ولاية عدول المؤمنين 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثاني : البيع-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6023


الكلام في ولاية عدول المؤمنين

إذا قلنا بولاية الفقيه في بعض الموارد وتعذّر الوصول إليه لعدم التمكّن من السؤال أو لبعد المكان وغيرهما من الأعذار فهل يجوز لعدول المؤمنين التصرف في ذلك المورد لثبوت الولاية لهم حينئذ أو لا ؟ فيه خلاف .

وتوضيح الكلام في المقام : أنّ الموارد التي كان مقتضى الأصل فيها جواز التصرف وعدم الاشتراط بإذن الفقيه كصلاة الميّت مثلا ففي مثل ذلك إذا تعذّر الوصول إلى الفقيه فجواز التصرّف فيه للمؤمنين موافق لما يقتضيه الأصل العملي .

وأمّا في الموارد التي كان مقتضى الأصل فيها حرمة التصرّف وعدم جوازه وإنّما حكمنا بجواز التصرّفات للفقيه من باب الأخذ بالمقدار المتيقّن ، فإذا تعذّر الوصول إلى الفقيه في مثل ذلك فلا يجوز التصرّف لأحد أبداً ، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز التصرّف فيه ونشكّ في مشروعية أصل العمل إذا لم يكن باجازة الفقيه وكونه معروفاً والمعروف صدقه لا ينافي ما ذكرناه ، لأنّ كونه معروفاً بدون إجازة الفقيه أوّل الكلام اللهمّ إلاّ أن نعلم خارجاً محبوبية العمل لله تعالى وأمره به ولو في حال التعذّر من الوصول إلى الفقيه ، فإنّ التصرّف حينئذ يجوز للمؤمنين للعلم بمشروعيته حسب الفرض ، إلاّ أنّ لازم ذلك عدم احتمال اشتراط العمل بإذن الفقيه  ، إذ العلم بمحبوبية العمل حال التعذّر من الوصول إلى الفقيه لا يجتمع مع احتمال الاشتراط بإذن الفقيه . وبالجملة أنّ نسبة عدول المؤمنين إلى الفقيه كنسبة الفقيه إلى الإمام فيأتي فيه ما كان يأتي في الفقيه بالاضافة إلى الإمام (عليه السلام) .

ــ[177]ــ

ومن ذلك القبيل سهم الإمام (عليه السلام) عند عدم التمكّن من الوصول إلى الفقيه لأنّا نعلم حينئذ محبوبية صرفه في حوائج المحتاجين فيجوز لنا أن نتصرف فيه حسبةً .

ثمّ إنّ المؤمن المتصرف في الأموال عند تعذّر الوصول إلى الفقيه هل يشترط أن يكون عادلا ثقة أو لا يشترط فيه العدالة بوجه وتجوز تصرفات الفاسق أيضاً كالعادل عند عدم التمكّن من الفقيه ؟

وليعلم أنّ نسبة الفاسق إلى العادل كنسبة العادل إلى الفقيه فيما يقتضيه الأصل العملي ، ففي التصرفات التي مقتضى الأصل فيها عدم الجواز لا ينبغي الإشكال في أنّ المقدار المتيقّن هو صحّة تصرفات العادل دون غيره ، نعم فيما إذا تعذّر الوصول إلى العادل فلا محالة تصل النوبة إلى الفاسق فيتصرّف في الأموال وغيرها من التصرفات ، هذا كلّه بحسب الأصل العملي .

وأمّا بحسب ما ورد في المقام من الأخبار والروايات فلابدّ من أن يلاحظ أنّها هل تقتضي اعتبار الوثاقة فقط أو تقتضي اعتبار العدالة .

فمنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل « رجل مات من أصحابنا بغير وصية فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصيّر عبدالحميد القيّم بماله ، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري ، فباع عبدالحميد المتاع ، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيته وكان قيامه فيها بأمر القاضي (وضعف قلبه) لأنّهنّ فروج ، فما ترى في ذلك ؟ قال فقال : إذا كان القيّم مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس »(1) فوقع الكلام في أنّ المراد بالمماثلة في الرواية ماذا ، احتمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 363 / أبواب عقد البيع وشروطه ب16 ح2 (مع اختلاف يسير) .

ــ[178]ــ

شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) في الرواية أربعة احتمالات :

أحدها : المماثلة في التشيّع . وثانيها : المماثلة في الوثاقة . وثالثها : المماثلة في الفقاهة . ورابعها : المماثلة في العدالة ، وذكر أنّ الاحتمال الثالث مناف لاطلاق المفهوم الدالّ على ثبوت البأس مع عدم الفقيه ولو مع تعذّره ، مع العلم بأنّ القيمومة ثابتة لعدول المؤمنين عند تعذّر الوصول إلى الفقيه ، فبهذا العلم الوجداني نسقط الاحتمال الثالث عن الاعتبار ، إذن يدور الأمر بين الاحتمالات الثلاثة الباقية ، ولابدّ فيها من أن يؤخذ بما هو الأخص منها في مخالفة الأصل وهو العدل .

ويتوجّه عليه أوّلا : أنّ العلم الخارجي بعدم إرادة الاطلاق من الكلام لا يرخّص رفع اليد عن ظهور اللفظ في الاطلاق ، بل لابدّ من التحفّظ على الظهور وتقييد الاطلاق بالعلم الوجداني بالتقييد ، وأمّا رفع اليد عن أصل الظهور وحمل اللفظ على خلاف الظاهر فهو ممّا لا مجوّز له على ما فصلنا الكلام فيه عند التكلّم في مبحث العام والخاص وقلنا إنّ أصالة الظهور إنّما تجري في تعيين المراد لا ـ بعد العلم بالمراد ـ في أنه كيف يراد .

وثانياً : أنّ هذه المناقشة تجري في الاحتمال الرابع أيضاً للعلم بأنّ القيمومة ثابتة للفاسق عند تعذّر الوصول إلى العادل مع أنّ مفهوم الصحيحة ثبوت البأس عند عدم العدالة على نحو الاطلاق ، فالعلم الوجداني على الخلاف موجود في هذا الاحتمال أيضاً ، هذا .

والصحيح أن يقال : بأنّ الاحتمال الأول أيضاً ساقط عن الاعتبار أعني المماثلة في التشيّع ، لأنّ الظاهر من الرواية أنّ السؤال إنّما هو عن الميّت من الشيعة والعادة جارية على نصب واحد ممّن يوافق الميت في المذهب من أقران الميّت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 565 .

ــ[179]ــ

وأصحابه قيّماً على أمواله وأطفاله ، فإنّ من البعيد غير المتعارف أن ينصب سنّي قيّماً على أولاد الشيعي المتوفّى ، إذن فالمماثلة في الطريقة والتشيّع كانت مفروغاً عنها في الرواية ، ومعه لابدّ في الخروج عن أصالة عدم جواز التصرف في أموال الغير من أن نعتبر جميع المحتملات الباقية في المماثلة كالوثاقة والعدالة والفقاهة وغيرها ممّا نحتمل في معنى المماثلة اقتصاراً على القدر المتيقّن في الخروج عن مقتضى الأصل حتّى مثل المكان والبلد والعمر فيما إذا احتملنا دخل هذه الاُمور ، والوجه في ذلك أنّ الظاهر من الرواية هو التمكّن من استئذان الإمام (عليه السلام) في التصرفات وكان العصر عصر الحضور ، كما أنّ المبيع كان متاعاً لا يخشى عليه من الضياع والتلف على تقدير تأخير بيعه إلى زمان تحصيل الاذن من الإمام (عليه السلام) .

ومن الظاهر أنه مع التمكّن من الإمام (عليه السلام) وحضوره ليس لغيره الولاية في أمثال مورد السؤال ، ومعه إذا جعل الولاية لواحد كما في قوله (عليه السلام) « إذا كان مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس » فهو حكم على خلاف القاعدة يقتصر فيه على المقدار المتيقّن كما ذكرناه ، فإنه (عليه السلام) قد جعل بذلك الولاية لغيره مع التمكّن من الوصول إليه على طبق القضية الحقيقية ولو لأجل التساهل والارفاق ، فلا مناص من الاكتفاء في الخروج عمّا تقتضيه القاعدة على القدر المتيقّن  .

ومنها : صحيحة علي بن رئاب « رجل مات وبيني وبينه قرابة وترك أولاداً صغاراً ، أو مماليك وجواري ولم يوص فما ترى في من يشتري منهم الجارية ويتّخذها أُمّ ولد وما ترى في بيعهم ؟ قال : إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجوراً فيهم ، قلت : فما ترى في من يشتري منهم الجارية ويتّخذها أُم ولد ؟ فقال : لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم ، وليس

ــ[180]ــ

لهم أن يرجعوا فيما فعله القيّم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم »(1) وهذه الرواية تدلّ على كفاية الوثاقة والأمانة ، وملاحظة غبطة اليتيم في صحة الولاية والتصرف في أموال الصغير وأنه لا يحتاج إلى العدالة بوجه وعليها حمل شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) الرواية المتقدّمة وبها فسّر المماثلة المذكورة فيها .

ولا يخفى أنّ الرواية ليست بصدد بيان الأوصاف المعتبرة في القيّم وغير ناظرة إليها ، وإنّما هي في مقام بيان جواز الشراء فيما إذا باع عليهم القيّم الناظر إلى أفعالهم ، أمّا أنّ أيّ وصف يعتبر في القيّم فهي غير ناظرة إليه فلا يمكن الأخذ باطلاقها . على أنّ هذه الرواية مطلقة من حيث عدم اعتبار تعذّر الوصول إلى الإمام فضلا عن الفقيه ، بل حكم بجواز تولية آحاد المسلمين على نحو الاطلاق سواء كان ذلك في زمان الإمام وأمكن الوصول إلى محضره أم كان في زمان آخر تمكّن من الوصول إلى الفقيه أم لم يتمكّن ، وعليه فتكون هذه الرواية أجنبية عمّا نحن بصدده ، إذ الكلام في ولاية المؤمنين أو غيرهم في غير زمان التمكّن من الإمام أو الفقيه ، وأمّا جعل الولاية على نحو الاطلاق فيمكن أن يشترط فيها شيء آخر أو يحذف عنها بعض الشروط ، وكيف كان فالمقام غير ما دلّت عليه الرواية كما هو ظاهر .

ومنها : موثّقة زرعة عن سماعة « في رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية ، وله خدم ومماليك كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك ؟ قال : إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس »(2).

وهذه الرواية غير منافية لاشتراط العدالة في القيّم بوجه ، وذلك لأنّ الثقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 361 / أبواب عقد البيع وشروطه ب15 ح1 (مع اختلاف يسير) .

(2) الوسائل 19 : 422 / كتاب الوصايا ب88 ح2 .

 
 

ــ[181]ــ

أخص من العدالة ومعناها من يؤمن به في جميع أفعاله وأخلاقه ودينه ، ومنه ثقة الإسلام لقب الكليني (قدّس سرّه) وأمّا إطلاق الثقة في اصطلاح الرجاليين على من لا يكذب في الحديث فقط وإن كان فاسقاً في حدّ نفسه أو كان كافراً مثلا فهو اصطلاح خاص للرجاليين وإنّما اصطلحوا بذلك لأنه مشغلتهم حيث إنّ شغلهم التفتيش عن صدق الرواة وكذبهم في الخبر ، وأمّا الثقة على نحو الاطلاق كما وقع في الحديث فهي عبارة عمّن يؤمن به في جميع الاُمور على نحو الاطلاق وهو أرقى من العدالة وأخصّ منها كما لا يخفى .

وهذه الرواية أيضاً مطلقة من حيث التمكّن من الوصول إلى الإمام أو الفقيه وعدمه كما في الرواية المتقدّمة .

ومنها : صحيحة إسماعيل بن سعد قال « سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل يموت بغير وصية وله ولد صغار وكبار أيحلّ شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك ، فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا ؟ قال (عليه السلام) إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك »(1) وهذه الرواية أيضاً تدلّ على اشتراط العدالة في القيّم .

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ بيع مال اليتيم يجوز لكل عدل من المسلمين أن يتولاّه مع ملاحظة غبطة الصغير وإن لم يكن بإذن الإمام أو الفقيه ، إلاّ أنّ ذلك أمر يختص بهذا المورد ، وأمّا في غير البيع من التصرفات المالية أو التصرفات في نفس اليتيم فلابدّ من الاستجازة من الفقيه إن كان ، وإلاّ فعلى الترتيب المتقدّم سابقاً  ، وأمّا بدون الاجازة فلابدّ من المراجعة إلى ما يقتضيه الأصل العملي وهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 362 / أبواب عقد البيع وشروطه ب16 ح1 .

ــ[182]ــ

يقتضي حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه .

بقي الكلام فيما أفاده شيخنا الأنصاري(1) في المقام من أنّ الحاكم إذا تصرف في مال أحد ببيعه أو في عِرضه بتزويجه ونحوهما فلا يجوز للحاكم الآخر أن يتصرف فيه بفسخه أو بشيء آخر ينافي تصرّف الأول ، وذلك لأنه مزاحمة لما صدر من الحاكم الأول ومزاحمته مزاحمة الإمام (عليه السلام) ، إذ المفروض أنه نائب عنه وفعله فعله ووضع يده على المال كوضع الإمام (عليه السلام) يده عليه ومزاحمة الإمام غير جائزة ، بل الصحيح هو تصرّف الحاكم الأول ومعه لا يبقى لتصرف الثاني فيه مجال ، لأنّ أدلّة النيابة عن الإمام لا تشمل ما كان فيه مزاحمة الإمام ، بل ولولا ذلك للزم اختلال النظام في مثل هذه الأيام التي شاع فيها القيام بوظائف الحكّام ممّن يدّعون الحكومة فأحدهم يتصرف في مال والآخر يفسخه ، هذا .

ولا يخفى أنه بناء على نيابة الفقيه عن الإمام (عليه السلام) لا معنى لمزاحمة الحاكم الثاني للحاكم الأول في تصرفاته ، وذلك لأنّ الحكّام حينئذ أيدي الإمام وأفعالهم كأفعاله ، فإذا تصرف فيه أحدهم بالبيع فقد تصرف فيه الإمام بالبيع فإذا فسخه الحاكم الثاني لما يراه من المصلحة في فسخه فقد فسخه الإمام ، ففعلهما كفعلي شخص واحد ، فلا يكون أحد فعليه مزاحماً لفعله الآخر بوجه ، فعلى القول بنيابة الفقيه فلا محيص من الالتزام بصحّة فعل كل واحد منهما ولا يكون أحدهما مزاحماً لفعل الإمام أبداً .

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ النيابة لم تثبت للفقيه ومقتضى الأصل الأولى عدم نفوذ تصرف أحد في مال الآخر أو عرضه ، وقد خرجنا عن مقتضى ذلك في الحاكم الأول من باب الأخذ بالمقدار المتيقّن ، وأمّا تصرف الحاكم الثاني فلا يشمله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 571 ـ 572 .

ــ[183]ــ

الدليل لما عرفته من الأصل فيكون لغواً ، وإنّما حكمنا بصحة تصرف الأول وخرجنا فيه عمّا يقتضيه الأصل الأوّلي من أجل الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا دلّ على نيابة الفقيه ، فلا يبقى لتصرفات الحاكم الثاني دليل فلا محالة يقع لغواً .

وأمّا ما ادّعاه (قدّس سرّه) من استلزام المنع عن ذلك اختلال النظام ، فيندفع بأنّ ذلك إنّما يلزم من كثرة دعوى المدّعين الكاذبين لا من أجل صحة تصرف الفقيه الثاني ، وكذب المدّعي واستلزامه الاختلال لا يمنع عن جعل النيابة لكل واحد من الفقيهين الجامعين للشرائط ، كما لا يلزم الاختلال من ثبوت الولاية للأب والجدّ في عرض واحد ، فلولا ما ذكرناه من عدم نيابة الفقيه للزم الالتزام بصحة فعل كل واحد من الحاكمين لا محالة ، إلاّ أنّك عرفت أنّ الأصل يقتضي عدم نفوذ تصرف أحد في حقّ الغير والفرق بين ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وبين ما ذكرناه أنه على ما أفاده (قدّس سرّه) لا يشمل الدليل ما كان فيه مزاحمة الإمام (عليه السلام) وأمّا بناء على ما ذكرناه فلا دليل على النيابة أصلا فالنتيجة واحدة ، هذا كلّه في الحكّام .

وأمّا في عدول المؤمنين فقد أفاد (قدّس سرّه) أنه لا مانع من تصرف العادل الثاني أيضاً بعد تصرف الأول من أجل أنّ ولاية العادل مجرد تكليف وجوبي أو استحبابي وليست على وجه النيابة من الإمام حتّى يقال إنّ فعل الثاني منهما مزاحمة للإمام (عليه السلام) بل كلاهما أمران واجبان أو مستحبّان ، هذا .

ولكنّا لم نفهم ماذا يريد (قدّس سرّه) من هذا الكلام وأنّ الولاية بمعنى التكليف المجرّد ما معناها في المقام ، إذ لا معنى للولاية إلاّ كون تصرف العادل نافذاً وليست الولاية إلاّ ذلك ، نعم هذه الولاية لم تثبت للعادل من قبل الفقيه .

وكيف كان فالظاهر أنّه لا فرق بين العدول والحكّام في ذلك وأنّ تصرف الثاني منهما ممّا لا دليل عليه وإنّما ينفذ تصرف الأول منهما من أجل الأخذ بالمقدار

ــ[184]ــ

المتيقّن ، نعم في الموارد التي مقتضى الأصل فيها الجواز كما في صلاة الميّت لا مانع من صحة فعل الثاني منهما أي من العادل والحاكم ، لأنّ الأصل يقتضي الجواز فإذا أجاز الحاكم إقامة الصلاة على الميت الذي لا ولي له لأحد فسبقه شخص آخر في إقامتها عليه فلا مانع من الالتزام بصحتها ، لأنّ مقتضى الأصل فيها هو الصحة ، فالتفصيل إنّما هو بين الموارد التي مقتضى الأصل فيها الجواز وبين ما يقتضي الأصل فيه عدم الجواز من دون فرق بين العادل والحاكم ، فلو ادّعى (قدّس سرّه) لزوم الاختلال من تصرّف العادل الثاني لكان أولى من ادّعائه في الحاكم لكثرة عدول المؤمنين واقعاً .

بقي في المقام شيء غفلنا عنه في البحث المتقدّم : وهو أنّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) ذكر اُموراً بعد اشتراط العدالة في عدول المؤمنين حسب الأخبار الواردة في اشتراط ولايتهم بالعدالة ، ومن جملة هذه الاُمور : أنّ العدالة إنّما هي شرط صحة الشراء من الولي الذي هو المؤمنون وليست شرطاً في صحة مباشرة الولي لاُمور المولّى عليه في حد نفسه ، فللفاسق أن يتصرف في أموال الصغير إذا كان ذلك على وفق المصلحة ، إلاّ أنّ الغير إذا أراد أن يشتري منه شيئاً من أموال الصغير فصحة ذلك الشراء مشروطة بعدالة البائع الولي ، فهي شرط في صحة أفعال الغير دون نفس مباشرة الولي .

وقد استدلّ على ذلك تارةً : بأنّ تصرفات الولي في أموال الصغير معروف وكل معروف إحسان أو صدقة ، فهي لا تتوقّف على عدالة ذلك الشخص ، وكذا تصرفاته في اُمور الطفل عون له وعون الضعيف صدقة .

واُخرى : بقوله تعالى : (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 569 .

(2) الأنعام 6 : 152 .

ــ[185]ــ

بتقريب أنه عام للعدول والفسّاق وقد اشترط في تقرّبهم إلى مال اليتيم أن يكون ذلك بما هو مصلحة في حقّه وأحسن بالاضافة إليه ، فعليه لا تشترط العدالة في مباشرة الولي في اُمور اليتيم بل إنّما هي شرط في صحة شراء الغير منه بمقتضى قوله «  وقام عدل في ذلك » في صحيحة إسماعيل بن سعد(1) وأمّا صحيحة محمّد بن إسماعيل السابقة(2) المشتملة لقوله « إذا كان مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس » فقد عرفت أنّها محمولة على صحيحة علي بن رئاب(3) الدالّة على اعتبار الوثاقة عند الشراء ، هذا .

ولا يخفى أنّ ما استدلّ به على عدم اشتراط العدالة في المباشرة مورد للمناقشة الواضحة ، أمّا قوله (عليه السلام) « كل معروف صدقة »(4) أو عون الضعيف صدقة(5) فلأنّه إنّما تكفّل لبيان الحكم على وجه الكبروية ولا نظر له إلى بيان مصاديقها وصغرياتها ، ولا دلالة فيه على أنّ المورد معروف ، وعليه فمن أين يستفاد أن تصرف الفاسق في أموال اليتيم معروف ولعلّه أمر غير معروف لأنّ الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه .

وأمّا كونه على وفق مصلحته فهو لا يجعله معروفاً ، وذلك لعدم جواز بيع دار الغير كالجار فيما إذا رأينا مصلحة في بيعها بدعوى أنه مصلحة فهو معروف وكل معروف صدقة ، وذلك لحرمته وعدم صحته .

وأمّا الآية المباركة فقد عرفت أنّها تدلّ على عدم جواز أكل مال اليتيم إلاّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في الصفحة181 .

(2) تقدّمت في الصفحة177 .

(3) تقدّمت في الصفحة179 .

(4) الوسائل 16 : 285 / أبواب فعل المعروف ب1 ح2 .

(5) الوسائل 15 : 141 / أبواب جهاد العدو ب59 ح2 (مع اختلاف يسير) .

ــ[186]ــ

بطريق هي أحسن ، وهذا كسابقه أمر كبروي ولا دلالة فيه على أنّ بيع الفاسق وتصرّفاته في مال اليتيم طريقة أحسن ، مع أنّ الأصل عدم جواز تصرّف أحد في مال الغير .

فالمتحصّل : أنّ العدالة شرط في صحة مباشرة الولي لا في خصوص الشراء أو غيره من أفعال الغير ، كما أنه لابدّ من إحراز العدالة في صحة الشراء منه ولا يمكن الاكتفاء في ذلك بحمل فعل المسلم على الصحة مطلقاً ، فلا وجه لما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أنّ التمسّك بأصالة الصحة إنّما لا يصحّ فيما إذا أردنا شراء شيء من أموال اليتيم من الولي الفاسق ، وأمّا إذا باعه الفاسق من شخص آخر وأخذ الثمن منه فأردنا الشراء من ذلك الشخص الآخر فلا مانع من التمسّك بأصالة الصحة في المعاملة الواقعة بين الفاسق وذلك الشخص ومقتضاها جواز الشراء من الثاني ، وذلك لأجل الشك في أنّ مال اليتيم هل هو ذاك المال الموجود في يد البائع أو أنه عبارة عن الثمن الموجود في يد الولي الفاسق ، إذ المعاملة السابقة إن كانت صحيحة فماله هو الثمن ، وإن كانت باطلة فماله هو العين الموجودة في يد البائع ، فلا مانع من التمسّك بأصالة الصحة في جواز الشراء من الثاني .

والوجه في عدم صحة التمسّك بذلك : هو أنّا إذا اشترطنا في صحة الشراء عدالة الولي لما أشرنا إليه من الوجوه فمع عدم إحراز شرط الصحة والعلم بأنّ الولي فاسق يحكم بالبطلان لا محالة ، سواء كان ذلك في الشراء من الولي أو كان في الشراء ممّن اشترى منه ، فلابدّ من إحراز العدالة في صحّة المعاملة .

نعم لا مانع من التمسّك بأصالة الصحة فيما إذا وقع عقد على مال اليتيم وشككنا في صحته وفساده من أجل الشك في فسق الولي ، أو من جهة احتمال أنه استأذن من العادل مع إحراز فسقه بنفسه ، فلا مانع من التمسّك بأصالة الصحة والحكم بصحة ذلك العقد .

ــ[187]ــ

وأمّا إذا شككنا في صحة المعاملة قبل وقوع العقد على المال من أجل الشك في عدالة الولي أو فسقه فلا يصح التمسّك بأصالة الصحة في الحكم بجواز الشراء منه وذلك لأنّ حمل فعل البائع على الصحيح لا يقتضي الحكم بحصول شرط صحة شراء المشتري ، بل غاية ما يترتّب على أصالة الصحة في فعله هو الحكم بعدم صيرورة البائع فاسقاً بهذا التصرف ، وعليه فلابدّ من إحراز أنّ البائع عادل في صحة الشراء  ، هذا كلّه في التصرف في أموال اليتيم ونحوه ممّا اشترط فيه العدالة .

وأمّا التصدّي لغيره من الاُمور ممّا لم يشترط فيها العدالة كإقامة الصلاة على الميت فلا إشكال في صحة الاكتفاء بفعل الفاسق لأنه يسقط الوجوب عن غيره لعدم اشتراط العدالة في صحة صلاة الميت ، نعم لو أخبر الفاسق بأنّي صلّيت على الميت أو صلّى عليه آخر فلا يمكن الاكتفاء بخبره ولا يسقط وجوبها عنه بذلك ، بل الأمر كذلك فيما لو أخبر بذلك العدل الواحد أيضاً فيما إذا قلنا بعدم شمول أدلّة حجّية خبر الواحد للموضوعات واختصاصها بالأحكام .

ثم إنه ظهر ممّا ذكرناه في المقام الفرق بين الشك في العدالة والشكّ في المصلحة في فعل الولي ، وذلك لأنّ أحدهما لا يقاس بالآخر بوجه ، لأنّ الشكّ في العدالة يرجع إلى الشك في أنه ولي أو ليس بولي ، وأمّا الشكّ في المصلحة في فعل الولي فهو إنّما يكون شكّاً في مجوّز فعل الولي بعد الفراغ عن أنه ولي ، ولا إشكال في أنّ ما فعله الولي ممضى عند الشارع ويلزم الأخذ به ولو مع الشك في مصلحته ، وهذا بخلاف المقام لأنه شكّ في أصل الولاية فلا يمكن الأخذ بفعله ، فلا يرد ما أورده بعضهم على شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أنّ الشك في العدالة كالشكّ في المصلحة في فعل الولي وأنه لابدّ من الأخذ به .

ثمّ إنه يقع الكلام في أنّ تصرف الحاكم أو عدول المؤمنين أو فسّاقهم بناء على عدم اشتراط العدالة هل يشترط بوجود المصلحة في ذلك التصرف أو أنّ اللازم أن

ــ[188]ــ

لا يكون مع المفسدة وأمّا المصلحة فلا تعتبر فيه ، أو أنّ المعتبر في نفوذ تصرفات الولي هو أن يكون التصرف أصلح ومجرد المصلحة لا يكفي في صحة التصرفات ؟ هناك وجوه وأقوال وقد اختار الثالث شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) وذكر أنّ بيع مال اليتيم بعشرة دراهم غير نافذ فيما إذا أمكن بيعه بأزيد منها وإن كان بيعه بعشرة دراهم أيضاً مصلحة في حقّه بل لو فعل ذلك في أموال نفسه عدّ سفيهاً .

ثم إنه استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(2) وبما أنّ الآية لم تُنقّح في آيات الأحكام تصدّى شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) لبيان معنى الآية وذكر أنّ القرب يحتمل وجوهاً .

الأول : مطلق التصرفات في المال ولو بنقله من مكان إلى مكان .

الثاني : مجرد وضع اليد على المال في الابتداء وأمّا التصرفات الواقعة عليه بعده من البيع والاجارة فهي خارجة عن القرب وإنّما هو عبارة عن وضع اليد عليه حدوثاً .

الثالث : ما يعدّ تصرفاً عرفاً فلا يشمل جميع التصرفات .

الرابع : مطلق التصرفات الأعم من الفعل والترك ، والجامع أن يكون أمراً اختيارياً متعلّقاً بمال اليتيم .

ثم إنّ لفظة (أَحْسَنُ) المذكورة في الآية المباركة تحتمل اُموراً : الأول أن يراد بها التفضيل كما هو ظاهرها . والثاني : أن يراد بها الحسن كما اُطلق في قوله تعالى : (وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ)(3) واُريد بها خلاف ظاهرها  .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 573 ـ 579 .

(2) الأنعام 6 : 152 .

(3) الأنفال 8 : 75 .

ــ[189]ــ

ثم إنّ الأحسن يحتمل أن يراد به الأحسن على نحو الاطلاق فإذا كان هناك فعلان كبيعه من زيد وبيعه من عمرو وترك واحد كترك بيعه مثلا فلابدّ من اختيار الفعل الذي هو أحسن من تركه ومن الفعل الآخر ، كما يحتمل أن يراد به الأحسن في الجملة وهو الذي يكون أحسن من تركه فقط . وكذا الحسن يحتمل أن يراد به ما لا مفسدة فيه كما يحتمل أن يراد به ما فيه المصلحة ، ثم استظهر من احتمالات القرب الاحتمال الثالث من بينها ، ومن احتمالات الأحسن الاحتمال الثاني وهو كونه بمعنى التفضيل المطلق ، ثم ذكر فرعاً وهو أنه إذا فرضنا أنّ المصلحة قد اقتضت بيع مال اليتيم فبعناه بعشرة دراهم ثم فرضنا أنه لا يتفاوت لليتيم إبقاء الدراهم على حالها أو جعلها ديناراً فلا يجوز للولي أن يجعل الدراهم ديناراً ، لأنّ هذا التصرف ليس أصلح من تركه وإن كان الولي في أوّل الأمر مخيّراً بين بيع مال اليتيم بالدراهم وبين بيعه بالدينار ، لأنّ المفروض عدم التفاوت بين الدراهم والدينار بعد فرض أنّ المصلحة تعلّقت بتبديل مال اليتيم بالنقد ، هذا كلّه بناء على الوجه المختار عنده (قدّس سرّه).

وأمّا إذا جعلنا الحسن بمعنى ما لا مفسدة فيه فيجوز تبديل الدراهم بالدينار لأنه تصرف من غير مفسدة ، وكذا لو جعلنا القرب بالمعنى الرابع وذلك لأنّ الولي مكلّف بأن يكون ترك تصرفاته في الدراهم على وجه الأحسن وبما أنّ المفروض أنّ الأحسن هو جعل مال اليتيم نقداً فلا محالة يكون مخيّراً بين إبقاء الدراهم على حالها وبين جعلها ديناراً ، فالقدر المشترك بين الابقاء والتبديل أحسن ، فليس له ترك كل واحد منهما فهو مخيّر بينهما لا محالة ، هذا ملخّص ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام .

ولكنّك خبير بأنّ الاحتمالات الأربعة في معنى القرب كلّها غير محتمل الارادة من الآية .

أمّا الاحتمال الرابع ، فلأنّ شمول القرب للترك من غرائب الكلمات وكيف

ــ[190]ــ

يطلق على من ترك التصرف في مال اليتيم أنه تقرّب من ماله ، بل وعليه يجب الزام الناس بالتصرف في مال اليتيم لأنّ تركه تقرّب من ماله وهو حرام إلاّ إذا كان على الوجه الأحسن .

وأمّا الاحتمال الثالث ، فلأنّ مجرد البيع أو الاجارة المتعلّقين بمال اليتيم لا يعدّ تقرّباً إلى أمواله ما دام لم يستول البائع على ماله ولم يتسلّط عليه خارجاً بنقله وتحويله ، فمجرد التصرف الاعتباري لا يكون مصداقاً للقر ب كما هو ظاهر .

وأمّا الاحتمال الثاني : فلأنّ مجرد وضع اليد على المال لا يكون تقرّباً إلاّ على نحو الاستيلاء خارجاً وهو لا يختصّ بالحدوث بل كما يكون تقرّباً عند الحدوث كذلك يصدق عليه التقرّب بالبقاء .

وأمّا الاحتمال الأول : فلأنّ مطلق التقلّب في مال اليتيم لا يصدق عليه القرب عند العرف ما لم يستول عليه في الخارج ، فالظاهر أنّ القرب بمعنى التسلّط والاستيلاء على مال اليتيم في الخارج .

ثم إنّ النهي في قوله تعالى (لاَ تَقْرَبُوا) نهي تكليفي محض ولا دلالة فيه على الفساد والبطلان ، لأنّ النهي قد تعلّق بالفعل الخارجي وهو الاستيلاء ولم يتعلّق بعنوان المعاملة ، فلا محالة يكون تكليفياً لا إرشاداً إلى الفساد ، وعليه فالآية أجنبية عن المعاملات الواقعة على مال اليتيم ولا تعرّض فيها لحكمها وأنّها صحيحة أو فاسدة أبداً ، وعليه فلا يهمّنا تحقيق معنى الأحسن وأنه بأي معنى اُريد في الآية .

والتحقيق أنّ مطلق التصرفات الواقعة على مال اليتيم من البيع والاجارة ونحوهما غير نافذة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون التصرف مصلحة في حقّه أو أصلح ، صدر من الحاكم أو عدول المؤمنين ، وذلك لما عرفت من أنه لم تثبت ولاية أحد على مال اليتيم إلاّ في الموارد المنصوصة كما في تقسيم ماله بعد موت المورّث

ــ[191]ــ

بمقتضى قوله (عليه السلام) « قام عدل في ذلك »(1) الحديث ، نعم لا مانع من تصرّفهم في ماله حسبة كما إذا رأينا أنّ ماله يفوت ونعلم أنّ الشارع لا يرضى بفوته فلا مانع حينئذ من تبديل ماله بالنقد أو بشيء آخر على التفصيل المذكور في محلّه .

وأمّا معنى قوله تعالى (إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ) فمرجع الضمير لم يظهر لنا حقيقة ولكن بعضهم فسّره بالنيّة بمعنى أنّ التقرّب من مال اليتيم غير جائز إلاّ بنيّة هي أحسن من غيرها ، وفسّره بعض آخر بالكيفية بمعنى حرمة التقرّب إلى مال اليتيم إلاّ بكيفية هي أحسن من غيرها ، وقد فسّرناه نحن بالطريقة وإن لم نره في كلمات المفسّرين ، فيصير معنى الآية حينئذ لا تقربوا مال اليتيم إلاّ بطريقة هي أحسن وهي الطريقة الإسلامية لأنّها أحسن من غيرها ، والباء حينئذ للسببية ومعناه أنّ التقرّب المرخّص في الشريعة المقدّسة هو الجائز دون غيره ، فما رخّصته الطريقة الإسلامية فلابدّ من الأخذ به دون غيره .

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه إلى الآن : أنّ مقتضى الأصل عدم جواز تصرف أحد من الحاكم وعدول المؤمنين وغيرهم في أموال اليتيم ببيعها وشرائها وإجارتها ، ولم تثبت ولايتهم عليه كما مرّ فلا ينفذ شيء من تصرفاتهم  ، وقد خرجنا عن مقتضى الأصل في بعض الموارد بالقطع برضا الشارع في التصرف في أموال اليتيم ، وذلك كما إذا رأينا أنّ داره تنهدم لو لم تبع ولا يصل إلى اليتيم شيء من منافعها على تقدير إنهدامها ، فلا محالة نحرز بذلك أنّ الشارع راض ببيع ماله أو إجارته وهكذا ، إلاّ أنه لابدّ في ذلك من الاقتصار على مورد اليقين ولا يمكن التعدّي عن المقدار المتيقّن ، لأنّ المخصّص عقلي وفي مثله لابدّ من أن يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو عبارة عمّا إذا كان البيع أو غيره من التصرفات أصلح بحاله وأنفع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت في الصفحة181 .

ــ[192]ــ

من غيره ، فإذا كان بيعه بعشرين درهماً ممكناً مثلا فلا يجوز بيعه بعشرة دراهم وإن كان مصلحة أيضاً لوجود ما هو أصلح منه في حقّه ، اللهم إلاّ أن يكون في بيعه بعشرة مصلحة تعود إلى اليتيم وهي أعظم من مصلحة بيعه بعشرين درهماً ، هذا هو الذي يقتضيه الأصل في المقام .

وأمّا الروايتان المذكورتان في كلام الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) فاحداهما حسنة الكاهلي قال « قيل لأبي عبدالله (عليه السلام) إنّا لندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم فما ترى في ذلك ؟ قال : إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا »(1) وقد استظهر منها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) أنّ مناط حرمة التصرف في أموال اليتيم هو الضرر فإذا انتفى فيجوز التصرف فيها وإن لم يكن فيه منفعة ، وهذا يبتني على حمل المنفعة في الرواية على عدم الضرر كما صنعه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) .

وقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(3) أنّ الرواية تقتضي اعتبار المنفعة في جواز التصرف في أموال اليتيم ، ومفهوم ذلك عدم جواز التصرف فيما إذا لم يكن هناك منفعة في التصرف أو كان فيه ضرر عليه ، والإمام (عليه السلام) إنّما صرّح بالشق الثاني من المفهوم لأنه أظهر الفردين ، لا أنّ مفهومه منحصر فيه كما حملها عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) هذا .

والظاهر أنّ المراد بالمنفعة في الرواية هو عدم الضرر وتدارك ما يرد عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 248 / أبواب ما يكتسب به ب71 ح1 .

(2) المكاسب 3 : 577 .

(3) منية الطالب 2 : 243 .

ــ[193]ــ

من المضارّ كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) والوجه في ذلك : أنّ ورود الضيف على أحد بنفسه يقتضي الضرر عليه لأنه يأكل من مأكلهم ويشرب من مشربهم ويستفيد من خادمهم وفراشهم ، فليس للضيف والوارد قسمان قسم يضرّ بوروده وقسم لا يضرّ ولا ينفع ، وإنّما له فرد واحد وهو يوجب الضرر دائماً ولأجله لا يصح أن يعبّر في الرواية عوض قوله إذا كان في دخولكم عليهم منفعة بأنه إذا كان دخولكم عليهم غير مضرّ فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا ، وذلك لعدم صحته وعدم فردين للورود لأنه منحصر في المضرّ ، فلابدّ من أن يعبّر عن تدارك الضرر بالمنفعة في المقام ، وعليه فيستقيم ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أنّ الرواية تدلّ على اعتبار عدم المضرّة في جواز التصرف في أموال اليتيم .

إلاّ أنّ الرواية غير واردة فيما نحن فيه من بيع مال اليتيم وإجارته ونحوهما من التصرفات المعاملية ، وإنّما وردت في التصرف في أموال اليتيم بأكله ولبسه ونحوهما  ، ومن المعلوم أنّ أحدهما غير الآخر لا محالة ، والإمام (عليه السلام) إنّما جوّز التصرف في مال اليتيم بأكله وصرفه مشروطاً بعدم كونه مضراً في حق اليتيم ولم يجوّز البيع أو الاجارة مشروطاً بهذا الشرط ، والوجه في تجويزه التصرف في ماله بالأكل واللبس بالشرط ظاهر وهو أنه لولا ذلك لم يجز لأحد التصرف في أمواله ولا الدخول عليه ولا الجلوس على بساطه ، ومعه لم يمكن حفظ كيان الصغير ويخرج بذلك عن المجتمع ويكون منعزلا عن الناس وهو ممّا لا يرضى به الشارع جزماً ، وهذا بخلاف عدم تجويز بيع مالهم لأنه لا يترتّب عليه شيء من المحاذير ولعلّه ظاهر ، وكيف كان فالرواية أجنبية عمّا نحن بصدده وهو واضح .

وثانيتهما : رواية ابن المغيرة « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) إنّ لي ابنة أخ يتيمة فربما اُهدي لها الشيء فآكل منه ثم أطعمها بعد ذلك الشيء من مالي فأقول

ــ[194]ــ

ياربّ هذا بهذا ، فقال (عليه السلام) لا بأس »(1) وهذه الرواية أيضاً تدلّ على جواز التصرف في مال اليتيم فيما إذا لم يكن التصرف فيه بأكله بلا عوض ، وأمّا إذا تدارك ما أكل منه بشيء آخر أنفع له أو مساو له فلا مانع من التصرف فيه بأكله ، والوجه في تجويز التصرف فيما اُهدي إلى اليتيم هو أنّ الهدية بحسب الغالب تكثر عن مقدار مأكل المهدى إليه ، وعليه فإذا لم يأكل مصاحب اليتيم من ذلك ولم يتصرف فيه بوجه فلا محالة يبقى ويتلف بنفسه أو يسقط عن حيز الانتفاع ، وهذا بخلاف ما لو أكله مصاحبه ثم أطعمه من ماله بعد ذلك فإنه نفع لليتيم وموجب لعدم تضييع ماله وكيف كان فهذه الرواية أيضاً أجنبية عمّا نحن فيه من التصرّف في مال اليتيم بالبيع والاجارة ونحوهما ومقتضى الأصل هو المحكّم في المقام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net