معنى قوله (عليه السلام) إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5929


ــ[111]ــ

بحث في قوله (عليه السلام) « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام »

بقي الكلام في قوله (عليه السلام) : « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام » الذي استدلّ به تارةً على عدم إفادة المعاطاة إباحة التصرّف واُخرى على عدم إفادتها اللزوم جمعاً بينه وبين ما دلّ على صحّة مطلق البيع كما صنعه في الرياض(1).

فنقول : وردت هذه الفقرة في رواية واحدة وهي رواية ابن نجيح على ما في الكافي أو ابن الحجّاج على ما في الوافي ، قال : « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يجيئني ويقول اشتر لي هذا الثوب واُربحك كذا وكذا ، فقال : أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك ؟ قلت : بلى ، قال : لا بأس ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام »(2). وقد نقلها صاحب الوسائل أيضاً بهذا المتن(3)، فما ذكره شيخنا المحقّق (قدّس سرّه)(4)من أنّ النسخة الموجودة عنده كانت هكذا « إنّما يحلّ الكلام ويحرّم الكلام » لابدّ من حمله على غلط النسخة . وقد ورد « إنّما يحرّم الكلام » فقط في ثلاث روايات في باب المزارعة :

منها رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبدالله (عليه السلام) « أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر ، فقال : لا ينبغي له أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من شرط ولا يسمّي بذراً ولا بقراً ، فإنّما يحرّم الكلام »(5) وهي متعرّضة للنهي عن النطق ـ أعني تسمية البقر والبذر ـ بخلاف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رياض المسائل 8 : 214 .

(2) الكافي 5 : 201 ح6 ، الوافي 18 : 700 / أبواب أحكام التجارة ب109 ح7 .

(3) الوسائل 18 : 50 / أبواب أحكام العقود ب8 ح4 ، لكن فيه « إنّما يحلّ الكلام » .

(4) حاشية المكاسب (الأصفهاني) 1 : 150 .

(5) الوسائل 19 : 43 / كتاب المزارعة والمساقاة ب8 ح10 .

ــ[112]ــ

الرواية السابقة ، والسؤال فيها لو لم يكن مشتملا على قوله « واُربحك كذا وكذا » لأمكن حمله على التوكيل في الشراء بجعالة ، إلاّ أنّ اُربحك ظاهر في الشراء ، ولذا فصّل الإمام (عليه السلام) في الجواب بأنّ قوله « اشتر لي » إن كان مجرّد مقاولة بحيث كان مخيّراً بين الأخذ والترك بعد ذلك فلا بأس به ، لأنّ البيع يكون بعد شرائه ، وإن كان شراء لم يصحّ ، لأنّه من بيع ما لم يملك .

وكيف كان فالاستدلال بهذه الفقرة يتوقّف على إرادة الاحتمال الأول من المحتملات الأربعة في كلام الشيخ(1) وهو أن يقال إنّ المراد بالكلام في الرواية هو اللفظ الدالّ على التحليل أو التحريم ، والمعنى أنّ المحلّل منحصر في اللفظ كما أنّ المحرّم منحصر فيه ، وعليه فلا يكون المعاطاة محلّلا للتصرّفات لأنّها خالية عن اللفظ  .

ولكن الالتزام بذلك مشكل لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن وهو باطل  ، لعدم انحصار المحلّل والمحرّم في الشريعة المقدسة باللفظ ، فانّ الماء قبل ملاقاته لشيء من النجاسات حلال وبالملاقاة ينقلب إلى الحرام ، والملاقاة ليست بلفظ والأكل حلال في ليالي شهر رمضان ويحرم بطلوع الفجر مع أنّ الطلوع ليس بلفظ ونظائر ذلك في الفقه كثيرة . هذا ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ المراد من كون اللفظ محلّلا ومحرّماً إنّما هو في خصوص أموال الغير لا في جميع الموارد فلا يمكن الاذعان به أيضاً  ، للاجماع بأنّ الرضا الباطني كاف في جواز التصرف في مال الغير، فإذا كتب على قرطاس أنّي راض بالتصرف في مالي فيحلّ التصرف فيه قطعاً مع أنه لا لفظ في البين يستند التحليل اليه ، وكذا يحلّ التصرفات في الأمة بالارث مع أنّه لا لفظ في البين . ولو تنزّلنا ثانياً وقلنا بأنّ المراد بكون اللفظ محلّلا ومحرّماً هو كونه كذلك في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 62 .

ــ[113]ــ

المعاملات والعقود لا في جميع الموارد ، فيدفعه أيضاً أنّ المحلّل فيها لا يختص باللفظ أيضاً  ، لأنّ المعاطاة عندهم تفيد إباحة التصرفات بلا إشكال ، مع أنّها ليست بلفظ  . مضافاً إلى أنّ هذا المعنى لا ينطبق على مورد الرواية ، فإنّ الفساد فيه وعدمه لم يكن من ناحية اللفظ وعدمه . فتحصّل أنّه لا يمكن الالتزام بهذا الاحتمال بوجه ، هذا مضافاً إلى أنّ الالتزام بهذا الاحتمال من بين المحتملات بلا موجب ، وعليه فتخرج الرواية عن صلاحية الاستدلال .

فلابدّ من أن نفسّرها بمعنى آخر ، فإن وجدنا معنىً جامعاً بين باب البيع والمزارعة فنفسّرها بذلك المعنى الواحد وإلاّ فلابدّ من أن نفسّرها بمعنيين متعدّدين في البيع والمزارعة ، فقد حكي عن صاحب الكفاية (قدّس سرّه) في الحاشية(1) أنّ المراد بالكلام هو المداليل الكلامية أعني الالتزامات النفسية التي هي مداليل الكلام اللفظي ولا مانع من إطلاق الكلام على الالتزام النفسي كما نشاهده فيما إذا كتب أحد إلى آخر أنّي سآتيك غداً ، فإنّه إذا سئل عن وجه قدومه إليه فيجيب بأنّي أعطيت الكلام ويقال في الفارسية (قول دادم) مع أنّه لم يتلفّظ بكلام وإنّما كتبه إليه والكتابة ليست بكلام ، فلذا إذا كتب في أثناء صلاته شيئاً لا يبطل صلاته بدعوى أنّه تكلّم في الصلاة ، هذا .

وفيه : أنّ إطلاق الكلام على الالتزام إطلاق مسامحي لا يصار إليه إلاّ بقرينة مضافاً إلى أنّه لا ينطبق على موارد أخبار المزارعة.

وأمّا الاحتمال الثالث في كلام الشيخ (قدّس سرّه)(2) أعني إرادة الكلام الواحد في الفقرتين وكونه محلّلا بوجوده ومحرّماً بعدمه أو بالعكس وهو الذي قرّبه الشيخ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الآخوند) : 15 .

(2) المكاسب 3 : 63 .

ــ[114]ــ

(قدّس سرّه) واختاره الكاشاني في الوافي فهو بعيد غايته ، لأنّ الألفاظ إذا اُطلقت تكون فانيات في الوجود الواقعي دون العدم ، فمعنى البيع وجود البيع لا عدمه فاستعمال الكلام وإرادة عدمه غريب(1).

وأمّا الاحتمال الرابع من محتملاته (قدّس سرّه) وهو إرادة المقاولة ومجرّد المواعدة من الكلام المحلّل وإرادة إنشاء البيع من الكلام المحرّم ، فهو أيضاً يندفع بظهور الكلام في وحدة المراد منه في بابي البيع والمزارعة ، والتفكيك بينهما خلاف ظاهر الرواية كما هو ظاهر .

إذن المتعيّن بين محتملات الحديث هو الاحتمال الثاني في كلام الشيخ (قدّس سرّه) وأنّ المعنى الواحد إذا اُلقي بلفظ يكون محلّلا كما أنّه إذا اُلقي بلفظ آخر يكون محرّماً ، أو إذا صدر في مورد يكون محلّلا وإذا صدر في مورد آخر يكون محرّماً وهذا كالزوجية الانقطاعية فإنّها إذا اُدّيت بصيغة متّعتك نفسي في المدّة المعلومة بالمبلغ المعلوم تكون محلّلة ، وإذا اُدّيت بلفظ آجرتك نفسي تكون محرّمة ، وكصيغة البيع في المقام فإنّها إذا وقعت قبل اشتراء الدلاّل له من مالكه تكون محرّمة لأنّه من قبيل بيع ما لا يملك ، وإذا وقعت بعد شرائه تكون محلّلة . فالاختلاف تارةً بحسب الألفاظ وتارةً بحسب الموارد . وهذا المعنى ينطبق على مورد روايتي البيع والمزارعة  ، أمّا انطباقه على مورد رواية البيع فبلحاظ اختلاف الموارد وأنّ البيع إذا اُنشئ قبل شراء الدلاّل يكون محرّماً وإذا اُنشئ بعده يكون محلّلا ، وأمّا انطباقه على مورد رواية المزارعة فبلحاظ اختلاف اللفظ وأنّ المقصود الواحد ـ وهو جعل الثلث لمالك الأرض والثلثين للزارع ـ إذا اُنشئ مع التسمية يكون حراماً وبدونها يكون حلالا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينتقض ذلك بلفظة العدم فإنّها فانية في العدم دون الاُمور الوجودية .

ــ[115]ــ

ثمّ إنّ المراد بالتحريم والتحليل هو التحريم والتحليل الوضعي بمعنى ترتّب الأثر المقصود وعدم ترتّبه .

والوجه في إسناد الإمام التحريم إلى الكلام مع أنّ الموجب للفساد والبطلان هو عدم وقوع السبب الصحيح ، هو أنّ الداعي له إلى ترتيب الآثار في الخارج ليس إلاّ الصيغة الفاسدة في مثل بيع الدار ، إذ لولا الصيغة فيها لا يسكن الدار بوجه ، وإنّما سكنها استناداً إلى تلك الصيغة الفاسدة وبهذا الاعتبار أسند الإمام التحريم إلى اللفظ في مقابل العامّة القائلين ببطلان البيع في المقام مطلقاً ، وقع قبل الشراء أم بعده وأراد الإمام (عليه السلام) بيان ذلك المعنى وأنّه إذا وقع بعد وقوع الشراء يكون محلّلا أي موجباً لحصول ما قصده من الآثار وهذا معنى كونه محلّلا أو محرّماً ، يعني أنّ معناه كونه موجباً للفساد أو الصحّة .

ثمّ إنّ الشيخ (قدّس سرّه) بعدما منع ظهور الفقرة المذكورة في حصر المحلّل والمحرّم في اللفظ وأسقطها عن الدلالة على اعتبار اللفظ بهذا التقريب ، ذكر أنّه يمكن استظهار اعتباره في إيجاب البيع بوجه آخر وهو أنّ المراد بالكلام إيجاب البيع وإنشاؤه ، فحصر المحلّل والمحرّم في الكلام المراد به إيجاب البيع يقتضي عدم تحقّق البيع إلاّ باللفظ ، إذ لو وقع بغيره لم يصحّ الحصر .

وفيه : مضافاً إلى أنّ لازمه القول بعدم ترتّب الأثر على المعاطاة حتّى إباحة التصرف وهو مخالف للإجماع كما تقدّم ، أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ ، لا لما أفاده (قدّس سرّه) من احتمال أن يكون وجه الحصر في الكلام عدم إمكان المعاطاة في مورد الرواية ، لأنّ المبيع عند مالكه الأوّل ، وذلك لامكان كون المبيع عند غير مالكه كما يتّفق كثيراً في الدلاّلين ، وهو ظاهر الاشارة في السؤال بقوله « اشتر لي هذا الثوب  »  ، ولامكان تحقّق المعاطاة بالاعطاء من طرف واحد كالمشتري في الفرض . بل الوجه في عدم تمامية ذلك هو أنّ مفروض السؤال تحقّق الايجاب والقبول أو

ــ[116]ــ

المقاولة باللفظ ، ففي هذا الفرض قال (عليه السلام) « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام  »  ، فالحصر إضافي لا حقيقي ، والمعنى أنّ المحلّل هو المقاولة لا إنشاء البيع والمحرّم هو إنشاء البيع لا المقاولة، [ أو أنّ المحلّل هو إنشاء البيع بعد ملك البائع لا قبله ، والمحرّم هو انشاؤه قبله لا بعده ].

ثمّ إنّه (قدّس سرّه) ذكر أخباراً ادّعى إشعارها باعتبار اللفظ في البيع والانصاف أنّه لا إشعار فيها بذلك ، إذ وقع في بعضها « ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها »(1) ولا يمكن استفادة اعتبار اللفظ منه بوجه ، لأنّ « لا تواجب » بمعنى لا تعامل ، ولا إشعار فيه باللفظ ، فلذا ذكر بعض المحشّين(2) (قدّس الله أسرارهم) أنّ الاستدلال على اعتبار اللفظ في المعاملة لو صحّ بهذه الروايات استناداً إلى ظهور المواجبة في الايجاب اللفظي لصحّ للشيخ أن يستدلّ على اعتبار اللفظ في المعاملة بكلّ رواية وقع فيها لفظة البيع ، لأنّها أيضاً ظاهرة في البيع اللفظي .

فتحصّل : أنّ المعاطاة تفيد الملك اللازم على الأصحّ ولا إشكال في ذلك بوجه  .
ــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 52 / أبواب أحكام العقود ب8 ح13 .

(2) حاشية المكاسب (الايرواني) 2 : 67 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net