ــ[212]ــ
ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فانّ العبادات حيث إنّها ماهيّات مخترعة عند الشارع بجميع أجزائها وشرائطها ، فلو كانت موضوعة للصحيحة لم يمكننا التمسك باطلاقاتها عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته لاحتمال دخله في المسمّى كما سبق . وهذا بخلاف المعاملات فانّها ماهيات مخترعة عند العرف فلو شككنا في اعتبار شيء فيها شرعاً ، فيكون الشك في أمر زائد على ما كان معتبراً عندهم ، وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ولو على القول بكونها موضوعة للصحيحة .
نعم ، لو شككنا في اعتبار شيء فيها عرفاً كاعتبار المالية مثلاً أو نحوها ، فلا يمكننا التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية أو نحوها ، هذا بناءً على القول بالصحيح . وأمّا بناءً على الأعم فلا مانع من التمسك بالإطلاق حتّى إذا كان الشك في اعتبار شيء فيها عرفاً ، إلاّ فيما إذا كان الشك في دخله في المسمى .
وصفوة القول : أنّ حال المعاملات عند العرف حال العبادات عند الشارع المقدس ، فكما أنّ ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق وعدم جوازه تظهر بين القولين في العبادات ، فكذلك تظهر بينهما في المعاملات ، وإنّما تنتفي الثمرة بين القولين فيها ـ أي المعاملات ـ لو شككنا في اعتبار جزء أو قيد فيها شرعاً لا عرفاً ، فانّه يجوز حينئذ التمسك بالاطلاق مطلقاً حتّى على القول بالوضع للصحيح ، كما مرّ .
وربّما يورد : بأنّ حديث التمسك بالاطلاق في المعاملات إنّما يتم فيما لو كانت المعاملات أسامي للأسباب دون المسببات ، فانّه حينئذ مجال للتمسك باطلاق قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ )(1) و (تِجَارةً عَن تَرَاض )(2) ونحوهما ، لاثبات
ـــــــــــــــــــــ (1) البقرة 2 : 275 . (2) النساء 4 : 29 .
ــ[213]ــ
إمضاء كل سبب عرفي إلاّ ما نهى عنه الشارع ، وأمّا لو كانت المعاملات أسامي للمسببات فالامضاء الشرعي المتوجه إليها لا يدل على إمضاء أسبابها ، لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب وهو المبادلة في البيع وما شاكلها ، وإمضاء السبب وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسية مثلاً ، ومن الواضح أنّ أدلة الامضاء جميعاً من الآيات والروايات متجهة إلى إمضاء المسببات ، ولا تنظر إلى إمضاء الأسباب أصلاً ، ضرورة أنّ الحلية في قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ ) ثابتـة لنفس المبادلة والملكية في مقابل تحريمها، ولا معنى لحلية نفس الصيغة أو حرمتها ، ووجوب الوفاء في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالعُقُودِ )(1) ثابت للملكية والمبادلة ، فانّ الوفاء على ما ذكرناه بمعنى الانهاء والاتمام ، ومن المعلوم أ نّه لا يتعلق بنفس العقد فانّه آني الحصول فلا بقاء له ، بل لا بدّ وأن يتعلق بما له قابلية البقاء والدوام ، وهو ليس في المقام إلاّ نفس المسبب ، والنكاح في قوله (صلّى الله عليه وآله) : «النكاح سنّتي» (2) نفس علاقة الزواج بين المرء والمرأة ، لا نفس الصيغة ، وكذا الصلح في قوله (صلّى الله عليه وآله) : «الصلح جائز» (3) ونحو ذلك ، وعليه فلو شككنا في حصول مسبب من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً ، فمقتضى الأصل عدم حصوله والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقن ، إلاّ فيما إذا كان له سبب واحد ، فان إمضاء مسببه يستلزم إمضاءه لا محالة ، وإلاّ لكان إمضاؤه بدونه لغواً محضاً ، وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقن ، فان نسبة المسبب حينئذ إلى الجميع على حد سواء ، فلا يمكن الحكم بامضاء بعض دون بعض ، وفي غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن ، وفي
ـــــــــــــــــــــ (1) المائدة 5 : 1 . (2) المستدرك 14 : 153 / أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18 . (3) الوسائل 18 : 443 / أبواب الصلح ب 3 ح 1 .
ــ[214]ــ
الزائد عليه نرجع إلى أصالة العدم .
|