تصوير الجامع على الأعم \ 1 ـ تصوير المحقق القمي للجامع 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5153

 

[ تصوير الجامع على الأعم ]

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فيقع في تصوير الجامع على القول بالأعـم ، وقد ذكر فيه عدّة وجوه :

الأوّل : ما عن المحقق القمي (قدس سره) من أنّ ألفاظ العبادات موضوعة بازاء خصوص الأركان ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به دون المسمّى ، فلفظ الصلاة مثلاً موضوع لذات التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، فانّها أركان الصلاة واُصولها الرئيسية ، وأمّا البقية فجميعاً معتبرة في مطلوبيتها شرعاً ، لا في تسـميتها عرفاً (1) فيرجع حاصل ما أفاده (قدس سره) إلى أمرين :

ـــــــــــــــــــــ
(1) قوانين الاُصول : 43 .

ــ[179]ــ

الأوّل : أنّ البقية بأجمعها خارجة عن المسمّى ودخيلة في المأمور به .

الثاني : أنّ الأركان هو الموضوع له .

وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) على كل واحد من الأمرين إيراداً.

أمّا الأوّل : فقد أورد عليه بأ نّه إن أراد بعدم دخول بقية الأجزاء والشرائط في المسمى ، عدم دخولها فيه دائماً ، فيردّه : أ نّه ينافي الوضع للأعم ، فان لازمه عدم صدق لفظ الصلاة على الفرد الصحيح إلاّ بنحو من العناية والمجاز ، ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل . وإن أراد به دخولها فيه عند وجودها، وخروجها عنه عند عدمها فهو غير معقول ، ضرورة أنّ دخول شيء واحد في ماهية عند وجوده ، وخروجه عنها عند عدمه أمر مستحيل ، لاستحالة كون شيء جزءاً لماهية مرّة ، وخارجاً عنها مرّة اُخرى ، فان كل ماهية متقوّمة بجنس وفصل أو ما يشبههما ، فلا يعقل أن يكون شيء واحد مقوّماً لماهية عند وجوده، ولا يكون كذلك عند عدمه . فإذن لا يعقل أن تكون البقية داخلة في المسمّى عند تحققها وخارجة عنه عند عدمها ، فأمرها لا محالة يدور بين الخروج مطلقاً أو الدخول كذلك ، وكلا الأمرين ينافي الوضع للأعم . أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلأ نّه يناسب الوضع للصحيح لا للأعم كما لا يخفى .

ثمّ أورد (قدس سره) على نفسه بأنّ الالتزام بالتشكيك في الوجود، وفي بعض الماهيات كالسواد والبياض ونحوهما يلزمه الالتزام بدخول شيء في الوجود أو الماهية عند وجوده ، وبعدم دخوله فيه عند عدمه ، فانّ المعنى الواحد على القول بالتشكيك يصدق على الواجد والفاقد والناقص والتام ، فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على عرضه العريض ، وكذا السواد يصدق

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 61 وما بعدها .

ــ[180]ــ

على الضعيف والشديد، فليكن الصلاة أيضاً صادقة على التام والناقص والواجد والفاقد على نحو التشكيك .

وأجاب عنه بأنّ التشكيك في حقيقة الوجود لا ندرك حقيقته ، بل هو أمر فوق إدراك البشر ولا يعلم إلاّ بالكشف والمجاهـدة كما صرّح به أهله ، وأمّا التشكيك في الماهيات فهو وإن كان أمراً معقولاً إلاّ أ نّه لا يجري في كل ماهية ، بل يختص بالماهيات البسيطة التي يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كالسواد والبياض ونحوهما ، وأمّا الماهيات التي تكون مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة كالانسـان ونحوه ، فلا يعقل فيها التشكيك ، وعليه فلا يعقل التشكيك في حقيقة الصلاة لأ نّها على الفرض مركبة من أركان ومقولات عديدة ، فلا يعقل أن تكون بقية الأجزاء والشرائط داخلة فيها مرّة وخارجة عنها مرّة اُخرى ، لتصدق الصلاة على الزائد والناقص .

وأمّا الثاني : فأورد عليه بأنّ الأركان أيضاً تختلف باختلاف الأشخاص من القادر والعاجز والغريق ونحو ذلك ، فلا بدّ حينئذ من تصوير جامع بين مراتب الأركان فيعود الاشكال ، وبيان ذلك : هو أنّ الشارع جعل الركوع والسجود بعرضهما العريض ركناً فهما يختلفان باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار، وأدنى مراتبهما الاشارة والإيماء، فحينئذ لا بدّ من تصوير جامع بين تلك المراتب ليوضع اللفظ بازاء ذلك الجامع ، فإذن يعود الإشكال .

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ ما ذكره (قدس سره) لا يرجع عند التأمل إلى معنى محصّل ، هذا .

وأورد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) على هذا الوجه من تصوير الجامع إيراداً ثالثاً ، وملخّصه : هو أ نّا نقطع بأنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 25 .

 
 

ــ[181]ــ

الأركان الخاصة ، ضرورة أ نّه يصدق على الفرد الفاقد لبعض الأركان إذا كان ذلك الفرد واجداً للبقية من الأجزاء والشرائط ، ولا يصدق على الفرد الواجد لجميع الأركان إذا كان ذلك الفرد فاقداً لتمام البقية ، فلا يصح إذن دعوى وضعها لخصـوص الأركان ، فانّه لا يدور صدق الصلاة مدارها وجوداً وعدماً ، كما لا يخفى .

والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي (قدس سره) ولا يرد عليه شيء من هذه الايرادات .

أمّا الايراد الأوّل : فلأنّ فيه خـلطاً بين المركبات الحقيـقية والمركبات الاعتبارية، فانّ المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزأين جهة افتقار بالاضافة إلى الآخر ، لا يعقل فيها تبديل الأجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كمّاً وكيفاً ، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهية ، فلا يعقل أن يكون جنساً أو فصلاً لها مرّة ، ولا يكون كذلك مرّة اُخرى ، ضرورة أنّ بانتفائه تنعدم تلك الماهية لا محالة ، مثلاً الحيوان جنس للانسان فلا يعقل أن يكون جنساً له في حال أو زمان ، ولا يكون جنساً له في حال أو زمان آخر وهكذا ، فما ذكره (قدس سره) تام في المركبات الحقيقية ولا مناص عنه ، وأمّا المركبات الاعتبارية التي تتركب من أمرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزأين جهة اتحاد حقيقة ، ولا افتقار ولا ارتباط ، بل إنّ كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ، ومباين للآخر في التحصّل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية ، لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو اُمور متحصّلة بالفعل ، فلا يتم فيها ما أفاده (قدس سره) ولا مانع من كون شيء واحد داخلاً فيها عند وجوده ، وخارجاً عنها عند عدمه .

وقد مثّلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ الدار فانّه موضوع لمعنى مركب وهو

ــ[182]ــ

ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة وهي أجزاؤها الرئيسية ، ومقوّمة لصدق عنوانها ، فحينئذ إن كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من أجزائها وداخلة في مسمّى لفظها ، وإلاّ فلا .

وعلى الجملة : فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركباً من أجزاء معيّنة خاصة، وهي: الحيطان والساحة والغرفة ، فهي أركانها ، ولم يلحظ فيها مواداً معيّنة وشكلاً خاصاً من الأشكال الهندسية، وأمّا بالاضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط، بمعنى أنّ الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه ، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد .

ومن هذا القبيل لفظ القباء والعباء بالاضافة إلى البطانة ونحوها ، فانّها عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير ضائر بصدقه .

ومن هذا القبيل أيضاً الكلمة والكلام ، فانّ الكلمة موضوعة للمركب من حرفين فصاعداً ، فان زيد عليهما حرف أو أزيد فهو داخل في معناها ، وإلاّ فلا، والكلام موضوع للمركب من كلمتين فما زاد ، فيصدق على المركب منهما ومن الزائد على نحو واحد ، وهكذا .
وبتعبير آخر : أنّ المركبات الاعتبارية على نحوين :

أحدهما : ما لوحظ فيه كثرة معيّنة من جانب القلّة والكثرة ، وله حدّ خاص من الطرفين ، كالأعداد فانّ الخمسة مثلاً مركبة من أعداد معيّنة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة .

وثانيهما : ما لوحظ فيه أجزاء معيّنة من جانب القلّة فقط ، وله حد خاص من هذا الطرف ، وأمّا من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد اُخذ لا بشرط ، وذلك

ــ[183]ــ

مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك ، فانّ فيها ما اُخذ مقوّماً للمركب ، وما اُخذ المركب بالاضافة إليه لا بشرط، ومن الظاهر أنّ اعتبار اللاّ بشرطية في المعنى كما يمكن أن يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب ، كما أ نّه لا مانع من أن يكون المقوّم للمركب الاعتباري أحد اُمور على سبيل البدل ، وقد مثّلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى ، فانّه موضوع للمركب المطبوخ من شكر وغيره ، سواء كان ذلك الغير دقيق اُرز أو حنطة أو نحو ذلك .

ولما كانت الصلاة من المركبات الاعتبارية ، فانّك عرفت أ نّها مركبة من مقولات متعددة ، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين، بل لايمكن بين أفراد مقولة واحدة، فما ظنّك بالمقولات ، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً .

والوجه في ذلك : هو أنّ معنى كل مركب اعتباري لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه، سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثـيرة (1) أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجوداً وعدماً ، عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث على ما سنتكلم فيها عن قريب إن شاء الله تعالى ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي عند وجـودها داخلة في المسمّى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرة بصدقه ، وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى دخول الزائد ، وقد عرفت أ نّه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية وكم له من نظير .

ـــــــــــــــــــــ
(1) الآتية في ص 186 .

ــ[184]ــ

وإن شئت فقل : إنّ المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقاً بيد معتبرها ، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو اُمور بشرط لا كما في الأعداد ، وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد ، كما هو الحال في كثير من تلك المركبات ، فالصلاة من هذا القبيل ، فانّها موضوعة للأركان فصاعداً .

وممّا يدلّ على ذلك : هو أنّ إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كمّاً وكيفاً على نسق واحد ، بلا لحاظ عناية في شيء منها ، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا فلم يصح إطـلاقها على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بلا عناية ، مع أ نّا نرى وجداناً عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد أصلاً .

وقد تلخص من ذلك : أنّ دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرّة، وخروجه عنها مرّة اُخرى ، إنّما يكون مستحيلاً في الماهيات الحقيقية ، دون المركبات الاعتبارية .

وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً : فانّ لفظ الصلاة موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كمّاً وكيفاً ، وله عرض عريض ، فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد كصدق كلمة الدار على جميع أفرادها المختلفة زيادة ونقيصه كمّاً وكيفاً . إذن لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال .

وبتعبير واضح : أنّ الأركان وإن كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلاّ أ نّه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بازاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة فانّه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت أ نّه لا

ــ[185]ــ

مانع من أن يكون مقوّم المركب الاعتباري أحد الاُمور على سبيل البدل .

ومن ذلك يتبين : أنّ ما ذكرناه غير مبني على جواز التشكيك في الماهية أو في الوجود ، فانّه سواء قلنا به في الماهية أو الوجود أم لم نقل فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية .

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ إدراك التشكيك في الوجود أمر فوق إدراك البشر فلا يعلم إلاّ بالكشف والمجاهدة ، ففساده غني عن البيان ، كما لا يخفى على أهله .

وبما ذكرناه يظهر فساد الإيراد الثالث أيضاً ، وذلك لأنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها حتّى على الأعم ، فلو كبّر المصلي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ منها يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال ، ولم يستشكل في ذلك أحد من الفقهاء .

ومن هنا يظهر بطلان ما اُفيد ثانياً من أنّ لفظ الصلاة يصدق على الفاقد لبعض الأركان فيما إذا كان واجداً لسائر الأجزاء والشرائط ، ووجه الظهور : هو ما عرفت من أنّ الروايات الكثيرة قد دلّت على أن حقيقة الصلاة التي تتقوّم بها هي التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، والمراد منها أعم من المائية والترابية ، كما أنّ المراد من الركوع والسجود أعم ممّا هو وظيفة المختار أو المضطر كما عرفت .

فقد أصبحت النتيجة أ نّه لا مانع من الالتزام بأنّ الموضوع له هو خصوص الأركان ولا يرد عليه شيء ممّا تقدّم .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net