التنبيه الخامس : جريان المعاطاة في غير البيع 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6376


التنبيه الخامس

في جريان المعاطاة في غير البيع وعدمه . هل المعاطاة تختص بالمعاملات البيعية أو أنّها تجري في جميع العقود والايقاعات . قد يقال باختصاص المعاطاة بالبيع وعدم جريانها في غيره من العقود فضلا عن الايقاعات ، لتوهّم انحصار دليل صحّتها بالاجماع والسيرة ، وهي غير ثابتة إلاّ في البيع ، ولكن المحقّق على ما حكى عنه الشيخ (قدّس سرّه) استظهر جريانها في الاجارة من كلام بعض الأصحاب حيث ذكر أنّه إذا أمره بعمل على عوض معيّن فعمله استحق الاُجرة على عمله ، ولو كانت هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل ولم يستحق اُجرة مع علمه بالفساد ، فمنه يظهر أنّ المعاطاة تجري في الاجارة أيضاً ، وكذا لو وهب بغير عقد ، فإنّ ظاهرهم جواز الاتلاف ، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز ، هذا .

ولا يخفى أنّ ضمان الآمر لما عيّنه من العوض أو لاُجرة المثل فيما إذا لم يعيّن عوضاً إنما هو من جهة حرمة فعل المسلم ولا ربط له بالاجارة ولا بالمعاطاة على ما تقدّمت الاشارة إليه ، فلا وجه للاستشهاد بذلك الكلام على جريان المعاطاة في الاجارة أبداً ، ولازم جريان المعاطاة في الاجارة أن يكون المأمور مستحقاً للاجرة

ــ[153]ــ

قبل العمل ويكون الآمر مستحقاً للعمل منه كذلك ، وفيما ذكره من الكلام إنما يستحق المأمور الاجرة بعد العمل لا قبله .

والذي ينبغي أن يقال هو أنّه إن قلنا بتقوّم العقود مفهوماً باللفظ ، فعدم جريان المعاطاة في العقود والايقاعات على وفق القاعدة ومما لا ينبغي الاشكال فيه  ، وغاية ما هناك أنّا خرجنا عمّا تقتضيه القاعدة في خصوص البيع وبنينا على جريان المعاطاة وإفادتها الملك أو الاباحة الشرعية فيه لأجل قيام السيرة عليه .

وأمّا إذا لم نقل بذلك كما هو الصحيح وقلنا بإمكان إنشاء جميع الاُمور الانشائية من العقود والايقاعات وغيرها بغير اللفظ ، لما عرفت من أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني بمبرز ما سواء كان قولا أو فعلا فمن الواضح صدق عناوين العقود والايقاعات على الاعتبارات المبرزة بالفعل كالقول ، وعليه تصحّ المعاطاة بكلّ فعل مبرز للاعتبار النفساني لا خصوص العطاء الخارجي وتشملها الأدلّة العامّة والخاصّة ، ويكون مقتضى القاعدة فيها الصحّة واللزوم ، ولا يرفع اليد عن ذلك إلاّ بدليل شرعي من إجماع أو غيره دالّ على عدم اللزوم أو عدم الملك ، فيقتصر حينئذ في الاباحة الشرعية على القدر المتيقّن ، وقد خرجنا عن مقتضى القاعدة في موردين اعتبرنا فيهما اللفظ للدليل الخاصّ وهما النكاح والطلاق  ، واعتبار اللفظ في الثاني أظهر.

وبما بيّنا ظهر فساد توجيه عدم جريان المعاطاة في النكاح بتقوّم مفهومه باللفظ ، إذ لا فرق بينه وبين سائر العقود من هذه الجهة ، كما ظهر فساد توجيه المحقّق النائيني(1) من أنّ النكاح والسفاح متقابلان ، فإنّ الوطء قبل إيجاد علقة الزوجية يكون مصداقاً للزنا ، فكيف يتحقّق به مضادّه وهو النكاح ، إذ فيه أوّلا : أنّه أخصّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 1 : 189 .

ــ[154]ــ

من المدّعى ، لأنّه إنّما يقتضي عدم تحقّق النكاح بخصوص الوطء ولا يقتضي عدم تحقّقه بسائر الأفعال ، وقد ذكرنا أنّ المراد بالمعاطاة هو العقد المنشأ بالفعل مطلقاً ولم نعتبر فيها فعلا خاصّاً ، فيمكن إبراز النكاح بفعل آخر غير الوطء من إشارة أو كتابة أو نحوهما . وثانياً : أنّ تقابل النكاح والسفاح ليس من جهة اعتبار اللفظ في مفهوم النكاح ، وإنّما هو من جهة أنّ النكاح عبارة عن الوطء عن استحقاق شرعي باختلاف الشرائع والسفاح عبارة عن الوطء بغير استحقاق ، ومن الظاهر أنّ الوطء المبرز لاعتبار العلقة الزوجية ليس وطئاً عن غير استحقاق ، فلا يكون مصداقاً للزنا . هذا كلّه مع قطع النظر عن الأدلّة الشرعية وأمّا بحسب الأدلّة الشرعية فظاهر قوله تعالى : (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)(1) عرفاً اختصاص حلّ الوطء بما إذا تأخّر عن الزوجية إلاّ أنّ هذا حكم شرعي لا ربط له بمعقولية تحقّق النكاح بالوطء .

والحاصل أنّه من حيث القاعدة لا فرق بين النكاح وغيره من العقود ، إلاّ أنّه يستفاد اعتبار اللفظ فيه من الاجماع وتسالم الأصحاب ، ومن قوله (عليه السلام) في نكاح المتعة « فإذا قالت نعم فأنت أولى الناس بها »(2) فإنّ مقتضاه اعتبار خصوص هذا اللفظ ، وقد رفعنا اليد عن الخصوصية للقطع بعدم اعتبارها ، وأمّا أصل اللفظ فلا وجه لنفي اعتباره ، هذا كلّه في النكاح.

وقد اتّضح بما ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره المحقّق النائيني (قدّس سرّه) من عدم جريان المعاطاة في الوصية والضمان والايقاعات ، بدعوى عدم وجود فعل تنطبق عليه تلك العناوين خارجاً ، وذلك لما عرفت من أنّ صدق عنوان عقد أو إيقاع على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المؤمنون 23 : 5 .

(2) الوسائل 21 : 43 / أبواب المتعة ب18 ح1 .

ــ[155]ــ

فعل إنّما هو بكونه مبرزاً للاعتبار النفساني كالقول ، ومن الواضح إمكان إبراز الاعتبار النفساني بالفعل في موارد الاُمور المذكورة .

نعم ، العطاء الخارجي لا يمكن إبراز التمليك بعد الموت أو نقل الدَين إلى ذمّة الضامن به ، لكن الانشاء الفعلي لا ينحصر في الاعطاء كما عرفت ، فيمكن أن تنشأ الوصية أو الضمان ونحوهما بالكتابة أو الاشارة ونحوهما ممّا يمكن إبراز تلك الاُمور بها . نعم لابدّ من مناسبة عرفية بين الفعل والاعتبار النفساني المبرز به بحيث يكون الفعل مصداقاً لذلك العنوان عرفاً ، وإلاّ فالقصور يكون من ناحية المبرز . ويشهد لامكان المعاطاة في الايقاعات ما ورد في طلاق الأخرس من تحقّقه بالقاء القناع على رأس زوجته ، فإنّ الخرس لا يجعل المستحيل ممكناً ، فينكشف به إمكان المعاطاة في الايقاعات ، غاية الأمر اعتبرت في بعض الموارد دون بعض .

بقي الكلام في الهبة والوقف والرهن والقرض .

أمّا الهبة فلا إشكال في جريان المعاطاة فيها ، وأمّا دعوى شيخنا الأنصاري(1) من أنّ توقّف الملك في الهبة على الايجاب والقبول كاد أن يكون اتفاقياً  ، فتندفع بأنّ هذا ليس إجماعاً آخر وإنما هو الاجماع المدعى على أنّ كل عقد أو إيقاع متوقف على اللفظ ، ونحن أجبنا عنه بأنه ممّا لا يمكن الاعتماد عليه وأشار إليه السيد في حاشيته(2) أيضاً فراجع .

فالمتحصّل أنّ المعاطاة تجري في الهبة بلا إشكال كما عليه سيرة المسلمين .

وأمّا القرض فقد استشكل في جريان المعاطاة فيه بأنّ القبض شرط في حصول الملك به بمعنى أن العقد مقتض وما منه ينشأ الأثر والقبض شرط في فعلية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 92 .

(2) حاشية المكاسب (اليزدي) : 69 ، 81 .

ــ[156]ــ

ذلك الأثر ومتمّم لقابلية القابل أو فاعلية الفاعل ، ولا يعقل أن يتّحد المقتضي والشرط ، فكيف يعقل أن يكون القبض مع أنه شرط مقتضياً وعقداً كما هو لازم المعاطاة في القرض ، هذا .

والجواب عنه : بالنقض والحلّ . أمّا النقض فبالهبة ، لأنّ القبض شرط في حصول الملك بها أيضاً ، ولازم ما ذكر عدم صحة المعاطاة فيها ، مع أنّا لو شككنا في كلّ شيء فلا نشك في جريان السيرة على المعاطاة في الهبة . وكذا ينتقض بالصرف والسلم لاشتراطهما بالقبض مع أنّ المعاطاة تجري فيهما بلا كلام .

وأمّا الحلّ فهو ما أشرنا إليه مراراً من أنّ إطلاق الشرط على مثل القبض ودخول الزوال وغيرهما ممّا يطلق عليه الشرط في الأحكام الشرعية ليس بمعنى الشرط الفلسفي في الاُمور التكوينية الموجب لتتميم فاعلية الفاعل أو قابلية القابل بل إنّما هو بمعنى أخذ شيء قيداً في متعلقات الأحكام أو في موضوعاتها وتضيق دائرة المتعلق أو الموضوع ، فمعنى كون الطهارة شرطاً للصلاة هو أنّ الأمر إنما تعلق بالصلاة مع الطهارة ، لا أنّ لها مدخلية في الصلاة ، كما أنّ معنى كون الزوال شرطاً لوجوب الصلاة هو أنّ الوجوب إنما يتعلّق بها في ذلك الظرف ، لا أنّ له مدخلية في الحكم أبداً .

وبعد ذلك نقول : إنّ الشارع قد اعتبر في القرض أمرين: أحدهما : إبراز الاعتبار النفساني بمبرز ما في الخارج . وثانيهما : القبض، وأيّ مانع عقلي من أن يوجدهما المكلّف بفعل واحد كما إذا أقبضه بقصد إبراز اعتباره النفساني فيتحقق كلا الأمرين أعني القبض وإبراز الاعتبار النفساني ، فلا مانع من جريان المعاطاة في القرض أيضاً .

وأمّا الرهن فربما يناقش في جريان المعاطاة فيه بأنّ المعاطاة إن أفادت اللزوم في الرهن فهو مخالف للاجماع المنقول القائم على أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم

ــ[157]ــ

ومخالفته جرأة ، وإن كانت مفيدة للجواز فيأباه نفس معنى الرهن لأنّه وثيقة لدى المرتهن ليطمئن به قلبه ويمكنه استيفاء دَينه منه عند إنكار الدائن لدَينه أو صيرورته مفلّساً ، وهذا إنّما يعقل فيما إذا كان الرهن لازماً وأمّا إذا كان جائزاً فكيف يوجب الوثوق والاطمئنان لجواز رجوعه فيه وإن لم يرجع فيه فرضاً، فلأجل ذلك يلتزم بعدم جريان المعاطاة في الرهن ، هذا .

ولا يخفى عليك أوّلا : أنّ مثل ذلك الإجماع المنقول لا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ظنّاً فضلا عن القطع ، ومثله لا مانع من مخالفته كما ارتكبناه نحن والتزمنا بأن المعاطاة تفيد اللزوم .

وثانياً : سلّمنا اعتبار الإجماع إلاّ أنّه لمّا كان من الأدلة اللبّية كان اللازم أن يؤخذ بالمقدار المتيقن منه ، وهو العقود التي يتصوّر فيها الجواز ولا يكون منافياً لحقيقتها .

وثالثاً : أنّ كلمات المجمعين التي نقلها الشيخ(1) في المقام ليس مضمونها اشتراط اللفظ في لزوم العقد ، وإنّما مضمونها أنّ العقد لو خلا من اللفظ أفاد الاباحة كما في كلام الأكثر أو الملك الجائز كما في كلام المحقّق الثاني(2)، ومن الواضح أنّ مورد هذا الكلام هو العقد الذي يتّصف بالجواز واللزوم ، ولا يعمّ ما يدور أمره بين اللزوم والفساد كالرهن ، فمقتضى إطلاق الأدلّة العامّة والخاصّة صحّة الرهن سواء اُنشئ بالقول أو الفعل .

وأمّا الوقف فقد ادّعي عدم جريان المعاطاة فيه لأنها لو قلنا بافادتها اللزوم فهو على خلاف الاجماع المنقول ، وإن قلنا بأنها تفيد الجواز فهو على خلاف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 26 .

(2) جامع المقاصد 4 : 58 .

ــ[158]ــ

المتعارف المعهود لأنّا لم نعهد الجواز في الوقف كما ادّعاه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1).

ويدفعه : أنّه إن ثبت من الخارج اعتبار اللزوم في الوقف إمّا لكونه عبادياً وما كان لله تعالى لا يرجع ، وإمّا لجهة اُخرى فيلحقه حكم الرهن ويجري فيه ما ذكرناه هناك ، إذ لا فرق حينئذ بينهما إلاّ من حيث كون اللزوم في الرهن لازماً له حقيقة وفي الوقف بحكم الشارع .

وأمّا إذا لم يثبت اعتبار اللزوم في الوقف فيكون حاله حال البيع . فعلى كلا التقديرين تجري فيه المعاطاة .

ويؤكّد جريانها فيه السيرة القطعية المستمرّة على عدم ذكر الصيغة في كثير من الأوقاف ، مثل الفرش والحصر للمساجد والمشاهد ، ولم يعهد رجوع الواقفين أو وارثهم في شيء منها .

ومما ينبغي أن يذكر في المقام ممّا يناقش في جريان المعاطاة فيه العتق ، فان المناقشة المذكورة في الرهن يجري في العتق أيضاً حرفاً بحرف ، لأنها إن أفادت اللزوم فهو مخالف للاجماع المنقول ، وإن أفادت الجواز فهو مخالف للعتق ، فانّ الجواز غير معهود فيه ولا يرجع الحرّ عبداً ، فأمره يدور بين اللزوم والبطلان .

والجواب عنها هو الجواب المذكور في الوقف ، فإنّه إمّا ملحق بالرهن أو بالبيع .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 94 .
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net