أقسام القواعد الاُصولية - تعريف علم الاُصول 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 11783

  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين .

وبعـد ، فهذا هو الجزء الأوّل من كتابنا «محاضرات في أُصول الفقه» وهو مشتمل على ما استفدته من تحقيقات عالية ومطالبَ شامخة وأفكار مبتكرة من مجلس درس سيِّدنا الاُستاذ الأفخم فقيه الطائفة سماحة آية الله العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي، إذ عكفت ضمن المئات من الطلاّب على مجلس درسه الشريف في جامعة العلم الكبرى «النجف الأشرف» التي أسندت إليها زعامتها ، وألقت بين يديه مقاليدها، فقام بالعبأ خير قيام في محاضراته وبحوثه ، وتربّى على يديه الكريمتين جيل بعد جيل من الأفاضل الأعلام .

وإنِّي إذ أبتهل إلى المولى سبحانه أن يوفّقني لإلحاق الجزء الثاني بهذا الجزء في الطبع ، أسأله تعالى أن يمتّعنا وعموم المسلمين بدوام وجود اُستاذنا الأفخم ويديم أيام إفاداته العامرة ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب .

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

من الضروري الذي لايشكّ فيه أحد أنّ الشريعة الإسلامية المقدّسة تشتمل على أحكام إلزامية ، من وجوبات وتحريمات تتكفّل بسعادة البشر ومصالحهم المادِّية والمعنوية ، ويجب الخروج عن عهدتها وتحصيل الأمن من العقوبة من ناحيتها بحكم العقل .

وهذه الأحكام ليست بضرورية لكل أحد بحيث يكون الكل عالمين بها ، من دون حاجة إلى تكلف مؤونة الإثبات وإقامة البرهان عليها .
نعم، عدّة منها أحكام ضرورية أو قطعية فيعلمها كل مسلم، من دون حاجة إلى مؤونة الإثبات والاستدلال .

ولكن جلّها نظريّات تتوقف معرفتها وتمييز موارد ثبوتها عن موارد عدمها على البحث والاستدلال ، وأنّ ذلك يتوقّف على معرفة قواعد ومبادئ تكون نتيجتها معرفة الوظيفة الفعلية وتشخيصها في كل مورد ، وأنّ هذه القواعد هي القواعد الاُصولية ، فهي مباد تصديقية لعلم الفقه المتكفل لتشخيص الوظيفة الفعلية في كل مورد بالنظر والدليل ، وأنّ المباحث الاُصولية قد مهدت واُسست لمعرفة هذه القواعد وتنقيحها.

ــ[1]ــ

وينبغي التنبيه على أُمور :


الأمر الأوّل

أنّ هذه القواعد والمبادئ على أقسام

القسم الأوّل : ما يوصِل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني ، وبنحو البت والجزم ، وهي مباحث الاستلزامات العقلية كمبحث مقدّمة الواجب ، ومبحث الضدّ ، ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، ومبحث النهي في العبادات ، فانّه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته مثلاً ، يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها بعد ضمّ الصغرى إلى هذه الكبرى .

وكذا يحصل العلم البتي بفساد الضدّ العبادي عند الأمر بضدّه الآخر إذا ضمّ ذلك إلى كبرى ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.
القسم الثاني : ما يوصِل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلم جعلي تعبّدي ، وهي مباحث الحجج والأمارات ، وهذه على ضربين :

الضرب الأوّل : ما يكون البحـث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها ، وهي مباحث الألفاظ بأجمعها ، فانّ كبرى هذه المباحث ـ وهي مسألة حجية الظهور ـ محرزة ومفروغ عنها ، وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام

ــ[2]ــ

السيرة القطعية عليها ، ولم يختلف فيها اثنان ، ولم يقع البحث عنها في أيّ علم ، ومن هنا قلنا إنّها خارجة عن المسائل الاُصولية .
نعم ، وقع الكلام في موارد ثلاثة :

الأوّل : في أنّ حجية الظهور هل هي مشروطة بعدم الظن بالخلاف أم بالظن بالوفاق ، أم لا هذا ولا ذاك ؟

الثاني : في ظواهر الكتاب وأنّها هل تكون حجة أم لا ؟

الثالث : في أنّ حجية الظواهر هل تختص بمن قصد إفهامه أم تعم غيره أيضاً ؟

والصحيح فيها على ما يأتي بيانه(1) هو حجية الظهور مطلقاً ، بلا اختصاص لها بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف ، ولا بمن قصد إفهامه ، كما أ نّه لا فرق فيها بين ظواهر الكتاب وغيرها .

ثمّ إنّ البحث في هذا الضرب يقع من جهتين :

الجهة الاُولى : في إثبات ظهور الألفاظ بحد ذاتها وفي أنفسها مع قطع النظر عن ملاحظة أيّة ضميمة خارجية أو داخلية كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم، ومعظم مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيد ، كالبحث عن أنّ الجمع المحلّى باللاّم هل هو ظاهر في نفسه في العموم أم لا ، وعن أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي هل هي ظاهرة في العموم بحد ذاتها ، وعن أنّ الفرد المعرّف باللاّم هل هو ظاهر بنفسه في الاطلاق بلا معونة قرينة خارجية ما عدا مقدّمات الحكمة أم لا .

الجهة الثانية : في إثبات ظهورها مع ملاحظة معونة خارجية كبعض مباحث

ـــــــــــــــــــــ
(1) في مصباح الاُصول 2 : 137 وما بعدها .

ــ[3]ــ

العام والخاص والمطلق والمقيد ، كالبحث عن أنّ العام والمطلق إذا خصصا بدليلين منفصلين فهل هما بعد ذلك ظاهران في تمام الباقي أم لا . والبحث عن أنّ المخصص والمقيد المنفصلين المجملين ، هل يسري إجمالهما إلى العام والمطلق أم لا ، ونحوهما .

الضرب الثاني : ما يكون البحث فيه عن الكبرى وهي مباحث الحجج ـ بعد إحراز الصغرى والفراغ عنها ـ كمبحث حجية خبر الواحد ، والاجماعات المنقولة ، والشهرات الفتـوائية ، وظواهر الكـتاب . ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي ـ بناءً على الكشف ـ ومبحث التعادل والترجيح ، فانّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال .

القسم الثالث : ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأيّ دليل اجتهادي ، من عموم أو إطـلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب ، وما هو وظيفة العبوديـة في مقام الامتثال، وهي مباحث الاُصول العملية الشرعية، كالاستصحاب والبراءة والاشتغال .

القسم الرابع : ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في فرض فقدان ما يؤدي إلى الوظيفة الشرعية ، من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي ، وهي مباحث الاُصول العملية العقلية ، كالبراءة والاحتياط العقليين ، ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناءً على الحكومة .

فالنتيجة المتحصلة إلى الآن : هي أنّ المسائل الاُصولية وقواعدها على أقسام أربعة :

الأوّل : ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني .

ــ[4]ــ

الثاني : ما يثبته بعلم جعلي تعبدي ، وهذا القسم على ضربين كما مرّ .

الثالث : ما يعيّن الوظيفة العملية الشرعية بعد اليأس عن الظفر بالقسمين المتقدمين .

الرابع : ما يعيّن الوظيفة العملية بحسب حكم العقل في فرض فقدان الوظائف الشرعية ـ يعني الأقسام الثلاثة المتقدمة ـ وعدم الظفر بشيء منها . فهذا كلّه فهرس المسائل الاُصولية وترتيبها الطبيعي .

ومن هنا ظهر فائدة علم الاُصول وهي : تعيين الوظيفة في مقام العمل الذي هو موجب لحصول الأمن من العقاب .

وحيث إنّ المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب وجداناً ، فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمّن منه ، وحيث إنّ طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الاُصولية ، فإذن يجب الاهتمام بها ، وبما أنّ البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها وتعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم ولمقلديهم حتى يحصل لهما الأمن في هذا المقام .

 

الأمر الثاني

في تعريف علم الأُصول

وهو : العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى اُصولية اُخرى إليها.

وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الاُصولية مدارهما

ــ[5]ــ

وجوداً وعدماً :

الركيزة الاُولى : أن تكون استفادة الأحكام الشرعية الإلهية من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق ـ أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها ـ كتطبيق الطبيعي على أفراده .

والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي الاحتراز عن القواعد الفقهية، فانّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية ، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط بل من باب التطبيق ، وبذلك خرجت عن التعريف .

ولكن ربّما يورد بأنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّة من المباحث الاُصولية المهمّة عن علم الاُصول ، كمباحث الاُصول العملية الشرعية والعقلية ، والظن الانسدادي بناءً على الحكومة، فانّ الاُولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي ، لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها ، لا من باب استنباط الأحكام الشرعية منها وتوسيطها لاثباتها، والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكم شرعي أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً .

وبتعبير آخر : أنّ الأمر في المقام يدور بين محذورين : فانّ هذا الشرط على تقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم فلا يكون جامعاً ، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهية فيها فلا يكون مانعاً . فإذن لا بدّ أن نلتزم بأحد هذين المحذورين ، فامّا نلتزم باعتبار هذا الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها اُصولية ، أو نلتزم بعدم اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهية في التعريف ، ولا مناص من أحدهما .

والتحقيق في الجواب عنه : هو أنّ هذا الاشكال مبتن على أن يكون المراد

ــ[6]ــ

بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف ، الاثبات الحقيقي بعلم أو علمي ، إذ على هذا لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال أصلاً ، ولكنّه ليس بمراد منه ، بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره ، وهو الاثبات الجامع بين أن يكون وجدانياً أو شرعياً أو تنجيزياً أو تعذيرياً ، وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط ، لأنّها تثبت التنجيز مرّة والتعذير مرّة اُخرى ، فيصدق عليها حينئذ التعريف لتوفر هذا الشرط فيها، ولا يلزم إذن محذور دخول القواعد الفقهية فيه .

نعم ، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور وهو : العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية ، فانّ ظاهرهم أ نّهم أرادوا بالاستنباط الاثبات الحقيقي ، وعليه فالاشكال وارد ولا مجال للتفصي عنه كما عرفت . ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه ، فلا وقع له أصلاً كما مرّ .

وعلى ضوء هذا البيان ظهر الفرق بين المسائل الاُصولية والقواعد الفقهية ، فإنّ الأحـكام المستفادة من القواعـد الفقهية ، سواء كانت مختصـة بالشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ واليد والحلية ونحوها ، أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضاً كقاعدتي لا ضرر ولا حرج ـ بناءً على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعي ـ وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها ، إنّما هي من باب تطبيق مضـامينها بأنفسها على مصـاديقها ، لا من باب الاستنباط والتوسيط ، مع أنّ نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية .

هذا ، والصحيح أ نّه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية، فانّ قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر أو الحرج النوعي ، وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله، فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة .

ــ[7]ــ

وعلى كل حال فالنتيجة هي أنّ القواعد الفقهية من حيث عدم توفّر هذا الشرط فيها غير داخلة في المسائل الاُصولية .

وعلى هذا الأساس ينبغي لك أن تميّز كل مسألة ترد عليك أنّها مسألة اُصولية أو قاعدة فقهية ، لا كما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أنّ نتيجة المسألة الفقهية قاعدة كانت أو غيرها ، بنفسها تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل ، فيقال له: كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط فقد وجبت عليك الصلاة ، فيذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي ، فيلقى إليه . وهذا بخلاف نتيجة المسألة الاُصولية فانّها بنفسها لا يمكن أن تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط ، فان إعمالها في مواردها وظيفة المجتهدين دون غيرهم . نعم ، الذي يلقى إليه هو الحكم المستنبط من هذه المسألة لا هي نفسها (1) .

وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) بالقياس إلى المسائل الاُصولية وإن كان كما أفاد ، فان إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين ، فلا حظّ فيه لمن سواهم ، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) بالاضافة إلى المسائل الفقهية غير تام على إطلاقه ، إذ ربّ مسألة فقهية حالها حال المسألة الاُصولية من هذه الجهة كاستحباب العمل البالغ عليه الثواب بناءً على دلالة أخبار من بلغ عليه، وعدم كونها إرشاداً ولا دالّة على حجية الخبر الضعيف ، فانّه ممّا لا يمكن أن يلقى إلى العامي ، لعدم قدرته على تشـخيص موارده من الروايات وتطـبيق أخبار الباب عليها .

وكقاعدة نفوذ الصلح والشرط باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنّة أو

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 4 : 9 .

ــ[8]ــ

غير مخالفين لهما ، فان تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقاً لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسر للعامي .

وكقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن ، فانّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد . إلى غيرها من القواعد التي لا يقدر العامي على تشخيص مواردها وصغرياتها ليطبّق القاعدة عليها .

بل ربّ مسألة فقهية في الشبهات الموضوعية تكون كذلك ، كبعض فروع العلم الاجمالي ، فانّ العامي لا يتمكن من تشخيص وظيفته فيه ، مثلاً إذا فرضنا أنّ المكلف علم إجمالاً بعد الفراغ من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعة من إحداهما ، ولكنّه لا يدري أنّها من الظهر أو من العصر ، ففي هذا الفرع وأشباهه لا يقدر العامي على تعيين وظيفته في مقام العمل ، بل عليه المراجعة إلى مقلده ، بل الحال في كثير من فروع العلم الاجمالي كذلك .

 

شبهة ودفع

أمّا الشبهة : فهي توهم أنّ مسألتي البراءة والاحتياط الشرعيين خارجتان عن تعريف علم الاُصول ، لعدم توفر الشرط المتقدم فيهما ، إذ الحكم المستفاد منهما في مواردهما إنّما هو من باب التطبيق لا من باب الاستنباط ، وقد سبق أنّ المعتبر في كون المسألة اُصولية هو أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط دون الانطباق .

وأمّا الدفع : فلأنّ المراد بالاستنباط ليس خصوص الاثبات الحقيقي ، بل الأعم منه ومن الاثبات التنجيزي والتعذيري ، وقد سبق أ نّهما يثبتان التنجيز والتعذير بالقياس إلى الأحكام الواقعية ، وهذا نوع من الاستنباط ، وإطلاقه

ــ[9]ــ

عليه ليس بنحو من العناية والمجاز ، بل على وجه الحقيقة ، فانّ المعنى الظاهر منه عرفاً هو المعنى الجامع لا خصوص حصّة خاصّة .

ولو تنزّلـنا عن ذلك وفرضنا أنّ وقوعهما في طريق الحكم ليس من باب الاستنباط، وإنّما هو من باب التطبيق والانطباق، كانطباق الطبيعي على مصاديقه وأفراده، فلا نسلّم أ نّهما خارجتان من مسائل هذا العلم ، وذلك لأ نّهما واجدتان لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية، وهي كونهما ممّا ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام الافتاء بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي كاطلاق أو عموم .

وهذا بخلاف تلك القواعد فانّها ليست واجدة لها ، بل هي في الحقيقة أحكام كلّية إلهية استنبطت من أدلّتها لمتعلقاتها وموضوعاتها ، وتنطبق على مواردها بلا أخذ خصوصية فيها أصلاً ، كاليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه . فهما بتلك الخصوصيّة امتازتا عن القواعد الفقهية، ولأجلها دوّنتا في علم الاُصول وعدّتا من مسائله . هذا تمام الكلام في الركيزة الاُولى .

الركيزة الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اُصولية اُخرى، وعليه فالمسألة الاُصولية هي المسألة التي تتصف بذلك .

ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول أيضاً هي أن لا تدخل فيه مسـائل غيره من العلوم ، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطق ونحوها ، فانّها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعية واستنتاجها من الأدلة ، فانّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقف على علم النحو ومعرفة قوانينه من حيث الإعراب والبناء ، وعلى علم الصرف ومعرفة أحـكامه من حيث الصحّة والاعتلال، وعلى علم اللّغة من حيث معرفة معاني الألفاظ وما تستعمل فيه ، وعلى علم الرجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها

ــ[10]ــ

عن سقيمها وجيّدها عن رديئها، وعلى علم المنطق لمعرفة صحّة الدليل وسقمه .

ولكن كل ذلك بالمقدار اللاّزم في الاستنباط لا بنحو الاحاطة التامّة ، فلو لم يكن الانسان عارفاً بهذه العلوم كذلك ، أو كان عارفاً ببعـضها دون بعـضها الآخر ، لم يقدر على الاستنباط ، إلاّ أنّ وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاسـتقلال ، بل لا بدّ من ضم كبرى اُصولية وبدونه لا تنتج نتيجة شرعية أصلاً ، ضرورة أ نّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضم إليها كبرى اُصولية وهي حجية الرواية ، وهكذا .

وبذلك قد امتازت المسائل الاُصولية عن مسائل سائر العلوم ، فان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط كما عرفت ، إلاّ أنّها لا بنفسها بل لا بدّ من ضم كبرى اُصولية إليها ، وهذا بخلاف المسائل الاُصـولية ، فانّها كبريات لو انضمت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهية من دون حاجة إلى ضم كبرى اُصولية اُخرى .

ومن هنا يتّضح أنّ مرتبة علم الاُصول فوق مرتبة سائر العلوم ، ودون مرتبة علم الفقه ، وحدّ وسط بينهما .

كما أ نّه يظهر أنّ مبحث المشتق ، ومبحث الصحيح والأعم ، وبعض مباحث العام والخاص ، كمبحث وضع أداة العموم ، كلّها خارجة عن مسائل هذا العلم ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ، إذ البحث في هذه المباحث عن وضع ألفاظ مفردة مادةً كما في بعضها ، وهيئةً كما في بعضها الآخر ، ومن الواضح جداً أ نّه لا تترتب آثار شرعية على وضعها فقط ، مثلاً أيّ أثر شرعي يترتب على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه المبدأ ، وعلى وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة ، وعلى وضع الأدوات للعموم مثلاً من دون أن تنضم إليها مسألة

ــ[11]ــ

اُصولية .

فالصحيح : هو أنّها من المسائل اللغوية ، ولكن حيث إنّها لم تدوّن في علم اللغة دوّنت في الاُصول .

ونتيجة ما ذكرناه : أنّ المسائل الاُصولية يعتبر فيها أمران :

الأوّل : أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط لا من باب الانطباق ، وبها تتميز عن المسائل الفقهية .

الثاني : أن يكون وقوعها فيه بنفسها وبالاستقلال ، من دون حاجة إلى ضم مسألة اُخرى ، وبها تتميز عن مسائل سائر العلوم .


شبهات ودفوع

الشبهة الاُولى : توهم أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي بناءً على اعتبار الشرط الثاني تخرج عن مسائل هذا العلم، إذ على القول باستحالة الاجتماع وعدم إمكانه لا يترتب عليها أثر شرعي ما عدا القطع بعدم فعلية كلا الحكمين ، وإنّما نحتاج في ترتبه عليها إلى ضم مسألة اُخرى وهي إجراء قوانين باب التعارض التي يكون المقام من صغرياتها على القول بالامتناع ، وهذا ليس شأن المسألة الاُصولية بمقتضى هذا الشرط كما عرفت .

ويدفعها : أ نّه يكفي في كون المسألة اُصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل بأحد طرفيها ، وإن كانت لا تقع كذلك بطرفها الآخر، إذ لو لم يكن ذلك كافياً في الاتصاف بكونها مسألة اُصولية، للزم خروج كثير من المسائل الاُصولية عن تعريف علم الاُصول بمقتضى الشرط المزبور ، منها : مسألة حجية خبر الواحد ، فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أثر

ــ[12]ــ

شرعي أصلاً . ومنها : مسألة حجية ظواهر الكتاب ، على القول بعدم حجيتها ، إلى غيرها من المسائل .

فالنتيجة هي أنّ الملاك في كون المسألة اُصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها ، في قبال ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة ، كمسائل بقية العلوم ، والمفروض أنّ هذه المسألة كذلك ، فانّه يترتب عليها أثر شرعي على القول بالجـواز ، وهو صحّة العبادة ، وإن لم يترتب على القول بالامتناع .

الشبهة الثانية : توهم خروج مسألة الضد عن التعريف ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ، إذ لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه لتكون المسألة اُصولية . وأمّا حرمة الضد فهي وإن ثبتت بثبوت الملازمة ، إلاّ أنّها حرمة غيرية لا تقبل التنجيز ، كي تصلح لأن تكون نتيجة فقهية للمسألة الاُصولية . وأما فساد الضد فهو لا يترتب على ثبوت هذه الملازمة بلا ضم كبرى اُصولية اُخرى ، وهي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها .

ويدفعها : ما مرّ من الجواب عن الشبهة الاُولى ، وملخصه : أ نّه يكفي في كون المسألة اُصولية ، ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وإن لم تترتب على طرفها الآخر ، والمفروض أ نّه يترتب على مسألتنا هذه أثر شرعي على القول بعدم الملازمة ، وهو صحّة الضد العبادي ، وإن لم يترتب على القول الآخر .

الشبهة الثالثة : دعوى أنّ اعتبار هذا الشرط يستلزم خروج مسألة مقدمة الواجب عن المسائل الاُصولية ، لا من جهة أنّ البحث فيها عن وجوب المقدمة وهي مسألة فقهية ، فانّ البحث فيها كما أفاد المحققون من المتأخرين ، عن ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب مقدماته وعدم ثبوتها ، بل من جهة

ــ[13]ــ

عدم ترتب أثر شرعي عليها بنفسها وعدم توفر ذاك الشرط فيها . أمّا وجوب المقدمة فهو وإن ترتب على ثبوت هذه الملازمة ، إلاّ أ نّه حيث كان غيرياً ، لا يصلح أن يكون أثراً للمسألة الاُصولية ، بل وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة ، وأما غيره ممّا هو قابل لذاك ، فلم يكن حتى يترتب عليها .

ويدفعها : ما سنذكره إن شاء الله تعالى في محلّه ، من أن لتلك المسألة ثمرة مهمّة ـ غير وجوب المقـدمة ـ تترتب عليها ، وبها تكون المسألة اُصولية . وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلّها ، فلينتظر .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net