السادس : في تحقيق الحال في أنّه يمكن جعل الشرطية لأحد الضدّين والمانعية للضدّ الآخر ، أو يستحيل ذلك . وقبل الخوض فيه لابدّ من تحقيق الحال في أجزاء العلّة ، وبيان كيفية دخل كل منها في وجود المعلول فنقول :
أمّا المقتضي فدخله في أجزاء العلّة باعتبار أنّه هو الذي يترشّح منه المعلول .
وأمّا الشرط فهو أجنبي عن الرشح ، ضرورة أنّ الاحتراق ـ مثلا ـ لا يترشّح من المحاذاة ، بل الترشّح إنّما هو من ذات النار ، والمحاذاة كغيرها من الشرائط دخيلة في فعلية الأثر من المقتضي ، إمّا من جهة نقص في الفاعلية أو القابلية . وعلى كل حال فهي أجنبية عن المؤثّرية والفاعلية .
ومن هنا يعلم أنّ دخل الشرط في وجود المعلول ليس على حذو دخل المقتضي فيه ، فإنّ المؤثّر في وجود المعلول هو المقتضي ليس إلاّ ، غاية الأمر أنّ تمامية مؤثّريته أو قابلية المعلول للوجود إنّما يكون بوجود الشرط ، مثلا الطهارة ليست مؤثّرة في النهي عن الفحشاء ، بل المؤثّر فيه هو الصلاة ، لكنّها لا تقتضيه مطلقاً ، بل إذا كانت مقرونة بالطهارة ، أو أنّ النفس لا تتأثّر منها إلاّ مع كون المصلّي طاهراً . وعلى كل حال فالنهي عن الفحشاء لا يترشّح إلاّ من الصلاة ، لا من الطهارة .
وأمّا المانع فدخل عدمه في وجود المعلول مباين لدخل المقتضي والشرط فإنّ العدم يستحيل أن يكون دخيلا في الوجود بالضرورة ، بل دخالته من جهة
ــ[14]ــ
مزاحمة وجوده للتأثير ، ولولا المزاحمة بين الوجودين لما كان يعقل كون عدم شيء من أجزاء علّة شيء آخر .
إذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان أحد الضدّين شرطاً لوجود شيء فإمّا أن يكون هو والمقتضي موجودين في الخارج أم لا ، وعلى الأول لا يعقل وجود الضدّ الآخر حتّى يكون مزاحماً في التأثير ، وإلاّ لزم اجتماع الضدّين . وعلى الثاني يستند عدم المعلول إلى عدم المقتضي أو إلى عدم الشرط ، لا إلى وجود المزاحم . وعلى كلّ حال تستحيل المانعية الناشئة عن المزاحمة .
ومن هنا يندفع ما يقال من أنّ استناد وجود المعلول إلى مجموع أجزاء العلّة يستدعي استناد عدمه إلى عدم المجموع من دون ترتّب ، نعم إذا كان بعض أجزاء العلّة موجوداً دون بعض لاستند العدم إلى عدم ذلك البعض ، فإنّك قد عرفت أنّ استناد الوجود إلى عدم المانع إنّما كان من جهة المزاحمة ، ومع عدم المقتضي أو الشرط كيف يعقل استناد العدم إلى وجود المزاحم .
إن قلت : هب أنّ عدم المعلول يستند إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع لكنّه لا يسلّم عند عدم الشرط ، فإنّ الشرط دخالته في العلّة إنّما هو باعتبار دخله في فعلية الأثر ، والمانع إنّما يمنع عن الفعلية ، فهما في مرتبة واحدة ، فلا مرجّح لاستناد عدم المعلول إلى عدم شرطه ، بل يستند إليه وإلى وجود المانع في مرتبة واحدة . فما هو المستحيل اقتضاء أحد الضدّين لشيء ومانعية الآخر عنه ، لا شرطية أحدهما ومانعية الآخر كما هو محلّ الكلام .
قلت : قد عرفت(1) أنّ الشرط إمّا أن يكون متمّماً لفاعلية الفاعل أو متمّماً لقابلية القابل ، وعلى كلّ تقدير فالمعلول في نفسه غير قابل للوجود ، ومعه كيف ــــــــــــــــــــــــــــ (1) في ص13 .
ــ[15]ــ
يعقل أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المزاحم .
فإن قلت : إنّ مانعية الشيء إنّما تنتزع من كونه بحيث لو وجد المقتضي مع الشرائط يمنع وجود المعلول ويزاحم المقتضي في تأثيره ، ومن الضروري إمكان ذلك في الضدّ مع شرطية الضدّ الآخر ، غاية الأمر أنّه لا يستند عدم المعلول إلى وجود المانع خارجاً ، لاستحالة اجتماع الضدّين كما ذكرت ، لكن صدق القضية الشرطية ـ وهي أنّه لو كان المقتضي مع سائر الشرائط موجوداً لاستند العدم إلى وجود المانع ـ لا يستدعي صدق الطرفين ، بل الميزان في صدقها هو تحقّق الملازمة .
قلت : إذا كان استناد العدم إلى وجود المانع ـ الذي هو معنى المانعية ـ متوقّفاً على وجود الضدّين معاً ، فصدق القضية الشرطية لا يستدعي صلوح اتّصاف الضدّ بالمانعية ، فإنّه إذا كان التالي مترتّباً على محال ـ وهو اجتماع الضدّين ـ فلا محالة يكون هو محالا أيضاً ، فإنّ مستلزم المحال محال ، وإن كانت الملازمة بين المحالين صادقة .
على أنّ الملازمة أيضاً كاذبة ، من جهة أنّه لو فرض الضدّان المفروض أحدهما شرطاً والآخر مانعاً موجودين في الخارج ولم يكن اجتماع الضدّين محالا فلماذا تقع الممانعة ولا يوجد المعلولان المتضادّان أيضاً ، فإنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فإذا أمكن اجتماع الضدّين في طرف العلّة أمكن اجتماعهما في طرف المعلول أيضاً .
فإن قلت : هب أنّ ذلك لا يجوز في التكوينيات لكنّه لماذا لا يجوز كون أحد الضدّين شرطاً للمأمور به والآخر مانعاً عنه في التشريعيات ، إذ لا تأثير ولا تأثّر فيها ، ولا معنى لاعتبار شيء شرطاً أو مانعاً في المأمور به إلاّ اعتبار وجوده أو عدمه فيه ، وعليه لا مانع من اعتبار وجود أحد الضدّين وعدم الآخر فيه إذا
ــ[16]ــ
كان فيهما ملاك الشرطية والمانعية .
قلت : ليس أخذ شيء شرطاً أو مانعاً في المأمور به إلاّ من جهة دخلهما في ملاكه ، بناءً على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، فيرجع الأمر إلى دخل وجود أحد الضدّين وعدم الآخر في تحقّق الملاك والمصلحة ، فيعود المحذور .
ودعوى أنّ اللازم هو وجود المصلحة في نفس الأمر ، وأمّا في المتعلّق فلا ملزم له ، فلا مسرح لها في الأحكام الحقيقيّة الناشئة عن الإرادة والكراهة والحبّ والبغض ، وهل يعقل تعلّق الإرادة بشيء بلا مصلحة في متعلّقها بل لمصلحة في نفسها ، كلاّ . نعم يمكن ذلك في الأحكام غير الحقيقيّة الناشئة عن مصلحة في نفس الإنشاء وجعل الحكم ، لكنّها بمراحل عن محلّ البحث والكلام ، هذا .
مضافاً إلى أنّ جعل الشرطية لأحد الضدّين وأخذ وجوده في متعلّق الأمر يغني عن أخذ عدم الضدّ الآخر فيه والخطاب به ، ولو فرض فيه ملاك المانعية أيضاً ، فكيف يمكن البعث المولوي نحو عدم الضدّ مع فرض البعث إلى وجود ضدّه ، مع أنّه من اللغو الواضح .
فإن قلت : إذا كان إغناء أحد الجعلين عن الجعل الآخر موجباً للغويته لما كان يقع النزاع في وجوب المقدّمة شرعاً ، وفي استلزام الأمر بأحد الضدّين للنهي عن الضدّ الآخر ، أو في استلزام وجوب أحد المتلازمين لوجوب الآخر ، فإنّ كلّ ذلك يكون من اللغو كما عرفت .
قلت : استلزام وجوب ذي المقدّمة لوجوب مقدّمته ليس بمعنى استلزام البعث نحوه للبعث نحوها ، كيف وهو خلاف الواقع وجداناً ، بل بمعنى استلزام إرادة الشيء لإرادة مقدّمته قهراً من دون اختيار في ذلك للمريد ، أو بمعنى أنّ البعث إلى الشيء بعث نحو مقدّمته بالعرض . وعلى كل حال ، فليس هناك بعثان مولويان حتّى يكون أحدهما من اللغو الباطل .
ــ[17]ــ
ومنه يظهر الجواب عن استلزام وجوب الشيء للنهي عن ضدّه ، أو الأمر بملازمه .
فإن قلت : إذا كان الأمر بشيء مع عدم الحاجة إليه في تحقّق متعلّقه خارجاً موجباً للغويته ، فلابدّ من قصر الأحكام الشرعية بما لا يكون للمكلّف بنفسه داع إلى إيجاد متعلّقاتها ، وإلاّ فيكون الأمر بالإيجاد من اللغو كما ذكرت .
قلت : الحكم في القضايا الحقيقيّة ليس إلاّ بمعنى الإنشاء بداعي جعل الداعي على المكلّف إمكاناً ، أي جعل ما يمكن أن يكون داعياً له ، من دون نظر إلى شخص خاصّ ، ومن المعلوم عدم التفاوت في ذلك بين ما يكون للمكلّف داع إلى الفعل خارجاً وعدمه .
وأمّا في القضايا الخارجية فإن كان الآمر لا يعلم بتحقّق مراده من غير جهة أمره في الخارج فالحال فيه هي الحال بعينها في القضايا الحقيقية ، وإلاّ فيكون من اللغو الواضح ، نعم فيما إذا كان المطلوب خصوص وجوده العبادي ومضافاً إلى المولى فالعلم بوجوده المطلق في الخارج لا يوجب لغوية الأمر به بنحو خاصّ .
فإن قلت : الأمر بشيء مطلقاً يكون أمراً بإيجاده مضافاً إلى المولى وبداعي أمره ، ضرورة استحالة الأمر بشيء مقيّداً بأن يكون الداعي إلى إيجاده غير أمر المولى ، لما عرفت من أنّ الأمر إنّما هو لجعل الداعي ، فيستحيل تقييد المأمور به بأن يكون بداع آخر ، ومن المعلوم أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق . وما يرى من سقوط الأمر بما إذا أتى بذات المأمور به في التوصّليات فهو من جهة حصول الغرض ، كما إذا صدر الفعل لا عن اختيار ، لا من جهة الإتيان بالمأمور به .
قلت : استحالة التقييد بكون الداعي غير أمر المولى لا تكشف عن كون المأمور به خصوص الوجود المضاف إلى المولى ، وذلك فإنّه كما يستحيل التقييد
ــ[18]ــ
المذكور يستحيل التقييد بكون الداعي هو الأمر أيضاً على ما بيّن في محلّه(1). فالمأمور به ليس إلاّ الوجود المهمل ، لا المطلق ولا المقيّد ، كما هو الحال في كلّ ما يكون من التقسيمات الثانوية المترتّبة على جعل الحكم وفرض وجوده .
وقد ذكرنا في محلّه أنّ التقييد بكون الداعي هو الأمر لابدّ وأن يكون بأمر آخر متمّم للأمر الأول كما في العباديات ، وعليه فالأمر بما يعلم تحقّقه خارجاً في غير العباديات يكون من اللغو الواضح .
فإن قلت : يكفي في عدم لغوية الخطاب بعدم الضدّ مع الخطاب بوجود ضدّه الآخر كونه تأكيداً له ، إذ اللغوية ترتفع بأدنى نكتة ، ولتكن النكتة هو التأكيد . على أنّ اللغوية على تقدير تسليمها إنّما تكون مع توجّه الخطاب إلى مخاطب واحد ، وأمّا إذا كان خطاب الشرطية مع واحد والخطاب بالمانعية مع آخر فأين اللغوية ؟
قلت : اندفاع اللغوية لنكتة التأكيد عين الالتزام باستحالة الجعلين ، فلابدّ وأن يكون المجعول إمّا الشرطية أو المانعية ، غاية الأمر أنّه في مقام الإثبات ربما يطلب الوجود واُخرى عدم ضدّه . وأمّا اندفاع اللغوية من جهة تعدّد المخاطب فهو إنّما يفيد إذا لم تكن الأحكام مشتركة ، وكان كل مخاطب محكوماً بحكم خاصّ ، وإلاّ فكل منهما مخاطب بخطابين يكون أحدهما لغواً لا محالة .
فتحصّل ممّا ذكرناه : استحالة جعل المانعية لأحد الضدّين مع جعل الشرطية للضدّ الآخر ، نعم إذا كان الضدّان لا ثالث لهما فلا تتمحّض اللغوية في جعل المانعية ، بل يكون اللغو هو جعل إحداهما مع جعل الاُخرى من دون ترجيح ــــــــــــــــــــــــــــ (1) لاحظ محاضرات في اُصول الفقه 1 (موسوعة الإمام الخوئي 43) : 520 فإنّ المذكور فيه ينافي ما ذكره هنا .
ــ[19]ــ
في البين .
|