ــ[40]ــ
المبحث الثاني
فيما تقتضيه الاُصول الموضوعية
وقد استدلّ بها على جواز الصلاة في المشتبه بوجوه :
الأوّل : التمسّك بأصالة الحلّ في لحم الحيوان المتّخذ منه الصوف المشتبه مثلا ، فيحرز بها حلّية اللحم ظاهراً ، ويترتّب عليها جواز الصلاة في الصوف المأخوذ من حيوانه .
وقد اُورد عليه بوجوه :
منها : ما عن شيخنا الاُستاذ العلاّمة (قدّس سرّه)(1) من أنّها على تقدير جريانها لا تجري فيما إذا علم حرمة أكل لحم حيوان معيّن وحلّية الآخر بعينه متميّزاً في الخارج عن الحرام ، فإنّه ليس هناك لحم يشكّ في حلّيته وحرمته ، بل الشكّ راجع إلى أخذ الصوف من معلوم الحرمة أو الحلّية ، نعم العنوان الانتزاعي ـ وهو ما اُخذ منه هذا الصوف ـ وإن لم يعلم حرمته ، إلاّ أنّه ليس له وجود في الخارج ، ولا يترتّب عليه أثر شرعي ، وما هو موجود فيه وموضوع للأثر إمّا معلوم الحرمة أو معلوم الحلّية .
ويرد عليه : أنّ معلومية حلّية أحد الحيوانين في نفسه وحرمة الآخر كذلك ــــــــــــــــــــــــــــ (1) رسالة الصلاة في المشكوك : 316 .
ــ[41]ــ
لا ينافي الشكّ الفعلي في حرمة ما اُخذ منه هذا الصوف المبتلى به مثلا ، ومن الضروري أنّ معنون هذا العنوان موجود خارجي يشكّ في حلّيته وحرمته فعلا وإن كان معلوم الحرمة أو الحلّية سابقاً بعنوان آخر ، والميزان في جريان الأصل هو فعلية الشكّ بأي عنوان كان .
فهو نظير ما إذا وقعت قطعة من أحد اللحمين المعلوم حرمة أحدهما بعينه وحلّية الآخر كذلك بيد المكلّف ، وشكّ في أخذها من أيّ منهما، فإنّه لا إشكال في جريان أصالة الحلّ في تلك القطعة ، وإن كان حكمها من الحلّية أو الحرمة كان معلوماً سابقاً ، إلاّ أنّه لا يضرّ بكونها مشكوكاً فيها فعلا لتجري فيها أصالة الحل .
وما إذا فقد أحد اللحمين في مفروض المثال وبقي الآخر ، وشكّ في أنّ الباقي هل هو ما علم حلّيته أو حرمته ، فإنّه لا ريب في جريان أصالة الحل فيه حينئذ ، مع أنّه مردّد بين أن يكون معلوم الحلّ أو الحرمة .
ومنها : ما عنه (قدّس سرّه)(1) أيضاً من أنّ الموضوع لعدم جواز الصلاة ليس هو ما حرم أكله بما هو كذلك ، بل المانع هو وقوع الصلاة في شيء من أجزاء حيوان معرّفه كونه محرّم الأكل ، فذات الأسد والأرنب والذئب ونحوها هي التي لا يجوز الصلاة في أجزائها ، كما أنّ الموضوع لجواز الصلاة هي ذوات ما أحلّ الله أكله . ومن البديهي أنّ أصالة الحل لا يثبت بها كون الحيوان من الأنواع المحلّلة أو عدم كونه من الأنواع المحرّمة . وقد أورد عليه بعض المحقّقين من المعاصرين(2) بأنّ المانعية وإن كانت من أحكام ذوات ما يحرم أكل لحمها ، إلاّ أنّ أصالة الحل على تقدير إثباتها لأحكام ــــــــــــــــــــــــــــ (1) رسالة الصلاة في المشكوك : 325 . (2) وهو المحقّق الإيرواني في رسالة الذهب المسكوك في اللباس المشكوك : 37 .
ــ[42]ــ
الحلّية الواقعية يترتّب عليها أحكام المعنونات لما يحلّ أكل لحمه أيضاً ، والسرّ في ذلك : أنّ الدليل الحاكم كما يكون حاكماً على موضوع الحكم واقعاً ، ويوجب توسعته أو تضييقه كذلك يكون حاكماً على موضوع الحكم في لسان الدليل فيوجب توسعته أو تضييقه ، وقصر الحكومة على القسم الأول بلا موجب .
فإذا ورد في الدليل أنّ ما يحرم لحمه لا يجوز الصلاة في شيء منه ، فكما أنّ أصالة الحل توجب ارتفاع موضوعه ، ويثبت جواز الصلاة في المشكوك فيه فيما كان نفس العنوان موضوعاً ، فكذا الحال فيما كان الموضوع غيره ، فإنّها توجب التضييق في دليل المانعية باعتبار الموضوع المأخوذ فيه . فلا فرق في الحكومة بين أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الموضوع الواقعي أو الدليلي .
ويرد عليه أولا : أنّه على تقدير تماميته إنّما يتمّ فيما لم يكن الموضوع الواقعي مأخوذاً في موضوع الدليل أصلا ، وأمّا فيما اُخذ فيه ولو في بعض الأدلّة ـ كما في المقام ـ فغاية ما يترتّب على أصالة الحل عدم المانعية من جهة الحرمة ، وأمّا احتمال المانعية من جهة احتمال كون المشكوك فيه من أجزاء الأسد مثلا فلا دافع له أصلا .
وثانياً : أنّ التوسعة والتضييق في موضوع الدليل إن كان باعتبار اللفظ المأخوذ فيه فلا معنى محصّل له ، ضرورة أنّ الحكم الشرعي لا يترتّب عليه حتّى يكون قابلا للتوسعة أو التضييق .
وإن كان باعتبار المراد منه فالمفروض أنّ المراد منه الذوات الخارجية ، لا نفس العنوان ، فما معنى التوسعة والتضييق بالقياس إليه . مثلا إذا أمر المولى بوجوب إكرام الجائي ، وعلمنا أنّه عنوان لزيد ، بلا دخل لمجيئه في ثبوت الحكم له ، فإذا شككنا في بقاء الوجوب فهل يصحّ التمسّك لإثباته باستصحاب المجيء ؟
فما أفاده شيخنا الاُستاذ العلاّمة (قدّس سرّه) في غاية المتانة ، إلاّ أنّه مبني على
ــ[43]ــ
أن لا يكون نفس العنوان موضوعاً للحكم ، وقد عرفت في الأمر التاسع(1) أنّه خلاف ظواهر الأدلّة .
ومنها : ما عنه (قدّس سرّه)(2) أيضاً من أنّ موضوع عدم جواز الصلاة على تقدير كونه محرّم الأكل بهذا العنوان ليس المراد من الحرمة المأخوذة فيه هي الحرمة الفعلية المقابلة للإباحة فعلا ، ضرورة أنّه تجوز الصلاة في صوف الغنم الميّت مع أنّ لحمه لم يحكم عليه بالحلّية في شيء من أزمنة وجوده ، فالقطع بالحرمة الفعلية المانعة من جريان أصالة الحل لا ينافي الحكم بجواز الصلاة قطعاً ، فلابدّ وأن يكون موضوع عدم الجواز هي الحرمة الشأنية الاقتضائية ، أعني بها الحرمة على تقدير تحقّق الذبح الشرعي . فاتّصاف الحيوان بذلك مانع عن الصلاة في شيء من أجزائه ، حيّاً كان أو ميّتاً ، كما أنّ اتّصافه بالحلّية كذلك موضوع للجواز في حال الحياة وبعدها .
وعليه لا تجري أصالة الحل في فرض الشكّ لإثبات موضوع الجواز ، فإنّها كغيرها من الأدلّة المثبتة للأحكام الظاهرية أو الواقعية لا تثبت إلاّ أحكاماً فعلية عند تحقّق موضوعاتها . فما يثبت بأصالة الإباحة أجنبي عمّا اُخذ في موضوع الحكم بالكلّية .
نعم لو كانت الحلّية الشأنية مورداً للتعبّد الشرعي كما في موارد احتمال التبدّل من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية لكان لجريان الأصل في موضوع الحكم الشرعي مجال واسع ، لكنّه غير ما نحن فيه ، فإنّه لا يثبت بأصالة الإباحة إلاّ أحكام الإباحة الفعلية ، وقد عرفت أنّ جواز الصلاة ليس منها . ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ص27 وما بعدها . (2) رسالة الصلاة في المشكوك : 327 .
ــ[44]ــ
هذا محصّل ما أفاده (قدّس سرّه) . ولقد أجاد فيما أفاد ، وبه يمنع عن جريان أصالة الإباحة في المقام .
وأمّا ما قيل : إنّه لا يترتّب على أصل الإباحة إلاّ الآثار المترتّبة على الأعم من الحلّية الواقعية والظاهرية ، وأمّا الآثار المترتّبة على خصوص الحلّية الواقعية كما في المقام فلا يترتّب على أصالة الحلّ ، لعدم إحراز الواقع بها .
ففيه : أنّ الأصل العملي وإن لم يكن له نظر إلى الواقع إلاّ أنّه يوجب الجري العملي على طبقه ، من دون تصرّف في الواقع بتوسعة موضوعه . فأصالة الطهارة مثلا توجب جواز شرب الماء المشكوك في نجاسته والتطهير به ، مع أنّهما من الأحكام المترتّبة على الطهارة الواقعية .
والسرّ فيه : أنّها تكون حاكمة على الأدلّة الواقعية ، فتوجب ترتيب جميع آثار الواقع على المشكوك فيه ، لكن الحكومة حيث إنّها ظاهرية وفي ظرف الشكّ فلا توجب توسعة في الواقع بجعل الشرط أعمّ من الواقع والظاهر ، فيجب إعادة الوضوء مثلا(1) وغسل الثوب المغسول به ثانياً فيما انكشف الخلاف(2)، نعم في خصوص الصلاة لا تجب الإعادة بدليل خاص(3). وتمام الكلام والفرق بين الحكومة الظاهرية والواقعية في محلّه(4).
وعليه يكون جريان أصالة الحلّ موجباً لترتّب آثار الحلال الواقعي على ــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع شرح العروة الوثقى 5 : 300 . (2) راجع شرح العروة الوثقى 4 : 10 . (3) وهو حديث لا تعاد المذكور في الوسائل 5 : 470 / أبواب أفعال الصلاة ب1 ح14 أو الروايات الخاصّة الواردة في الوسائل 3 : 474 / أبواب النجاسات ب40 . (4) محاضرات في اُصول الفقه 2 (موسوعة الإمام الخوئي 44) : 73 .
ــ[45]ــ
المشكوك فيه ، ومنها جواز الصلاة فيه ، مع قطع النظر عمّا ذكرناه من أنّه مترتّب على الحلّية الشأنية دون الفعلية .
ثمّ إنّه بعد ما تحقّق أنّه لا يترتّب على أصالة الإباحة الأحكام المترتّبة على الحلّية الشأنية يعرف أنّه لا فرق في ذلك بين جريانها في الشبهات الموضوعية أو الحكمية ، فإنّ الأثر المرغوب إن كان مترتّباً على الحلّية الفعلية فهو يترتّب عند جريانها في الصورتين ، وإلاّ فلا يترتّب مطلقاً .
|