بيع المصحف 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 7728


بيع المصحف

قوله : خاتمة تشتمل على مسائل ، الاُولى : صرّح جماعة ...

أقول : ذهب المشهور من أكابر أصحابنا إلى حرمة بيع المصحف ، وذهب جمع آخر كصاحب الجواهر(1) وغيره إلى الجواز . والمراد بالمصحف الأوراق المشتملة على الخطوط كبقيّة الكتب ، دون الخطّ فقط كما اختاره المصنّف (رحمه الله) تبعاً للدروس(2)، فإنّ الخطّ بما هو خطّ غير قابل للبيع ، لكونه عرضاً محضاً تابعاً لمعروضه ، فلا يمكن انفكاكه عنه حتّى يبحث فيه بأنّه يقابل بالثمن أم لا . وعلى تقدير كونه من قبيل الجواهر ، كالخطوط المخطوطة بالحبر ونحوه ، فإنّه لا يقبل النقل والانتقال .

وكيف كان ، فلا وجه للبحث عن جواز بيع الخط الخالي عن الأوراق وعدم جوازه ، نعم شأن الخطوط بالنسبة إلى الأوراق شأن الصور النوعية العرفية التي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 22 : 126 .

(2) الدروس 3 : 165 .

ــ[733]ــ

يلزم من انتفائها انتفاء المبيع رأساً كما سيأتي .

وأمّا حسن الخطّ وجودته فذلك من قبيل الأوصاف الكمالية ، فتوجب زيادة في الثمن ، ولا يلزم من انتفائها انتفاء المبيع لكي يترتّب عليه بطلان البيع ، بل يثبت الخيار للمشروط له ، إلاّ إذا كان الخط بمرتبة من الجودة صار مبايناً لسائر الخطوط في نظر العرف ـ كخط المير المعروف ـ وحينئذ فتكون صفة الحسن أيضاً من الصور النوعية العرفية ، ويلزم من انتفائها انتفاء المبيع ، فيحكم ببطلان البيع . ونظير ذلك ما إذا باع فراشاً على أنّه منسوج بنسج كاشان فبان أنّه منسوج بنسج آخر فإنّ الأول لجودة نساجته يعدّ في نظر العرف مبايناً للثاني ، فيبطل البيع ، لأنّ ما جرى عليه العقد غير واقع ، وما هو واقع غير ما جرى عليه العقد .

وعلى الجملة : متعلّق البحث في بيع المصحف إمّا الأوراق المجرّدة عن الخطوط أو العكس ، أو هما معاً ، وحيث لا سبيل إلى الأول والثاني فيتعيّن الثالث  .

ثمّ إنّ الروايات الواردة في بيع المصحف على طائفتين :

الاُولى : ما دلّ على حرمة بيعه(1)، أي الأوراق المقيّدة بالخطوط ، وتدلّ هذه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الكافي عن عبدالرحمن بن سليمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سمعته يقول : إنّ المصاحف لن تشترى ، فإذا اشتريت فقل : إنّما أشتري منك الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا » . وهي مجهولة بعبد الرحمن .

وعن سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن بيع المصاحف وشرائها ، قال : لا تشتر كتاب الله (عزّوجلّ) ولكن اشتر الحديد والورق والدفّتين وقل : اشتريت منك هذا بكذا وكذا » وهي ضعيفة بعثمان بن عيسى . ورواها الشيخ في التهذيب بأدنى تفاوت .

وفي التهذيب عن جرّاح المدائني عن أبي عبدالله (عليه السلام) « في بيع المصاحف ، قال : لا تبع الكتاب ، ولا تشتره ، وبع الأديم والورق والحديد » . وهي ضعيفة بالقاسم بن سليمان وجراح .

وعن سماعة قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فإنّ بيعها حرام ، قلت : فما تقول في شرائها ؟ قال : اشتر منه الدفّتين والحديد والغلاف ، وإيّاك أن تشتري الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراماً وعلى مَن باعه حراماً » وهي ضعيفة بعبدالله الرازي وابن أبي حمزة البطائني . راجع الكافي 5 : 121 / 1 ، 2 ، والوافي 17 : 243 / 1 ، 2 ، 7 ، 9 والتهذيب 6 : 365 / 1049 ، 1051 ، 7 : 231 / 1007 ، والوسائل 17 : 158 / أبواب ما يكتسب به ب31 ح1 ـ 3 ، 7 ، 11 .

ــ[734]ــ

الطائفة على جواز بيع غلافه وحديدته وحليته .

الثانية : ما دلّ على جواز بيعه(1)، فتقع المعارضة بينهما .

وقد جمع المصنّف بينهما بأنّ الطائفة المجوّزة وإن كانت ظاهرة في جواز البيع ولكنّها لم تتعرّض لبيان كيفيته ، فلا تعارض ما دلّ على حرمة بيعه المتضمّن للبيان .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الكافي عن عنبسة الورّاق قال : « سألت أبا عبدالله فقلت : أنا رجل أبيع المصاحف ، فإن نهيتني لم أبعها ؟ فقال : ألست تشتري ورقاً وتكتب فيه ؟ قلت : بلى واُعالجها ، قال : لا بأس به » وهي مجهولة بعنبسة .

وفي الكافي والتهذيب عن روح بن عبدالرحيم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن شراء المصاحف وبيعها ، قال : إنّما كان يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلك ، قلت : فما ترى في ذلك ؟ قال : أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن أعطي على كتابه أجراً ؟ قال : لا بأس ، ولكن كذلك كانوا يصنعون » . وهي ضعيفة بغالب بن عثمان .

وفي التهذيب عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبدالله عن بيع المصاحف وشرائها ، فقال (عليه السلام) : إنّما كان يوضع عند القامة والمنبر ، إلى أن قال (عليه السلام) : أشتريه أحب إليّ من أن أبيعه » . وهي صحيحة . راجع المصادر المتقدّمة .

ــ[735]ــ

واحتمل في الجواهر(1) حمل الأخبار المجوّزة على إرادة شراء الورق قبل أن يكتب فيها على أن يكتبها ، فيكون العقد في الحقيقة متضمّناً لمورد البيع ومورد الإجارة ، بقرينة قوله (عليه السلام) : وما عملته يدك بكذا . ضرورة عدم صلاحية العمل مورداً للبيع ، فلابدّ من تنزيله على الإجارة .

ويرد على الوجهين أنّ كلا من النفي والإثبات في الروايات الواردة في بيع المصاحف إنّما ورد على مورد واحد ، وعليه فلا ترتفع المعارضة بين الطائفتين بشيء من الوجهين ، لأنّهما من الجمع التبرّعي المحض ، ولا شاهد لهما من العقل والنقل .

ويرد على خصوص ما في الجواهر أنّه لا وجه لجعل العقد الواحد متضمّناً لموردي الإجارة والبيع معاً تمسّكاً برواية عبدالرحمن بن سليمان المذكورة في الحاشية فإنّه مضافاً إلى كونها ضعيفة السند ، أنّه لا دلالة فيها على مقصود صاحب الجواهر إذ الظاهر من عمل اليد في قوله (عليه السلام) : « فقل إنّما أشتري منك الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا » هو الأثر الحاصل من العمل لا نفس الفعل ، فإنّه لا وجه لكون العمل بعد وقوعه متعلّقاً للإجارة .

والتحقيق : أن تحمل الطائفة المانعة من الروايات على الكراهة ، بدعوى أنّ الغاية القصوى من النهي عن بيع المصحف إنّما هو التأدّب والاحترام لكلام الله (عزّوجلّ) فإنّه أجلّ من أن يجعل مورداً للبيع كسائر الكتب والأمتعة ، وأرفع من أن يقابل بثمن بخس دراهم معدودة ، إذ الدنيا وما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، فكيف يمكن أن يقع جزء من ذلك ثمناً للقرآن الذي اشتمل على جميع ما في العالم ويدور عليه مدار الإسلام . ومن هنا تعارف من قديم الأيّام أنّ المسلمين يعاملون على المصاحف معاملة الهدايا ، ويسمّون ثمن القرآن هدية ، وعليه فيحمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 22 : 126 .

ــ[736]ــ

النهي الوارد عن بيعه على الكراهة ، لإرشاده إلى ما ذكرناه .

ويدلّنا على ذلك قوله (عليه السلام) في رواية روح بن عبدالرحيم : « أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه » وقوله (عليه السلام) في صحيحة أبي بصير : « أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه » ـ وقد ذكرناهما في الهامش ـ فإنّ كون الشراء أحبّ عند الإمام من البيع يدلّ على كراهة البيع ، وكونه منافياً لعظمة القرآن ، ولو كان النهي تكليفياً لم يفرق فيه بين البيع والشراء .

ولو سلّمنا دلالة الروايات المانعة على الحرمة ، لكنّها ظاهرة في الحرمة التكليفية ، فلا دلالة فيها على الحرمة الوضعية ، أعني فساد البيع وعدم نفوذه ، لعدم الملازمة بينهما ، وقد تقدّم ذلك مراراً . ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أنّ الطائفة المانعة كلّها ضعيفة السند ، وغير منجبرة بشيء ، فلا يجوز الاستناد إليها .

لا يقال : إنّ ما دلّ على جواز بيع الورق أيضاً معارض بما دلّ على عدم جواز بيعه ، كرواية سماعة المتقدّمة في الحاشية المصرّحة بحرمة بيع الورق الذي فيه القرآن فإنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف السند في رواية سماعة ـ أنّها صريحة في المنع عن بيع الورق الذي فيه القرآن ، لا الورق المجرّد ، فلا معارضة بينهما .

ثمّ إذا قلنا بحرمة بيع المصحف أو بكراهته للروايات المتقدّمة فإنّه لا إشعار فيها بأنّ القرآن لا يملك ، وأنّه لا يقبل النقل والانتقال مطلقاً ، وعليه فمقتضى القاعدة أنّه كسائر الأموال يجري عليه حكمها من أنحاء النقل والانتقال ـ حتّى الهبة المعوّضة لوقوع العوض في مقابل الهبة دون المصحف ـ إلاّ البيع فقط .

ويدلّ على ما ذكرناه جريان السيرة القطعية على معاملة المصاحف معاملة بقيّة الأموال ، وتدلّ على ذلك أيضاً الروايات الدالّة على أنّ المصحف من الحبوة ينتقل إلى الولد الأكبر بموت الوالد ، وإذا لم يكن للميّت ولد أكبر ينتقل إلى سائر

ــ[737]ــ

الورثة(1). فلو لم يكن المصحف مملوكاً ، أو لم يكن قابلا للانتقال لم تصحّ الأحكام المذكورة . ويدلّ على ما ذكرناه أيضاً أنّه لو أتلف أحد مصحف غيره ، أو أحدث فيه نقصاً ضمن ذلك لصاحبه ، ومن الواضح أنّه لو لم يكن مملوكاً فإنّه لا وجه للحكم بالضمان .

وممّا تقدّم يظهر ضعف ما قاله المحقّق الإيرواني من أنّ : مورد الأخبار المانعة هو البيع ، ويمكن جعلها كناية عن مطلق النواقل الاختيارية ، بل إشارة إلى عدم قبوله للنقل ولو بالأسباب الغير الاختيارية كالإرث(2).

ثمّ إنّه على القول بحرمة بيع المصحف أو بكراهته فلا يجري ذلك في مبادلة مصحف بمصحف آخر ، لا لانصراف أدلّة المنع عن هذه الصورة كما ذكره السيّد (رحمه الله)(3) لإمكان منعه بإطلاق الأدلّة . على أنّه لا منشأ للانصراف المذكور . بل لما عرفت سابقاً من أنّ المنع عن بيع القرآن إنّما هو لعظمته ، وأنّه يفوت عن الإنسان متاع ثمين بإزاء ثمن بخس ، فإذا كانت المبادلة بين المصحفين لم يجر ذلك المحذور موضوعاً .

ثمّ إنّه لا ملازمة بين بيع المصحف وبين أخذ الاُجرة على كتابته ، فلا يلزم من حرمة الأول أو كراهته حرمة الثاني أو كراهته ، بل مقتضى القاعدة هو الإباحة وتدلّ عليه جملة من الروايات(4).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الكافي 7 : 85 / باب ما يرث الكبير من الولد . والوافي 25 : 725 / 1 ، 3 ، 4 . والوسائل 26 : 97 / أبواب ميراث الأبوين والأولاد ب3 ح1 ـ 3 .

(2) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 303 .

(3) حاشية المكاسب (اليزدي) : 31 ، السطر9 .

(4) ففي الوسائل 17 : 161 / أبواب ما يكتسب به ب31 ح13 عن علي بن جعفر قال : «  وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يكتب المصحف بالأجر ؟ قال : لا بأس » وهو صحيح . ورواه ابن إدريس في آخر السرائر ] 3 : 573 [ نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) وقريب منه خبر قرب الإسناد ] 295 / 1164 وفيه : بالأحمر بدل (بالأجر) [ . وتقدّم في رواية روح بن عبدالرحمن ] في ص734 [ ما يدلّ على ذلك .

ــ[738]ــ

معنى حرمة بيع المصحف وشرائه

قوله : بقي الكلام في المراد من حرمة البيع والشراء .

أقول : حاصل كلامه : أنّه لا شبهة في أنّ القرآن يملك ولو بكتابته في الأوراق المملوكة ، وعليه فامّا أن تكون النقوش من الأعيان المملوكة ، أو لا ، وعلى الثاني فلا حاجة إلى النهي عن بيع الخط ، إذ لم يقع بازائه جزء من الثمن ليكون ذلك بيعاً . وعلى الأول فامّا أن يبقى الخطّ في ملك البائع أو ينتقل إلى المشتري ، وعلى الأول فيلزم أن يكون المصحف مشتركاً بين البائع والمشتري ، وهو بديهي البطلان ومخالف للاتّفاق . وعلى الثاني فإن انتقلت هذه النقوش إلى المشتري في مقابل جزء من الثمن فهو البيع المنهي عنه ، وإن انتقلت إليه تبعاً لغيره ـ كسائر ما يدخل في المبيع قهراً من الأوصاف التي تتفاوت قيمته بوجودها وعدمها ـ فهو خلاف مفروض المتبايعين .

والتحقيق : أنّ نقوش القرآن وخطوطه من قبيل الصور النوعية العرفية وهي مملوكة لمالك الأوراق ملكية تبعية ، ودخيلة في مالية الورق كبقية الأوصاف التي هي من الصور النوعية في نظر العرف ، وعليه فمورد الحرمة أو الكراهة هو بيع الورق الذي كتب فيه كلام الله .

وتوضيح ذلك : أنّك قد عرفت في بعض المباحث السابقة(1) وستعرف إن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص234 .

ــ[739]ــ

شاء الله تعالى في مبحث الشروط(1) أنّ كيفيات الأشياء وإن كانت بحسب الدقّة الفلسفية من مقولة الأعراض ، ولكنّها تختلف في نظر أهل العرف ، فقد يكون نظرهم إلى الأشياء أنفسها بالأصالة وإلى أوصافها بالتبع ، كالأوصاف التي هي من لوازم الوجود . وقد يكون نظرهم فيها إلى الهيئة بالأصالة وإلى المادّة بالتبع ، لكون الهيئة من الصور النوعية في نظرهم ، كما في الكأس والكوز المصنوعين من الخزف ، فإنّهما في نظر العرف نوعان متباينان ، وإن كانا من مادّة واحدة . وقد يكون نظرهم إلى كلتيهما ، كالفراش المنسوج من الصوف ، فإنّ الاعتبار في نظر أهل العرف بمادّته وهيئته ، فهو مباين في نظرهم مع العباءة المنسوجة من الصوف ، ومع الفراش المنسوج من القطن .

أمّا القسم الأول فالمالية فيه من ناحية المواد ، لخروج أوصافها عن الرغبات  .

وأمّا القسم الثاني فالمالية فيه لخصوص الهيئات ، لكون المادّة ملحوظة بالتبع  .

وأمّا القسم الثالث فالمالية فيه للهيئة والمادّة معاً ، فإنّ النظر فيه إلى كل منهما وعليه فإذا تخلّفت أوصاف المبيع فإن كانت من الصور النوعية بطل البيع ، كما إذا باع كوزاً فبان كأساً ، أو باع فراشاً فظهر عباءة ، ووجه البطلان هو أنّ الواقع غير مقصود ، والمقصود غير واقع . وإن كانت من الأوصاف الكمالية فإن كان لوجودها دخل في زيادة الثمن ثبت عند تخلّفها الخيار ، وإلاّ فلا يترتّب عليه شيء نعم لا يجوز للبائع تغيير الهيئة ، لكونه تصرّفاً في مال الغير بدون إذنه ، وهو حرام إلاّ إذا كانت الهيئة مبغوضة ، كهياكل العبادة الباطلة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] لعلّه يشير إلى ما يذكر في الجزء السابع من هذا الكتاب : 396 [ .

ــ[740]ــ

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ النقوش في المصاحف ، سواء كانت من الأعراض الصرفة أم من الجواهر وإن لم تكن مالا ولا مملوكة بنفسها ، ولكنّها دخيلة في مالية الأوراق ، فإنّ هذه النقوش في نظر أهل العرف من الصور النوعية التي يدور عليها مدار التسمية ، بحيث لو باع أحد مجموع ما بين الدفّتين على أنّه مصحف فبان أوراقاً خالية عن الخطوط ، أو كتاباً آخر بطل البيع ، لعدم وجود المبيع في نظر العرف فالمصحف وكتاب المفاتيح مثلا نوعان ، والجواهر والبحار متباينان .

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ مورد الحرمة أو الكراهة في بيع المصحف هو الورق المنقوش الذي يسمّى مصحفاً ، ويؤيّد ذلك ما في رواية سماعة من قوله (عليه السلام) : « وإيّاك أن تشتري الورق وفيه القرآن مكتوب »(1).

ثمّ إذا قلنا بحرمة بيع المصحف فيمكن توجيه المعاملات الواقعة عليه في الخارج بأحد وجهين ، وهما اللذان يمكن استفادتهما من الروايات المانعة :

الأول : أن يكون المبيع هو الجلد والغلاف والحديد والحلية ، ولكن يشترط المشتري على البائع في ضمن العقد أن يملّكه الأوراق ـ التي كتب فيه القرآن ـ مجّاناً ولا يلزم التصريح بذلك الشرط ، فإنّه بعد البناء على حرمة بيعه فالقرينة القطعية قائمة على اعتبار ذلك الشرط في العقد ، بداهة أنّ غرض المشتري ليس هو شراء الأديم والحديد والغلاف فقط ، وإلاّ لاشترى غيرها ، بل غرضه تملّك المصحف .

الثاني : أن يكون المبيع بالأصالة هو الاُمور المذكورة ، ولكن تنتقل الخطوط إلى المشتري تبعاً وقهراً ، فتكون مملوكة له ملكية تبعية ، إذ لا يعقل انفكاك الصورة عن المادّة لكي تبقى الهيئة في ملك البائع وتنتقل المادّة إلى المشتري .

لا يقال : إذا كان المبيع هو الاُمور المذكورة لزم القول بصحّة بيع المصحف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في ص734 .

 
 

ــ[741]ــ

ولزومه على وجه الإطلاق ، حتّى إذا ظهر عيب في النقوش الموجودة في الأوراق .

فإنّه يقال : لا بأس بالالتزام بذلك ، إلاّ إذا اشترط المشتري على البائع صحّة الخطوط ، فيثبت للمشتري حينئذ خيار تخلّف الشرط .

حكم بيع أبعاض المصحف

إذا قلنا بحرمة بيع المصحف أو بكراهته فهل يختصّ الحكم بمجموع ما بين الدفّتين ، أو يسري إلى الأبعاض أيضاً ؟ ربما قيل بالثاني ، لقوله (عليه السلام) في رواية سماعة المتقدّمة : « وإيّاك أن تشتري الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراماً وعلى من باعه حراماً » فإنّ هذه الرواية ظاهرة في شمول الحكم لأي ورق كتب فيه القرآن ، وعليه فيشمل الحكم لكتب التفسير ، ولكل كتاب رقم فيه بعض الآيات للاستشهاد والاستدلال ، ككتب الفقه واللغة والنحو وغيرها ، أو ذكرت فيه لمناسبة الأبواب ، كبعض كتب الحديث .

ولكن الذي يسهّل الخطب أنّ السيرة القطعية قائمة على جواز بيع الكتب المزبورة وشرائها ، من غير نكير حتّى من المتورّعين في أفعالهم ومعاملاتهم ، بل لم نر ولم نسمع من متفقّه أنّه أفتى فيها بكراهة البيع فضلا عن الفقيه . إذن فلا بأس بالالتزام بجواز بيع كل كتاب مشتمل على الآيات القرآنية ، كالكتب المزبورة وغيرها .

بل قد يقال : إنّه إذا جاز بيع كتاب مشتمل على أبعاض القرآن جاز بيع أبعاض القرآن بنفسها ، لاتّحاد الملاك فيهما ، بل يجوز بيع مجموع القرآن حينئذ ، فإنّ دليل المنع ـ أعني به رواية سماعة ـ لم يفرق فيه بين مجموع القرآن وأبعاضه ، وحيث قامت السيرة القطعية على جواز البيع في الأبعاض كان ذلك كاشفاً عن جواز بيع المجموع ، ويكون ذلك وجهاً آخر لحمل الأخبار المانعة على الكراهة .

ــ[742]ــ

ولكن الذي يعظم الخطب أنّ السيرة دليل لبّي ، فيؤخذ منها بالمقدار المتيقّن فلو تمّت الأدلّة المانعة عن بيع المصحف لم يجز الخروج عنها إلاّ بمقدار ما قامت عليه السيرة ، أعني به الكتب المشتملة على الآيات القرآنية ، ولا يمكن التعدّي منها إلى الأبعاض المأخوذة من المصحف ، فضلا عن التعدّي إلى مجموع ما بين الدفّتين والحكم بجواز بيعه .

بيع المصحف من الكافر

قوله : ثمّ إنّ المشهور بين العلاّمة (رحمه الله) ومن تأخّر عنه عدم جواز بيع المصحف من الكافر على الوجه الذي يجوز بيعه من المسلم .

أقول : تحقيق الكلام هنا يقع في ناحيتين :

الاُولى : جواز تملّك الكافر للمصحف وعدم جوازه .

الثانية : أنّه بناءً على جواز بيعه من المسلم فهل يجوز بيعه من الكافر ، أو لا ؟ وأمّا على القول بحرمة بيعه منه فيحرم بيعه من الكافر بالأولوية القطعية .

أمّا الناحية الاُولى : فالظاهر هو الجواز ، للأصل ، فإنّ مقتضاه جواز تملّك كل شخص لأي شيء إلاّ ما خرج بالدليل ، ومن الواضح جدّاً أنّا لم نجد ما يدلّ على حرمة تملّك الكافر للمصحف ، بل الظاهر ممّا ذكرناه آنفاً هو جواز ذلك لأي أحد من الناس .

ويلوح ذلك أيضاً من كلام الشيخ (رحمه الله) في فصل ما يغنم وما لا يغنم من المبسوط أنّ ما يوجد في دار الحرب من المصاحف والكتب التي ليست بكتب الزندقة والكفر داخل في الغنيمة ، ويجوز بيعها(1). إذ مع عدم تملّك الكافر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 2 : 30 .

ــ[743]ــ

للمصاحف فلا وجه لدخولها في الغنيمة ، بل تكون من قبيل مجهول المالك .

وأمّا الوجوه المذكورة لحرمة بيع المصحف من الكافر فلا دلالة فيها على عدم تملّكه إيّاه ، كما سيأتي .

وأمّا الناحية الثانية : فقد استدلّ المصنّف على حرمة بيع المصحف من الكافر بوجوه :

الأول : فحوى ما دلّ على عدم تملّك الكافر للمسلم .

وفيه أولا : أنّه لا دليل على ذلك ، بل ما دلّ على وجوب بيعه يدلّ بالالتزام على تملّكه إيّاه ، إذ لا بيع إلاّ في ملك . وأيضاً ذكر الفقهاء أنّه لو اشترى الكافر أحد عموديه المسلم فإنّه ينعتق عليه ، مع أنّه لا عتق إلاّ في ملك ، وسيأتي تفصيل ذلك في البحث عن شرائط العوضين(1).

وثانياً : لو سلّمنا ثبوت الحكم في العبد المسلم فلا نسلّم قياس المصحف عليه فإنّه مضافاً إلى بطلان القياس في نفسه ، أنّ في تملّك الكافر للمسلم ذلا عليه بخلاف تملّكه للمصحف ، فإنّه ربما يزيد في احترامه ، كما إذا جعله في مكتبة نظيفة للاطّلاع على آياته وبراهينه ، بل قد تترتّب على ذلك هدايته إلى الإسلام .

الثاني : النبوي المعروف « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه »(2) بدعوى أنّ تملّك الكافر للمصحف يوجب الاستعلاء على الإسلام فلا يجوز .

وفيه أولا : أنّ النبوي المذكور ضعيف السند . وثانياً : أنّه مجمل ، فلا يجوز الاستدلال به على المطلوب ، إذ يمكن أن يراد به أنّ الإسلام يغلب على بقية الأديان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] بل في شرائط المتعاقدين ، راجع الجزء الخامس من هذا الكتاب : 81 وما بعدها [ .

(2) راجع الوسائل 26 : 14 / أبواب موانع الإرث ب1 ح11 . ورواه في كنز العمال 1 : 66 / 246 عن الدارقطني والبيهقي والضياء عن عائذ بن عمر ] بحذف كلمة « عليه » [ .

ــ[744]ــ

في العالم ، ويمكن أن يراد به أنّ الإسلام أشرف من سائر المذاهب ، ويمكن أن يراد به علو حجّته وسموّ برهانه ، لأنّ حقيقة الإسلام مستندة إلى الحجج الواضحة والبراهين اللائحة ، بحيث يفهمها كل عاقل مميّز حتّى الصبيان ، ويتّضح ذلك جليّاً لمن يلاحظ الآيات القرآنية ، وكيفية استدلاله تعالى على المبدأ والمعاد وغيرهما ببيان واضح يفهمه أي أحد ، بلا احتياج إلى مقدّمات بعيدة ، بخلاف سائر الأديان فإنّها تبتني على خيالات واهية ، وتوهّمات باردة تشبه بأضغاث الأحلام .

الثالث : أنّ بيع المصحف من الكافر يوجب هتكه ، لعدم مبالاته بهتك حرمات الله .

وفيه : أنّ بين هتك القرآن وبين بيعه من الكافر عموماً من وجه ، فقد لا يوجب بيعه من الكافر هتكاً له ، كما إذا اشتراه وجعله في مكتبة نظيفة ، واحترمه فوق ما يحترمه نوع المسلمين . وقد يتحقّق الهتك حيث لا يتحقّق بيعه من الكافر كما إذا كان تحت يد مسلم لا يبالي بهتك حرمات الله ، فيجعله في مكان لا يناسبه ويعامله معاملة المجلاّت والقراطيس الباطلة . وقد يجتمعان ، كما إذا اشتراه الكافر ونبذه وراء ظهره .

على أنّ الهتك إنّما يترتّب على تسليط الكافر على المصحف خارجاً ، لا على مجرّد بيعه منه ، وعليه فإذا وكّل مسلماً في بيعه وشرائه والتصرّف فيه والانتفاع به فإنّه لا يترتّب عليه الهتك من ناحية تملّك الكافر إيّاه .

الرابع : أنّ بيع المصحف من الكافر يستلزم تنجّسه ، للعلم العادي بمسّ الكافر إيّاه بالرطوبة ، فيكون حراماً من هذه الجهة .

وفيه أولا : أنّ بيعه منه لا يلازم تنجّسه ، فإنّ بينهما عموماً من وجه ، كما هو واضح . وثانياً : أنّ ذلك من صغريات الإعانة على الإثم ، وقد علمت في البحث عن

ــ[745]ــ

بيع العنب ممّن يجعله خمراً(1) أنّه لا دليل على حرمتها إلاّ في موارد خاصّة .

ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أنّ المستفاد من الوجوه المذكورة هو حرمة البيع تكليفاً ، وقد تقدّم مراراً أنّه لا ملازمة بينها وبين الحرمة الوضعية .

ثمّ إنّ الوجوه المذكورة لو تمّت دلالتها على حرمة بيع المصحف من الكافر فإنّها تقتضي حرمة بيع الأدعية والروايات منه أيضاً ، خصوصاً إذا كانت مشتملة على أسماء الله وأسماء الأنبياء والأئمّة .

ثمّ إنّ المصنّف (رحمه الله) ذكر : أنّ أبعاض المصحف في حكم الكل إذا كان مستقلا ، وأمّا المتفرّقة في تضاعيف غير التفاسير من الكتب للاستشهاد بلفظه أو معناه فلا يبعد عدم اللحوق ، لعدم تحقّق الإهانة والعلو .

ويرد عليه : أنّ لازم ذلك جواز بيع المصحف منه تماماً إذا كان جزءاً من كتاب آخر ، والمفروض حرمته .
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص282 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net