الفرق بين الملك والحقّ والحكم - وقوع الحقّ ثمناً في البيع 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9437


ــ[29]ــ

وفيه : أنّه مصادرة واضحة ، فإنّ التغيّر الخارجي وعدمه نفس المدّعى فمدّعي العرضية يثبته ومنكرها ينفيه . وبالجملة لا إشكال في أنّه يحصل بعد البيع أو موت المورث شيء يسمّى بالملكية وإنّما الكلام في أنّه أمر متأصّل أو اعتباري ، وليس في هذا الوجه ما يثبت الثاني .

الثالث : أنّ الملكية لو كانت من الأعراض لاستحال تحقّقها مع عدم تحقّق موضوعها في الخارج ، فإنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه مع أنّ الملكية قد تثبت للمالك الكلّي كما في الزكاة فإنّها ملك لكلّي الفقير وللمملوك الكلّي كالكلّي في الذمّة ، فثبوتها مع عدم وجود موضوعها من المالك والمملوك دليل على أنّها ليست من الأعراض وإنّما هي من الاُمور الاعتبارية.

وهذا الوجه صحيح لا بأس به .

فظهر ممّا بيّناه أنّ الملكية مجعول اعتباري مستقل غير منتزع من الحكم التكليفي كما أنّها ليست من المقولات العرضية ، فهي قسم من الحكم الوضعي .

وأمّا الحقّ فهو في اللغة بمعنى الثابت ، فيقال هذا مطلب حقّ أي ثابت ، ويطلق عليه تعالى أنّه الحقّ أي الثابت ، إلاّ أنّه بحسب الاصطلاح يراد به الحكم القابل للاسقاط ، كما أنّ الحكم أيضاً له في اللغة معنى عام وفي الاصطلاح المقابل للحقّ يراد به الحكم غير القابل للاسقاط .

ومرجع الحقّ الاصطلاحي إلى عدم جواز مزاحمة من عليه الحقّ لمن له الحقّ في فعل متعلّق الحقّ ، سواء كان من عليه الحقّ شخصاً خاصاً كمن عليه الخيار في البيع فإنّ من عليه حقّ الفسخ لا يجوز أن يزاحم من له الحقّ في الفسخ ، أو لم يكن شخصاً خاصّاً كما في حقّ التحجير فإنّه لا يجوز لسائر المكلّفين مزاحمة من له حقّ التحجير في عمارة مورد التحجير . فيكون في مورد الحقّ طرفان : من له الحقّ ومن عليه الحقّ ، ولا يجوز لمن عليه الحقّ أن يزاحم من له الحقّ في متعلّق الحقّ . ومتعلّق

ــ[30]ــ

الحقّ يكون فعلا من الأفعال دائماً كالعمارة في حقّ التحجير والفسخ في حقّ الخيار .

فالصحيح أنّ الحقّ لا يغاير الحكم بل هو حكم شرعي اختياره بيد من له الحقّ إسقاطاً وإبقاءً . والحاصل أنّ الحقّ بالنسبة إلى من له الحقّ حكم تكليفي إلزامي أو ترخيصي أو وضعي جوازي أو لزومي ، والمراد بالحكم الوضعي في المقام خصوص نفوذ التصرّف وهو الجواز وعدم نفوذه وهو اللزوم ، لا بقية الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية .

ويشهد لما ذكرناه من أنّ الحقّ هو الحكم بعينه أنّا لا نرى فرقاً بين جواز قتل الجاني قصاصاً المعدود من الحقوق وبين جواز قتل الكافر المعدود من الأحكام سوى أنّ الأوّل قابل للاسقاط دون الثاني ، هذا في الحكم التكليفي . وكذا لا نرى فرقاً بين جواز الرجوع في البيع الخياري المعبّر عنه بالحقّ وبين جواز الرجوع في الهبة المعبّر عنه بالحكم سوى قبول الاسقاط وعدمه وهذا في الحكم الوضعي . فليس في موارد ثبوت الحقّ سوى الحكم الشرعي القائم بالمكلّف المتعلّق بفعله ، غاية الأمر أنّه قابل للاسقاط دون سائر الأحكام الشرعية .

فالحقّ في الاصطلاح حكم شرعي استفيد من الدليل قبوله للاسقاط وفي قباله الحكم الذي لا يقبل الاسقاط . والحقّ قد يطلق على ما لا يقبل الاسقاط من الحكم الشرعي كما في حقّ المارّة فإنّه ليس إلاّ جواز التصرّف في مال الغير غير القابل للاسقاط  ، هذا كلّه بالاضافة إلى من له الحقّ .

وأمّا من عليه الحقّ فلم يكن بالنسبة إليه سوى الحكم التكليفي كما في حقّ الزوجة والزوج فإنّ للزوجة على الزوج حقّ الإنفاق وليس معناه إلاّ وجوب الانفاق على الزوج ، وللزوج على الزوجة حقّ التمكين وليس معناه إلاّ وجوبه عليها  ، وهكذا سائر الحقوق .

وبالجملة الحقّ الشرعي ليس إلاّ الحكم الشرعي كما أنّ الحقوق العرفية ليست

ــ[31]ــ

إلاّ أحكاماً عرفية .

هذا ملخّص الفرق بين الملك والحقّ والحكم . فالملك الاعتباري هو سلطنة اعتبارية قد تتعلّق بالأعيان كملكية الدار وقد تتعلّق بالأفعال كملك عمل الأجير . كما أنّها حكم وضعي مستقل وليس منتزعة من الحكم التكليفي . والحقّ هو الحكم الشرعي القابل للاسقاط ولا يتعلّق إلاّ بالأفعال . والحكم هو ما لا يقبل الاسقاط .

وأمّا أقسام الحقوق وأحكامها فقد عرفت أنّ الشيخ (قدّس سرّه) قسّمها إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما لا يقبل المعاوضة بالمال وحكم فيه بعدم جواز جعله ثمناً في البيع .

نقول : إن أراد بما لا يقبل المعاوضة بالمال ما يقبل النقل والاسقاط ولكن مجّاناً من دون أن يقابل بالمال كحقّ القسم للضرّة على ما قيل فالكبرى ـ أعني عدم جواز جعل مثل هذا الحقّ ثمناً ـ وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه لا دليل على وجود صغرى لهذه الكبرى . وكون حقّ القسم من هذا القسم لا دليل عليه . وإن أراد به ما لا يقبل النقل والاسقاط مطلقاً أي مع العوض وبلا عوض كحقّ الولاية والحضانة فالكبرى صحيحة أيضاً إلاّ أنّ مثله ليس حقّاً اصطلاحاً بل هو حكم ، لأنّ الحقّ كما قلنا ما يكون اختياره إبقاءً وإسقاطاً بيد المكلّف .

الثاني : ما لا يقبل النقل وإن قبل الاسقاط بل الانتقال بإرث ونحوه كحقّ الشفعة والخيار ، وحكم فيه بأنّه لا يجوز جعله ثمناً في البيع ، لأنّ البيع تمليك ونقل من الطرفين والمفروض أنّ هذا لا يقبل النقل .

وناقش فيه صاحب الجواهر (قدّس سرّه)(1) بانتقاضه ببيع الدَين على من هو عليه ، فإنّ الإنسان لا يملك ما في ذمّته ومقتضاه عدم جواز بيع الدَين من المديون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 22 : 209 .

ــ[32]ــ

بناءً على كون البيع تمليكاً ولكن مع ذلك يصحّ بيعه منه ويكون أثره سقوط الدَين فليكن حقّ الشفعة والخيار كذلك .

وأجاب عنه الشيخ (قدّس سرّه) بالفرق بين المقامين ، فإنّه يعقل أن يملك الإنسان ما في ذمّته ، لأنّ الملك نسبة بين المالك والمملوك ولا يحتاج إلى من يملك عليه حتّى يلزم اتّحاد المالك والمملوك عليه المستحيل في ملك الإنسان لما في ذمّته  . ولكن أثر هذه الملكية سقوط ما في الذمّة ، وأمّا مثل هذا الحقّ فهو سلطنة فعلية تقوم بمسلّط ومسلّط عليه فلا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد لأنّه لا يعقل أن يتسلّط الإنسان على نفسه .

نقول : ما مثّل الشيخ (قدّس سرّه) به من حقّي الشفعة والخيار لا يجوز جعلهما ثمناً في البيع ، لكن لا لما ذكره (قدّس سرّه) ، بل لأنّ حقّ الشفعة حقّ للشريك يستحقّ به تملّك الحصّة المبيعة ليضمّها إلى حصّته ، وهذا المعنى لا يمكن نقله لا إلى المشتري للحصّة ولا إلى غيره ، أمّا إلى المشتري فلأنّه مالك لها بالفعل فلا معنى لاستحقاقه لتملّكها ثانياً .

وأمّا إلى غيره فلأنّه ليس شريكاً وحقّ الشفعة موضوعه الشريك . وأمّا حقّ الخيار فلأنّ مرجعه على ما سيأتي في مبحث الخيارات إلى تحديد الملكية إلى زمان فسخ من جعل له الخيار ، وهذا المعنى أيضاً لا يقبل النقل إلى غيره لأنّ فسخه ليس فسخ من جعل له الخيار .

نعم حقّ الشفعة والخيار قابلان للاسقاط والانتقال إلى الوارث ولكنّه مطلب آخر .

وأمّا ما استدلّ به الشيخ (قدّس سرّه) على المنع من جعلهما ثمناً من لزوم اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه ففيه أوّلا : أنّه أخصّ من المدّعى ، لاختصاصه بما إذا نقل إلى

ــ[33]ــ

من عليه الحقّ وأمّا إذا نقل إلى غيره فلا يلزم الاتّحاد المزبور .

وثانياً : أنّ الخيار يتعلّق بالعقد ، لأنّه عبارة عن ملك فسخ العقد ، فالمسلّط عليه هو العقد لا من عليه الخيار ، فلا يلزم من بيعه على من عليه الخيار اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه فضلا عن بيعه من غيره .

وثالثاً : أنّ اجتماع عنواني المسلّط والمسلّط عليه في شيء واحد ليس محالا فإنّهما وإن كانا متضايفين إلاّ أنّ التضايف بنفسه لا يقتضي امتناع اجتماع المتضايفين كما في اجتماع عنواني العالم والمعلوم عليه تعالى وعلى النفس باعتبار علمها بنفسها وكذا المحبّ والمحبوب فإنّ الإنسان محبّ ومحبوب لنفسه . نعم في مثل عنواني العلّة والمعلول لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد . إذن ما ذكره الشيخ (قدّس سرّه) من المحذور في نقل الحقّ غير تامّ . نعم بناءً على ما ذكرنا من رجوع الحقّ إلى عدم جواز مزاحمة من عليه الحقّ لمن له الحقّ لا يجوز نقل الحقّ إلى من عليه الحقّ لأنّ المزاحمة تقتضي طرفين مزاحم بالكسر ومزاحم بالفتح ولا يعقل أن يزاحم شخص نفسه .

وأمّا ما ذكره من أنّه يعقل أن يكون الإنسان مالكاً لما في ذمّته فيؤثر تمليكه السقوط ، لأنّ الملك نسبة بين المالك والمملوك ولا يحتاج إلى مملوك عليه حتّى يستحيل اتّحاد المالك والمملوك عليه ، ففيه : أنّ ملك الإنسان لما في ذمّته إن كان مستحيلا بحسب البقاء ولأجله يسقط فهو مستحيل بحسب الحدوث أيضاً لأنّ المانع عن البقاء مانع عن الحدوث أيضاً ولا فرق بين قصر الزمان وطوله ، وإن كان ممكناً حدوثاً فهو ممكن بقاءً أيضاً فلا وجه لسقوطه بعد الحدوث .

نعم لو كان المانع عن البقاء شرعياً كما في شراء العمودين نلتزم بحدوث الملكية آناً ما وزوالها بقاءً . والصحيح كما تقدّم أنّ الإنسان يملك ما في ذمّته لكن بالملكية التكوينية بمعنى الاختيار والسلطنة التكوينية لا بالملكية الاعتبارية ، لأنّ الاعتبار بعد الثبوت التكويني لغو . فمرجع شراء الإنسان لما في ذمّته أو أعمال نفسه

ــ[34]ــ

إلى كونه مطلق العنان بالنسبة إليها ومختاراً في التصرّف فيهما كيف ما شاء فيتمكّن من نقله إلى آخر وعدمه .

الثالث من الحقوق : ما يقبل النقل والانتقال كحقّ التحجير فإنّه يصحّ نقله ومقابلته بالمال في الصلح إلاّ أنّه استشكل (قدّس سرّه) في جواز جعله ثمناً في البيع من جهة أخذ المال في عوضي البيع والحقّ ليس بمال .

وفيه : أنّه لا إشكال في كون مثل هذا الحقّ مالا ، لأنّه ممّا يرغب فيه العقلاء ويبذلون بازائه المال فلا إشكال في جعله ثمناً من هذه الجهة . نعم لا يجوز ذلك من جهة اُخرى وهي أنّ الحقّ إمّا سلطنة ضعيفة كما هو المشهور أو حكم شرعي كما هو المختار .

فعلى الأوّل لا يجوز جعله ثمناً من جهة أنّ البيع مبادلة بين المالين في الاضافة أو في الملكية ، فهو مبادلة بين متعلّقي الاضافة والسلطنة لا بين نفس الاضافة والسلطنة ، وعلى الثاني أعني كون الحقّ حكماً شرعياً فلأنّ الحكم الشرعي بأقسامه لا تكون له إضافة مالية أو ملكية إلى من يقوم به الحكم حتّى يقع التبديل فيها ويتحقّق البيع ، نعم لا مانع من جعل إسقاط الحقّ أو متعلّقه كفسخ العقد في الخيار ثمناً في البيع لأنّهما فعل المكلّف وقد عرفت وقوع عمل الحرّ ثمناً ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام .

وشيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) منع عن وقوع الحقّ القابل للنقل وكذا سقوطه وإسقاطه ثمناً في البيع ، لكن لا من جهة عدم مالية الحقّ بل من جهة أنّه يعتبر في البيع عنده أن يدخل كلّ من العوضين في ملك مالك الآخر ويحلّ محلّ العوض الآخر في تعلّق ملك الآخر به ، وهذا المعنى لا يجري في الحقّ لأنّ الحقّ مباين سنخاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 110 .

ــ[35]ــ

للملك فلا يصلح لأن يقع طرفاً ومتعلّقاً له ، هذا في الحقّ .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net