البيان الثاني للفلاسفة : وهو ـ كما نقرّره الآن على ما أخذناه عن ظواهر كلماتهم ، بل من تصريحاتهم في بعض المقامات ـ موضوع على قاعدة مسلّمة عندهم ، وهي أنّ جميع الموجودات سوى الواجب تعالى بأسرها ـ عللها ومعاليلها ــــــــــــــــــــــــــــ (1) في ص40 .
ــ[52]ــ
وغاياتها ، طولية وعرضية ـ مترتّبة واقعة في النظام الجملي الأتمّ ، منتهية إلى مبدأ واحد ، لا سبيل إلى تدخّل غيره في أيّ شأن من شؤونها لينتهي إلى الشرك ، ولا شبهة في أنّ الأفعال الصادرة من العباد أيضاً من جملة أجزاء النظام الجملي ، فهي بنفسها وعللها تنتهي إلى الله تعالى .
قال سيّد الفلاسفة في الإيقاظ الخامس من الإيقاظات المطبوعة في هامش القبسات : ثمّ من بعد ما قضى البرهان قضاء فصلا أنّ طباع الإمكان هو العلّة التامّة للاحتياج إلى الواجب بالذات ، كيف يتصحّح الدخول في إقليم الوجود من دون انتهاء الفيض إليه ، واستناد الأمر إلى جنابه (علا ذكره وتعالى جدّه) وهل هذا إلاّ طريق الثنوية وسبيل الإشراك .
ومن هناك ما قد ورد وتكرّر عنهم (صلوات الله عليهم) فيما رواه الصدوق في جامعه المسند في التوحيد وغيره من الحكم بأنّ من يقول بذاك فهو كافر ، ومن يقول بهذا فهو مشرك(1).
ولا يتوهّمن إلزام القول بالتشريك على الاُمّة الوسط ، لأنّ ذلك أن يكون المعلول في درجة الاستناد مستنداً إلى مبدأين هما إرادة الله سبحانه وقدرته وقدرة العبد وإرادته جميعاً على سبيل الشركة ، بل إنّ هنالك مسبّبات مترتّبة على أسباب متسلسلة ، والأسباب والمسبّبات منتهية الاستناد جميعاً في نظامها الجملي وفي سلسلتها الطولية والعرضية معاً إلى مبدأ واحد هو الله الحقّ سبحانه ، وهو مسبّب الأسباب على الإطلاق من غير سبب ، فهذا ميقات الحقّ ، وعنده تجتمع الآيات وتتوافق الروايات المتعارضة ، وينصرح سرّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم ــــــــــــــــــــــــــــ (1) التوحيد : 68 / 25 ، 31 ، 36 ، 363 ـ 364 / 12 .
ــ[53]ــ
يكن(1).
وقريب منه ما قاله الشيخ رئيس مشّائي الإسلام في الشفاء في المقالة العاشرة : والإرادات التي لنا كائنة بعد ما لم تكن ، وكل كائن بعد ما لم يكن فله علّة وكلّ إرادة لنا فلها علّة ، وعلّة تلك الإرادة ليست إرادة متسلسلة في ذلك إلى غير النهاية ، بل اُمور تعرض من خارج ، أرضية وسماوية ، والأرضية تنتهي إلى السماوية ، واجتماع ذلك كلّه يوجب وجود الإرادة .
وأمّا الاتّفاق فهو حادث عن مصادمات هذه ، فإذا حللت الاُمور كلّها استندت إلى مبادئ إيجابها منزل من عند الله تعالى(2).
ولا يبعد أن يكون جعل جميع الكائنات ـ من المواد والصور ، والعلل والمعاليل ، والأفاعيل والانفعالات ـ جملة واحدة منظّمة في سلسلة مترتّبة وإنهائها إلى المبدأ الأوّل ممّا اتّفقت عليه كلمة الفلاسفة المتقدّمين والمتأخّرين عن الإسلام كما يظهر ذلك بأدنى تفحّص في آثارهم ، ولا يخفى اندماج الأفعال الصادرة عن العباد أيضاً في تلك السلسلة المنظّمة ، وعليه يستحيل أن يصدر فعل عن فاعل باختياره ، إذ صدوره كذلك يوجب عدم الانتظام في الجملة .
وتوضيحه : أنّه إذا فرضنا أنّ فعل زيد في زمان خاص ومكان خاصّ مثلا مرتبط بالسلسلة الجملية المنتهية إلى المبدأ الأوّل ، فلو كان بعد ذلك زيد مختاراً في الفعل والترك لزم الفوضى ، فلم يكن النظام نظاماً ، هذا خلف .
إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا وجوب انتهاء الموجودات إلى المبدأ الأوّل فهو من الضروريات التي لا تقبل التشكيك ، لأنّه مقتضى الإمكان، إذ قد ثبت أنّ ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع القبسات : 137 الهامش الأيسر (الطبعة القديمة) . (2) الشفاء (الإلهيات 2) : 439 ضمن الفصل الأوّل من المقالة العاشرة .
ــ[54]ــ
الإمكان في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود ولا العدم لا حدوثاً ولا بقاءً ، فإنّ بقاء الممكن أيضاً ممكن فيحتاج إلى إفاضة من الله تعالى .
إلاّ أنّ الكلام لنا في هذا البيان في مقامين :
الأوّل : أنّ دخول الأفعال الصادرة عن العباد ـ على اختلاف حقائقها وجهاتها من الخيرات والشرور والأفعال العبثية وغيرها ممّا لا يرى العقل بينها ارتباطاً أبداً ـ في النظام السلسلي لا يمكن تعقّله ، وأنّ النظام المدّعى أيّ نظام هو يجمع تلك الشتات من الأفعال ويركّب من خيرها وشرّها وعبثها وسفهها جملة واحدة حقيقية .
ولا يتوهّم أنّا ننكر بذلك النظام الحقيقي في الكائنات ونجعلها فوضى ، بل نقول : إنّ ما يدخل تحت النظام هو العلل والمعاليل وغيرهما من الموجودات التكوينية بالجملة ، حتّى قدرة العبد على الاختيار على نحو قد أسلفناه غير مرّة وأمّا الأفعال الصادرة من العباد فهي غير داخلة في النظام الجملي ، بل هي صادرة باختيارهم ، وإن كانت القدرة عليها بمباديها مفاضة من الله سبحانه آناً فآناً .
الثاني : أنّ الأخبار الواردة في المقام على ما ستقف عليه في محلّه إن شاء الله(1) الدالّة على كون القول باستقلال العبد في فعله شركاً ، إنّما تدلّ على شرك من يرى العبد مفوّضاً إليه جميع شؤونه وأحواله ، كما بيّناه فيما مضى(2) عند شرح مذهب المفوّضة والفرق بينه وبين مذهب الأمر بين الأمرين بما لا مزيد عليه ، وأمّا على ما اختاره الإمامية من افتقار العبد إليه تعالى في جميع أطواره ، ومنها قدرته التي بها يفعل ويترك ، فليس هذا شركاً وقولا بانتهاء السلسلة الجملية إلى مبدأين : قدرة الله ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ص101 ، 96 ، وأيضاً التوحيد (للصدوق) : 363 / 12 وغيره . (2) في ص33 .
ــ[55]ــ
وإرادته ، وقدرة العبد وإرادته .
وقد سلك الفلاسفة في إثبات انتهاء الأفعال إلى الله سبحانه.
|