منشأ الوضع - تعيين الواضع 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6342

 

الأمر الرابع في الوَضْع

ويقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الاُولى : في أنّ منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هل هي المناسبة الذاتية بينهما لتصبح الدلالة ذاتية ؟ أو الجعل والمواضعة لتصبح جعلية محضة ؟

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 7 .

ــ[33]ــ

الجهة الثانية : في أنّ الواضع هل هو الله تبارك وتعالى أو البشر ؟

الجهة الثالثة : في أنّ الوضع من الاُمور الواقعية أو من الاُمور الاعتبارية ؟

الجهة الرابعة : في أقسام الوضع إمكاناً مرّة ، ووقوعاً مرّة اُخرى .
 

[ منشأ الوضع ]

أمّا الجهة الاُولى : فربّما يقال فيها : إنّ دلالة الألفاظ على معانيها ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما (1) .

وفيه : أ نّه لو اُريد بذاتية الدلالة أنّ الارتباط الذاتي والمناسبة الذاتية بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه، فبطلانه من الوضوح بمكان لايقبل النزاع، فانّ لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات فضلاً عن لغة واحدة .

ولو اُريد أنّ الارتباط المزبور والمناسبة المزبورة بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ مقتضياً لانتقال الذهن إلى معناه ، أي أنّ المناسبة اقتضائية لا علّة تامّة، ففيه : أنّ ذلك وإن كان بمكان من الامكان ثبوتاً وقابلاً للنزاع ـ إذ لا مانع عقلاً من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها، نظير الملازمة الثابتة بين أمرين فانّها ثابتة في الواقع والأزل بلا توقف على اعتبار أيّ معتبر أو فرض أيّ فارض ، وبلا فرق بين أن يكون طرفاها ممكنين أو مستحيلين أو مختلفين، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا )(2) نعم ، إنّ سنخ ثبوتها غير سنخ

ـــــــــــــــــــــ
(1) كما نسبه إلى بعض في القوانين 1 : 194 .
(2) الأنبياء 21 : 22 .

ــ[34]ــ

ثبوت المقولات كالجواهر والأعراض ، ولذا ليست داخلة تحت شيء منها ـ إلاّ أ نّه لا دليل على ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات فلا يمكن الالتزام بها .

وأمّا ما قيل من أ نّه لولا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، لكان تخصيص الواضع لكل معنى لفظاً مخصوصاً بلا مرجح ، وهو محال كالترجح بلا مرجح ، أي وجود حادث من دون سبب وعلّة .

فيرد عليه أوّلاً : أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل ، بل لا قبح فيه فضلاً عن الاستحالة إذا كان هناك مرجح لاختيار طبيعي الفعل مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه على ما يأتي بيانه في الطلب والارادة إن شاء الله تعالى ، وحيث إنّ المرجح لاختيار طبيعي الوضع والتخصيص موجود فهو كاف في تخصيص الواضع وجعله لكل معنى لفظاً مخصـوصاً وإن فقد الترجيح بين كل فرد من أفراده .

على أ نّه لايعقل تحقق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني، لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعان متضادة أو متناقضة ، كما إذا كان للفظ واحد معان كذلك كلفظ جون الموضوع للأسود والأبيض، ولفظ القرء للحيض والطّهر وغيرهما ، وهو غير معقول ، فان تحققها بين لفظ واحد ومعان كذلك يستلزم تحققها بين نفس هذه المعاني كما لا يخفى .

وثانياً : سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجح ، إلاّ أنّ المرجح غير منحصر بالمناسبة المزبورة كي يلزم الالتزام بها ، بل يكفي فيه وجود مرجح ما وإن كان أمراً اتفاقياً ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجح سواء كان ذاتياً أو اتفاقياً .

على أنّ المرجح لا بدّ وأن يقوم بالفعل الصادر من الفاعل فيجوز أن يكون الرجحان في نفس الوضع وإن لم يكن هناك مناسبة بين اللفظ والمعنى .

ــ[35]ــ


[ تعيين الواضع ]

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فقد اختار المحقق النائيني (قدس سره) أنّ الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ، وقال في وجهه : فإنّا نقطع بحسب التواريخ التي بين أيدينا ، أ نّه ليس هنا شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة لمعانيها التي تدل عليها فضلاً عن سائر اللغات ، كما أ نّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتية ، بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به ، بل الله (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا ، وجعله (تبارك وتعالى) هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الاُمور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك .

فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر ، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي ، بل يلهم الله (تبارك وتعالى) عباده ـ على اختلافهم ـ كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص . وممّا يؤكّد المطلب : أ نّا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أيّ لغة ، لما قدروا عليه ، فما ظنّك بشخص واحد مضافاً إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة(1) .

أقول : يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في اُمور :

الأوّل : أنّ الواضع هو الله (تبارك وتعالى) ، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد ، ولا بطريق

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 19 .

ــ[36]ــ

جعل الاُمور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها ، بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب استعداده .

الثاني : التزامه (قدس سره) بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني .

الثالث : أنّ وضعه (تبارك وتعالى) إنّما كان على طبق هذه المناسبة .

الرابع : أنّ الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي .

الخامس : أ نّه (قدس سره) بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى أنّ الله (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين :
الأوّل : أ نّه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر ، لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلاً عن جميع اللغات ، فإذا امتنع أن يكون البشر واضعاً تعيّن أنّ الله تعالى هو الواضع الحكيم .

الثاني : أ نّه على فرض تسليم أنّ البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها بمعنى أنّ شخصاً أو جماعة معيّنين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها ، إلاّ أ نّه لمّا كان من أكبر خدمات للبشر فلا بدّ من تصدي التواريخ لضبطه التي هي معدّة لضبط الأخبار السالفة والوقائع المهمّة ، خصوصاً مثل هذا الأمر المهم ، مع أ نّه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أيّ عصر وزمان وعمّن تصدى له عين ولا أثر ، فإذا فرض أنّ البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ فانّها تتكفل بنقل ما هو دونه فكيف بمثله .

ولكنّ للتأمل في جميع هذه الاُمور مجالاً واسعاً :

أمّا الأوّل : فيظهر ضعفه ممّا نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين المذكورين .

وأمّا الثاني : فيرده أ نّه تخرّص على الغيب ، لما قد سبق من أ نّه لا دليل على

ــ[37]ــ

وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.

وأمّا الثالث : فيرد عليه أ نّا لو سلّمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلّم أنّ الواضع جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة ، وذلك لأنّ الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأيّ شيء يستدعي رعاية تلك المناسـبة في الوضع . اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح ، ولكن قد عرفت بطلانها .

وأمّا الرابع : وهو أنّ الوضع وسط بين الاُمور التكوينية والجعلية ، فهو ممّا لا يرجع إلى معنى محصّل ، وذلك لعدم واسطة بينهما ، ضرورة أنّ الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أيّ معتبر ، فهو من الموجودات التكوينية ، وإلاّ فمن الاُمور الاعتبارية الجعلية ، ولا نعقل ما يكون وسطاً بين الأمرين. وأمّا حديث الإلهام فهو حديث صحيح ولا اختصاص له بالوضع .

وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ ا لْمُسْتَقِيمَ )(1) أنّ الله (تبارك وتعالى) كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعاً ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بارسال الرسل وإنزال الكتب ، كذلك منّ عليهم بهدايتهم تكويناً بالهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل إنّ هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالها بطبعها أو باختيارها ، والله هو الذي أودع فيها قوّة الاستكمال فترى الفارة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة .

وعلى الجملة : أنّ مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلّية ، فانّ الإلهام من الاُمور التكوينية الواقعية، ولا اختصاص له بباب الوضع، والمبحوث

ـــــــــــــــــــــ
(1) البيان في تفسير القرآن : 496 .

ــ[38]ــ

عنه هو معنى الوضع ، كان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن .

وأمّا الأمر الخامس : وهو استناده فيما ذكره من أنّ الله (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم ، فلو تمّ فانّما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعياً وفي زمان واحد ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فان سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها ، ومن الواضح أنّ الغرض منه ليس إلاّ أن يتفاهم بها وقت الحاجة وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلاّ يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية ، ومن الظاهر أنّ كمّية الغرض الداعي إليه تختلف سعة وضيقاً بمرور الأيام والعصور ، ففي العصر الأوّل ـ وهو عصر آدم (عليه السلام) ـ كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بازاء معان كذلك ، لقلّة الحوائج في ذلك العصر ، وعدم اقتضائها أزيد من ذلك ، ثمّ ازدادت الحوائج مرّة بعد اُخرى وقرناً بعد آخر بل وقتاً بعد وقت ، فزيد في الوضع كذلك .

وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بازاء معانيها في أيّ عصر وزمن، فانّ سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقاً ، ولما كان مرور الزمن موجباً لاتساع حاجاتهم وازديادها ، كان من الطبيعي أن يزداد الوضع ويتّسع .

أمّا الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر ، من دون فرق بين أن يكون الواضع واحداً منهم أو جماعةً ، وذلك أمر ممكن لهم ، فانّ المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعـبير عنها ليست بالمقـدار الذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم ، فانّها محدودة بحد خاص .

وقد تلخّص من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظها للمعاني التي تدور عليها

ــ[39]ــ

الافادة والاستفادة في جميع العصور ليقال إنّ البشر لا يقدر على ذلك ، بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها .

الثاني : أ نّنا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، فانّ الوضع لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض .

وأمّا الثاني : وهو أنّ الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التواريخ ، لأن مثل هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر ولذلك تتوفر الدواعي على نقله .

فيرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتم لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معيّنين ، وأمّا إذا التزمنا بما قدّمناه من أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معيّنين ، بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي ، فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ .

نعم ، لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين ، لنقله أصحاب التواريخ لا محالة .

وممّا يؤكّد ما ذكرناه : ما نراه من طريقة الأطفال عندما يحتاجون إلى التعبير عن بعض المعاني فيما بينهم ، فانّهم يضعون الألفاظ لهذه المعاني ويتعاهدون ذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأغراض والمقاصد، ولا نجدهم يتخلّفون عن هذه الحال ، حتى إنّهم لو عاشوا في مناطق خالية من السكان لتكلموا بلغة مجعولة لهم لا محالة، ولا نعني بالوضع إلاّ هذا التعهد وهذا الالتزام ، وإليه أشار تعالى بقوله : (خَلَقَ ا لاِْنْسَانَ * عَلَّمَهُ ا لْبَيَانَ )(1) وذلك وإن كان ينتهي إليه تعالى، لأ نّه من لطفه وعنايته ، إلاّ أ نّه أمر آخر غير أ نّه هو الواضع الحكيم .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الرّحمن 55 : 3 ـ 4 .

ــ[40]ــ

وهذا الذي ذكرناه من دفع الاشكالين المتقدمين لا يفرق فيه بين مسلكنا ومسلك القوم في تفسير العلقة الوضعية ، فانّ تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخص خاص لاتدع مجالاً للاشكال المزبور، غاية الأمر أ نّه بناءً على مسلكنا كان كل مسـتعمل واضعاً وإن كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأوّل ، إلاّ أ نّه من جهة الأسبقية ، وهذا بخلاف غيره من المسالك كما لا يخفى .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّ الله (تبارك وتعالى) ليس هو الواضع الحكيم .

الثاني : أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net