ــ[89]ــ
الكلام في الاستدلال بالروايات الدالّة على الاختيار
إنّ الروايات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد على أقسام ، منها : ما يكون ظاهراً فيه ، ومنها : ما يكون نصّاً وصريحاً في أنّ الفعل الصادر من العباد ليس بالإجبار ولا بالاضطرار ، بل على نحو الأمر بين الأمرين ، ومنها : ما يدلّ على نفي الظلم عنه تعالى .
وليعلم أيضاً أنّا لا نورد عن كلّ واحد من هذه العناوين إلاّ ما يكون نموذجاً للعنوان كما فعلناه في الآيات ، لأنّ استقصاء جميعها يحتاج إلى تأليف مجموعة مستقلّة مفصّلة .
أمّا القسم الأوّل : ففي الوافي نقلا عن الكافي مرفوعاً ، وغيرهما من كتب الحديث بعضها مرسلا(1) وبعضها مسنداً(2)، والعبارة عن الكافي على ما نقله في الوافي قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثمّ قال : ياأمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أجل ياشيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر ، فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ياأمير المؤمنين ، فقال له : مَه ياشيخ ، فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرّين ، فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ فقال له : وتظنّ أنّه كان قضاءً حتماً ــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأنوار 5 : 95 / 19 . (2) التوحيد (للصدوق) : 380 / 28 .
ــ[90]ــ
وقدراً لازماً ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمةٌ للمذنب ، ولا محمدةٌ للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يملِّك مفوّضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، فأنشأ الشيخ يقول :
أنت الإمـام الذي نرجوا بطاعته يـوم النجاة من الرحـمن غفرانا
أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً جزاك ربّك بالإحسان إحسانا(2)
الرواية الشريفة من أحسن الروايات الواردة في المقام ، ولقد بيّنت عمدة ما في مسألتنا ـ الجبر والاختيار ـ من الغوامض والنكات المهمّة :
الاُولى : تقسيم القضاء والقدر إلى قسمين : حتميّين وغير حتميّين ، وأنّ الذي تعلّق منهما بالأفعال هو القسم الثاني ، غير الموجب لاضطرار العباد في أفعالهم وسيأتي لذلك زيادة توضيح في تفسير معنى القضاء والقدر إن شاء الله تعالى(3).
الثانية : تحقّق الملازمة بين كون الأفعال مقضيّاً عليها بالقضاء الحتم ، وبين بطلان الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ولغوية المدح والذمّ لوضوح عدم كون المحسن فاعل الفعل الحسن ، والمذنب فاعل الفعل القبيح . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوافي 1 : 535 / ب54 ح1 ، الكافي 1 : 155 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح1 . (2) في ص97 وما بعدها .
ــ[91]ــ
الثالثة : التصريح بتكليفهم وهم مختارون ، غير مكرهين ولا مضطرّين .
الرابعة : عدم تمليكه إيّاهم بحيث ينافي سلطانه جلّ وعلا كما يقوله المفوّضة .
بقيت في الرواية نكتة اُخرى ، وهي كيفية تصوير أولوية المذنب بالإحسان والمحسن بالعقوبة على فرض الإجبار والاضطرار ، وقد ذكر علماؤنا (رضي الله عنهم) في وجه الأولوية وجوهاً قد نقل بعضها في مصابيح الأنوار فراجع(1).
وفي الوافي عن الكافي باسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله »(2).
وفي الوافي عن الكافي باسناده عن حفص بن قرط ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار »(3).
ولا يخفى أنّ الرواية الشريفة ناظرة إلى الردّ على القولين ـ الجبر والتفويض ـ وإثبات الأمر بين الأمرين ، وذلك لأنّ القول باسناد المعاصي إلى الله مساوق للقول بأمره بالفحشاء ، وكذلك القول باستقلال العباد في خيراتهم وشرورهم من الأفعال ــــــــــــــــــــــــــــ (1) مصابيح الأنوار 1 : 118 ـ 120 . (2) الوافي 1 : 539 / ب54 ح2 ، الكافي 1 : 156 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح2 . (3) الوافي 1 : 540 / ب54 ح3 ، الكافي 1 : 158 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح6 .
ــ[92]ــ
مساوق للقول بالتفويض ، الذي هو إخراج الله عن سلطانه كما يراه المفوّضة ، فعليه تكون الجملة الأخيرة « ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله » بياناً لتعلّق المشيّة بالخير والشرّ ، فيكون معناها أنّ القدرة على الخير والشرّ حدوثاً وبقاءً ممّا تعلّقت به المشيّة ، كما عليه الإمامية .
والحاصل : أنّ المقصود من متعلّق المشيّة ليس نفس الخير والشرّ ، وإلاّ تكون مع الجملة السابقة ـ وهي قوله (صلّى الله عليه وآله) : « من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله » ـ في قوّة الناقض .
وفي الوافي عن الكافي باسناده عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) إنّ « الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد »(1).
ومعنى الرواية الشريفة كسابقتها في مقام الردّ على القولين ، حيث إنّ التكليف للمضطرّ من باب التكليف بما لا يطاق ، وهو ممّا لا يصحّ استناده إليه تعالى ، وكذلك مقتضى سلطنته تعالى أن لا يكون العبد غنيّاً في ذاته بحيث لا يحتاج إلى إرادته تعالى ومشيّته في إبقاء قدرته على الفعل .
وبهذا المضمون روايات الاستطاعة ، منها ما في الوافي عن الكافي باسناده عن علي بن أسباط ، قال : « سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاستطاعة فقال : يستطيع العبد بعد أربع خصال : أن يكون مخلّى السرب ، صحيح الجسم ، سليم الجوارح ، له سبب وارد من الله . قلت : جعلت فداك فسّر لي هذا ، قال : أن يكون العبد مخلّى السرب ، صحيح الجسم ، سليم الجوارح ، يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثمّ ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوافي 1 : 540 / ب54 ح4 ، الكافي 1 : 160 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح14 .
ــ[93]ــ
يجدها ، فإمّا أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف (عليه السلام) أو يخلّي بينه وبين إرادته فيزني فيسمّى زانياً ، ولم يطع الله باكراه ولم يعصه بغلبة »(1).
والرواية الشريفة ممّا أوضح السرّ في المسألة ، ودلّت على أنّ ما أشرنا إليه سابقاً من استناد الفعل إلى الاختيار بمعنى عقد القلب من الأفعال الاختيارية ونفت كون الإرادة هي العلّة التامّة للفعل ، بحيث يوجب وجودها في النفس وجود الفعل في الخارج ، فإنّ التخلية بين النفس والإرادة مع إمكان أخذها ومنعها عن انجرارها إلى الفعل لا تعقل إلاّ بعد فرض عدم كون الإرادة علّة تامّة ، لاستحالة الانفكاك بينهما ، هذا.
وقد رأينا مع قصر الباع وقلّة التتبّع أنّ الروايات الواردة بهذا المضمون فوق التواتر .
القسم الثاني : الأخبار الدالّة على نفي الظلم عنه تعالى ، وقد عقد المحدّث الأعظم المجلسي (قدّس سرّه) باباً لهذا العنوان(2) ولم نورد منها لكثرتها .
ووجه الاستدلال بها في غاية الوضوح بعد قضاء العقل بأنّ العقاب على الفعل المضطرّ إليه من الظلم الذي قد استقلّ العقل بقبحه ، من دون فرق في من يتلبّس به .
القسم الثالث : وكان هذا القسم بترتيب عنوانه القسم الثاني ، وإنّما أخّرناه لتفصيله ، والأمر سهل .
وهذا القسم هو الذي صرّح بمذهبنا الإمامية ، وقد ادّعى تواتره من أهل الحديث غير واحد ، ونذكر عدّة منها للتبرّك : ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الوافي 1 : 547 / ب55 ح1 ، الكافي 1 : 160 / باب الاستطاعة ح1 . (2) راجع بحار الأنوار 5 : 4 وما بعدها .
ــ[94]ــ
ففي البحار ، باسناده عن يونس ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا : « إنّ الله عزّوجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ، قال : فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض »(1).
ومن طريق الكافي وتوحيد الصدوق ، عن محمّد بن يحيى الخزّاز ، عن طريق الكليني عمّن حدّثه ، وعن المفضّل بن عمر عن طريق الصدوق عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين »(2).
وفي الكافي عن صالح بن سهل ، عن بعض أصحابه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سئل عن الجبر والقدر ، فقال : لا جبر ولا قدر، ولكن منزلة بينهما فيها الحقّ التي بينهما لا يعلمها إلاّ العالم ، أو من علّمها إيّاه العالم »(3).
وفي الكافي عن يونس ، عن عدّة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « قال له رجل : جعلت فداك ، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها ، فقال له : جعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال : لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ، قال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة ؟ قال فقال : نعم أوسع ما بين السماء والأرض »(4).
وفي الكافي باسناده عن أبي طالب القمّي ، عن رجل ، عن أبي عبدالله (عليه ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع بحار الأنوار 5 : 51 / 82 . (2) الكافي 1 : 160 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح13 ، التوحيد : 362 / باب نفي الجبر والتفويض ح8 . (3) الكافي 1 : 159 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح10 . (4) الكافي 1 : 159 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح11 .
ــ[95]ــ
السلام) قال « قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : لا ، قلت : ففوّض إليهم الأمر ؟ قال : لا ، قلت : فماذا ؟ قال : لطف من ربّك بين ذلك »(1).
ولا يخفى أنّ اختلاف التعبيرات بحسب اختلاف مراتب السائلين في الفهم وإلاّ فالمؤدّى واحد ، وهو كما ذكرناه مراراً إسناد الفعل إلى الله من جهة إفاضة القدرة من الله على العبد في جميع الآنات حتّى في آنات الاشتغال بالفعل ، وإسناده إلى العبد لعقد قلبه عليه واختياره ، وقد أوضحناه بمثال كاف في أوّل الكتاب فراجع(2). ــــــــــــــــــــــــــــ (1) الكافي 1 : 159 / باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ح8 . (2) ص31 .
|