نفس الإرادة فتحقّقها ليس بضروري عنده ، كما أفاده في ذيل عبارة نقد المحصّل(5) بقوله : وأمّا الإرادة فربما تحصل له بقدرته وإرادة سابقة ، كالمتروّي في طلب أصلح الوجوه ، فإنّه بعد علمه بالوجوه يقصد إلى فرض وقوع واحد منها بفكره الذي ــــــــــــــــــــــــــــ (1) القبسات : 90 / الإيقاظ الثالث (الهامش الأيسر من الطبعة القديمة) ، راجع أيضاً نقد المحصّل : 325 ، 333 . (2) [الترقيم للمسألة والعنوان المشار إليه ذكره العلاّمة في الشرح] . (3) تجريد الاعتقاد : 199 . (4) كشف المراد : 309 . (5) وقد تقدّم مصدرها آنفاً .
ــ[43]ــ
يصدر عنه أيضاً ، وباختياره(1) ينكشف الصلاح والفساد فيها ، فتحصل له الإرادة بما يراه أصلح ، وهذه الإرادة مكتسبة له ، أمّا أسباب كسبها ـ وهي القدرة على الفكر والعلوم السابقة ـ فبعضها أيضاً يحصل بقدرته وإرادته إلخ .
ففيما أفاده (قدّس سرّه) تصريح بكون الإرادة من الأفعال الاختيارية ولملخّص كلامه جهتان ، بإحداهما يوافقنا ويخالف الفلاسفة حيث يرى نفس تحقّق الإرادة ومباديها القريبة من الاُمور الاختيارية ، وبثانيتهما يخالفنا ويوافق الفلاسفة حيث التزم بسبق وجوب الفعل على وجوده، وقد أبطلنا ذلك بما لا مزيد عليه وذكرنا أنّ الفعل لا يتّصف بالوجوب في جميع المراحل المتقدّمة عليه .
(1) في المصدر : ... أيضاً باختياره لينكشف ... .
|