2 ـ الاستدلال بآية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5036


ــ[27]ــ

الثاني من العمومات : قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(1). وقد ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) في تقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة ما يقرب من استدلاله في الآية المتقدّمة وملخّصه : أنّها دلّت على حلّية جميع التصرفات المترتّبة على البيع ، لأنّ ذلك هو معنى تحليل البيع ، وبما أنّها مطلقة وغير مقيّدة بخصوص التصرفات الواقعة قبل فسخ أحد المتبايعين فلا محالة تشمل التصرفات الواقعة بعد رجوع أحدهما ، ومن حلّية التصرفات حينئذ يستكشف أنّ المعاملة لازمة ، إذ لو كانت جائزة وتنفسخ برجوع أحدهما فلا يكون وجه لحلّية التصرفات لأنّه ملك الغير برجوعه في البيع .

واستدلّ (قدّس سرّه) أيضاً بقوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ)(3) وذكر في وجه الاستدلال ما نقلناه عنه في الآية المتقدّمة وملخّصه : أنّ التجارة سبب لحلية التصرفات مطلقاً ولو كانت بعد رجوع أحد المتبايعين ، ومنه يستكشف أنّ البيع لازم كما ذكرناه في الآية المتقدّمة .

ثم إنّه (قدّس سرّه) أورد على الاستدلال بالآيتين الأخيرتين : بأنّ التمسّك بالاطلاق إنّما يصحّ في القيود والحالات السابقة على الحكم كاحتمال تقيّد الموضوع بقيد العدالة أو بغيرها من القيود ، وأمّا القيود الطارئة على الحكم والمتأخّرة عنه فاطلاقه لا يوجب رفعها لتأخّرها عنه ، ومن الظاهر أنّ الشك في المقام في ارتفاع الحكم برجوع أحد المتعاملين وعدم ارتفاعه ولا يمكن التمسك باطلاق الحكم في إثبات عدم ارتفاع نفسه لتأخّره عنه ـ بمعنى أنّ إطلاق الحكم لا يشمل احتمال عدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة : 2 : 275 .

(2) المكاسب 5 : 19 .

(3) النساء 4 : 29 .

ــ[28]ــ

نفسه وارتفاعه فلا يمكن أن يقال إنّ الحكم ثابت حتى على تقدير ارتفاعه وعدمه
وهو ظاهر ـ اللهمّ إلاّ أن يتمسّك باستصحاب الحكم بعد فسخ أحدهما وهو تمسك بالأصل لا بالآية .

واُورد عليه : بأنّ هذا الاشكال غير مختص بالآيتين الأخيرتين بل هو جار في الآية الاُولى أيضاً بتقريب أنّ الأمر بالوفاء لا يمكن أن يشمل باطلاقه احتمال عدمه وارتفاعه ، لأنّ الفسخ على تقدير نفوذه يرفع المعاقدة ، وبه ترتفع الآثار المترتّبة عليها التي منها وجوب الوفاء بها ، فإذا شككنا في نفوذ الفسخ وعدمه فقد شككنا في أنّ الأمر بالوفاء باق أو مرتفع ، فلا يمكن التمسك باطلاقه لرفع احتمال ارتفاعه بأن يقال إنّ الوفاء بالعقد وترتيب الأثر عليه واجب حتى في صورة ارتفاعه وعدمه .

ولأجل ذلك تصدّى شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) لبيان الفارق بين الآية الاُولى والآيتين الأخيرتين بعد ما تعرض للاستدلال بالآيتين ولهذه المناقشة بعين ما استشكل به شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) فأفاد في وجه تخصيص الشيخ هذه المناقشة بالآيتين الأخيرتين وعدم تعميمها للآية الاُولى : أنّ الاشكال المذكور لا يرد على الآية الاُولى ، لأنّ الحكم إنّما ثبت فيها للعقد بالمعنى المصدري ـ كما ذكرنا سابقاً وقلنا إنّ العقد بحدوثه موضوع للحكم بوجوب الوفاء ـ والفسخ على تقدير تأثيره لا يرفع العقد بالمعنى المصدري لأنّه حدث ولا يمكن رفعه ، وإنّما يرفع المعاقدة التي هي العقد بمعنى الاسم المصدري ، وبما أنّ العقد لا يمكن رفعه فلا مانع من التمسك باطلاق الحكم الثابت عليه عند الشك في بقائه وارتفاعه . وهذا بخلافه في الآيتين الأخيرتين فإنّ الفسخ على تقدير تأثيره يرفع الحلّية الثابتة للبيع ومع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 12 .

ــ[29]ــ

الشك في بقائها لا يمكن التمسك بالاطلاق ، هذا .

ولكن الانصاف أنّ الآيتين الأخيرتين قد لا تكون لهما دلالة على اللزوم وعلى تقدير دلالتهما عليه لا يرد عليهما إشكال شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وعلى تقدير وروده فهو غير مختص بهما بل وارد على الآية الاُولى أيضاً ، فلنا ثلاث دعاوى :

الدعوى الاُولى : أنّ الآيتين قد لا تكون لهما دلالة على اللزوم .

الدعوى الثانية : أنّه على تقدير دلالتهما على اللزوم لا يرد عليهما إشكال شيخنا الأنصاري : (قدّس سرّه) .

الدعوى الثالثة : أنّ إيراده (قدّس سرّه) على تقدير صحّته لا يختصّ بهما بل هو وارد على الآية الاُولى أيضاً .

أمّا الدعوى الاُولى : فالوجه فيها بالنسبة إلى قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)أنّ الحلّية إنّما رتّبت على نفس البيع ، كما أنّ الحرمة رتّبت على نفس الربا لا على التصرفات ، وعليه فلا يخلو المراد من الحلّية من أحد احتمالات ثلاثة : فإمّا أن يراد منها الحلّية التكليفية وهي الجواز والترخيص . وإمّا أن يراد منها الحلّية الوضعية . وإمّا أن يراد منها الجامع بين الحلّية التكليفية والحلّية الوضعية .

فإن اُريد منها الحلّية التكليفية ، فمعنى الآية أنّ الله سبحانه رخّص في البيع في مقابل الربا حيث حرّمه فمرتكب الربا مرتكب لأمر محرّم دون مرتكب البيع لأنّه أمر رخّص فيه الشارع ولو كان البيع فاسداً أيضاً ، لأنّه ليس من المحرّمات الشرعية  ، ومن المعلوم أنّ الترخيص في البيع وتجويزه لا ربط له بلزوم البيع وعدمه ولا دلالة فيه على أنّ هذا الأمر المرخّص فيه لازم ولا ينفسخ بالفسخ ، وهذا ظاهر .

وإن اُريد منها الحلّية الوضعية ، فمعنى الآية أنّ البيع نافذ وصحيح في مقابل الربا فانّه باطل وفاسد ، ولا دلالة فيها على أنّ البيع لازم أو غير لازم وإنّما تقتضي

ــ[30]ــ

الحكم بصحّته ونفوذه ، وأمّا أنّه بعد صحّته وتأثيره لا يرتفع بالفسخ أو يرتفع فهو ممّا لا يستفاد من الآية الشريفة .

وإن اُريد منها الجامع بين الحلّيتين كما هو ليس ببعيد ، لأنّ تقسيم الحلّية إلى الوضعية والتكليفية إنّما حدث بين الفقهاء والاُصوليين وإلاّ فالحلّية إنّما هي في مقابل العقدة ، فالبيع حلال أي أنه مفتوح السبيل وليس بمغلق الباب . وهذا المعنى يشمل الترخيص بحسب التكليف والوضع ، بمعنى أنّ التصرف في البيع بايجاده وترتيب الأثر عليه مفتوح السبيل ولا مانع منه في مقابل الربا الذي هو مغلق الباب وممنوع منه بجميع أنحاء التصرف فيه بايجاده أو بترتيب الأثر عليه ، وعلى ذلك أيضاً لا يستفاد منها اللزوم بعد الانعقاد والصحة .

وأمّا بالنسبة إلى قوله تعالى (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ) فلأنّ الآية المذكورة تدلّ على أنّ أكل أموال الناس بالأسباب الباطلة حرام ، وأمّا أكلها بسبب التجارة عن تراض فهو جائز وغير محرّم ، ومن المعلوم أنّ المراد بالأكل ليس هو الازدراد والأكل في مقابل الشرب وإلاّ لاختصّت الآية بقليل من كثير من الأموال لأنّ نسبة المأكول من الأموال إلى غير المأكول منها كنسبة القطرة إلى البحر كالأراضي والأملاك والألبسة والحيوانات غير مأكولة اللحم ، بل إنّما المراد بالأكل هو التصرف في المال كما هو شائع في الاستعمال حيث يقال إنّ فلاناً أكل مالي أو داري ، وعليه فالتصرف في الأموال بسبب التجارة عن تراض جائز وهذا أيّ ربط له بلزوم المعاملة والبيع وعدم انفساخها ، وهذا ظاهر .

وأمّا الدعوى الثانية : وهي عدم تمامية إشكال شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) على الآيتين الأخيرتين ، فالوجه فيها أنّ التمسك باطلاق الحكم حتى في رفع احتمال عدمه والقول بأنّ الحكم ثابت حتى على تقدير ارتفاعه وعدمه وإن كان أمراً غير معقول ولا معنى للتمسك بالاطلاق عند الشك في ارتفاعه وإنّما يتمسك

ــ[31]ــ

بالاطلاق عند الشك في قيد من قيود الموضوع ، إلاّ أنّ الغرض في المقام ليس هو التمسك بالاطلاق كذلك ، وإنّما يراد التمسك باطلاق الحكم بالحلّية عند الشك في بقائها بعد صدور فعل من الأفعال الخارجية من المشتري أو البائع وهو الفسخ والرجوع ، بمعنى أنّا نشك في أنّ الله تعالى هل جعل الحلّية إلى أن يفسخ أحدهما أو أنه جعلها إلى يوم القيامة ولو مع فسخ أحدهما ، وهذا شك في إطلاق الحكم من حيث فعل المتبايعين ، ولا مانع من التمسك بالاطلاق بالاضافة إليه كما لا مانع من تقييد الحكم به بأن يقال إنّما يحلّ البيع أو التصرفات إلى أن يصدر الفسخ من أحدهما ولا يترتّب عليه أيّ محذور ، فكما لا مانع من تقييده به فلا مانع من إطلاقه بالاضافة إليه وجعل الحلّية إلى الأبد ولو مع صدور هذا الفعل من أحدهما ، فهذه المناقشة غير واردة من أساسها .

وأمّا الدعوى الثالثة : وهي أنّ الايراد على تقدير تماميته يرد على الآية الاُولى أيضاً ، فالوجه فيها ظاهر لأنّا إذا أغمضنا النظر عمّا ذكرناه في وجه الدعوى الثانية وبنينا على أنّ التمسّك بالاطلاق عند الشك في الفسخ أيضاً غير صحيح ، فهذا يأتي في التمسك باطلاق الأمر بالوفاء بالعقود أيضاً ، لأنّ الحكم وإن رتّب فيها على العقد بمعناه المصدري ، والفسخ إنّما يتعلّق بالعقدة الحاصلة من المصدر إلاّ أنّ العقدة إذا فسخت فلا محالة يرتفع وجوب الوفاء بالعقد ولو بمعناه المصدري ، إذ لا معنى لوجوب الوفاء بالعقد بعد فسخ المعاملة .

وعليه فالشك في نفوذ الفسخ يرجع إلى الشك في وجوب الوفاء بالعقد وترتيب الآثار عليه ، وقد بنينا على أنّ التمسك باطلاق الحكم بالوفاء حتى على تقدير ارتفاعه وشموله لصورة عدم نفسه غير معقول ، هذا .

ويمكن الاستدلال بالآيتين على اللزوم بوجه آخر : وهو أنّ البيع عبارة عن الالتزام بملكية المثمن للمشتري وملكية الثمن للبائع ، وهذا الالتزام لو لم يقيّد بالخيار

ــ[32]ــ

مطلق بالاضافة إلى الزمان ، لأنه قد التزم بالملكية إلى يوم القيامة لا إلى زمان دون زمان ، كما أنّه مطلق بالاضافة إلى الزماني وهو الفسخ ، ومعناه أنّي التزمت بالملكية مطلقاً سواء رجعت عن التزامي وهو الفسخ أم لم أرجع ، وأنّ الالتزام غير مقيّد بعدم الرجوع فيه وغير موقت إلى زمان الرجوع . كما أنّ معنى جعل الخيار في البيع أنّ الالتزام بالملكية والبيع مقيّد بعدم الرجوع فإذا رجعت فالملك لي ، ولا معنى للخيار إلاّ ذلك ، ولا محذور فيه إلاّ أخذ الحكم في موضوع نفسه ، وقد تقدّم الجواب عنه في بحث أخذ قصد القربة في موضوع الحكم .

وعلى الجملة : لا محذور في الالتزام بالملكية مطلقاً سواء رجع عن التزامه أم لم يرجع فيه ، فيكون جعل الخيار في البيع موجباً لتضييق دائرة الالتزام ، لأنّه على تقدير عدم جعله يلتزم بالبيع والملكية سواء رجع عن التزامه بعد ذلك أم لم يرجع نظير من أودع عند أحد مالا وأوصاه بعدم ردّه إليه ولو مع مطالبته المال بنفسه .

وإذا اتّضح هذا فنقول : إنّ مقتضى الآيتين كما عرفت عبارة عن إمضاء المعاملة وما تعاقدا عليه ، فإن كان العقد وما تعاقدا عليه التزاماً مقيّداً بعدم رجوعه عن التزامه فيمضيها الشارع على نحو الجواز ، وإن لم تكن المعاملة والالتزام مقيّداً بذلك بل مطلقاً من حيث رجوعه وعدمه فلا محالة يمضيها الشارع على نحو الاطلاق وأنه ملك للمشتري أو البائع مطلقاً ، سواء رجع أحدهما عن التزامه أم لم يرجع وبعد ذلك ـ أي بعد التزامه على نحو الاطلاق ـ إذا رجع فلا يمكن للشارع إمضاء ذلك الفسخ لأنه يؤدّي إلى التناقض كما هو ظاهر ، لأنّ المفروض أنّه أمضاها على نحو الاطلاق ، ومعناه أنّ المثمن ملك للمشتري سواء رجع البائع عن التزامه أم لم يرجع ومعه فلا يعقل أن يمضي الشارع فسخ البائع ، لأنّ معناه أنه ملك للبائع عند الرجوع ، وهذان لا يجتمعان .

وبالجملة : أنّ الآيتين تدلاّن على أنّ الشارع يمضي المعاملة حسبما أوقعها

ــ[33]ــ

المتعاقدان ، والمفروض أنّهما أوقعاها على نحو يكون الالتزام مطلقاً ولا يحصل الانفساخ بالفسخ وهو معنى اللزوم . وقد ذكروا نظير ذلك في باب الوكالة وأنّه إذا اشترط التوكيل في ضمن عقد على نحو لا ينعزل الوكيل بالعزل فتثبت له الوكالة المطلقة ولا تزول برجوع الموكّل عن التوكيل ، وإن لم نرتض بذلك في الوكالة فراجع  .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net