طريق معرفة حقيقة الشيء ومقتضاه الأوّلي - التحقيق في معنى الخلقة الأصلية والطبيعة الأوّلية 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الرابع : الخيارات-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4651


ثم ذكر أنّ مقتضى الطبيعة الأوّلية للشيء ربما يغاير حال أغلب الأفراد ويرجّح حينئذ الثاني ويحكم للشيء بطبيعة ثانوية اعتبارية يعتبر الصحة والعيب والكمال بالنسبة إليها ، ومثّل لذلك بالأرض حيث إنّ مقتضى طبيعتها الأوّلية أن لا يكون فيها خراج وضريبة ، لأنّ الأرض كلّها لله قد جعلها لجميع الناس وعامريها  ، إلاّ أنّ السلاطين والعقلاء قد جعلوا عليها الخراج ظلماً ، أو عدلا كجعله في الشريعة المقدّسة لحفظ النظام وبذلك انقلبت طبيعتها الأوّلية وصارت الضريبة والخراج من مقتضيات الأراضي بالحقيقة الثانوية .

وعليه فإذا اشترى أرضاً ثم ظهر أنّ فيها خراج فلا يعدّ ذلك عيباً لأنه ممّا تقتضيه طبيعتها الثانوية ، نعم لو كان خراج أرض زائداً على خراج أغلب الأفراد كما إذا كان خراجها ثلثاً مع أنّ الغالب في الخراج هو العشر لكان ذلك عيباً ، كما أنّ عدم الخراج في أرض من جهة رعاية السلطان لمالكها أو لتنظيمه كمال .

وكذا الحال في الثيبوبة في الإماء المجلوبة من دار الكفر ، لأنّ المرأة أمة كانت أم حرّة وإن كانت تختلف الرغبات العقلائية فيها بالبكارة والثيبوبة وأنّ البكارة ممّا يقتضيه أصل الخلقة الأوّلية إلاّ أنّ الإماء التي تجلب من دار الكفر قد انقلبت إلى حقيقة ثانوية وهي الثيبوبة فلا يكون ذلك في الإماء عيباً ، نعم لو كانت الأمة صغيرة لكانت الثيبوبة فيها عيباً ، لأنّ مقتضى الطبيعة الأوّلية والغالب في الصغيرة هو البكارة ، كما أنّ البكارة في الأمة الكبيرة صفة كمال .

ثم أفاد أنّ مقتضى الطبيعة الأوّلية ربما يكون نقصاً وعيباً ويدور الصحة

ــ[306]ــ

والعيب مدار الحقيقة الثانوية وهذا كالغلفة وعدم الختان فإنه ممّا يقتضيه الطبيعة الأوّلية للإنسان ، إلاّ أنّ الحقيقة الثانوية في العبيد إذا كانت في بلاد الإسلام هو الختان فيكون فاقده معيباً ، نعم في العبد المجلوب من دار الكفر لا يعدّ الغلفة نقصاً وعيباً .

ثم احتمل (قدّس سرّه) احتمالا آخر ، وهو أن يقال إنّ المدار في العيب والصحة على مقتضى الطبيعة الأوّلية في جميع الموارد ، وأنّ فاقده محكوم بالعيب ، وأمّا في الموارد المذكورة المتقدّمة كالخراج والثيبوبة ونحوهما ممّا لا يعدّ عيباً مع فقده لما يقتضيه الطبيعة الأوّلية فنلتزم فيها أيضاً بكونها عيباً إلاّ أنّها ليست بعيب موجب للخيار ، لأنّ العيب إنّما يقتضي الخيار فيما إذا لم يعلم به المشتري ولم يتبرّأ منه البائع وأمّا مع شيء منهما فلا . وكون العيب موجوداً في أغلب الأفراد يمنع عن حمل إطلاق العقد على الالتزام بما يقتضيه الطبيعة الأوّلية ، بل يكون ذلك ببراءة ممّا يقتضيه الخلقة الأصلية والأوّلية ، ومع البراءة عنه لا يثبت الخيار ، فالنقص عن مقتضى الخلقة الأوّلية عيب إلاّ أنه مع وجوده في أغلب الأفراد لا يكون العيب سبباً للخيار فالموضوع والمقتضي له أي للخيار موجود ، إلاّ أنه لا يؤثّر لأجل البراءة (أو علم المشتري بالعيب) .

وتظهر الثمرة بين هذا الوجه والوجه السابق فيما إذا اشترط المشتري صفة البكارة في الأمة الكبيرة التي انقلبت طبيعتها إلى طبيعة ثانوية وهي الثيبوبة ثمّ ظهرت ثيّباً ، فإن بنينا على أنّ النقص عمّا تقتضيه الطبيعة الأوّلية عيب فتكون الأمة معيبة ونحكم بثبوت الردّ والأرش ، وإذا تصرّف فيها تصرّفاً مانعاً من الردّ يطالبه بالأرش والتفاوت بين قيمتي الباكرة والثيّب وذلك لأنّها معيبة ، والمفروض أنّ البائع لم يتبرّأ منه باطلاق العقد بل التزم بوجوده بمقتضى الاشتراط .

وأمّا إذا قلنا بأنّ العيب هو النقص عمّا يقتضيه حال أغلب الأفراد والطبيعة

ــ[307]ــ

الثانوية فالأمة لا تحكم بالعيب ولا يثبت للمشتري خيار العيب أعني الردّ والأرش  ، بل يثبت له خيار تخلّف الشرط ويتمكّن من ردّها فقط أمّا مطالبة الأرش فلا ، وكيف كان فقد قوّى (قدّس سرّه) الوجه السابق وهو ملاحظة حال أغلب الأفراد ، وبه فرّق بين الأصناف إذا كانت طبائعها الأوّلية أو الثانوية مختلفة وحكم بلزوم ملاحظة الطبيعة في كل صنف بخصوصه بلا إسرائه إلى صنف آخر مثلا إذا كان الخراج في الدار بالعشر وفي الدكّان بنصف العشر فلا يكون ذلك عيباً في الدار بدعوى أنّ الخراج في الدكّان بنصف العشر بل كل صنف يلاحظ بما له من الحقيقة الثانوية ، هذه خلاصة ما أفاده (قدّس سرّه) في المقام.

ولابدّ لنا من التكلّم في معنى الخلقة الأصلية والطبيعة الأوّلية لنرى أنّها ماذا وأنّ المراد بها في كلامه (قدّس سرّه) أي شيء فنقول : إن أراد (قدّس سرّه) بذلك ماهية الشيء كما هو الظاهر من مجموع كلامه بل وقد صرّح بلفظ الماهية أيضاً على ما هو ببالي وأنّ ما يقتضيه ماهية الشيء هو الذي يدور مداره الصحة والعيب ، ففيه أنّ الماهية لا يقتضي شيئاً غير الجنس والفصل ولا اقتضاء لها لغيرهما حتى يدور مداره العيب ، مثلا ماهية الإنسان مركّبة من الحيوان وقوّة الإدراك المعبّر عنها بالنفس الناطقة ولا يقتضي تلك الماهية إلاّ البدن فقط لمكان الحيوانية ، وأمّا العين أو اليد أو الرجل أو غيرها فكلّها ممّا لا تقتضيه ماهية الإنسان ، ولازمه عدم كون فقدها عيباً مع أنّها عيب بلا إشكال .

وبالجملة : أنّ مقتضى ماهية الإنسان ما عرفت ، لأنّ مثل كونه بصيراً أو سميعاً أو غير ذلك كلّها من أوصاف الكمال الزائدة على الماهية إنّما أعطاها الله سبحانه للإنسان تفضّلا لقوله عزّ من قائل : (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(1) نظير البيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإنسان 76 : 2 .

ــ[308]ــ

في قوله تعالى : (خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(1) وبالجملة أنّ هذه الأوصاف ممّا لا تقتضيه ماهية الإنسان فإرادة الماهية من الطبيعة الأصلية غير ممكن .

وإن اُريد بها ما يلازم الماهية من الاُمور المعبّر عنها في كلمات الفلاسفة والاُصوليين بلوازم الماهية ، وأنّها هي التي تقتضيها الماهيات وهي المدار في الصحة والعيب ، فيدفعه : أنّ الماهية وإن كانت ربما يكون لها لوازم إلاّ أنها مستحيلة التخلّف والانفكاك عن الماهية حتى يعدّ عيباً ، أترى أنّ الزوجية تنفك عن الأربعة وهي ممّا عدّوه من لوازم الماهية ، وهذا الاحتمال أيضاً ساقط وغير مراد .

فيتعيّن أن يكون المراد ما يقتضيه وجود الشيء والطبيعة في الخارج بأن يقال إنّ ما يقتضيه وجود الطبيعة هو الذي يدور مداره العيب والصحة ، فوجود طبيعة الإنسان يقتضي العين والسمع واليد والرجل ونحوها ففقدها يعدّ عيباً ، نعم إنّ وجوده لا يقتضي الكتابة مثلا فوجودها يعدّ كمالا ، وبالجملة فالمدار هو ما عليه الوجود الخارجي للطبيعة ، وهذا أمر معقول بحسب الثبوت .

إلاّ أنّ الكلام فيه في مقام الاثبات ، لأنّا إذا فرضنا أنّ وجودات الإنسان كلّها واجدة للعين وأنّها بصيرة ولم نر في الخارج أعمى فرضاً فمن أين يمكننا إثبات أنّ العين والإبصار ممّا يقتضيه وجود طبيعة الانسان ، بل نحتمل أن يكون ذلك من مقتضيات تفضّل الله سبحانه على الانسان باعطاء العين في قوله : (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)(2) نعم هذه الصفة من الممكنات فيحتاج في تحقّقها إلى مقتض وشرط وعدم المانع ، وأمّا جعل المقتضي لها وجود الطبيعة فلا برهان عليه حتى يحكم بأنّ عدمها عيب . وكذا الحال فيما إذا رأينا التفاحة حمراء ولم نر في الخارج تفاحة بيضاء فأنّا لنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الرحمن 55 : 3 ـ 4 .

(2) الإنسان 76 : 2 .

ــ[309]ــ

إثبات أنّ الحمرة ممّا يقتضيه وجود طبيعة التفاحة ولعلّها ممّا يقتضيه إشراق الشمس عليها ، هذا فيما إذا رأينا الوصف موجوداً في جميع الأفراد وقد عرفت أنه لا سبيل لنا إلى إثبات كونه من مقتضيات وجود الطبيعة فضلا عمّا إذا رأينا التخلّف كثيراً كما في العمى فإنه كثير أو البياض في التفاحة ولعلّه ظاهر ، هذا كلّه .

على أنّا نعلم بأنّ العيب لا يدور مدار مقتضى وجود الطبيعة ، بل ربما يكون عدم وصف من العيوب مع أنه ممّا لا يقتضيه وجود الطبيعة وهذا كما في الصنائع المخلوقة لصانعيها كالفرش فإنّ بعض أطرافه إذا كان أعرض من طرفه الآخر كما إذا كان عرضه في الوسط متراً وفي الآخر متراً ونصفاً (المعبّر عنه بالقناص) فإنه عيب في الفرش مع أنّ الفرش لا يقتضي وجود طبيعته شيئاً لأنه بيد ناسجه ينسجه كيف ما أراد ، فلا اقتضاء لوجود طبيعتها حتى يكون هذا عيباً لأنه فاقده .

أو فرضنا أنّ ألوانه غير متناسبة ، أو أنّ نقوشه مختلفة فبعضها كبيرة وبعضها الآخر صغيرة ، فإنّ الفرش يكون معيباً حينئذ مع أنه ممّا لا يقتضي وجوده شيئاً ، إذ لا طبع له ليقتضي أو لا يقتضي ، فإنّ المصنوع بيد صانعه ينسجه كيف ما شاء . وكذا الدار إذا بناها وجعل مبالها في وسط الغرفة فإنّ الدار معيبة حينئذ ، أو إذا جعلها بأجمعها غرفة واحدة ، أو بنى فيها غرفاً كثيرة إلاّ أنّ كل واحدة منها لا يسع إلاّ نفراً واحداً ، فإنّ كل ذلك يوجب تعيّب الدار مع أنّ الدار ممّا لا يقتضي وجود طبيعتها شيئاً ، إذ لا طبيعة للدار فإنها من المصنوعات ، وما أفاده لو تمّ فإنّما يتمّ فيما كوّنه الله سبحانه من الطبائع دون صنائع المخلوقات ، وقد عرفت أنّ كلامه فيما خلقه الله تعالى أيضاً غير تمام ، هذا كلّه فيما أفاده من جعله المناط ما تقتضيه الطبيعة الأوّلية .

وأمّا غلبة الأفراد فقد ظهر ما فيه ممّا تقدّم فإنّ الشيء إذا لم يثبت له اقتضاء بحسب وجوده فكون غالب الأفراد على صفة كيف يكشف عن أنّ الوصف ممّا يقتضيه أصل الطبيعة أو وجودها .

ــ[310]ــ

وخلاصة ما ذكرناه في الجواب : أنّ الخلقة الأصلية لا يمكن حملها على الماهية المشتركة بين الأفراد ، لأنّ الماهية لا تقتضي شيئاً ولا معنى لاقتضاء الماهية شيئاً إلاّ بارادة لوازم الماهية وقد عرفت أنها مستحيلة الانفكاك عن الماهية كزوجية الأربعة فلا يمكن إرادتها في المقام ، لأنّ الكلام في وصف زال عن الشيء وأوجب فقده العيب وهذا لا يتصوّر في لوازم الماهية .

ثم لا ملزم على التحفّظ بعبارات الفقهاء ، كما لا وجه للمحافظة على مرسلة السيّاري ، إذ لا حجّية فيها لضعف في نفس السيّاري ، وببالي أنّا تعرّضنا لحالاته في التفسير(1) لأنّ أكثر روايات التحريف من السيّاري ، وضعف في نفس الرواية لأنّها مرسلة ، هذا كلّه .

مضافاً إلى أنّ الالتزام بانحصار العيب فيما زاد على الخلقة الأصلية أو نقص عنها كما في المرسلة خلاف المشاهد بالوجدان ، لأنّ ظاهرها أنّ كل ما تقتضيه الخلقة كاليدين في الإنسان يكون الزائد عنه كمن له ثلاثة أيد أو الناقص عنه كمن له يد واحد عيباً مع أنّ العيب لا ينحصر بذلك كما مثّلنا بالمصنوعات ، وكما في إباق العبد أو كونه سارقاً أو زانياً أو سيّئ الخُلق أو كونه بصدد قتل مولاه ، فإنّ كل ذلك عيب مع أنّ الخلقة لا تقتضي شيئاً منها ولا عدمها ، وعليه فلا وجه للتحفّظ على مرسلة السيّاري ولا لما تكلّفه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من جعله الخلقة والطبيعة أوّلية وثانوية .
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ البيان في تفسير القرآن (موسوعة الإمام الخوئي 50) : 232 ـ 233 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net