أدلّة خيار الشرط - جعل الخيار إلى آخر العمر 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6304


ــ[182]ــ

اشتراط الخيار أو خيار الشرط

الظاهر أنه لا خلاف في صحة هذا الاشتراط بأن يشترط أحد المتعاملين أن يكون له أو لهما الخيار إلى زمان على نحو الاتصال أو الانفصال .

ويستفاد ذلك ممّا ورد(1) في جواز البيع الذي اشترط فيه الفسخ عند ردّ مثل الثمن المعبّر عنه ببيع الخيار (البيع بشرط) حيث إنه عقد اشترط فيه الخيار للبائع وقد دلّت الرواية على جوازه .

وكذا يدلّ عليه ما ورد(2) من أنّ هلاك المبيع في يد المشتري قبل أن يمضي الشرط وهو اشتراط أيام معدودة من مال البائع ، وذلك لأنها سلّمت جواز اشتراط الخيار أياماً معدودة وفرضته مفروغاً عنه ثم حكمت بأن تلف المبيع في زمان الخيار المذكور من مال البائع .

فإن استظهرنا من هاتين الروايتين جواز اشتراط الخيار على نحو العموم فهو وإلاّ فإن قلنا إن جعل الخيار على خلاف القاعدة لأنّ مقتضاها اللزوم في جميع العقود ومنها البيع ، فلا يمكن التعدّي من ثبوته في مقامين وموردين إلى غيرهما لأنه على خلاف القاعدة ، مثلا إذا اشترط في ضمن عقد البيع أن يكون له خيار بعد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 19 / أبواب الخيار ب8 ح1 ، 3 .

(2) نفس المصدر الحديث 2 .

ــ[183]ــ

عشرة أيام فلا يمكن استفادة جواز ذلك من هاتين الروايتين وأنه لابدّ من الاقتصار عليهما حتى يثبت جواز اشتراط الخيار على نحو العموم ، فلابدّ من إقامة الدليل على صحة اشتراط الخيار في العقود .

وقد يستدلّ على ذلك بما روي وادعي تواتره من أنّ « المسلمون عند شروطهم »(1) حيث إنّ مقتضاها جواز اشتراط الخيار.

وقد أورد على الاستدلال بتلك الرواية صاحب المستند(2) بأنّ اشتراط الخيار في العقود من الشروط المخالفة للكتاب والسنّة ، وذلك لأنّ مقتضى قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله (عليه السلام) في روايات خيار المجلس « فإذا افترقا وجب البيع » أو غيرهما من أدلّة اللزوم أنّ كل عقد من العقود لازم ومنه عقد البيع فاشتراط جوازه يخالف الكتاب والسنّة فلا يصح مثل هذا الاشتراط .

وقد اُجيب عن ذلك بوجهين : أحدهما : ما عن شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(3) من أنّ اللزوم والجواز على قسمين ، فقسم منهما حقّي والقسم الآخر حكمي  ، ويعرف الحقّي منهما بجواز دخول الاقالة عليه ، مثلا اللزوم في البيع حقّي فلذا يقبل الاقالة برضا البائع والمشتري ، فمنه يظهر أنّ اللزوم فيه من جهة مراعاة حق المتبايعين ، وأمّا اللزوم في النكاح فهو حكمي ولذا لا تدخله الاقالة كما إذا رضي كل من الزوج والزوجة برفع اليد عن العقد فإنّ ذلك لا يوجب رفعه ، فمنه يعرف أنّ اللزوم فيه حكمي . وكذلك الجواز فإنّ الجواز في الهبة حكمي ولذا لا يرتفع بالتراضي على ارتفاعه ، وأمّا الجواز في البيع ما داما في المجلس فهو حقي لقبوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 276 / أبواب المهور ب20 ح4 .

(2) مستند الشيعة 14 : 382 .

(3) منية الطالب 3 : 72 .

ــ[184]ــ

الاسقاط لأنّ ذي الحق يمكنه إسقاط حقه .

والشرط المخالف للكتاب والسنّة هو الذي يخالف اللزوم الحكمي كما في النكاح ، وأمّا المخالف للزوم الحقي فهو لا مانع من صحته ، لجواز رفع اليد عن الحق  ، وبما أنّ قوله « المسلمون عند شروطهم » وغيره من أدلّة الشروط يرفع لزوم البيع وهو حقي ، فلا يكون اشتراط الخيار فيه من الشروط المخالفة للكتاب والسنّة ، هذا .

ولا يخفى أنّا ذكرنا في أوائل البيع(1) أنّ الحق والحكم عبارتان عن شيء واحد وهو الحكم ، غاية الأمر أنّ بعض الأحكام مشروط وبعضها غير مشروط ويعبّر عن المشروط بالحق ، إلاّ أنّ كونه مشروطاً بعدم رفع اليد عنه لا يوجب اختلافاً وتعدّداً في المجعول بحسب الماهية بل المجعول هو الحكم وهو أمر واحد والمخالف لأحدهما مخالف للآخر وغير المخالف لأحدهما غير مخالف للآخر كما هو مقتضى الاتحاد ، والحكم باللزوم في البيع والنكاح أمر واحد ولذا جاز فسخ النكاح في بعض الموارد للزوج وفي بعضها الآخر للزوجة ، وقد رفعنا اليد عنه في البيع بالأخبار الواردة في الاقالة من أنّ المتعاملين إذا تراضيا على انحلال العقد فلا مانع من انحلاله ، وأمّا رفع اليد عنه برضا أحدهما دون الآخر فهو أوّل الكلام . وبالجملة أنّ الفرق بين ما تدخل فيه الاقالة وما لا تدخل فيه ممّا لا وجه له .

الوجه الثاني : ما ذكره السيد (قدّس سرّه)(2) على ما هو ظاهر كلامه وملخّصه  : أنّ الشرط المخالف للكتاب والسنّة هو الشرط المخالف لذات الحكم الثابت فيهما ، وأمّا المخالف لاطلاق الحكم المذكور في الكتاب والسنّة فهو غير ساقط

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المجلّد الأول من هذا الكتاب الصفحة 30 .

(2) حاشية المكاسب (اليزدي) : 23 من مبحث الخيارات .

ــ[185]ــ

عن الاعتبار ، بل جميع الشروط في العالم مخالفة لاطلاق الأحكام الثابتة في الكتاب أو السنة ، فمثل اشتراط الخياطة في ضمن البيع مخالف للأدلّة الدالّة على جواز الخياطة وإباحتها ، إلاّ أنّ الاشتراط قد بدّله إلى الوجوب ، واشتراط الخيار في البيع من هذا القبيل لأنه مخالف لاطلاق (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ويقيّده بغير ما اشترط فيه الخيار ، وليس مخالفاً لأصل لزوم المعاملات ، فلا يكون هذا النحو من المخالفة موجباً لرفع اليد عن الشرط ، هذا .

وفيه : ما لا يخفى من المناقشة الظاهرة ، لأنّ التفصيل في المخالف بين المخالف لأصل الحكم والمخالف لاطلاقه إنّما هو في المخالفة لمقتضى العقد لا في المخالفة للكتاب والسنّة وتوضيحه : أنه يعتبر في الشروط أمران : أحدهما أن لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد . وثانيهما : عدم المخالفة للكتاب والسنّة ، أمّا الاشتراط الأول فهو ليس من جهة دلالة دليل خارجي على لزوم عدم كونه مخالفاً لمقتضى العقد ، بل لا دليل عليه في شيء من الآيات والروايات ، وإنما الدليل على هذا الاشتراط هو استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين ، فإنه إذا باع ماله واشترط على المشتري أن لا يتصرف فيه فمعناه أنّي بعته وأنّي لم أبعه ، أو إذا وهب ماله واشترط إرجاعه إليه فإنّ معناه أنّي ملّكته لك وأنّي لم اُملكه لك وهكذا غيرهما من الشروط المخالفة لمقتضى نفس العقد فإنّ مآلها إلى اجتماع الضدّين والنقيضين ، وليس لهذا الاشتراط دليل غيره .

ومن هنا يفصّل في الشروط المخالفة للعقد بين الشرط المخالف لأصل العقد كما إذا باع ماله واشترط عليه أنّ يبقيه عنده ويجوز له التصرف فيه كيف شاء ، وبين الشرط المخالف لاطلاق العقد لا لأصله ، وهذا كما إذا باع ماله واشترط عليه أن يتصرف فيه مدّة شهر واحد ، فإنّ الشرط الأول مخالف لأصل العقد ومعناه هو الجمع بين النقيضين وهو البيع وعدم البيع ، وأمّا الشرط الثاني فهو مخالف لاطلاق عقد البيع ، لأنّ مقتضى إطلاقه أن ينتقل إليه المبيع من الآن ولا يجوز للبائع أن

ــ[186]ــ

يتصرف فيه من حين المعاملة ، إلاّ أنه قيّد ذلك الاطلاق وأخرج منه مدّة شهر واحد من زمان المعاملة ، والوجه في التفصيل بينهما ظاهر بما عرفت حيث إنّ اجتماع النقيضين إنما يلزم في الشرط المخالف لأصل العقد ، وأمّا الشرط المخالف لاطلاقه فلا يوجب الجمع بين النقيضين كما هو ظاهر .

وأمّا الاشتراط الثاني ، أعني عدم كون الشروط مخالفة للكتاب والسنّة فدليله الروايات الدالّة على عدم اعتبار الشرط المخالف لكتاب الله أو سنّة نبيّه وهذا لا يفرق فيه بين الشرط المخالف لأصل الكتاب والسنّة وبين المخالف لاطلاقهما  ، والوجه في ذلك أنّ إطلاق الأحكام أيضاً من الأحكام فلابدّ من اتّباعه فإذا باع شيئاً واشترط عليه شرب الخمر في حالة كذائية فهو شرط مخالف لاطلاق حرمة شرب الخمر الثابتة في الكتاب والسنّة فلا يمكن في مثله أن يقال إنّ هذا الشرط مخالف لاطلاق الآية الدالّة على حرمة شرب الخمر وليس مخالفاً لأصل حرمة شربها وذلك ظاهر ، وعليه فهذان الوجهان لا يمكن الاعتماد عليهما في الجواب عمّا أورده صاحب المستند (قدّس سرّه) .

فالصحيح في الجواب أن يقال : الظاهر أنّ هذه الشبهة لا تندفع إلاّ بما أشرنا إليه سابقاً في كيفية اشتراط عمل أو شيء آخر في ضمن العقد حيث قلنا إنّ اشتراط مثل الكتابة أو الخياطة أو غيرهما من الشروط في العقود مرجعه إلى تعليق الالتزام بالمعاملة والعقد على فعل ذلك الشرط ، وليس مرجعه إلى التعليق في العقود المبطل لها بالاتّفاق ، فمعنى اشتراط الكتابة في بيع شيء أنّ التزامي وعدم رجوعي في هذه المعاملة متوقّف على الكتابة . وبعبارة اُخرى أنّ مرجع هذا الاشتراط إلى جعل الخيار ، وهذا الاشتراط والتعليق في الالتزام تارةً يكون على نحو الدلالة الالتزامية كما في اشتراط الكتابة في بيع شيء الراجع إلى تعليق الالتزام بالكتابة وجعل الخيار لنفسه ، واُخرى على نحو الدلالة المطابقية كاشتراط الخيار إلى ثلاثة أيام ، لأنّ معناه

ــ[187]ــ

المطابقي أنّ التزامي بهذه المعاملة معلّق على انقضاء الثلاثة أيام .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قوله (عليه السلام) « المسلمون عند شروطهم »(1)إنما ورد في هذا المقام أي في تعليق الالتزام بالمعاملة على أمر آخر ، فلو منعنا عن شموله له بدعوى أنه مخالف للكتاب والسنّة فلازمه أن لا يبقى لهذه الرواية مورد فتكون لغواً ، فاشتراط الخيار وإن كان مخالفاً للكتاب والسنّة إلاّ أنه لابدّ من الالتزام به لورود الرواية في هذا المقام ، ولولاه لما بقي لها محل أصلا ، وذلك تخصيص لما دلّ على اشتراط عدم المخالفة للكتاب والسنّة في الشروط .

فالمتحصّل من جميع ذلك : أنّ مرجع الاشتراط سواء كان على نحو الدلالة المطابقية أو كان على نحو الدلالة الالتزامية إلى جعل الخيار ، وهذه الرواية إنما وردت في خصوص جعل الخيار والاشتراط ، فمنه يظهر أنّ وجوب الالتزام في العقود والمعاملات ليس من الأحكام الأبدية غير قابلة للزوال ، بل إنما هو من الحقوق ، هذا كلّه بناءً على ما سلكناه من أنّ مرجع الاشتراط إلى جعل الخيار .

ويمكن الجواب عن هذه الشبهة بناء على مسلك المشهور في الاشتراط وهو كون الشرط التزاماً آخر مقارناً للالتزام المعاملي وهو موضوع لوجوب الوفاء بأن يرجع اشتراط الخيار إلى تضييق دائرة الملكية وتقييدها بقيد وتوضيح ذلك : أنّ إنشاء الملكية المطلقة مع جعل الخيار لنفسه متنافيان ، لأنّ معنى إنشاء الملكية المطلقة هو إنشاؤها على نحو الاطلاق سواء فسخ بعد ذلك أم لم يفسخ ، ومعنى جعل الخيار أني متمكّن من إرجاع الملكية إلى نفسي بعد الفسخ ، وكون المبيع ملكاً للمشتري سواء فسخ أم لم يفسخ ، وكونه ملكاً للبائع إذا فسخ متنافيان وممّا لا يجتمعان ، فمعنى جعل الخيار أنّ الملكية المنشأة ليست بمطلقة بل إلى زمان الفسخ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم مصدره في الصفحة 183 .

ــ[188]ــ

وذلك لما ذكرناه مراراً من أنّ الأهمال في الواقعيات غير معقول ، فإذا لم تعقل الملكية المطلقة مع جعل الخيار فلا محالة يتعيّن أن تكون الملكية مقيّدة إلى زمان الفسخ  . وبالجملة أنّ ما أنشأه البائع هو الملكية إلى زمان الفسخ لا الملكية المطلقة ولا يقاس إنشاء الملكية المقيّدة إلى زمان الفسخ بانشاء الملكية المقيّدة بزمان دون زمان أو بحال دون حال كبيع شيء إلى سنة أو إلى شهر أو في وقت كذا أو غيرها ممّا لا إشكال في بطلانه ، والوجه في عدم صحة القياس هو أنّ إنشاء الملكية المقيّدة بزمان الفسخ أمر متعارف بين الناس ، والعقلاء ينشئون الملكية الموقتة بزمان الفسخ في موارد اشتراط الخيار في العقد ، فهذا ليس أمراً خارجاً عن المتعارف حتى لا تشمله الأدلّة كما هو ظاهر ، فإذا صار الأمر كذلك فنقول ليس في اشتراط الخيار مخالفة للكتاب أو السنة .

أمّا الكتاب فلوضوح أنّ قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إنّما يقتضي وجوب الالتزام على ما أنشأه ، فإن كان المنشأ هو الملكية المطلقة فاللازم هو الالتزام بها مطلقة ، وإن كانت مقيّدة فمقيّدة ، وبما أنّ إنشاء الملكية في صورة جعل الخيار مقيّد بزمان الفسخ إذ المفروض أنه إنما أنشأ الملكية إلى ذلك الزمان ، فعدم الالتزام بها بعد الفسخ لا يكون مخالفاً ومنافياً لوجوب الالتزام بما أنشأه ، لأنه قد التزم على طبقه ولم يرفع اليد عنه إلى زمان الفسخ ، وأمّا بعد الفسخ فلم يلتزم بالملكية بعده حتى يكون رفع اليد عنها بعد الفسخ مخالفاً لقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) لأنّ معناه أوفوا بمنشأكم والمفروض أنه وفى بما أنشأه .

وأمّا السنّة فلأنّ معنى قوله (عليه السلام) « فإذا افترقا وجب البيع »(1) لزوم البيع الذي أنشأه المتعاملان ، والملك الذي أنشأه البائع في فرض اشتراط الخيار هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 6 / أبواب الخيار ب1 ح4 .

ــ[189]ــ

الملك الموقت إلى زمان الفسخ والمفروض أنه وفى به إلى ذلك الزمان ولم ينشأ الملك المطلق حتى يجب عليه الالتزام على الاطلاق ، فلا يكون رفع اليد عنه بعد زمان الفسخ مخالفاً للسنة وذلك ظاهر .

على أنّ الروايات الواردة في خيار المجلس إنما أثبتت الخيار التعبّدي ما دام المتعاقدان في مجلس البيع ، لأنّ المتعاملين لم يجعلا لأنفسهما الخيار حتى تكون تلك الأخبار إمضاءً لذلك الخيار ، بل إنما حكم الشارع في المجلس بالخيار من باب التعبّد كما هو ظاهر ، وعليه فيكون قوله (عليه السلام) « فإذا افترقا وجب البيع » ناظراً إلى ارتفاع ذلك الخيار التعبّدي بالافتراق ، لا أنه يدلّ على لزوم البيع بمجرد الافتراق مطلقاً .

وتوضيح ذلك : أنّ الخيار الثابت للمتعاملين في مجلس البيع كما عرفت تعبّدي ، فلو كان قد اقتصر في ارتفاع ذلك الخيار بقوله (عليه السلام) « فإذا افترقا وجب البيع » لكنّا حكمنا بأنّ البيع محكوم باللزوم بعد الافتراق مطلقاً كان هناك شرط أم لم يكن ، وقلنا إنّ اشتراط الخيار حينئذ على خلاف السنة وهو ظاهر ، إلاّ أنّه (عليه السلام) لم يقتصر على ذلك وورد في بعض الروايات الواردة في خيار المجلس أنه لا خيار بعد الرضا منهما وقد فسّرنا الرضا سابقاً(1) بالرضا بالالتزام بالبيع وقلنا إنّ معنى الحديث هو أنّ مقتضى رضا المتعاملين بلزوم المعاملة والالتزام بها هو الحكم بلزوم المعاملة من الابتداء ، وإنما حكمنا في خصوص زمان المجلس بالخيار لأجل التخصيص تعبّداً فإذا انقضى زمان التخصيص التعبّدي فرجع البيع إلى حاله السابق ، ويكون محكوماً باللزوم من جهة أنّهما كانا راضيين بذلك من الابتداء ، وخيار المجلس كان تعبّداً وتخصيصاً لأجل الارفاق أو غيره ، وعليه فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الصفحة 143 .

ــ[190]ــ

يمكننا الحكم بلزوم المعاملة بعد الافتراق على نحو الاطلاق بل الحكم باللزوم بعد الافتراق مختص بما إذا كان المتعاملان راضيين بلزوم المعاملة من الابتداء كما فيما إذا تبانيا بلا اشتراط شيء .

وأمّا إذا لم يتحقق منهما الرضا بالالتزام بالمعاملة مطلقاً بل بشرط شيء أو إلى زمان فالرواية لا دلالة لها على لزومها بعد الافتراق حينئذ ، لأنّهما ليسا براضيين باللزوم وإنما هما راضيان بها إلى زمان الفسخ أو إلى ذلك الشرط ، فلا يأتي فيه قوله (عليه السلام) « ولا خيار بعد الرضا منهما » وعليه فليست المعاملة في صورة اشتراط الخيار إلى مدة معيّنة لازمة بعد الافتراق حتى يكون اشتراط الخيار فيها وكونها جائزة بعد الافتراق على خلاف السنّة .

وبالجملة : فلا ينبغي الشك في جواز اشتراط الخيار في العقود .

ثم إنه ينبغي البحث في اُمور :

الأمر الأول : لا فرق في صحة اشتراط الخيار بين اشتراطه إلى زمان دون زمان واشتراطه إلى آخر العمر على نحو الاطلاق ، ولم نر ولم نسمع من استشكل في صحة اشتراط الخيار إلى الأبد وما دامت الحياة بل هو واقع كما في بعض السجلات حيث إنه مثلا يبيع ملكه ويشترط لنفسه الخيار ما دامت الحياة ، إلاّ أنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) منع عن مثل هذا الاشتراط وذهب إلى بطلان جعل الخيار لنفسه إلى آخر الحياة من جهتين :

إحداهما : من ناحية الجهل بمدّة الخيار لبداهة عدم العلم بزمان حياته ومقداره وأنه إلى ثلاثة أشهر أو سنة أو سنوات ، والجهل بالمدّة مستلزم للغرر وهو يوجب البطلان .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 73 .

ــ[191]ــ

وثانيهما : أنّ هذا الاشتراط مخالف لمقتضى العقد حيث إنّ لكل عقد دلالتان : إحداهما دلالته المطابقية على بيع كذا بكذا . وثانيهما : دلالته الالتزامية على أنّ البائع والمشتري كلاهما ملتزمان بما عقداه ، فإذا جعل لنفسه أو لكليهما الخيار إلى مدة معيّنة كشهر أو شهرين ونحوهما فمعناه أنّا غير ملتزمين بهذا العقد إلى ذلك الزمان ، وهذا تقييد للمدلول الالتزامي فلا بأس به وهو ظاهر ، وأمّا إذا اشترط الخيار إلى آخر الحياة فمعناه إسقاط المدلول الالتزامي على نحو الاطلاق ومرجعه إلى أنّ هذا العقد لا التزام فيه بمدلوله إلى آخر الأمد وهو مناف للمدلول الالتزامي والشرط المخالف لما يقتضيه العقد باطل .

أقول : أمّا ما أفاده في الجهة الاُولى فيدفعه : أن جعل الخيار إلى آخر الحياة الذي مرجعه إلى جعل العقد جائزاً إلى الأبد ممّا لا يستلزم الغرر الذي هو بمعنى الخطر ، نعم الجهل بالمدة موجود إلاّ أنه لا يترتّب عليه خطر أبداً ، أفيمكن أن يقال إنّ الهبة غررية لأنها جائزة إلى آخر الحياة ومدة الجواز مجهولة ، وسيأتي توضيح لذلك عن قريب إن شاء الله تعالى .

وأمّا ما أفاده في الجهة الثانية فقد ظهر وجه المناقشة فيه ممّا أسلفناه آنفاً وقلنا إنّ اشتراط عدم المخالفة لمقتضى العقد ممّا لا دليل عليه إلاّ استحالة اجتماع النقيضين وعليه فلابدّ من ملاحظة أنّ اشتراط الخيار ما دامت الحياة هل يناقض البيع والمعاملة حتى يستحيل اجتماعهما أو لا ، ولا ينبغي الاشكال في أنّ بيع شيء وجعل الخيار لأحد المتبايعين إلى آخر الحياة ليسا من المتناقضين والمتضادّين ، إذ لا مانع من أن يكون المشتري مالكاً للمبيع ويكون البائع قادراً على إرجاعه إلى نفسه وعليه فاشتراط الخيار إلى آخر الحياة ممّا لا محذور فيه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net