ونشرع الآن فيما نوّهت إليه الفلاسفة في حقيقة صدور الأفعال من العباد ولهم في ذلك بيانات مختلفة :
البيان الأوّل للفلاسفة والجواب عنه
ولمّا كان البيان الأوّل مشتملا على أمرين فتحقيقه يتوقّف على معرفتهما ولذلك نوضّح كلاًّ منهما ليتمّ بهما البيان ، ثمّ نذكر ما يمكن أن يكون وجه النظر فيه .
الأوّل : أنّ نسبة الإرادة إلى الفعل نسبة العلّة إلى معلولها ، بحيث إذا تمّت الإرادة والمشيّة فقد وجب الفعل ، وإلاّ فهو ممتنع ، تعلّقت المشيّة بالترك أو لم تحدث من رأسها أصلا .
قال سيّد المحقّقين في القبسات : أليس إذا كان الفاعل بحسب نفس ذاته ، بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل كان لا محالة من حيث نفس ذاته مع عزل النظر عن المشيّة واللاّمشيّة يصحّ منه الفعل والترك ، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجبت المشيّة ، والترك إذا وجبت اللاّمشيّة(1). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) كتاب القبسات : 309 (ضمن القبس الثامن) وص206 من الطبعة القديمة .
ــ[50]ــ
فإنّ هذه العبارة كما تراها وغيرها ممّا عبّر بها في المقام صريحة في نسبة الفعل إلى الإرادة نسبة المعلول إلى العلّة التامّة ، فكما يمتنع تخلّف العلّة عن معلولها كذلك يستحيل تخلّف المشيّة عن الفعل .
الثاني : أنّ تحصّل الإرادة في النفس ووجودها فيها فرع وجوبها الذي تقتضيه قاعدة سبق الوجوب على الوجود ، فهي أيضاً ضرورية ليست باختيارية كما يدلّ عليه ما حكى السبزواري في شرح منظومته في البحث عن قدرته تعالى عند شرح قوله عن المعلّم الثاني : وباختياره اختيار ما بدا :
قال المعلّم الثاني في الفصوص(1): فإن ظنّ ظانّ أنّه يفعل ما يريد ويختار ما يشاء ، استكشف من اختياره هل هو حادث فيه بعد ما لم يكن أو غير حادث ، فإن كان غير حادث لزم أن يصحبه منذ أوّل وجوده ، وإن كان حادثاً ولكلّ حادث محدث فيكون اختياره عن سبب ، فامّا أن يكون هو أو غيره ، فإن كان هو نفسه فإمّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار فيتسلسل ، أو يكون وجود الاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبولا على ذلك الاختيار من غيره ، وينتهي إلى الاختيار الأزلي(2).
وبعد ما تنبّهت الأمرين يظهر لك ملخّص البيان الأوّل ، وهو أنّ ذات الممكن وإن كانت في نفسها لها أن تفعل وأن لا تفعل ، إلاّ أنّ الإرادة إنّما تحصّلت بعد اتّصافها بالإيجاب في رتبة متقدّمة على الوجود ، وبذلك صارت ضرورية ، وكذلك الفعل إنّما ترتّب لإيجابها إيّاه وجوباً اضطرارياً ، هذا .
والذي يمكن أن يقال في الجواب : إنّ لفظ الإرادة يطلق على معان ، فإنّه ــــــــــــــــــــــــــــ (1) ص91 / الفص 60 . (2) شرح المنظومة (قسم الحكمة / المجلّد الثاني من الجزء الثاني) : 623 .
ــ[51]ــ
قد يطلق ويراد منه الشوق النفساني القائم بالنفس قيام الصفة بالموصوف ، وقد يطلق ويراد منه عقد القلب ، وقد يراد منه الاختيار الذي هو بمعنى طلب الخير من الفعل أو الترك .
فإن كان المراد منه هو المعنى الأوّل ـ أي الشوق ـ فعدم ترتّب الفعل عليه ترتّب المعلول على علّته في غاية الوضوح ، إذ كثيراً ما نشتاق إلى أفعال ولا تتحصّل في الخارج ، نعم هو من مرجّحات الفعل ، كما سبق(1) في ترتيب مراتب تحصّل الفعل إلى أن يوجد في الخارج .
وإن كان المقصود هو المعنى الثاني أو الثالث ـ أي عقد القلب أو الاختيار الذي قيامه بالنفس قيام الفعل بالفاعل ـ فالسؤال عن علّته عين السؤال عن علّة الفعل ، لأنّه ليس إلاّ طريقاً محضاً إلى الفعل ، ولا يتعلّق القصد به ، ولا يحصل الداعي إليه من حيث هو ، فيبقى السؤال عن علّة حدوث الفعل ، وقد عرفت غير مرّة أنّ ما لابدّ منه في صدور الفعل إنّما هو الفاعل من دون افتقار إلى وجوب يسبقه ، بل من دون احتياج إلى المرجّح أيضاً ، وإنّما التزمنا بلزوم المرجّح لإخراج الفعل عن السفه والعبث إلى كونه عقلائياً .
هذا مع أنّ التزامهم بضرورية علّة الفعل التي هي الإرادة وقولهم باختيارية الفعل الصادر من العبد من باب الالتزام بالمتناقضين ، إذ كيف يعقل أن تكون العلّة ضرورية ومعلولها اختيارياً .
|