جريان خيار الغبن في غير البيع - الكلام في فورية خيار الغبن 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثالث : الخيارات-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4857


الكلام في جريان خيار الغبن في غير البيع وعدمه

قد وقع الخلاف في جريان هذا الخيار وهو خيار الغبن في غير البيع من المعاوضات والعقود واختصاصه بالبيع ، ثمّ على تقدير اختصاصه بالبيع فهل يختص بقسم خاص منه وهو ما لا يكون مبنيّاً على السماح أو يعم جميع أفراد البيع كان مبنياً على السماح أم لم يكن ؟

فمنهم من ذهب إلى جريان الخيار في جميع أقسام العقود والمعاوضات ، ومن ذهب إلى اختصاصه بالبيع ، ومنهم من ذكر أنّ العبرة بملاحظة كل عقد ومعاوضة في نفسه فإذا كان مورداً للمداقة وعدم المغابنة فيجري فيه هذا الخيار ، كان عقد بيع أو عقد إجارة أو عقداً غير مشتمل على المعاوضة كالصلح غير المتضمّن للمعاوضة

ــ[407]ــ

كما أنه إذا كان مورداً للسماح وعدم الدقّة بحسب المالية فلا يجري فيه الخيار ، عقد بيع كان أو عقد إجارة أو صلح .

وهذه المسألة كما ذكرها شيخنا الأنصاري(1) ممّا لم يتعرّض لها الفقهاء ، وإنّما تعرّضوا لجريان خيار الشرط في جميع العقود وصرّحوا بعدم اختصاصه بالبيع ، كما تعرّضوا لخيار المجلس وخصّوه بالبيع ، ولا يستفاد من تعرّضهم لهذين الخيارين وتخصيص خيار المجلس بالبيع أنّ غيرهما من الخيارات ممّا لا خلاف في جريانها في جميع العقود ، إذ لا مفهوم لتخصيص خيار المجلس بالبيع في جريان غيره في تمام العقود ، لأنّ الوجه في تعرّضهم لخيار المجلس هو ردّ بعض العامّة حيث ذهب إلى جريانه في غير البيع من العقود فأرادوا بذلك ردّه ، فلا دلالة فيه على جريان سائر الخيارات في جميع العقود .

إذن فلابدّ من ملاحظة مدرك هذا الخيارلنرى أنّه يقتضي اختصاصه بالبيع أو شموله لسائر الخيارات فنقول : إن كان مدرك خيار الغبن هو الاجماع فلابدّ من تخصيصه بالبيع ، لأنه المقدار المتيقّن دون غيره من سائر العقود ، إذ لا إجماع عليه في غير البيع وهو ظاهر .

ثم إنه لا يجري في جميع أفراده بل يختص بقسم خاص وهو البيع المبني على التدقيق بحسب المالية وعدم المغابنة دون المبني على السماح ، إذ لا إجماع هناك والمقدار المتيقّن منه هو خصوص البيع المبني على الدقّة .

وإن كان مدركه حديث لا ضرر كما اعتمد عليه بعضهم فهو يشمل جميع العقود والمعاوضات ، لأنه عام ولم يرد عليه تخصيص في مورد ، نعم لو قام هناك دليل على عدم جريان لا ضرر في عقد من العقود فلا محالة لا يجري فيه الخيار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 205 .

ــ[408]ــ

ولكنّه لم يرد عليه تخصيص إلاّ في موارد الاقدام لما أشرنا إلى وجهه من أنّ شموله لتلك الموارد أيضاً ينافي الامتنان ، فهل يشمل ذلك موارد البيع غير المبني على التدقيق أو لا ، هذا مبني على ملاحظة أنّ الاقدام على الضرر هل يختص بصورة العلم بالضرر وعليه فلا يشمل البيع المبني على المسامحة ، إذ لا إقدام فيه على الضرر لعدم العلم بالضرر في مثله ، أو أنه يعم موارد الجهل بوجود الضرر أيضاً وأنّ الاقدام يصدق مع الجهل بالضرر ، وعليه فلا يجري الخيار في مثل البيع المبني على السماح لصدق الاقدام فيه وهو مخصّص لعموم قاعدة لا ضرر .

وأمّا إذا كان مدركه هو الاشتراط الضمني فحال البيع المبني على السماح أظهر وتوضيح ذلك : أنّ بعض العقود بحسب طبعها مبني على التدقيق بحسب المالية والقيمة ، وهذا نظير البيع والاجارة ونحوهما ، لأنّ طبعهما يقتضي التدقيق وبعضها الآخر بحسب طبعه غير مبني على الدقة وهذا كالصلح فإنّ السماح وإن لم يؤخذ في الصلح على وجه التقييد ، لأنّ بعض أفراده كالبيع مبني على المداقة ، إلاّ أنه بحسب طبعه مبني على المسامحة .

فأمّا القسم الأوّل فكون طبع العقد في نفسه مقتضياً ومبنياً على التدقيق قرينة ارتكازية عامّة على اشتراط تساوي القيمتين ضمناً ، ومع الاشتراط الضمني لا محالة يتحقّق الخيار ، بل يكون من أحد أفراد خيار الشرط الذي صرّحوا بعدم اختصاصه بالبيع . وبالجملة إذا تحقّق الاشتراط الضمني في مورد فلا محالة يترتّب عليه الخيار ، عقد بيع كان أو عقد إجارة أو عقداً آخر.

وأمّا القسم الثاني فحيث إنّ طبع العقد في حدّ نفسه مبني على السماح فلا يستفاد في مثله الاشتراط الضمني إلاّ إذا قامت عليه قرينة شخصية ، وهذا أيضاً لا يفرّق فيه بين الموارد ، بل المدار على قيام القرينة الشخصية على الاشتراط الضمني فإنه يستتبع الخيار لا محالة .

ــ[409]ــ

وملخّص ذلك : أنّ جريان الخيار في كل مورد يتوقّف على جعل الخيار والاشتراط الضمني ، والكاشف عن ذلك في مثل البيع ونحوه ممّا يقتضي المداقّة بطبعه هو نفس الارتكاز ، لأنه قرينة عامّة على جعل الخيار والاشتراط ، وأمّا في غير العقود التي تقتضي المداقّة بطبعها كالصلح ونحوه فلابدّ في الكشف عن جعل الخيار والاشتراط من وجود قرينة خاصّة قائمة عليه ، وعليه فما أفاده ذلك البعض الذي ذهب إلى ملاحظة كل عقد في حدّ نفسه وأنه مبني على المداقة أو غير مبني على التدقيق هو الصحيح ، وهذا من غير فرق بين العقود إذ المدار على جعل الخيار والاشتراط سواء كان هناك قرينة عامّة على الخيار أم لم يكن ، وهذا كما إذا تصالح أحد مع الآخر باعتقاد أنّه يطلبه بمقدار قليل ثمّ ظهر أنه يطلبه بآلاف دينار ، فإنّ الصلح في حدّ طبعه مبني على السماح ، إلاّ أنّ هناك قرينة خاصّة على الاشتراط أي اشتراط التساوي وعدم زيادة الدَين عمّا يعتقده ، فإذا ظهر خلافه فلا محالة يثبت له الخيار .

ومن هنا يظهر أنّ لفظ الغبن وإن لم يرد في لسان الدليل حتّى نحقّق مفهومه ونرى أنه صادق أو غير صادق إلاّ أنا لا نحتاج إلى صدق الغبن في ثبوت الخيار ، بل إنّما نتّبع جعل الخيار والاشتراط .

وبالجملة : أنّ مقتضى الأصل في المعاملات اللزوم ويحتاج الخروج عمّا تقتضيه أصالة اللزوم إلى دليل مخرج وهو جعل الخيار والاشتراط ، فلابدّ من ملاحظة كل عقد عقد ليرى أنه هل فيه قرينة عامة أو خاصة على جعل الخيار والاشتراط فيحكم فيه بخيار الغبن ، أو أنه ليس هناك قرينة عليه لا على نحو العموم والارتكاز ولا على نحو الخصوص ، فلا يرفع اليد حينئذ عن أصالة اللزوم كما لا يخفى .

ــ[410]ــ

القول في أنّ خيار الغبن على الفور أو التراخي

قد وقع الكلام في أنّ خيار الغبن فوري بحيث إذا علم بغبنه وتمكّن من إعمال خياره ولم يُعمل سقط خياره ، أو أنه متراخ وله الخيار بعد العلم بغبنه مطلقاً ، وقد ذهب المشهور إلى أنّ الخيار فوري واستدل عليه : بأنّ الخيار على خلاف الأصل لأنّ الأصل في البيع هو اللزوم ، فلابدّ من الاقتصار فيه على المتيقّن وهو الزمان الأول .

وعن صاحب الرياض (قدّس سرّه)(1) أنّ مدرك الخيار إن كان هو الاجماع فالخيار على التراخي للاستصحاب ، وإن كان مدركه حديث نفي الضرر فهو فوري لارتفاع الضرر واندفاعه بالخيار في الزمان الأول .

قلت : إنّ التمسّك في فورية الخيار بأنه على خلاف الأصل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن إنّما يصحّ فيما إذا لم يكن دليل على الخيار في الآن الثاني والثالث وهكذا  ، إذ مع وجود دليل الخيار لا معنى للتمسك بالقدر المتيقّن فإنه يتوقّف على أمرين : أحدهما ثبوت المقتضي للملكية واللزوم في الآن الثاني . وثانيهما : عدم المانع عن تأثيره ، وحينئذ يتمسك في الخيار والجواز بالقدر المتيقّن وهو الزمان الأول ، وأمّا مع وجود المانع عن مقتضي اللزوم في الآن الثاني أو انتفاء المقتضي له فلا معنى للتشبّث بالمتيقن ، فإذن لابدّ من النظر إلى ما يدل على وجود مقتضي الملكية وعدم المانع عنه في المقام .

ومن هنا قرّر صاحب جامع المقاصد (قدّس سرّه)(2) دليل فورية الخيار بأنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رياض المسائل 8 : 191 .

(2) جامع المقاصد 4 : 38 .

ــ[411]ــ

عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) يقتضي لزوم العقود في جميع الأزمنة ، إذ لا معنى للزوم العقد آناً ما ، فإنّ الأمر بالوفاء في الآن الواحد لغو وتحصيل للحاصل ، لبعد فسخ المتعاملين المعاملة بعد تحقّقها بلا فصل ، لأنّ العادة تقتضي الالتزام بها في مدّة وزمان أكثر من الآن قطعاً ، ثمّ لو فسخها يفسخ بعد تلك المدّة ، وبهذا أثبت المقتضي للملكية في الزمان الثاني وهو عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وعدم المانع عنه بعدم ثبوت الخيار في الآن الثاني لعدم إطلاقه ، هذا .

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) بما أفاده في المتن وبيّنه في رسائله(3) وحاصله : أنّ الحكم تارةً يتعلّق بكلّ فرد من الأفراد الطولية للموضوع كما يتعلّق بكل واحد من الأفراد العرضية له بأن يلاحظ كل فرد في كل زمان من الأزمنة المتعاقبة موضوعاً وفرداً منه ، فيكون هناك أحكام متعدّدة وإن كان إنشاؤها واحداً ، وفي هذه الصورة إذا خرج فرد من تلك الأفراد عن تحت العموم فهو لا يمنع عن التمسّك بالعموم في الفرد الآخر ، إذ المفروض أنّها أفراد متغايرة وكل واحد منها موضوع مستقل للحكم ولا ربط لخروج أحدها بسائر الأفراد بوجه .

بل ولا يصح الاستصحاب في هذا القسم فيما لو ابتلي العام بمعارض ولم يمكننا التمسّك به ، وذلك لأنه من باب اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر وليس من باب إبقاء حكم واحد على موضوعه .

واُخرى يترتّب الحكم على مجموع الأفراد الطولية ويفرض الجميع فرداً واحداً فيحكم عليه بحكم ، فيكون الفرد في كل واحد من الأزمنة جزءاً للموضوع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) المكاسب 5 : 207 .

(3) فرائد الاُصول 2 : 680 ـ 682 .

ــ[412]ــ

المركّب لا فرداً مستقلا من الموضوع ، وفي هذا القسم إذا ورد مخصص على الحكم وأخرج بعض الأفراد في بعض الأزمنة من عموم ذلك الحكم للعام ، فلا محالة يرتفع به أصل الحكم ويحتاج ثبوته في الزمان الثاني إلى دليل آخر ، إذ المفروض أنّ الحكم كان واحداً وقد ارتفع في زمان ، ولا إطلاق للمخصّص أيضاً حتى يتمسّك باطلاقه في الأزمنة المتأخّرة ، وفي هذه الصورة لابدّ من التمسّك باستصحاب حكم المخصّص للقطع بارتفاع حكم العام بالتخصيص ، فلو ورد حينئذ دليل وقد دلّ على عموم ذلك الحكم العام واستمراره إلى الأبد كدليل اللغوية والحكمة ، أو رواية دلّت عليه مثلا ، فهو لا يكون منافياً للحكم الخاص ، وذلك لأنّ الاستمرار حينئذ حكم طرأ على حكم العموم وأنّ حكمه إذا ثبت يدوم ، فإذا ورد خاص ورفع حكم العام فلا يثبت في البين حكم حتّى يحكم باستمراره وهذا نظير قوله (عليه السلام) « حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة »(1) حيث دلّ على استمرار حلّية ما ثبتت حلّيته ، فإذا فرضنا دليلا دلّ على حرمة أمر مباح كحرمة الأكل والشرب في نهار شهر رمضان المحلّلين في غيره ، فهل يكون ذلك مناقضاً لقوله (عليه السلام) «  حلال محمّد » إلخ ، والوجه في عدم المناقضة ما عرفت من أنّ قوله (عليه السلام) «  حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) » دليل على استمرار كلّ حلّية لو تحقّقت وثبتت فإذا ارتفعت الحلّية في مورد فهو لا يتكفّل لاثبات موضوعه ولا يدلّ على أنّه حلال حتّى يناقض ما دلّ على حرمته ، وإنّما يقتضي الاستمرار لو ثبتت الاباحة .

وبعبارة اُخرى : الاستمرار في هذا القسم وارد على الحكم وموضوعه هو الاباحة أو الوجوب ونحوهما ، وأنّ الحكم أيّاً ما كان مستمرّ ، وهذا بخلاف القسم الأول فإنّ الحكم فيه ورد على الاستمرار وأنّ هذا العالم يجب إكرامه في هذا الزمان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي 1 : 58 / 19 .

ــ[413]ــ

بوجوب مستقل وفي الزمان الثاني أيضاً كذلك وهكذا ، وهذا معنى قوله (قدّس سرّه) إنّ الزمان اُخذ ظرفاً للحكم في هذا القسم.

ثمّ بعد ذلك أفاد أنه يظهر ممّا ذكرناه أنّ مورد جريان كل من العام والاستصحاب مغاير لمورد الآخر ، وفي مورد جريان الاستصحاب لا مجال للتمسك بالعام وهو القسم الثاني ، كما أنّ مورد جريان العموم لا مجال فيه للاستصحاب كما في القسم الأول وأنه لا مورد لاجتماعهما حتّى يقال إنّ العام يخصّص بالاستصحاب ، هذا ثمّ طبّق ما أفاده على المقام وقال : إنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الثاني في كلامنا فإنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قد أمر باللزوم في جميع الأزمنة وهو حكم واحد مترتّب على مجموع الأزمنة ، واستمراره فيما إذا دلّ عليه دليل أو قاعدة الحكمة واللغوية متفرّع على وجود الحكم باللزوم ، فإذا ورد عليه مخصّص في زمان فقد ارتفع الحكم باللزوم وبعد ارتفاعه في زمان يحتاج عوده بعده إلى دليل فلو شكّ حينئذ فلابدّ من استصحاب حكم المخصص لارتفاع حكم العام قطعاً ووجوب الاستمرار على تقدير دلالة الدليل عليه متوقّف على بقاء اللزوم وقد فرضنا ارتفاعه بالمخصّص ، هذا حقيقة ما أفاده شيخنا الأنصاري في المقام وروحه .

أمّا ما أفاده بحسب الكبرى من أنّ الحكم تارةً يتعلّق بالاستمرار كما في القسم الأول الذي فرض فيه الزمان متقطّعاً ومكثّراً للموضوع والأفراد ، واُخرى يتعلّق الاستمرار بالحكم بمعنى أنّ الحكم بالاستمرار موضوعه وجود الحكم وتحقّقه وبعد وجوده وثبوته نحكم عليه بالاستمرار ، فممّا لا نتعقّله في الأحكام التكليفية فإنّ الحكم التكليفي تارةً يتعلّق بموضوعه على نحو العموم الاستغراقي بحيث ينحلّ إلى كلّ واحد واحد من أفراد موضوعه كما في النواهي بأجمعها فإنّ حرمة الكذب مثلا تنحلّ إلى أحكام ونواه متعدّدة حسب أفراده ، فيكون هذا الكذب حراماً وذاك الكذب حراماً ، وكذا يتصوّر في الواجبات كما إذا قال : أكرم العلماء ، وفي مثله

ــ[414]ــ

إذا ورد تخصيص على بعض أفراد الموضوع وأخرج الكذب أيّام الربيع عن الحرمة فلا ينبغي الاشكال في أنه يتمسك بالعموم حينئذ في سائر الأفراد ، إذ كل فرد من أفراد الكذب موضوع مستقل ولا ربط لخروج أحدها بالآخر ، فيبقى غيره من الأفراد تحت العموم .

واُخرى يتعلّق بموضوعه على نحو العام المجموعي بأن يفرض الجميع فرداً واحداً مركّباً من أجزاء متعدّدة كعشرة أو أزيد بحيث يكون إتيان الجميع امتثالا واحداً ومخالفته مخالفة واحدة ، وفي هذه الصورة أيضاً إذا ورد دليل وأخرج فرداً من العام فلا محالة يبقى عموم العام في الباقي متّبعاً ويجب عليه إتيان سائر الأفراد .

وتوضيح ذلك : ما إذا فرضنا المخصص متصلا كما إذا قال : أكرم هؤلاء العشرة إكراماً لو خالفت في واحد لما امتثلت أصلا إلاّ زيداً فإنّ اكرامه غير واجب  ، فإنّ الكلام حينئذ لا يشتمل على تناقض ولا تهافت ، وكذلك فيما إذا كان المخصص منفصلا .

وبالجملة : فلا فرق في التمسك بالعموم بين أفراد العام من الاستغراقي والمجموعي ، فإنّ العام في كليهما متّبع في غير ما أخرجه الدليل ، فيكون الاستمرار في كلا القسمين متعلّقاً للحكم دون العكس ، فينافيه رفع اليد عن الحكم بعد ذلك : وكيف كان فما أفاده من أنّ الحكم تارةً يتعلّق على الاستمرار واُخرى يكون متعلّقاً للاستمرار ممّا لا نتعقّله في الأحكام التكليفية .

نعم يتصوّر ذلك في الأحكام الوضعية كالملكية فإنّ الملكية آناً ما غير معقول ، فإذا ورد أنّ من حاز ملك فيستفاد منه الملكية المطلقة والدائمية ، ولكنه لا ينافي تخصيصه بالحيازة في البلدان فإنها لا توجب الملكية في البلد وإنّما توجبها في الصحاري ونحوها ، فإنّ الحكم باستمرار الملك متفرّع على أصل وجود الملك والحكم باستمراره لا يتكفّل لإثبات موضوعه ، وكذا ورد إنّ الوارث إذا كان كافراً

ــ[415]ــ

لا يكون مالكاً ولا ينتقل إليه التركة ، فإذا صار بعد مدّة مسلماً فيشك في أنه ينتقل إليه المال أو لا ينتقل .

وبالجملة فلا يمكن التمسّك بعموم العام بعد إخراج فرد منها وتخصيصه في زمان كالاستيلاء فإنّ قوله « من استولى على شيء فهو له » قد أوجب الملكية للاستيلاء ، فإذا أخرجنا الاستيلاء عن ذلك الحكم في زمان فلا يمكن التمسّك بعموم من استولى بعد ذلك الزمان ، فإنّ ثبوته بعد تخصيصه يحتاج إلى دليل ، إذ الاستمرار في مثله إنّما ورد على الحكم بدليل خارجي وهو دليل الحكمة مثلا ، وهو أي الدليل الدالّ على استمراره فرع ثبوت موضوعه وهو الحكم ، وبعد ما فرضنا أنّ الحكم أي الملكية مخصّصة وقد ارتفعت فلا يبقى موضوع لدليل الاستمرار حتّى يقتضي دوامه كما يمكن أن يكون الحكم في الأحكام الوضعية متكفّلا لاستمراره بمعنى أن يكون الحكم وارداً على الاستمرار بأن يجعل الملكية المستمرّة أو الزوجية الدائمة ، وحينئذ إذا خرج فرد من أفراده عن الحكم في زمان فنتمسّك بعمومه بعد ذلك الزمان لفرض استمرار الحكم المجعول ، هذا .

وتفصيل الكلام في المقام : أنّ الأحكام التكليفية أعمّ من التحريمية والوجوبية متعلّقة بالأفعال وهي أمر تتقدّر وتتحدّد بالزمان وتنقسم إلى أفراد بحسب الآنات ، مثلا الكذب الواحد له أفراد طولية بحسب الزمان ، لأنّ الكذب كقوله عندي كذا مقداراً من المال في هذا الآن فرد وفي الآن الثاني فرد آخر ، ولو كان أحدهما مثل الآخر كقوله عندي كذا مقدار إلخ فإنّ الكيف المسموع وإن كان بحسب الألفاظ واحداً إلاّ أنه بحسب الحقيقة متعدّد ، وفي مثل ذلك يمكن أن يتعلّق الحكم على كل واحد واحد من الأفراد الطولية بحسب الزمان ، كما يمكن أن يتعلّق حكم واحد على الجميع .

وإذا فرضنا للمتعلّق أفراداً طولية فالمولى بحسب مقام الثبوت إمّا أن يلاحظ

ــ[416]ــ

الإطلاق ويحكم على طبيعة ذلك العمل بلا مدخلية شيء من الخصوصيات الفردية وإمّا أن يلاحظ التقييد ويحكم به في زمان خاص وعلى فرد أو أفراد متعيّنة لاستحالة الاهمال في مقام الثبوت ، فإذا نظرنا إلى مقام الاثبات ولم نظفر بتقييد في الكلام فنتمسّك باطلاقه لكشفه عن الاطلاق في مقام الثبوت وبه نحكم بثبوت الحكم في كل فرد من أفراد الزمان ، فإذا خرج فرد من تلك الأفراد وعلمنا بتخصيص الحكم في زمان فلا محالة نتمسك باطلاقه بعد ذلك الزمان ، هذا من غير فرق بين لحاظ الآنات بأجمعها فرداً واحداً ولحاظ كل واحد منها فرداً مستقلا ، لما عرفت في بحث العام والخاصّ من عدم الفرق في صحّة التمسّك بالعموم بين العام المجموعي والاستغراقي ، هذا كلّه في الأحكام التحريمية .

وكذلك الحال في الأحكام الوجوبية فإنّ الوجوب إذا تعلّق بعمل فيتصوّر له أفراد بحسب الآنات والأزمنة ، والمولى في مقام الثبوت لابدّ له إمّا من الحكم على نحو الاطلاق وإمّا على نحو التقييد ، فإذا كان كلامه في مقام الاثبات مطلقاً فنتمسك بإطلاقه ، وإذا علمنا بتخصيص ذلك الحكم في زمان فلا محالة نتمسك بإطلاق الواجب بعد ذلك الزمان ، وهذا أيضاً من دون فرق بين لحاظ الأفراد على نحو الاجتماع وبين لحاظ كل واحد منها فرداً مستقلا ، لجواز التمسك بالعام في كل من العام الاستغراقي والمجموعي .

فالمتحصّل : أنّ التخصيص في الأحكام التكليفية في زمان لا يمنع عن التمسّك بعمومها وإطلاقها بعد زمان التخصيص ، هذا .

ومن هنا يظهر أنّ ما أصرّ عليه شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) هنا(1) وفي بحث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منية الطالب 3 : 169 .

ــ[417]ــ

الاُصول(1) من عدم جواز التمسّك بالعموم في باب النواهي بعد ورد التخصيص عليها في زمان بدعوى أنّ النهي عن المحرّمات لا محيص عن استمراره ، لأنّ النهي عنها في آن من الآنات لغو وتحصيل للحاصل ، إذ كل أحد لا محالة يترك الحرام في آن من الآنات ، فالاستمرار في النواهي استفيد من دليل خارجي وهو دليل الحكمة  ، فالاستمرار وارد على الحكم فإذا علمنا بارتفاعه في زمان فيحتاج ثبوته بعد ذلك إلى دليل ، ولا يمكننا التمسّك بعمومه ، لأنّ دليل الاستمرار يقتضي استمرار الحكم على تقدير وجوده ولا وجود له لتخصيصه ، ولا يمكن استفادة العموم من نفسه لأنّ الحكم لا يتكفّل لاستمرار نفسه .

ممّا لا وجه له ويعدّ من غرائب كلامه كما عددناه عند إلقائه ، إذ ليس معنى الاستمرار فيها استمرار الحكم الواحد بل معناه وجود أفراده الطولية بوجود أفراد موضوعه الطولية . فبعد إطلاقها في مقام الاثبات وعدم تقييدها بوقت أو بفرد فلماذا لا يمكننا التمسك باطلاقها ، إذ لا محيص من أحد الأمرين ، فأمّا أن يقيّدها المولى في مقام الثبوت وإمّا أن يطلقها ، وحيث لا دليل على التقييد فيستكشف الاطلاق في الحرمة بحسب أفراد الزمان والآنات ، فإذا خرج فرد من ذلك وعلمنا بتخصيصها في زمان فلا وجه لعدم التمسّك باطلاقها أو عمومها بعد ذلك الزمان .

وأمّا ما نقله عن الفقهاء في المريض إذا احتاج إلى شرب الخمر حيث ذهبوا إلى حرمته عليه حينئذ تمسّكاً باستصحاب الحرمة الثابتة في حقّه قبل المرض واستحسنه (قدّس سرّه) من أجل أنّ المقام ليس من موارد التمسك بالعموم ، لأنّ الحكم لا يتكفّل لاستمرار نفسه ، فهو أغرب من أصل كلامه ، لأنّ الكلام في المقام في صحّة التمسك بالعمومات بعد ورود تخصيص عليها في زمان ، وأمّا التمسّك بها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات : 4 : 175 .

ــ[418]ــ

قبل ورود التخصيص عليها عند الشك في شمولها لبعض الحالات كالسفر والحضر والمرض والقيام ونحوها فهو ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال ، وإلاّ فلا يبقى للتمسك بالعموم والاطلاق مورد ومكان .

بل لازم ما أفاده أنّ أحداً إذا مرض من أوّل بلوغه لا يحرم عليه الخمر ولا سائر المحرّمات لعدم إمكان التمسّك بالإطلاقات وعدم جريان استصحاب الحرمة في حقّه لعدم الحالة السابقة فيه ، وهذا ممّا لا يلتزم به (قدّس سرّه) .

على أنّ إسناد الفتوى بحرمة الخمر حال المرض إلى الفقهاء لأجل الاستصحاب غير مطابق للواقع ، لأنّ كلمات الفقهاء المعروفين الذين بموافقتهم تتم الشهرة لا استدلال لهم في كتبهم إلاّ في موارد نادرة على وجه الاشارة كقولهم للاشتغال ونحوه ، وأمّا غيرهم فالميسور من كتبهم عند المراجعة ليس إلاّ واحد أو اثنين مع اختلافهم بين المجوّز والمحرّم ، ومعه كيف يصح إسناد ذلك إلى الفقهاء .

وأمّا الأحكام الوضعية فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) كما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) أيضاً أنّها لمّا لم تعتمد على المتعلّق وهو الأفعال ـ لأنّ الأحكام الوضعية حكم ولها موضوع ولا يتوقّف على متعلّق كالأحكام التكليفية من الأفعال ، إذ الملكية حكم وموضوعها الدار أو الكتاب ونحوهما ـ لم يمكن فيها فرض متعلّقات متعدّدة حسب الآنات والأزمنة كما صوّرناه في متعلّق الأحكام التكليفية ، وعليه فلا تدلّ أدلّتها على الاستمرار بحسب الزمان ، بل هي أحكام تثبت لموضوعاتها فلابدّ في استفادة استمرارها من التماس دليل آخر كدليل الحكمة ونحوه وبه نحكم باستمرار الأحكام الوضعية
فيكون الاستمرار فيها وارداً على الحكم ، وإذا كان الأمر كذلك وورد عليها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 209 .

ــ[419]ــ

تخصيص في زمان فلا يمكننا التمسّك بعمومها بعد ذلك الزمان ، لأنّ استفادة استمرارها من نفسها غير ممكنة ، لأنّ الحكم لا يتكفّل لاستمرار نفسه ، ولا من دليل الحكمة ونحوها لأنّها إنّما تثبت الاستمرار في الأحكام الموجودة والمفروض أنّ الحكم قد ارتفع في المقام بالتخصيص ثم طبّقا ذلك على المقام ، هذا .

وما أفاداه في الأحكام الوضعية متين في الجملة لا في جميع الموارد ، إذ كلا القسمين ممكنان في الأحكام الوضعية ، وذلك لأنّ الاستمرار تارةً يراد منه الاستمرار في الجعل أعني بقاء الجعل وعدم نسخه ، واُخرى يراد منه استمرار المجعول ، أمّا الكلام في أنّ الحكم يتكفّل عدم نسخه أو لا أعني استمرار جعله فهو ممّا لا يهمّنا في المقام وله محل آخر ، فما مثّل به من قوله (عليه السلام) « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة » خارج عن محل الكلام وناظر إلى أنّ الحلال لا يرتفع إلاّ بالنسخ ، وإنّما الكلام في استمرار المجعول وأنّ الحكم هل يتكفّل استمرار نفسه أو لا والظاهر أنه لا مانع من أن يتكفّل الدليل استمرار الحكم المجعول بوجه بأن يجعل الملكية الدائمية أو الزوجية الأبدية ، كما له أن يتكفّل لعدم استمرار الحكم المجعول بأن يجعل الزوجة الانقطاعية والملكية في ساعة بحيث لا نحتاج في استفادة استمراره إلى دليل آخر ، فأيّ معنى لعدم إمكان تكفّل الحكم لاستمرار نفسه ، وعليه فإذا ورد عليه تخصيص في زمان فلا محالة نتمسك بعمومه لما بعد زمان التخصيص .

نعم ، في مورد لا يمكن التمسك بعموم العام بعد تخصيصه وهو ما إذا كان الدليل في مقام الاهمال ولم يكن مطلقاً وقد استفدنا عمومه واستمراره من دليل آخر كدليل الحكمة مثلا ثم علمنا بارتفاع الحكم في زمان فلا نتمكّن بعد ذلك من التمسك بالعام ، إذ المفروض أنّ الدليل لا إطلاق له حتى نستفيد الاستمرار من نفسه  ، وأمّا الدليل الدالّ على استمراره فهو إنّما دلّ على استمرار الحكم على تقدير ثبوته وبعد الفراغ عن وجوده ، وهو غير ثابت بعد ارتفاعه بالتخصيص في زمان .

ــ[420]ــ

والمتحصّل : أنّ ما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري وشيخنا الاُستاذ (قدّس سرّهما) من أنّ العموم الزماني متفرّع على العموم الافرادي على إطلاقه غير تام .

فذلكة الكلام : كل حكم شرعي كان متعلّقاً بفعل من أفعال المكلّفين ـ أعم من الأحكام التكليفية والوضعية ، حيث إنّ التكليفية بأسرها متعلّقة بالأفعال والوضعية أيضاً ربما يكون متعلّقاتها من الأفعال نظير بطلان الطهارة بالحدث والصلاة بالتكلّم في أثنائها وهما من الأفعال ـ تارةً يلاحظ كل فرد من أفرادها الطولية بحسب الزمان على نحو الاستقلال نظير العام الاستغراقي بأن يكون هناك أحكام متعدّدة حسب تعدّد الآنات . واُخرى يلاحظ مجموع الأفراد على نحو يكون كل واحد منها جزءاً من الموضوع نظير العام المجموعي بأن يكون هناك حكم واحد مترتّب على مجموع الأزمنة ، وعلى كلا التقديرين إذا ورد عليه تخصيص في زمان فبعد ذلك يتمسّك بعموم العام لا محالة ولا مجال للاستصحاب فيهما ، أمّا فيما إذا كان الزمان ملحوظاً على نحو التقطيع وفرض كل آن منه فرداً مستقلا كما في العام الاستغراقي فلوضوح أنّ الاستصحاب في مثله من قبيل إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر حتّى أنه لو لم يمكن التمسّك فيه بالعام لما يمكن التمسّك فيه بالاستصحاب أيضاً ، وأمّا إذا اُخذ مجموع الأفراد على نحو العام المجموعي فلأنّ الاستصحاب أي استصحاب حكم الخاص وإن كان جارياً في حدّ نفسه ، إلاّ أنه مع وجود الأصل اللفظي أعني العموم والاطلاق لا مورد له لحكومتهما عليه ، والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ الاهمال في الواقعيات غير معقول والحاكم في كل من صورتي لحاظ الأفراد على وجه الاستقلال ولحاظ المجموع على نحو العام المجموعي إمّا أن يحكم على نحو الاطلاق فلا يقيّد متعلّق حكمه بشيء ، وإمّا أن يقيّده بقيد لا محالة ، وعند عدم القرينة على التقييد فيؤخذ باطلاق كلامه ، ومعه لا مجال للاستصحاب أبداً ، وفي كلا الفرضين يكون الحكم وارداً على الزمان لا محالة ، وهذا

 
 

ــ[421]ــ

ظاهر .

وأمّا الأحكام الوضعية غير المتعلّقة بشيء من الأفعال كملكية الأجسام (دون ملكية الأفعال فإنّها من القسم المتقدّم) فهي أيضاً تارةً على نحو العام المجموعي واُخرى على نحو العام الاستغراقي ، وعلى كلا التقديرين يمكن أن يكون الحكم وارداً على الزمان فيهما ويكون الدليل متكفّلا لاستمرار المجعول كجعل الملكية الأبدية أو الموقتة ، نعم لا يعقل أن يتكفّل الحكم لبقاء نفسه بحسب الزمان وعدم نسخه واستمرار جعله ، إلاّ أنه ممّا لا كلام لنا فيه ، وحيث إنّ الحكم وارد على الزمان في هذا القسم أيضاً فإذا ورد تخصيص على تلك الأحكام في زمان وشككنا في بقاء الحكم بعد زمان التخصيص فلا محيص من التمسك بالعموم ولا مجال للاستصحاب معه ، سواء فرض العموم استغراقياً أو مجموعياً ، لوضوح أنه لا مجال للاستصحاب مع الأصل اللفظي كما تقدّم .

وأمّا إذا فرضنا أنّ الحكم ورد على شيء ولم يتكفّل لبيان عمومه واستمراره وإنّما استفدنا عمومه بدليل آخر كدليل الحكمة ونحوه ، ثم ورد عليه تخصيص وكان التخصيص من الابتداء ، فلا يمكننا التمسّك بعد ذلك الزمان بالعام ، وذلك لأنّ نفس الدليل غير متكفّل لإطلاقه أو عمومه حتّى نتمسّك به ، وأمّا الدليل الخارجي فهو إنّما دلّ على أنّ ذلك الحكم إذا وجد يستمر ولم يوجد الحكم في المقام حتّى يحكم عليه باستمراره ، مثلا إذا ورد أنّ الاستيلاء على شيء يوجب الملك واستفدنا استمرار الملكية الحاصلة بالاستيلاء بدليل خارجي وهو الحكمة لأنّ الملكية آناً ما لغو لا أثر لها ، فلابدّ من كون الملك مستمرّاً ، ثمّ ورد عليه تخصيص وأنّ الاستيلاء في غير البالغين لا يفيد الملك وقد استولى غير بالغ على شيء ، ثمّ بعد مدّة بلغ فلم ندر أنّ الحكم السابق أعني قوله من استولى إلخ يشمل هذا المستولي البالغ بالفعل من أجل أنّ استيلاءه كان قبل بلوغه ، فلا يمكننا التمسّك في مثله بالعموم ، إذ نفس الدليل لا

ــ[422]ــ

عموم له حسب الفرض ، وأمّا دليل الحكمة فهو إنّما يقتضي استمرار الحكم بعد وجوده ولم يحدث الملكية في حقّ غير البالغ حتّى يحكم باستمرارها .

نعم لو ورد التخصيص على مثل ذلك في الأثناء لا من الابتداء كما إذا حكمنا بملكية المال لأحد باستيلائه عليه ثمّ بعد مدّة ورد عليه تخصيص في زمان ، وحكمنا بعدم الملك في مدّة وبعد تلك المدّة شككنا في أنّه هل صار مالكاً أو لا ، لا مانع من التمسّك بعموم الدليل الخارجي حيث دلّ على أنّ الملك إذا وجد يدوم والمفروض أنّ الملكية قد وجدت في حقّه قبل زمان التخصيص فمقتضاه أنّ الملكية مستمرّة في حقّه  ، وفي هذا القسم الأخير أي فيما إذا استفدنا عموم الحكم من دليل خارجي يكون الزمان وارداً على الحكم بخلاف القسمين المتقدّمين ، هذا كلّه من أوّله إلى آخره فيما إذا كان ثبوت الحكم في كلّ فرد من الأفراد أو في مجموعها بنفسه مدلولا للدليل وقد عرفت أنه معه لا مجال لاستصحاب حكم الخاص بل عموم العام محكّم في مثله .

وأمّا إذا كان مدلول الدليل أمراً يلازم ثبوت الحكم في كل فرد أو في مجموع الأفراد ولم يلحظ ثبوته لكل واحد أو لمجموعه على وجه الاستقلال ، وهذا كما إذا كان مدلوله استمرار الحكم فإن استمراره يلازم ثبوته على كل فرد أو في مجموع الأفراد ، وليس هو عين الحكم بثبوته لكلّ فرد أو لمجموع الأفراد ، وإن شئت قلت إنّ المأخوذ في الدليل حينئذ هو الهيئة الاتّصالية ثمّ ورد عليه تخصيص ودلّ على انقطاع الاستمرار وارتفاع الهيئة الاتّصالية ثمّ شككنا بعد زمان التخصيص ، فلا دليل على الرجوع إلى حكم العام ، لأنّ الحكم إنّما ورد على الاستمرار والهيئة الاتّصالية والمفروض ارتفاع ذلك بالتخصيص ، فثبوت الحكم بعد ارتفاعها يحتاج إلى دليل ، هذا تمام الكلام في استيفاء القول في المقام ولعلّنا تعرّضنا إلى جميع الأقسام المتصوّرة ولم يفتنا شيء .

ــ[423]ــ

وأمّا تطبيق ذلك على المقام فملخّص الكلام فيه : أنّ قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) إن كان بمعنى وجوب ترتيب الأثر على العقد على نحو الاطلاق الشامل لما بعد الفسخ أيضاً كما ربما يظهر من كلمات شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) فيكون مفاده حكماً تكليفاً ومرجعه إلى عدم ارتفاع العقد بالفسخ ، وإلاّ فلا وجه لوجوب ترتيب آثار ملكية الغير على ماله ، وعليه فإذا ورد عليه تخصيص في زمان وحكمنا فيه بعدم وجوب ترتيب الأثر على العقد من الابتداء أو الوسط كما في خياري المجلس والغبن فبعد ذلك الزمان لابدّ من التمسك بعموم العام وهو وجوب ترتيب الآثار على العقد كما مرّ وهذا في مثل قوله (عليه السلام) « لا يحلّ مال امرئ  »(2) إلخ أو (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(3) أظهر ، فإنّ التصرّف في مال الغير حرام مطلقاً ، فإذا خرج منه زمان وشككنا بعده في حرمة التصرف فيه فلا محيص من التمسك بعموم « لا يحلّ » من حيث الزمان ، وكذا (لاَ تَأْكُلُوا) فإنّ مقتضاه حرمة جميع أفراد الأكل ، هذا الأكل وذاك الأكل وهكذا ، فإذا ورد عليه تخصيص في زمان وقلنا فيه بجواز أكل مال الغير وشككنا بعد ذلك الزمان في جوازه وحرمته فلا محيص من التمسك بالعام وهو يقتضي حرمة التصرف والأكل في مال الغير .

وأمّا إذا بنينا على ما سلكناه من أنّ معنى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عدم تأثير الفسخ وأنه إرشاد إلى اللزوم ، إذ لا يفهم منه عرفاً إلاّ عدم فسخها ولا يستفاد منها الحكم التكليفي بوجه ، فما أفاده جامع المقاصد في توجيه فورية الخيار ممّا لا غبار عليه ولا مانع من الالتزام به ، فإنه إذا خصص في زمان وحكم فيه بتأثير الفسخ وعدم اللزوم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) الوسائل 5 : 120 / أبواب مكان المصلّي ب3 ح1 (مع اختلاف يسير) .

(3) النساء 4 : 29 .

ــ[424]ــ

وشككنا في اللزوم بعد ذلك الزمان فلابدّ من التمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) حيث إنه دلّ على لزوم العقد وعدم ارتفاعه بالفسخ في كل واحد من أفراد الزمان ، وإذا حكم بخروج زمان وفرد من تلك الأفراد فلا محالة يرجع في غيره إلى العام .

وبالجملة : أنّ ما أفاده جامع المقاصد ممّا لا نرى فيه إشكالا .

تلخّص من جميع ذلك : أنّ مقتضى العمومات نحو (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وغيرهما لزوم المعاملة إلى الأبد ، فإذا ورد عليها تخصيص ودلّ على ارتفاع اللزوم في مدّة خاصّة فلا مانع من التمسك بعمومها بعد تلك المدّة كما ذهب إليه المحقق الكركي خلافاً لما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) وشيخنا الأنصاري حيث منعا عن التمسك بالعموم بعد زمان التخصيص بدعوى أنّ الحكم ورد عليه تخصيص وقد ارتفع بذلك فثبوته بعده يحتاج إلى دليل ، وقد عرفت تفصيل الكلام في ذلك فراجع ، وكيف كان فلا مجال للتمسّك بالاستصحاب ، هذا .

ثمّ على تقدير تسليم ذلك والبناء على عدم إمكان التمسك بالعمومات فهل يمكننا التمسك بالاستصحاب بعد زمان ورود التخصيص أو لا يمكن التمسك بالاستصحاب أيضاً ؟

أمّا بناءً على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما ذكرناه في محله فلا إشكال في عدم جريانه في المقام ، لأنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية التي منها المقام مبتلى بالمعارض دائماً وهذا ظاهر .

وأمّا إذا قلنا بجريانه في الشبهات الحكمية فهل يجري الاستصحاب حينئذ في المقام ، أو أنه لا يجري لخصوصية في المقام ، الصحيح هو الثاني وأنّ الاستصحاب لا يجري في المقام حتّى بناء على جريانه في الشبهات الحكمية ، والوجه في ذلك أنّ المدرك في خيار الغبن لا يخلو عن أحد اُمور ثلاث : فإمّا هو الشرط الضمني كما ذكرناه ، أو حديث نفي الضرر ، وإمّا هو الإجماع ، وأمّا غيرها من المدارك فهو ممّا لا

ــ[425]ــ

إشكال في فساده .

فإن كان المدرك هو الشرط الضمني فهو إنّما يقتضي ارتفاع اللزوم في خصوص الزمان الذي يتمكّن فيه من الفسخ ، إذ بذلك يتمكّن من دفع الضرر الوارد على نفسه ، لأنّ اشتراط التساوي إنّما هو بمناط عدم ورود الضرر عليه ، وأمّا في المقدار الزائد عن ذلك الزمان فلا يقتضي الشرط الضمني الخيار فإنه بحسب الارتكاز لا يقتضي الخيار دائماً بل إنّما يقتضيه في مدّة يتمكّن فيها من ردّ المعاملة ومن الظاهر أنّ مثل هذا الخيار لا يمكن إثباته في الزمان الثاني بالاستصحاب وذلك لأنّ الخيار بمقتضى الاشتراط إنّما ثبت في تلك المدّة الخاصّة التي يتمكّن فيها من الفسخ والامضاء ، وإثبات الحكم والمشروط في غير مورد الشرط من القياس الظاهر ، وهذا نظير ما إذا اشترط على نفسه صوم يوم معيّن أفهل يمكن إثبات وجوب الصوم في غير هذا اليوم بالاستصحاب ، وحيث إنّ الشرط هو الخيار في خصوص المدّة التي يتمكّن فيها من الفسخ فإثباته في غير مورد الشرط أعني غير المدّة التي يتمكّن فيها من الفسخ إثبات للحكم في غير موضوعه ، والاستصحاب على تقدير جريانه في الشبهات الحكمية إنّما هو فيما إذا كان الموضوع باقياً وكان الاستصحاب إبقاء للحكم على موضوعه ، لا فيما إذا ارتفع موضوعه وكان استصحابه من قبيل إسراء حكم الموضوع المرتفع إلى موضوع آخر ولعلّه ظاهر .

وأمّا إذا كان المدرك حديث نفي الضرر فهو أيضاً كسابقه يمنع عن جريان الاستصحاب بعد الآن الأول ، وذلك لأنه إنّما ينفي الضرر وأنّ اللزوم الموجب لتضرّر المشتري مثلا مرتفع في الشريعة المقدّسة ، ومن الظاهر أنّ اللزوم في الآن الثاني مع عدم فسخه باختياره في الآن السابق ليس ضررياً عليه ، وإنّما الضرري هو اللزوم الدائمي ويرتفع الضرر بجعل الخيار له في الآن الأول فإذا تركه حينئذ باختياره فلا يكون اللزوم في الآن المتأخّر ضررياً في حقّه ، فلا يمكن استصحاب

ــ[426]ــ

ارتفاع اللزوم بعد ذلك الآن لأنه ثبت للمتضرّر وهو في الآن المتأخّر ليس متضرّراً  ، والاستصحاب لا يتمكّن من إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر .

وأمّا إذا اعتمدنا على الاجماع فعدم جريان الاستصحاب أوضح ، وذلك لأنّ الاجماع دليل لبّي ويكتفى فيه بالمقدار المتيقّن ولا يدرى أثبت الحكم على عنوان المتضرّر أو على عنوان المغبون وأنه قام على أنّ المتضرّر في المعاملة بالخيار أو على أنّ المغبون متمكّن من الفسخ ، ومن هنا نشك في بقاء الموضوع لأنه إن كان هو عنوان المتضرّر فهو مرتفع قطعاً ، لأنّ المشتري في الآن الثاني مع تركه الخيار في الآن السابق باختياره غير متضرّر ، وإن كان هو عنوان المغبون فهو باق ومع الشك في بقاء الموضوع لا يجري الاستصحاب .

فالمتحصّل إلى هنا : أنّ الاستصحاب لا مجال له في المقام ، بل الصحيح هو التمسك بالعمومات كما مرّ ، وعلى تقدير التسليم فكما لا يمكن التمسك بالعمومات فلا يمكن التمسك بالاستصحاب خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) ولشيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) بحسب المدرك وإن كنّا موافقين لهما في النتيجة ، بل مقتضى التمسك باستصحاب الفساد في الفسخ عدم ترتيب الأثر عليه للشك في صحّته وتأثيره وأصالة الفساد يقتضي عدم تأثيره (على مناقشة في ذلك) وعلى هذا فالخيار على الفور لا على التراخي .

بقي الكلام في معنى الفور ، فيمكن أن يراد منه الآن الأوّل بعد العلم بالغبن بالدقّة العقلية بأن يكون الآن العقلي مورداً للخيار ويرتفع في الآن الثاني بعده على تقدير عدم الفسخ في الآن الأول .

كما يحتمل أن يراد منه الفور بالمعنى العرفي بمعنى أنه لا يلزمه إعمال الخيار في الآن العقلي بعد العلم بالغبن بل بحيث يعدّ فوراً لدى العرف ، فإذا علم بالغبن واشتغل بحاجياته من الصلاة أو الأكل ونحوهما ثمّ فسخ بعد ذلك نفذ لأنّه فور

ــ[427]ــ

عرفي .

ويحتمل في المقام معنى متوسط بين العقلي والعرفي وهو أن يقال : إنّ المراد بالفور هو أن لا يصدق عليه المتواني عندهم ، وهذا أمر يختلف باختلاف الموارد والأشياء بحسب الكبر والصغر ، مثلا إذا أراد فسخ معاملة واقعة على قرية فإنه يتوقّف على إحضار عالم أو الحضور عند مدير الأملاك ، فلا يصدق عليه المتواني في تأخير إقامة مجلس الفسخ ، وهذا بخلاف ما لا يتوقف فسخه على تمهيد مجلس أو إحضار عالم ، كما لا يصدق التواني فيما إذا علم به في منتصف الليل وأخّر الفسخ إلى بعد الطلوع ، فإنه لا يصدق عليه المتواني وليس للبائع أن يقول أين كنت في هذه المدّة ، وهذا بخلاف من علم بالغبن في اليوم وأخّر الفسخ إلى اليوم الثاني أو الثالث فإنه من التواني عرفاً .

وبالجملة : المناط هو صدق ذلك فلا يصدق على من علم به عند طلوع الشمس وأخّره إلى بعد ساعة من افتتاح السوق ، ويختلف هذا باختلاف الحالات والأشياء وهو موكول إلى العرف ، وليس مضيّقاً كالنظر العقلي ولا موسعاً بسعة النظر العرفي حتى لا يمنع عنه الاشتغال بالحاجيات ، بل هو أمر متوسط بينهما كما لا يخفى  .

وممّا ذكرناه يظهر أنّ الناسي أو الجاهل بالخيار حكماً أو موضوعاً لا يعدّ عندهم من المتواني فلا يسقط خيارهم بذلك ، هذا تمام الكلام في خيار الغبن .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net