إشكالات تعريف البيع - وضع أسماء المعاملات 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5753


 وفيه أوّلاً: عدم إفادة الاستصحاب الظن بالضرر لا شخصياً ـ كما اعترف هو به(1) ـ ولا نوعياً.

 وثانياً: أنّ الحرمة الشرعية ليست منوطة بالظن بالضرر، بل بخوف الضرر، وهو ينطبق على مجرد الشك والاحتمال العقلائي، هذا في الضرر. وأمّا غيره فاذا شك في بقاء موضوع حكم العقل كما إذا حكم العقل بحسن إكرام العالم العادل مثلاً، وحكم الشرع بوجوب إكرامه بقاعدة الملازمة، وكان زيد عالماً عادلاً، ثمّ شككنا في بقاء عدالته، فلا إشكال في جريان الاستصحاب والحكم بعدالته بالتعبد الشرعي فيحكم بوجوب إكرامه.

 التفصيل الثالث في حجية الاستصحاب: هو التفصيل بين الأحكام الكلية الإلهية وغيرها من الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية، وهو الذي اختاره الفاضل النراقي في المستند(2)، فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية مجعولة في الشبهات الموضوعية، نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهية، وهذا هو الصحيح. وليس الوجه فيه قصور دلالة الصحيحة وغيرها من الروايات، لأن عموم التعليل في الصحيحة والاطلاق في غيرها شامل للشبهات الحكمية والموضـوعية، واختصاص المورد بالشـبهات الموضـوعية لايوجب رفع اليد عن عموم التعليل، بل الوجه في هذا التفصيل أنّ الاستصحاب في الأحكام الكلية معارض بمثله دائماً، بيانه:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 578.

(2) مستند الشيعة 2: 495، ولمزيد الاطلاع راجع مناهج الأحكام: 242.

ــ[43]ــ

 أنّ الشك في الحكم الشرعي تارةً يكون راجعاً إلى مقام الجعل ولو لم يكن المجعول فعلياً، لعدم تحقق موضوعه في الخارج، كما إذا علمنا بجعل الشارع القصاص في الشريعة المقدّسـة ولو لم يكن الحكم به فعلياً لعدم تحـقق القـتل، ثمّ شـككنا في بقاء هذا الجعل، فيجري استصحاب بقاء الجعل ويُسمّى باستصحاب عدم النسخ. وهذا الاستصحاب خارج عن محل الكلام. وإطلاق قوله (عليه السلام): «حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1) يغنينا عن هذا الاستصحاب. واُخرى يكون الشك راجعاً إلى المجـعول بعد فعليته بتحقق موضوعه في الخارج، كالشك في حرمة وطء المرأة بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال.

 والشك في المجعول مرجعه إلى أحد أمرين لا ثالث لهما، لأنّ الشك في بقاء المجعول إمّا أن يكون لأجل الشك في دائرة المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع، كما إذا شككنا في أنّ المجعول من قبل الشارع هل هو حرمة وطء الحائض حين وجود الدم فقط، أو إلى حين الاغتسال، والشك في سعة المجعول وضيقه يستلزم الشك في الموضوع لا محالة، فانّا لا ندري أنّ الموضوع للحرمة هل هو وطء واجد الدم أو المحدث بحدث الحيض، ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية. وإمّا أن يكون الشك لأجل الاُمور الخارجية بعد العلم بحدود المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع، فيكون الشك في الانطباق، كما إذا شككنا في انقطاع الدم بعد العلم بعدم حرمة الوطء بعد الانقطاع ولو قبل الاغتسال، ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الموضوعية. وجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية مما لا إشكال فيه ولا كلام، كما هو مورد الصحيحة وغيرها من النصوص.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي 1: 58 / باب البدع والرأي والمقاييس ح 19.

ــ[44]ــ

 وأمّا الشبهات الحكمية، فإن كان الزمان مفرّداً للموضوع وكان الحكم انحلالياً كحرمة وطء الحائض مثلاً، فانّ للوطء أفراداً كثيرة بحسب امتداد الزمان من أوّل الحيض إلى آخره، وينحل التكليف وهو حرمة وطء الحائض إلى حرمة اُمور متعددة، وهي أفراد الوطء الطولية بحسب امتداد الزمان، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، لأنّ هذا الفرد من الوطء وهو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر حتى نستصحب بقاءها. نعم، الأفراد الاُخر كانت متيقنة الحرمة، وهي الأفراد المفروضة من أوّل الحيض إلى انقطاع الدم، وهذه الأفراد قد مضى زمانها إمّا مع الامتثال أو مع العصيان، فعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم ظاهر.

 وإن لم يكن الزمان مفرّداً ولم يكن الحكم انحلالياً، كنجاسة الماء القليل المتمم كراً، فانّ الماء شيء واحد غير متعدد بحسـب امتداد الزمان في نظر العرف، ونجاسته حكم واحد مستمر من أوّل الحدوث إلى آخر الزوال، ومن هذا القبيل الملكية والزوجية، فلايجري الاستصحاب في هذا القسم أيضاً، لابتلائه بالمعارض، لأ نّه إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً فلنا يقين متعلق بالمجعول ويقين متعلق بالجعل، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة، لكونه أيضاً متيقناً، وذلك لليقين بعدم جعل النجاسـة للماء القليل في صدر الاسلام لا مطلقاً ولا مقيداً بعدم التتميم، والقدر المتيقن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمم، أمّا جعلها مطلقاً حتى للقليل المتمم فهو مشكوك فيه، فنستصحب عدمه، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فنأخذ بالأقل لكونه متيقناً، ونجري الأصل في الأكثر لكونه مشكوكاً فيه، فتقع المعارضة بين

ــ[45]ــ

استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل، وكذا الملكية والزوجية ونحوهما، فاذا شككنا في بقاء الملكية بعد رجوع أحد المتبائعين في المعاطاة، فباعتبار المجعول وهي الملكية يجري استصحاب بقاء الملكية، وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكية، لتمامية الأركان فيهما على النحو الذي ذكرناه.

 وظهر بما ذكرنا من تقريب المعارضة أ نّه لا يرد على الفاضل النراقي ما ذكر في الكفاية(1) من أ نّه نظر تارةً إلى المسامحة العرفية فأجرى استصحاب الوجود، واُخرى إلى الدقة العقلية فأجرى استصحاب العدم، لكون الماء غير المتمم غير الماء المتمم بالدقة العقلية، فاعترض عليه بأنّ المرجع في وحدة الموضوع وتعدده هو العرف، والعرف يرى الموضوع واحداً، والكثرة والقلة من الحالات، فلا مجال لانكار استصحاب النجاسة.

 هذا وأنت ترى أنّ المعارضة المذكورة لا تتوقف على لحاظ الموضوع بالنظر الدقي، بل بعد البناء على المسامحة والقول بوحدة الموضوع يجري استصحاب بقاء النجاسة واستصحاب عدم جعل النجاسة بالنسبة إلى حال الكثرة، لكون المتيقن هو جعل النجاسة لما لم يتمم، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع أخذ الموضوع أمراً عرفياً.

 وظهر بما ذكرنا أيضاً عدم ورود اعتراض الشيخ (قدس سره) على الفاضل النراقي بما حاصله: أنّ الزمان إن كان مفرّداً فلا يجري استصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع ويجري استصحاب العدم، وإن لم يكن الزمان مفرّداً فيجري استصحاب الوجود لاتحاد الموضوع ولا يجري استصحاب العدم، فلا معارضة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 409 و 410.

ــ[46]ــ

بين الاستصحابين أصلاً(1) وذلك لما قد أوضحناه من وقوع المعارضة مع عدم كون الزمان مفرّداً ووحدة الموضوع فيقال: إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا وشك في بقائه فيجري استصحاب بقائه، ويقال أيضاً: إنّ هذا الموضوع لم يجعل له حكم في الأوّل لا مطلقاً ولا مقيداً بحال، والمتيقن جعل الحكم له حال كونه مقيداً فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى غيرها تحت الأصل، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع حفظ وحدة الموضوع.

 وما ذكرناه عين ما ذكره الشيخ(2) (قدس سره) من الوجه لعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية إذا كان الشك من ناحية المفهوم، كما إذا قال المولى: أكرم العلماء وكان زيد عالماً فزالت عنه ملكة العلم، وشككنا في وجـوب إكرامه من جهة الشك في شـمول مفهوم العالم للمنقضي عنه المبدأ واختصاصـه بالمتلبس، فليس في المقام شك في شيء من الاُمور الخارجيـة، بل الشك إنّما هو في جعل الشـارع سعةً وضيقاً، فيجري التعارض بين الاستصحابين على النحو الذي ذكرناه حرفاً بحرف.

 فتلخص مما ذكرنا: أ نّه لا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، بخلاف الشبهات الموضوعية، لعدم الشك فيها في الجعل، وإنّما الشك في بقاء الموضوع الخارجي، فيجري الاستصحاب فيها بلا معارض. مثلاً إذا شككنا في تحقق النوم بعد اليقين بالوضوء، فلا شك لنا في الجعل ولا في مقدار سعة المجعول، لأ نّا نعلم أنّ المجعول هو حصول الطهارة بالوضوء إلى زمان طروء الحدث، وإنّما الشك في حدوث النوم في الخارج، فيجري استصحاب عدمه بلا معارض.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 2: 648، في ذيل التنبيه الثاني.

(2) لاحظ فرائد الاُصول 2: 692.

ــ[47]ــ

 بقي الكلام في الاشكالات التي ذكروها في المقام:

 الأوّل: ما أورده الفاضل النراقي(1) على نفسه، وهو أ نّه يعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين، لقوله (عليه السلام): «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» فانّ الفاء يدل على التعقيب واتصـال الشك باليقـين، ولازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم الجعل، لأنّ الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم متصل باليقين بحرمة الوطء لا باليقين بعدم حرمته، لأنّ اليقين بعدم الحرمة قد انتقض باليقين بالحرمة، فلا مجال لجريان استصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.

 وأجاب عنه بأنّ اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع لم ينتقض باليقين بالحرمة، نعم اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى زمان وجود الدم قد انتقض باليقين بالحرمة، وأمّا اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع فهو باق بحاله حتى بعد اليقين بالحرمة حال رؤية الدم، فالشك في الحرمة متصل باليقين بعدم الحرمة، فلا مانع من جريان اسـتصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.

 واعترض عليه المحقق النائيني(2) (قدس سره) بأ نّه لا يعتبر اتصال زمان الشك باليقين وإنّما المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن، وفي استصحاب عدم الجعل ليس المشكوك فيه متصلاً بالمتيقن، لفصل المتيقن الآخر بينهما، فانّ المتيقن الأوّل هو عدم الحرمة، والمتيقن الثاني هو الحرمة، والمشكوك فيه متصل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مناهج الأحكام: 242.

(2) أجود التقريرات 4: 111.

ــ[48]ــ

بالمتيقن الثاني دون الأوّل، فيجري الاستصحاب في الحرمة دون عدمها، نظير ما إذا علمنا بعدم نجاسة شيء ثمّ علمنا بنجاسته ثمّ شككنا في نجاسته، فلا مجال لجريان استصحاب عدم النجاسة، لانفصال زمان المشكوك فيه عن المتيقن ويجري استصحاب النجاسة بلا معارض.

 أقول: أمّا ما ذكره من جهة الكبرى وهو عدم اعتبار اتصال زمان نفس الشك بزمان اليقين نفسه، فهو حق كما ذكره، فانّا لو علمنا بعدالة زيد مثلاً ثمّ غفلنا عنها يوماً أو أزيد، ثمّ شككنا في بقائها، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مع عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين، بل يمكن جريان الاستصحاب مع وحدة زمان الشك واليقين على ما ذكرنا سابقاً (1) في بيان الفرق بين موارد الاستصحاب وقاعدة اليقين، فالمعتبر هو اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن لا اتصال زمان الشك باليقين.

 وأمّا ما ذكره من حيث الصغرى فيرد عليه: أنّ زمان المشكوك فيه متصل بزمان المتـيقن في المـقام، لأنّ لنا شكاً ويقيـنين، والمشكوك فيه متصل بكلا المتيقـنين لا بأحدهما فقط، لأنّ اليقـين بعدم جـعل الحرمة واليقـين بالحرمة مجتمعان معاً في زمان واحد، فلنا يقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع في زمان، ويقين بالحرمة حال رؤية الدم، وشك في الحرمة بعد الانقطاع، ومن المعلوم أنّ اليقين بالحرمة حال رؤية الدم لا يوجب نقض اليقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع، وهذا هو مراد الفاضل النراقي بقوله: إنّ اليقين بعدم الحرمة لم ينتقض باليقين بالحرمة.

 الثاني: أنّ استصحاب عدم الجعل معارض بمثله في رتبته، فان استصحاب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 8 ـ 9.

ــ[49]ــ

عدم جعل الحرمة في المثال المتقدم معارض باستصحاب عدم جعل الحلية، لوجود العلم الاجمالي بجعل أحدهما في الشريعة المقدسة فيبقى استصحاب بقاء المجعول وهي الحرمة بلا معارض.

 ويمكن الجواب عنه بوجوه:

 الوجه الأوّل: أ نّه لا مجال لاسـتصحاب عدم جعل الحلية، لأنّ الحلية والرخصة كانت متيقنة متحققة في صدر الاسلام، والأحكام الالزامية قد شرّعت على التدريج، فجميع الأشياء كان على الاباحة بمعنى الترخيص والامضاء كما يدل عليه قوله(عليه السلام): «اسكتوا عما سكت الله»(1) وقوله (عليه السلام): «كلّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(2) نعم، بعض الأحكام الذي شرّع لحفظ النظام كحرمة قتل النفس، وحرمة أكل أموال الناس، وحرمة الزنا، وغيرها من الأحكام النظامية غير مختص بشريعة دون شريعة، وقد ورد في بعض النصوص(3) أنّ الخمر ممّا حرّمت في جميع الشرائع. والحاصل أنّ وطء الحائض مثلاً كان قبل نزول الآية الشريفة (فَاعْتَزِلُوْا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ )(4) مرخّصاً فيه، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية.

 الوجه الثاني: أ نّه لا معارضة بين استصحاب عدم جعل الحلية واستصحاب عدم جعل الحرمة، لامكان التعبد بكليهما بالتزام عدم الجعل أصلاً لا جعل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار 2: 260 / كتاب العلم ب 31 ح 14 (باختلاف يسير).

(2) الوسائل 27: 163 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 33.

(3) الوسائل 25: 296 / أبواب الأشربة المحرمة ب 9 ح 1.

(4) البقرة 2: 222.

ــ[50]ــ

الحرمة ولا جعل الحلية، وذلك لما مرّ غير مرّة ويأتي في أواخر الاستصحاب(1) إن شاء الله تعالى من أنّ قوام التعارض بين الأصلين بأحد أمرين على سبيل منع الخلو، وربّما يجتمعان:

 أحدهما: أن يكون التنافي بين مفاد الأصلين في نفسه مع قطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية العملية، كما إذا كان مدلول أحد الأصلين الاباحة ومدلول الآخر الحرمة، أو كان مدلول أحدهما الاباحة ومدلول الآخر عدمها، فلا يصح التعبد بالمتنافيين فيقع التعارض بينهما ويتساقطان، لعدم إمكان شمول دليل الحجية لكليهما، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح.

 وثانيهما: أن تلزم من العمل بهما المخالفة العملية القطعية ولو لم يكن التنافي بين المدلولين، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الاناءين، فجريان أصالة الطهارة في كل واحد منهما وإن لم يكن بنفسه منافياً لجريانها في الآخر، إلاّ أ نّه تلزم من جريانه في كليهما المخالفة العملية القطعية، وكذا في سائر مقامات العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي.

 وكلا الأمرين مفقود في المقام، لعدم المنافاة بين أصالة عدم جعل الحلية وأصالة عدم جعل الحرمة، لأنّ الحلية والحرمة متضادان، فلا يلزم من التعبد بكلا الأصلين إلاّ ارتفاع الضدّين، ولا محذور فيه. فنتعبد بكليهما ونلتزم بعدم الجعل أصلاً، ولا تلزم مخالفة عملية قطعية أيضاً، غاية الأمر لزوم المخالفة الالتزامية للعلم الاجمالي بجعل أحد الحكمين في الشريعة المقدّسة، ولا محذور فيه، فنلتزم بعدم الجعل في مقام العـمل، وفي مقام الافـتاء نرجع إلى غيرهما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ ص 305، والجزء الثاني من هذا الكتاب ص 404 وما بعدها.

ــ[51]ــ

من الاُصول كأصالة البراءة مثلاً في المقام، فنفتي بعدم حرمة الوطء لأصالة البراءة.

 ونظير ذلك ما تقدّم(1) في دوران الأمر بين المحذورين، فان في الحكم بالتخيير هناك مخالفة التزامية لما هو معلوم بالوجدان من الحرمة أو الوجوب، ولا محذور فيه بعد كون الحكم بالتخيير بالتعبد الشرعي، ولا تلزم المخالفة العملية القطعية، لأ نّه لا يخلو إمّا من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة، ولولا ذلك لما جاز الافتاء من المجتهد بما في رسالته العملية المشتملة على المسائل الكثـيرة، للعلم الاجمالي بمخالفة بعض ما في الرسالة للحكم الواقعي، فلا بدّ له من التوقف عن الافتاء. نعم، من ليس له هذا العلم الاجمالي ـ ويحتمل مطابقة الواقع لجميع ما في رسالته على كثرة ما فيها من المسائل ـ جاز له الافتاء، ولكنّه مجرد فرض، ولعلّه لم يوجد مجتهد كان شأنه ذلك.

 فالسر في جواز الافتاء هو ما ذكرنا من أ نّه لا مانع من الافتاء بعد كونه على الموازين الشرعية وبرخصة من الشارع، ولا محذور في المخالفة الالتزامية، والمخالفة العملية القطعية غير ثابتة، لاحتمال كون ما صدر منه مخالفاً للواقع هو الافتاء بحرمة المباح الواقعي، ولا تلزم منه مخالفة عملية، فانّ المخالفة العملية إنّما تتحقق فيما علم الافتاء باباحة الحرام الواقعي، وليس له هذا العلم، غاية ما في الباب علمه بكون بعض ما في الرسالة مخالفاً للواقع إمّا الافتاء بحرمة المباح الواقعي أو باباحة الحرام الواقعي.

 الوجه الثالث: أ نّه لو تنزلنا عن جميع ذلك فنقول: إنّه يقع التعارض بين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص 385.

ــ[52]ــ

هذه الاستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة، لا أ نّه يقع التعارض بين استصحاب عدم جعل الحرمة واستصحاب عدم جعل الحلية في مرتبة متقدمة على استصحاب بقاء المجعول، وبعد تساقط الاستصحابين في مقام الجعل تصل النوبة إلى استصحاب بقاء المجعول ويتم المطلوب، وذلك لأنّ جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية لايكون متوقفاً على تحقق الموضوع في الخارج، بحيث يكون استصحاب بقاء الحـرمة متوقفاً على وجود زوجة انقطع دمها ولم تغتسل، بل يجري الاستصحاب على فرض وجود الموضوع، فانّ جميع فتاوى المجتهد مبنية على فرض وجود الموضوع، فلا يتوقف الاستصحاب المذكور إلاّ على فعلية اليقين والشك على فرض وجود الموضوع، وكل مجتهد التفت إلى الحكم المذكور ـ أي حرمة وطء الحائض بعد انقطاع دمها ـ يحصل له اليقين بحرمة الوطء حين رؤية الدم، واليقين بعدم جعل الحرمة قبل نزول الآية الشريفة (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء)(1) واليقين بعدم جعل الاباحة في الصدر الأوّل من الاسلام، ويحصل له الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال، وكل واحد من هذه الاُمـور فعليٌ عند الافتاء على فرض وجود الموضوع، فيقع التعارض بين الاستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة وتسقط جميعها.

 وربّما يقال في المقام: إنّ أصالة عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء المجعول، لكون الأوّل أصلاً سببياً بالنسبة إلى الثاني، فانّ الشك في بقاء الحرمة مسبب عن الشك في سعة جعل الحرمة وضيقها، فأصالة عدم جعل الحرمة موجبة لرفع الشك في بقاء المجعول، فلايبقى للاستصحاب الثاني موضوع.

 وهذا الكلام وإن كان موافقاً للمختار في النتيجة، إلاّ أ نّه غير صحيح في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2: 222.

ــ[53]ــ

نفسه، لما مرّ غير مرّة ويأتي(1) إن شاء الله تعالى من أنّ الملاك في الحكومة ليس مجرد كون أحد الأصلين سببياً والآخر مسببياً، بل الملاك كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولاً شرعياً للأصل الآخر، كما في المثال المعروف وهو ما إذا غُسل ثوب نجس بماء مشكوك النجاسة، فالشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في طهارة الماء، وجريان أصالة الطهارة في الماء موجب لرفع الشك في طهارة الثوب، لأن من الآثار المجعولة لطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به، فاصالة الطهارة في الماء تكون حاكمة على استصحاب النجاسة في الثوب، بخلاف المقام، فانّه ليس عدم حرمة الوطء من الآثار الشرعية لأصالة عدم جعل الحرمة، بل من الآثار التكوينية له، لأن عدم الحرمة خارجاً ملازم تكويناً مع عدم جعل الحرمة، بل هو عينه حقيقة، ولا مغايرة بينهما إلاّ نظير المغايرة بين الماهية والوجود، فلا معنى لحكومة أصالة عدم جعل الحرمة على استصحاب بقاء المجعول.

 الثالث: ما ذكره المحقق النائيني(2) (قدس سره): وهو أنّ استصحاب عدم الجعل غير جار في نفسه، لعدم ترتب الأثر العملي عليه، لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم في مقام التشريع، والأحكام الانشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية، بل ولا الآثار العقلية من وجوب الاطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها فضلاً عن التعبد بها بالاستصحاب، فانّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب، لا يترتب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقق ملكية في الخارج. وعليه فلا يترتب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي في ص 129، 169، 303.

(2) أجود التقريرات 4: 113، فوائد الاُصول 4: 447.

ــ[54]ــ

فلا مجال لجريانه.

 والجواب عنه: يظهر بما ذكرناه في الواجب المشروط(1) والتزم هو(2)(قدس سره) به أيضاً من أنّ الأحكام الشرعية اعتبارية لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار القائم بالمعتبر وهو المولى، وليست من سنخ الجواهر والأعراض الخارجية، بل وجودها بعين اعتبارها من المعتبر، والاعتبار إنّما هو بمنزلة التصور، فكما أنّ التصور تارةً يتعلق بمتصور حالي واُخرى بمتصور استقبالي، فكذا الاعتبار تارةً يتعلق بأمر حالي واُخرى يتعلق بأمر استقبالي بحيث يكون الاعتبار والابراز في الحال والمعتبر في الاستقبال كالواجبات المشروطة قبل تحقق الشرط، فانّ الاعتبار فيها حالي والمعتبر وهو الوجوب استقبالي، لعدم تحققه إلاّ بعد تحقق الشرط، ونظيره في الوضع الوصية فان اعتبار الملكية في موردها حالي، إلاّ أنّ المعتبر أمر استقبالي وهي الملكية بعد الوفاة.

 فتحصّل مما ذكرنا: أنّ الواجب المشروط ما لا يكون فيه قبل تحقق الشرط إلاّ مجرد الاعتبار، وجميع الأحكام الشرعية بالنسبة إلى موضوعاتها من قبيل الواجب المشروط، فقبل تحققها لا يكون بعث ولا زجر ولا طاعة ولا معصية، فتحقق الأحكام الشرعية الذي نعبّر عنه بالفعلية يتوقف على أمرين: الجعل وتحقق الموضوع، فاذا انتفى أحدهما انتفى الحكم، مثلاً وجوب الصلوة بعد زوال الشمس يتوقف على جعل الوجوب من المولى وتحقق الزوال في الخارج، فاذا زالت الشمس ولم يحكم المولى بشيء يكون الحكم منتفياً بانتفاء الجعل، فما لم يتحقق الموضوع وإن كان لا يترتب أثر على استصحاب عدم الجعل إلاّ أ نّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 146.

(2) أجود التقريرات 1: 210.

ــ[55]ــ

إذا تحقق الزوال يترتب الأثر على استصحاب عدمه لا محالة. وعليه فاذا وجد الموضوع في الخارج وشككنا في بقاء حكمه من جهة الشك في سعة المجعول وضيقه، أمكن جريان اسـتصحاب عدم الجعل في غير المقدار المتيقن لولا معارضته باستصحاب بقاء المجعول. وإن شئت قلت: كما أنّ استصحاب بقاء الجعل يجري لاثبات فعلية التكليف عند وجود موضوعه، كذلك استصحاب عدم الجعل يكفي في إثبات عدم فعليته. هذا تمام الكلام في دفع الاشكالات الواردة في المقام.

 ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية مختص بالأحكام الالزامية من الوجوب والحرمة، وأمّا غير الالزامي فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة، لما ذكرنا سابقاً (1) من أنّ الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، فانّ الأشياء كلّها على الاباحة ما لم يجعل الوجوب والحرمة، لقوله (عليه السلام): «اسْكُتُوا عَمّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ»(2) وقوله (عليه السلام): «كلّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(3) وقوله (عليه السلام): «إنّما هلك الناس لكثرة سؤالهم»(4) فالمستفاد من هذه الروايات أنّ الأشياء على الاباحة ما لم يرد أمر أو نهي من قبل الشارع، فانّ الشريعة شرعت للبعث إلى شيء والنهي عن الآخر لا لبيان المباحات، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الاباحة، لكون الاباحة متيقنة فالشك في بقائها، فيجري استصحاب بقاء الاباحة بلا معارض، بل يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 49.

(2)، (3) ذكرنا مصدر الروايتين في ص 49.

(4) بحار الأنوار 22: 31.

ــ[56]ــ

استصحاب عدم جعل الحرمة موافقاً له.

 وظهر بما ذكرنا أ نّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية كالطهارة من الخبث والحدث، كما إذا شككنا في انفعال الماء العالي بملاقاة النجاسة السافلة، فنجري استصحاب الطهارة ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة، لأنّ الطهارة نظير الاباحة لا تحتاج إلى الجعل، بل الأشياء كلّها على الطهارة ما لم تعتبر النجاسة فيها من قبل الشارع، بل الطهارة بحقيقتها العرفية كون الشيء باقياً بطبيعته الأوّلية، والنجاسـة والقذارة شيء زائد، بل استصحاب عدم جعل النجاسة معاضد لاستصحاب بقاء الطهارة. وكذا لا مانع من جريان استصحاب الطهارة من الحدث، كما إذا شككنا في بقائها بعد خروج المذي، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة، لأنّ النقض هو المحتاج إلى الجعل. وأمّا الطهارة المجعولة فهي الوضوء ـ أي الغسلتان والمسحتان ـ وقد أتينا بها، فهي باقيـة بحالها ما لم يصـدر منّا ما جعله الشارع ناقضاً لها، بل استصحاب عدم جعل المذي ناقضاً موافق لاستصحاب بقاء الطهارة.

 وبعبارة اُخرى: إنّما الشك في أنّ الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية ـ أي الحاصلة بعد خروج المذي ـ أو مشروطة بالأعم منها ومن الطهارة الاُولى ـ أي الحاصلة قبل خروج المذي ـ والأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية. نعم، إذا شككنا في بقاء النجاسة المتيقنة كمسألة تتميم الماء القليل النجس كراً، لا مجال لجريان استصحاب بقاء النجاسـة للمعارضة باستصحاب عدم جعل النجاسة بعد التتميم.

 فتحصّل: أنّ المختار في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية هو التفصيل على ما ذكرنا، لا الانكار المطلق كما عليه الأخباريون والفاضل النراقي، ولا الاثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.

ــ[57]ــ

 ثمّ إنّه بقي هنا شيء طفيف نتعرض له تبعاً للمحقق النائيني(1) وهو أ نّه ذكر بعضهم إشـكالاً على الاستدلال بالصحيحة المذكورة وغيرها من الصحاح، وهو أنّ المراد من اليقين في قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشك» هو الجنس المراد منه العمـوم، وبعد دخول «لا» عليه يكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، فيكون المعنى لا تنقض جميع أفراد اليقين بالشك، فتكون دالّة على حجية الاستصحاب على نحو الايجاب الجزئي لا مطلقاً.

 وهذا الاشكال بمكان من السقوط، فانّه يرد عليه أوّلاً: أنّ ما ذكر إنّما يصح فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم، فبعد دخول النفي عليه يكون سلباً للعموم، بخلاف المقام، فانّ اليقين بنفسه لا يدل على العموم، لأنّ المراد منه الجنس، والعموم يستفاد من النفي، فيكون بمنزلة قولنا: لا رجل في الدار في إفادته عموم السلب لا سلب العموم.

 وثانياً: أ نّه لا نسلّم سلب العموم حتى فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم، لما ذكرنا في بحث العام والخاص(2) من أنّ الظاهر من العمومات هو العموم الاستغراقي لا المجموعي، إلاّ إذا قامت قرينة على إرادته، فمثل قولنا: لا تهن العلماء ظاهر في عموم السلب لا سلب العموم وإن كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم.

 وثالثاً: أ نّا لو سلّمنا ظهوره في سلب العموم فانّما هو فيما لم تكن قرينة على الخلاف، والقرينة في المقام موجودة، وهي أنّ الإمام (عليه السلام) بعد ما حكم بعدم وجوب الوضوء على من شك في النوم، علله بقوله (عليه السلام): «فانّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 4: 35، فوائد الاُصول 4: 338.

(2) الهداية في الاُصول 2: 300، لكن ذُكر ما ينافيه في الدراسات 2: 234 و 235.

ــ[58]ــ

على يقين من وضـوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبداً» فلو كان المراد سلب العموم لم ينطبق على المورد وكان لزرارة أن يقول إنّه لا ينقض جميع أفراد يقينه بالشك بل بعضها، وليكن هذا اليقين من هذا البعض.

ومن جملة ما استدلّ به للاستصحاب صحيحة ثانية لزرارة «قال قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني، فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصليت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال (عليه السلام): تعيد الصلاة وتغسله، قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أ نّه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صلّيت وجدته؟ قال (عليه السلام): تغسله وتعيد، قلت: فان ظننت أ نّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت فرأيت فيه؟ قال (عليه السلام): تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لِمَ ذلك؟ قال (عليه السلام): لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً، قلت: فانّي قد علمت أ نّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال (عليه السلام): تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أ نّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك، قلت: فهل عليَّ إن شككت في أ نّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال (عليه السلام): لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسـك، قلت: إن رأيتـه في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال (عليه السلام): تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشك ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة، لأ نّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك»(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التهذيب 1: 421 / ح 1335، الوسائل 3: 466 و 477 و 482 / أبواب النجاسات ب 37 و 41 و 44 ح 1.

ــ[59]ــ

 ويقع الكلام أوّلاً في فقه الحديث ثمّ في وجه الاستدلال به للاستصحاب فنقول: أمّا فقه الحديث، فهو أنّ زرارة سأل الإمام (عليه السلام) أسئلة عديدة عن أحكام متعددة.

 السؤال الأوّل: عن حكم الاتيان بالصلاة مع النجاسة نسياناً مع العلم بالنجاسة أوّلاً، فأجاب (عليه السلام) بوجوب إعادة الصلاة ووجوب الغسل. وهذا الحكم قد ورد في روايات اُخر(1) أيضاً، وعلل في بعضها بأنّ الناسي تهاون في التطهير دون الجاهل. وكيف كان لا إشكال في الحكم المذكور.

 السؤال الثاني: عن العلم الاجمالي بنجاسة الثوب والصلاة معها، فأجاب (عليه السلام) بوجوب الاعادة وعدم الفرق بين العلم الاجمالي بالنجاسـة والعلم التفصيلي بها.

 السؤال الثالث: عن الظن بالنجاسة والصلاة معها، فأجاب (عليه السلام) بوجوب الغسل وعدم وجوب الاعادة، لكونه على يقين من الطهارة فشك وليس ينبغي نقض اليقين بالشك، وهذا مبني على أن يكون المراد من الشك عدم اليقين الشامل للظن المفروض في السؤال، كما سنذكره في أواخر الاستصحاب(2) إن شاء الله تعالى، وإلاّ لم ينطبق على المورد.

 السؤال الرابع: عن كيفية التطهير مع العلم الاجمالي بالنجاسة، فأجاب (عليه السلام) بوجوب تطهير الناحية التي علم إجمالاً بنجاستها حتى يحصل له اليقين بالطهارة.

 السؤال الخامس: عن وجوب الفحص وعدمه مع الشك في الاصابة،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في الوسائل 3: 480 / أبواب النجاسات ب 42 ح 5.

(2) في التنبيه الرابع عشر، ص 268.

ــ[60]ــ

فأجاب (عليه السلام) بعدم وجوبه بل بعدم وجوب النظر كما هو المذكور في السـؤال فضلاً عن الفحـص، فانّه يحتاج إلى مؤونة زائدة عن مجرد النظر، وملخّص الجواب أ نّه ليس عليك تكليف بالفحص والنظر إلاّ أن تريد إذهاب الشك ولو من جهة عدم الوقوع في الحرج والمشقة إذا ظهر كونه نجساً وملاقاته أشياء اُخر، فلك النظر ولكنّه لا يجب عليك.

 السؤال السادس: عن رؤية النجاسة وهو في الصلاة، فأجاب (عليه السلام) بأنّ هذه الرؤية إن كانت بعد العلم الاجمالي بالنجاسة والشك في موضعها قبل الصلاة، وجبت الاعادة، وإن كانت الرؤية غير مسبوقة بالعلم فرأى النجاسة وهو في الصـلاة ولم يدرِ أكانت النجاسة قبل الصلاة أم حدثت في الأثناء، فلا تجب عليه الاعادة، بل يغسـلها ويبني على الصلاة إذا لم يلزم ما يوجب البطلان، كالاستدبار مثلاً. وعلل الحكم بعدم وجوب الاعادة باحتمال حدوث النجاسة في الأثناء، فلا ينبغي نقض اليقين بالشك، وهذا الحكم ـ أي حكم رؤية النجاسة في أثناء الصلاة ـ له صورتان:

 الصورة الاُولى: رؤية النجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصلاة.

 والصورة الثانية: هي الصورة الاُولى مع الشك في كونها قبل الصلاة واحتمال عروضها في الأثناء.

 أمّا الصورة الثانية فهي التي ذكرت في الرواية وحكم الإمام (عليه السلام) بعدم وجوب الاعادة فيها.

 وأمّا الصورة الاُولى، فهي غير مذكورة في صريح الرواية، لأنّ المذكور فيها حكم العلم بالنجاسة قبل الصلاة مع الشك في موضعها، وحكم رؤية النجاسة في الأثناء مع الشك في كونها قبل الصلاة. وأمّا رؤية النجاسة في

 
 

ــ[61]ــ

إذا استعمل في الحاصل من المصدر أعني ما يتعلّق به الانشاء وهو المنشأ إنّما يستعمل حقيقة في خصوص البيع الصحيح والمؤثّر واقعاً ، وهذا هو معناه حقيقة ، بمعنى أنّ البيع موضوع للمؤثّر في الملكية واقعاً لا للصحيح عند الشارع حتّى يقال إنّه كيف يمكن أخذ الصحّة والامضاء في مفهوم البيع العرفي ، وعليه فاختلاف الشرع والعرف في بعض المصاديق من جهة الاختلاف في التطبيق ومن باب تخطئة الشرع للعرف لأنّ الشارع عالم بالواقع فيرى أنّه ليس مؤثّراً في الملكية واقعاً فيخطّئ العرف بأنّك لا ترى وما أخذت به ليس مؤثّراً في الملكية الواقعية . فلا نزاع بينهما بحسب المفهوم أبداً ، غاية الأمر أنّ العرف يرى بعض الاُمور مصداقاً لذلك المفهوم والشرع لا يراه مصداقاً له ، كما أنّ الأمر ربما ينعكس فيرى الشارع شيئاً مصداقاً لمفهوم البيع والعرف لا يراه منطبقاً عليه ، فاختلافهما في التطبيق ، والشارع يخطّئ العرف في ذلك مع اتّفاقهما في مفهوم البيع ، وهذا أمر يتّفق كثيراً كنزاعنا في إمكان اجتماع الأمر والنهي واستحالته ، فإنّ مفهوم الامكان والاستحالة أمر لا خلاف فيه ، وإنّما الكلام في تطبيقه على المورد . وكذا النزاع في أعلمية زيد من عمرو فإنّ مفهوم الأعلمية معلوم لا خلاف فيه وإنّما الخلاف في تطبيقه على زيد ، أو البحث في أكبرية دار زيد من دار عمرو فإنّ مفهومها ظاهر والكلام في تطبيقها ، وكنزاع الأطبّاء في حرارة شيء وبرودته فإنّه نزاع في الانطباق لا المفهوم كما هو ظاهر .

فالمتحصّل أنّ مفهوم البيع وغيره من العقود والمعاملات موضوع لخصوص الصحيح منها ، هذا .

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدّس الله سرّه) إنّما يتمّ فيما إذا كان مفهوم البيع كمفاهيم الاستحالة والامكان والأعلمية والأكبرية من الاُمور الواقعية ، وحينئذ يمكن أن يقال إنّه موضوع لذلك الأمر الواقعي ، واختلافهما أي الشرع والعرف من جهة الاختلاف في التطبيق ومن قبيل تخطئة الشارع العرف ، فإنّه يرى وجود ذلك

ــ[62]ــ

الأمر الواقعي في هذا المورد دون العرف فيخطّئه .

إلاّ أنّه عرفت سابقاً أنّ البيع أمر اعتباري ولا واقع له أبداً ، وفي كلّ واحد من البيع العرفي والشرعي الاعتبار حاصل ، غاية الأمر أنّ العرف يعتبره في مورد لا يعتبره فيه الشرع ، أو الشرع يعتبره فيما لا يعتبره فيه العرف ، ولا يقاس ذلك بمثل التعظيم فإنّه أمر واقعي إذ هو بمعنى إظهار عظمة الشخص ، والاظهار بالقيام له أو بغيره أمر واقعي وإظهار للعظمة حقيقة ، غاية الأمر أنّ سبب ذلك الاظهار يختلف باختلاف العادات ففي بعض الأمكنة بالقيام وفي آخر برفع القلنسوة وفي آخر بوضع اليد على الصدر أو على الرأس ، وجميعها موجب لاظهار العظمة حقيقة وهي تجليل له حقيقة ، وهذا بخلاف البيع لأنّ حقيقته الاعتبار فلا وجه لما عن بعض المحشّين(1) من قياس المقام بالتعظيم ، فإنّ المقام أمر اعتباري محض ولا أمر واقعي محفوظ هناك ليقال إنّه منطبق على ذلك المورد أو غير منطبق وأنّ الشارع يخطّئ العرف ، بل اعتبار كلّ واحد منهما موجود واعتبار كلّ منهما غير اعتبار الآخر بالبداهة ، ولا خطأ في الاعتبار أبداً إذ التخطئة في الاُمور الاعتبارية غير معقول نعم يمكن التخطئة في منشأ ذلك الاعتبار بأن يقال إنّ البيع موضوع لما هو المؤثّر في الملكية الصحيحة أي الناشئ اعتبارها من مصلحة واقعية إلاّ أنّه أمر آخر مقطوع البطلان ، فإنّ نشوء الاعتبار من مصلحة وعدمه غير مأخوذ في المفهوم العرفي قطعاً  .

فحينئذ إن قلنا بأنّ البيع عبارة عن اعتبار الملكية ولو في الجملة فهو صادق على كلّ واحد من البيع العرفي والشرعي والتزام بالوضع للأعمّ ، وإن قلنا إنّه عبارة عن الاعتبار الذي أمضاه الشارع فيختصّ بخصوص البيع الصحيح ولكن يعود

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الايرواني) 2 : 36 .

ــ[63]ــ

المحذور المتقدّم من أنّ البيع مفهوم عرفي لا يمكن أخذ الصحّة الشرعية في مفهومه حيث إنّها كالفساد حكم وارد على البيع لا أنّها جزء من مفهومه ، وما يرى من أنّهم يحملون البيع ونحوه في الأقارير على الصحيح فليس من جهة أخذ الصحّة في مفهومه  ، بل من جهة ظهور حاله في أنّه لا يقدم على أمر لا فائدة فيه ، وإنّما يعامل معاملة يترتّب عليها الآثار سيّما بعد الالتفات إلى ورود الشرع والشريعة ، فإنّ المسلم لا يرتكب الفاسد بحسب مذهبه ، ولعلّه ظاهر .

فتحصّل : أنّ هذا الإشكال وارد لا مدفع له ، ولا يمكن تصوير وضع ألفاظ المعاملات للصحيحة منها ، بل لابدّ من أن تكون موضوعة للأعمّ منها ومن الفاسدة  .

وأمّا المقام الثاني : فقد يشكل التمسّك باطلاقات أدلّة المعاملات على القول بوضعها للصحيح عند الشكّ في دخل شيء في صحّتها ، لأنّ حالها حينئذ حال إطلاقات أدلّة العبادات على القول بوضعها لخصوص الصحيح حيث لا يتمسّكون بها لكونها مجملة حينئذ ، مع أنّ الأصحاب لم يزالوا يتمسّكون بها في موارد الشكّ في جزئية شيء أو شرطيّته في المعاملات ، بل ربما يستكشف من ذلك على نحو الإنّ عدم وضع ألفاظ المعاملات لخصوص الصحيحة وإلاّ لم يكن وجه للتمسّك باطلاقاتها كما لا يخفى .

وكيف كان ، فقد ذكر شيخنا الأنصاري في وجه ذلك أمرين : أحدهما : أنّ البيع في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مستعمل في الحاصل من المصدر المؤثّر واقعاً وحينئذ لابدّ أن يراد به ما هو المؤثّر عند العرف ، وذلك لأنّه لم يبيّن أسباب حصوله  ، فإمّا أن يراد به ما هو حاصل بالأسباب العرفية أو غيره ، فعلى الثاني يكون الكلام لغواً لعدم بيان الأسباب ، فصوناً للحكيم عن اللغو يحمل على الأول وتكون نتيجته إمضاء جميع الأسباب العرفية ، فالحاصل أنّ من سكوت الشارع عن

ــ[64]ــ

ذكر الأسباب يستكشف أنّها نفس الأسباب العرفية ، فتكون إمضاء لها .

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التمسّك بالاطلاق غير التمسّك بالاطلاق المتعارف المبحوث عنه في باب المطلق والمقيّد ، كما إذا أردنا التمسّك باطلاق خلق الله الماء طهوراً ، فإنّ من شرائطه إحراز صدق الماء على المورد المشكوك في حكمه ، وبعده نتمسّك باطلاق دليله ، وبالجملة لابدّ من انطباق المقسم وصدقه على المورد في التمسّك بالاطلاقات اللفظية ، وهذا بخلاف المقام فإنّ صدق البيع على ما نشكّ في صحّته وفساده غير معلوم ومع ذلك نحكم بصحّته من جهة التمسّك بالاطلاق على تقريب عرفته آنفاً ، ويسمّى ذلك بالاطلاق المقامي والأوّل بالاطلاق اللفظي ، لأنّه من مقتضيات المقام من دون صدق اللفظ عليه ، لما عرفت من أنّه لو لم يحمل على ذلك للزم أن يكون لغواً .

وثانيهما : أن يحمل البيع الوارد في الاطلاقات على المصدر أي على إنشاء البيع لا على المنشأ كما في الوجه الأوّل ، ويقال إنّ الشارع أمضى إنشاءاتكم للبيع وأنّها صحيحة وممضاة عنده ، وعليه يدخل جميع أقسام البيع تحت مفهوم البيع وإن كان فاسداً ، نعم يخرج عنه بيع الهازل لأنّه صورة إنشاء البيع وليس قاصداً لانشائه حقيقة ، وحينئذ يمكن التمسّك بالاطلاق اللفظي أيضاً ، فإذا شككنا في إنشاء بيع أنّه صحيح أو فاسد فبما أنّ إنشاء البيع صادق ومنطبق عليه ، نأخذ باطلاق ما دلّ على صحّة الانشاء ونحكم بصحّة ذلك الانشاء المشكوك ، هذا .

ولا يخفى عليك ما في كلا الأمرين من الإشكال ، أمّا الوجه الثاني فلأنّه خلف  ، إذ هو مبني على أنّ البيع وغيره من ألفاظ المعاملات موضوعة للأعمّ ومستعملة فيه ، فإنّ إنشاء البيع كما هو متحقّق في الصحيح متحقّق في الفاسد أيضاً فلذا ذكرنا أنّ التمسّك بالاطلاق اللفظي ممكن حينئذ لصدقه على المشكوك ولا مانع من التمسّك بالاطلاقات على القول بالأعمّ ، مع أنّ المفروض أنّها موضوعة للصحيح

ــ[65]ــ

منها ومستعملة فيه ، فهذا الوجه خلف .

وأمّا الوجه الأول ، فلأنّه إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن في الأسباب العرفية سبب متيقّن للبيع ، وحينئذ لابدّ من حمل خطاباته على ما يراه العرف سبباً لمحذور لزوم اللغوية ، وأمّا مع وجوده وهو العقد العربي الماضوي الخالي عن الغرر والربا والمستجمع لجميع العقود والشرائط ، فلا يلزم من عدم إرادة الشارع جميع الأسباب العرفية لغو حينئذ في كلامه ، لامكان إرادة ذلك السبب القطعي وهو كاف في دفع محذور اللغوية ، ومعه لا يمكن الأخذ بجميع ما يراه العرف سبباً ، لاندفاع اللغوية به .

فتحصّل : أنّه لا يمكن الاعتماد على شيء من الوجهين المذكورين في كلامه .

وقد ذكر بعضهم أنّ ألفاظ المعاملات إذا قلنا بوضعها للمسبّبات فلا يجري فيها النزاع من أنّها موضوعة للصحيح منها أو الأعمّ ، لأنّ المسبّبات لا تتّصف بالصحّة والفساد بل بالعدم تارةً وبالوجود اُخرى ، وإنّما يجري النزاع فيها فيما إذا قلنا بأنّها أسام للأسباب ، وحينئذ يقع الكلام في أنّها أسام للأسباب التامّة الأجزاء والشرائط أو الأعمّ .

ولكنّك عرفت سابقاً أنّ باب البيع وغيره من الانشائيات خارج عن محيط الأسباب والمسبّبات وليس فيها سبب ولا مسبّب ، وليس هناك إلاّ إبراز الاعتبار النفساني على ما فسّرناه سابقاً من أنّ الانشاء عبارة عن إظهار الاعتبار وإبرازه فالبيع مثلا اسم لاظهار اعتبار الملكية ولا يطلق على نفس الاعتبار المجرّد عن الابراز ولا على الابراز الخالي عن الاعتبار ، لأنّه صورة البيع حينئذ نظير بيع الهازل ، وإنّما هو اسم لمجموع الاعتبار المبرز في الخارج بمبرز ومظهر ما كما هو أوضح من أن يخفى .

وعلى هذا يخرج البيع ونظائره عن باب الأسباب والمسبّبات ليقال إنّ النزاع في وضعها للصحيح أو الأعمّ يبتني على أن تكون أسامي للأسباب دون المسبّبات

ــ[66]ــ

أو يقال إنّ إمضاء المسبّب لغو من دون إمضاء الأسباب في تصحيح التمسّك بالاطلاق في أبواب المعاملات ، لما عرفت من أنّ كلّ ذلك لم يكن ، وليس في المعاملات إلاّ إبراز الاعتبار النفساني فقط .

وعليه فصحّة التمسّك بالاطلاقات فيها في غاية الظهور والوضوح ، وذلك لأنّ البيع حينئذ اسم لابراز الاعتبار من دون أخذ الصحّة الشرعية أو العرفية في مفهومه ، بل هو أمر ربما يكون صحيحاً عند العرف واُخرى فاسداً ، كما يكون صحيحاً عند الشرع أيضاً تارةً واُخرى فاسداً ، فلم يؤخذ في مفهومه شيء من الامضاءين والاعتبارين أبداً ، وحينئذ إذا شككنا في عقد أنّه صحيح أو باطل فبما أنّ صدق إبراز الاعتبار عليه محرز نتمسّك بقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) و  (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2) وغيرهما من المطلقات والعمومات ، لأنّه بيع وعقد على أيّ حال ، فلا مانع من التمسّك بالاطلاق اللفظي فيه بوجه .

فلو تنزّلنا عن ذلك فيمكن تصحيح التمسّك بالاطلاق على القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحيح بوجه آخر وهو أنّ الأدلّة الدالّة على إمضاء المعاملات بالالتزام كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإن لم يمكن التمسّك باطلاقاتها بناءً على الصحيح ، لعدم تعيّن إرادة البيع العرفي فيها فيشكّ في صدق البيع على مورد الشكّ إلاّ أنّ الأدلّة الدالّة على إمضائها بالمطابقة كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لا مانع من التمسّك باطلاقاتها على هذا القول ، لأنّ البيع في تلك الأدلّة ليس إلاّ بمعنى ما هو بيع عند العرف ولا يمكن إرادة البيع الصحيح الشرعي في مثلها ، فإنّ البيع الشرعي حلال بنفسه ولا يحتاج إلى إثبات الحلّية له في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فإثباتها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) البقرة : 2 : 275 .

ــ[67]ــ

عليه لغو وتحصيل للحاصل .

فتعيّن أن يراد بالبيع في تلك المطلقات البيع العرفي ، لأنّه الذي يحتاج إلى إثبات الحلّية له شرعاً ، ولا يكون إثباتها له لغواً دون البيع الصحيح الشرعي كما هو ظاهر ، وعليه فكلّ ما كان بيعاً عرفاً وشككنا في صحّته وفساده شرعاً نتمسّك باطلاق قوله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وهذا ظاهر لا خفاء فيه .

ولكن لا يخفى عليك الفرق بين هذا التقريب وبين ما ذكرناه أوّلا ، فإنّ التمسّك بالاطلاق على هذا الوجه الثاني إنّما يصحّ فيما إذا كان المشكوك بيعاً عرفياً قطعاً ولكن شككنا في صحّته وفساده شرعاً ، وأمّا إذا كان بيعاً مشكوك الصحّة عند العرف أيضاً فلا يمكن التمسّك في مثلها باطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ لم يحرز أنّه بيع عرفي ليترتّب عليه الحلّية شرعاً ، وهذا بخلاف الوجه الأوّل فإنّه عليه لا مانع من التمسّك بالاطلاق في مشكوك الصحّة عرفاً لعدم أخذ الصحّة عند العرف أو الشرع في مفهوم البيع عليه ، بل إنّما كان موضوعاً لابراز الاعتبار وصدقه على مشكوك الصحّة عند العرف لا يكاد يخفى ، لأنّه إبراز للاعتبار فنتمسّك باطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ونحوه ، إذ هو بيع عند كلّ أحد حتّى العرف ، غاية الأمر أنّه بيع فاسد لا أنّه ليس ببيع ، فلا مانع معه من التمسّك بالاطلاق ، وهذا الوجه هو الصحيح .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net