ولتحقيق الكلام في المقامين نقول :
أمّا المقام الأوّل : فالأمر كما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك بالاطلاقات حتّى على القـول بالصحيح ، والوجه في ذلك : هو أنّ المعاملات اُمور عرفية عقلائية وليست من الماهيات المخترعة عند الشارع المقدس ، وإنّما هي ماهيات قد اخترعها العقلاء قبل هذه الشريعة لتمشية نظام الحياة، ثمّ لمّا جاء نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يخالفهم في هذه الطريقة المسـتقرّة عندهم ، ولم يجعل (صلّى الله عليه وآله) طرقاً خاصة لا بدّ للناس أن يمشي على طبق تلك الطرق ، بل ولم يتصرف فيها تصرفاً أساسياً ، بل أمضاها على ما كانت عندهم ، وتكلم بلسانهم ، فهو (صلّى الله عليه وآله) كأحدهم من هذه الجهة .
نعم ، قد تصرّف (صلّى الله عليه وآله) فيها في بعض الموارد ، فنهى عن بعض المعاملات كالمعاملة الربوية وما شاكلها ، وزاد في بعضها قيداً أو جزءاً لم يكن معتبراً عند العقلاء، كاعتبار البلوغ في المتعاقدين، واعتبار الصيغة في بعض الموارد .
وعلى ذلك الأصل نحمل ما ورد في الشرع من الآيات والروايات كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالعُقُودِ)(1)، (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ )(2) ، (تِجَارةً عَن تَرَاض )(3) ، وكقوله (صلّى الله عليه وآله) : «النكاح سنّتي» (4) ، «والصلح جائز» (5) ونحو ذلك ، على المفاهيم التي قد استقرّت عندهم، وجرى ديدنهم عليها، فانّه (صلّى الله عليه وآله)
ـــــــــــــــــــــ (1) المائدة 5 : 1 . (2) البقرة 2 : 275 . (3) النساء 4 : 29 . (4) المستدرك 14 : 153 / أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18 . (5) الوسائل 18 : 443 / أبواب الصلح ب 3 ح 1 .
ــ[211]ــ
لم يتصرّف فيها لا لفظاً ولا معنى ، وتكلّم بما تكلّموا به من الألفاظ واللّغات . إذن تكون تلك الأدلة مسوقة لامضاء المعاملات العرفية العقلائية ، وحيث إنّ المعاملات عندهم قسمان : فعلي وقولي ، إلاّ في بعض الموارد ، فتلك الأدلة تدل على إمضاء كلا القسمين إلاّ في بعض الموارد الخاصة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ ، أو اللفظ الخاص كما في الطلاق والنكاح وما يشبههما ، وعليه فان دلّ دليل من قبل الشارع على اعتبار شيء جزءاً أو قيداً فنأخذ به ، وإن شككنا فيه فنتمسك باطلاقات تلك الأدلة ، ونثبت بها عدم اعتباره .
ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يورد على الشهيد (قدس سره) (1) حيث قال : إنّ الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود حقيقة في الصحيح ، ومجاز في الفاسد ، إلاّ الحج لوجوب المضي فيه ، مع أ نّه (قدس سره) كغيره يتمسك باطلاقات المعاملات، والحال أنّ الصحيحي لايمكنه التمسك بها لإجمال الخطاب . ووجه الفساد هو ما عرفت من أ نّه لا مانع من التمسك باطلاقات المعاملات على القول بالصحيح ، كما عرفت .
وعلى الجملة : فالمعاملات المأخوذة في موضوع أدلة الامضاء كالبيع ونحوه ، معاملات عرفية عقلائية ولم يتصرف الشارع فيها أيّ تصرف لا من حيث اللفظ ، ولا من حيث المعنى ، بل أمضاها بما لها من المفاهيم التي قد استقرّ عليها الفهم العرفي، وتكلّم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاوراتهم قبل الشريعة الاسلامية ، فحينئذ إن شكّ في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف والعقلاء فنتمسك باطلاق الأدلة وننفي بذلك اعتباره ، كما أ نّه لم يكن معتبراً عند العرف ، إذ لو كان معتبراً للزم على الشارع المقدّس بيانه، وحيث إنّه (صلّى الله عليه وآله) كان في مقام البيان ولم يبيّن ، فعلم عدم اعتباره .
ـــــــــــــــــــــ (1) القواعد والفوائد 1 : 158 .
|