البيان الثالث للفلاسفة المتأخّرين
وقد أوضحوا حقيقة صدور الأفعال ببيان آخر نبيّنه بأكمل وجه ، ولعلّ المراجع يفهم غير ما ظهر لنا من هذا البيان ، وهو تقسيم البحث عن الفعل باعتبار جهات ثلاث .
والذي دعاهم إلى هذا التفصيل هو أنّ كلّ كائن حي أو غير حيّ من الجواهر أو من الصفات قد لا يكون للبحث فيه من جهة واحدة شيء محصّل ، بل لابدّ من ملاحظة اختلاف جهات البحث ، ولذلك حاولوا تحليل صدور الفعل مع ملاحظة تلك الجهات الثلاث : الاُولى جهة البحث الفلسفي ، الثانية : جهة البحث النفسي ، الثالثة : جهة البحث الأخلاقي ، فليس البحث عن صدور الفعل ذا جهة بسيطة كي يدور الإثبات والنفي عليها وحدها .
فبالنظر إلى الجهة الاُولى ـ وهي ربط الفعل بالقوانين الفلسفيّة ـ يبدو الفعل إجبارياً ، وقد مرّ بيان الاستدلال والجواب مسهباً .
وأمّا جهة البحث النفسي فمقتضاها اختيار الإنسان في أفعاله وتروكه ، لظهور حكم الوجدان بكون النفس ذات قوّة حقيقية بها توجب اختيار الفعل في حين أنّه قادر على اختيار الآخر وتركهما ، وإنّما نعرف وجود تلك القوّة بمعونة الأفعال وتعقّبها بالغايات التي جعلها الفاعل أهدافاً لأفعاله .
وأمّا جهة الأخلاق فهي أوضح من اُختيها ، فلا نطيل الكلام فيها .
ولكن الذي نرومه في المقام هو بيان أنّ القوانين الفلسفية المزعوم أنّها تؤدّي إلى الجبر مأخوذة من أحد طريقين : إمّا من طريق العقل كالقوانين غير المرتبطة بالمحسوسات موضوعاً ومحمولا ونسبة ، وإمّا من طريق المحسوسات كقاعدة الوراثة
ــ[75]ــ
عندهم أو الملازمة بين الحركة والنور مثلا ، فإذا لم يدلّنا أحد الطريقين على مطلوب لا تطمئنّ إليه نفوسنا .
ولا يخفى أنّ البحث النفسي أو الأخلاقي اللذين ينتجان نتيجة كلّية وضابطة عامّة يكشفان لا محالة عن أنّ ما أثبتناه إنّما هو مقتضى القوانين الفلسفية أيضاً .
وبه تعرف فساد توهّم من ذهب إلى أنّ مقتضى القانون العلمي هو الجبر ومقتضى القوانين الدولية والمقرّرات الحكومية القضائية والجزائية وغيرها هو الاختيار . ووجه الفساد : أنّ من المعلوم شدّة اختلاف قوانين الاُمم والأقوام باختلاف عاداتها ومعتقداتها ، ومع ذلك لم تشذّ واحدة منها في السؤال عن الفعل والجزاء طبق ما وقع عليه ، وهل يعقل أن يكون ذلك من باب البناء والتعبّد المحض ، بل لا استبعاد في كون اختيارية الأفعال من أوّل الضروريات حيث لم يختلف فيها اثنان ، لما ذكرناه من المسؤوليات والقضاء في جميع محاكم العالم ، بخلاف(1) الضروريات حيث ذكرنا سابقاً كثرة وقوع الخلط والاشتباه فيها .
|