جواب المحقق النائيني عن ذلك 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5050


وقد أجاب عنه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) بأنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، ليكونا موجودين خارجـيين يترتب أحدهما على الآخر ترتباً قهرياً ، ويكون تعلق الارادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب من جهة أنّ اختيارية المسبب باختيارية السبب ، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية ، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والارادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداءً ، كما هو الحال في سائر الانشاءات ، فان قولنا : بعت أو صلّ ليس بنفسه موجداً للملكية أو الطلب في الخارج ، نظير الالقاء الموجد للاحراق ، بل الموجد في الواقع هو الارادة المتعلقة بايجاده انشاءً .

فتحصّل : أ نّه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب ، والمعاملات من قبيل المسببات ، فلم يكن هناك موجودان خارجيان مترتبان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاءً للآخر ، بل الموجود واحد ، غاية ما في الباب أ نّه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة ، فالبيع المنشأ بالمعاطاة قسم ، وبغيرها قسم آخر ، وباللفظ العربي قسم ، وبغير العربي قسم آخر وهكذا ، فإذا كان دليل إمضاء البيع مثلاً في مقام البيـان ولم يقيّده بنوع دون نوع ، فيستكشف منه عمـومه لجميع الأقسام والأنواع ، كما في بقية المطلقات حرفاً بحرف ، هذا ما أجاب به (قدس سره) عن الاشكال .

ولكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدس سره) وذلك لعدم الفرق في محل الكلام بين أن يعبّر عن صيغ العقود بالأسباب أو يعبّر عنها بالآلات ، فان أدلة الامضاء إذا لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسباباً

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 73 .

ــ[215]ــ

أو آلة ، ولا أثر للاختلاف في مجرد التعبير .

ومن الغريب أ نّه (قدس سره) قد استدلّ على شمول أدلة الامضاء لصيغ العقود بأنّ الآلة وذا الآلة ليسا كالسبب والمسبب يمتاز أحدهما من الآخر في الوجود ، بل هما موجودان بوجود واحد ، فامضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة وجه الغرابة : أ نّه لا ريب في تعدد وجود الصيغ ووجود ما يعبّر عنه بالمسببات في باب المعاملات ، فانّ المسببات هي الاُمور الاعتبارية النفسانية التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار ، والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ ، وهما من الموجودات الحقيقية الخارجية، سواء عبّر عنها بالأسباب أو بالآلات ، فكما أنّ إمضاء المسبب لا يلازم إمضاء السبب فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم إمضاء الآلة ، لعدم تفاوت بينهما إلاّ في التعبير .

وعليه فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن على كل تقدير، فلو شكّ في حصول مسبب كالملكية، أو نحوها من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً أو بغير العربي أو نحو ذلك ، فمقتضى الأصل عدم حصوله إلاّ إذا كان له سبب واحد ، فان إمضاء المسبب حينئذ يلازم إمضاء سببه لا محالة ، وإلاّ لكان إمضاؤه لغواً .

والصحيح في الجواب عنه : هو أ نّا لو سلّمنا أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى مسبباتها ، أو نسبة الآلة إلى ذيها ، وأغمضنا النظر عمّا سلكناه في باب المعاملات من أ نّها أسام للمركب من المبرز والمبرز خارجاً، فلا سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذا آلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فمع ذلك لا يتمّ الاشكال المزبور ، فانّه إنّما يتم فيما إذا كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة ، فحينئذ يقال إنّ إمضاءه لا يلازم إمضاءها جميعاً ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن لو كان ، وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله .

نعم ، لو فرضنا أ نّه لم يكن بينها قدر متيقن ، بل كانت نسبة الجميع إليه على

ــ[216]ــ

حد سواء، أمكننا أن نقول بأنّ إمضاء المسبب إمضاء لجميع أسبابه ، فانّ الحكم بامضاء بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح ، والحكم بعدم الإمضاء رأساً مع إمضاء المسبب على الفرض غير معقول ، ولكنّه فرض نادر جدّاً ، بل لم يتحقق في الخارج ، وأمّا إذا كانت المسببات كالأسباب متعددة كما هو كذلك فلا يتم الإشكال بيان ذلك :

أنّ المراد بالمسبب إمّا أن يكون هو الاعتبار النفساني كما هو مسلكنا ، أو يكون هو الوجود الانشائي المتحصّل من الصيغة أو غيرها كما هو مسلكهم في باب الانشاء ، حيث إنّهم فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ ، ومن هنا قالوا إنّ صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة أ نّها لا توجد إلاّ بها ، فالبيع لا يوجد إلاّ بعد قوله : بعت ، وكذا غيره ، أو أنّ المراد بالمسبب هو الإمضاء العقلائي فانّه مسبب وفعل البائع مثلاً سبب ، فإذا صدر من البائع بيع يترتب عليه إمضاء العقلاء ترتب المسبب على السبب .

وأمّا الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسبباً ، بداهة أنّ المسبب هو ما يتعلق به الإمضاء من قبل الشارع المقدس فلا يعقل أن يكون هو نفسه ، وإلاّ لزم تعلق الإمضاء بنفسه في مثل قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ )(1) و (أَوْفُوا بِالعُقُودِ )(2) وقوله (صلّى الله عليه وآله) : «النكاح سنّتي» (3) ونحو ذلك ، فانّ المعنى حينئذ هو أنّ الله أحلّ البيع الذي أحلّه ، وأوجب الوفاء بالعقـد الذي أوجب الوفاء به، وأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) سنّ النكاح الذي سنّه... وهكذا . وإن كان ربّما يظهر من كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مبحث

ـــــــــــــــــــــ
(1) البقرة 2 : 275 .
(2) المائدة 5 : 1 .
(3) المستدرك 14 : 153 / أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18 .

ــ[217]ــ

النهي عن المعاملات حيث قال ـ بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ـ : والتحقيق أ نّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب ، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلاّ فيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة (1) .
وكيف كان ، فاحتمال أن يكون المسبب هو الإمضاء الشرعي فاسد قطعاً . وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتم إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبب وإمضاء سببه .

أمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة يتعدد المسبب بتعدد مبرزه خارجاً ، مثلاً لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص فأبرزها باللغة العربية ، واعتبر ملكية بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسية ، واعتبر ملكية فرسـه لثالث فأبرزها بالمعاطاة ، واعتبر ملكية كتابه لرابع فأبرزها بالكتابة أو الاشارة ، فهنا اعتبارات متعددة خارجاً ، وكل واحد منها يباين الآخر لا محالة ، وإن كان الجميع صادراً من شخص واحد فضلاً عمّا إذا صدر عن أشخاص متعددة ، كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربية ، وباع عمرو داره بالصيغة الفارسية ، وباع ثالث كتابه بالمعاطاة ... وهكذا ، حيث لا شبهة في أنّ الاعتبار القائم بزيد المبرز في الخارج بالصيغة العربية يباين كلاً من الآخرين، وكذا كل واحد منها بالاضافة إلى الآخرين .

وعلى ذلك فإذا فرضنا أنّ الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة الفارسية أو بالمعاطاة ، فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبّر عنها بالسبب ، وإلاّ لكان إمضاؤه بدون إمضائها لغواً محضاً ، بداهة أ نّه لا معنى لأن يمضي الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضي نفس المعاطاة ، ويمضي

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 189 .

ــ[218]ــ

الملكية المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضي نفس هذا العقد ... وهكذا ، فان معنى عدم إمضاء الشارع هذا السبب عدم حصول الملكية به خارجاً ، وهذا مناقض لحصولها به وإمضاء الشارع إيّاها .

وأمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الوجود الإنشائي الحاصل بالتلفظ بصيغ العقـود كصيغة بعت ونحوها فهو أوضح من الأوّل ، بداهـة أ نّه متى ما حصل التلفظ بصيغة بعت أو نحوها يتحقق المسبب خارجاً ، فلو قال زيد مثلاً : بعت داري ، ثمّ قال : بعت بستاني ، ثمّ قال : بعت فرسي ... وهكذا ، يتحقق بكل واحد من هذه الصيغ والأسباب وجود إنشائي الذي يعبّر عنه بالمسبب على مسلك القوم ، فكما أنّ لكل صيغة وجوداً ، فكذلك لكل منشأ وجوداً إنشائياً بوجود سببه ، فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب ، ولا سيّما فيما إذا كانت الأسباب مختلفة الحقائق كالعربية والعجمية وغيرهما .

وعلى الجملة : فالتلفظ بالصيغة يوجب تحصل وجود إنشـائي للبيع على مسلكهم فلا يتصور انفكاكه عنه . وعليه فامضاء الوجود الإنشائي والتنزيلي إمضاء لسببه ، فلا يعقل تعلّق الامضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدّم .

وأمّا لو كان المراد من المسبب إمضاء العقلاء فالأمر فيه أوضح من الأوّلين ، ضرورة أنّ العقلاء يمضون كل بيع صادر من البائع إذا كان واجداً للشرائط ، بأن يكون صادراً من أهله ووقع في محلّه ، مثلاً لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي ، ولبيع زيد داره إمضاء عقلائي آخر ، ولبيع زيد فرسه إمضاء عقلائي ثالث ... وهكذا، وليس إمضاؤهم متعلقاً بطبيعي البيع ، فانّه لا أثر له ، والآثار إنّما تترتب على آحاد البيع الصادرة عن آحاد الناس ، ومن الواضح أنّ العقلاء إنّما يمضون تلك الآحاد المترتبة عليها الآثار ، وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر ، بل لكل واحد منها إمضاء على حياله واستقلاله ، كما هو مقتضى كون البيع سبباً لامضاء عقلائي . وكيف كان ، فلا ريب في أنّ لكل بيع من البيوع الموجودة في

ــ[219]ــ

الخارج إمضاء عقلائياً يباين إمضاء عقلائياً آخر ... وهكذا ، سواء كانت البيوع صادرة من شخص واحد ، أو من أشخاص متعددة .

وعليه فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دلّ باطلاقه على نفوذ كل إمضاء عقلائي ، فلا محالة دلّ بالالتزام على إمضاء كل سبب يتسبب إليه ، وإلاّ فلا يعقل إمضاؤه بدون امضائه ، فانّه نقض للغرض كما لا يخفى .

فالنتيجة من جميع ذلك: أنّ الإيراد المزبور إنّما يتم فيما لو كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة ، ولكن قد عرفت أ نّه لا أصل له على جميع المسالك في تفسير المسبب، ولايعقل أن يكون لمسبب واحد أسباب متعددة على الجميع بل لكل سبب مسبب، فامضاؤه بعينه إمضاء لسببه .

هذا كلّه بناءً على مسلك القوم في باب المعاملات .

التحقيق : أنّ كون صيغ العقود أسباباً أو آلة كل ذلك لا يرجع إلى معنى صحيح ، وذلك لما حققناه سابقاً من أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ فاسـد ، فانّهم إن أرادوا به الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول ، بداهة أنّ اللفظ لا يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده وأسبابه . وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري ، فيرده : أ نّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر ، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن . فاللفظ لا يكون سبباً لايجاده ولا آلة له ، فلا يكون محتاجاً إليه أصلاً ، كيف فانّ الأمر الاعتباري لا واقع له ما عدا اعتبار المعتبر في اُفق النفس ، وأمّا الخارج عنه من اللفظ والكتابة والإشارة والفعل ، فأجنبي عنه بالكلية .

نعم ، إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج يحتاج إلى مبرز ، وذلك المبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون اشارة ، وقد يكون كتابة ، وقد يكون فعلاً .

ــ[220]ــ

ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات(1) أ نّها أسام للمركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج ، فانّ الآثار المترقبة منها لا تترتب إلاّ على المركب من الأمرين ، فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق على مجرد الاعتبار النفساني بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما ، فلو اعتبر أحد ملكية داره لزيد مثلاً ، أو ملكية فرسه لعمرو بدون أن يبرزها في الخارج باللفظ أو ما شاكله ، فلا يصدق أ نّه باع داره من زيد أو فرسه من عمرو ، كما أ نّه لا يصدق هذه العناوين على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفساني كما لو كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات ، أو كان التكلم بها بداع آخر غير إبراز ما في اُفق النفس من الأمر الاعتباري ، فلو قال أحد بعت أو زوجت أو نحو ذلك من دون اعتبار نفساني ، فلا يصدق عليه عنوان البيع أو عنوان التزويج والنكاح ... وهكذا .

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح أ نّه لا سبب ولا مسبب في باب المعاملات ، ولا آلة ولا ذا آلة ، ليشكل أنّ إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر ، بل المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع والهبة وما شاكلها أسام للمركب من الأمرين ، فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص كما عرفت ، والمفروض أ نّها بهذه العناوين مأخوذة في أدلة الامضاء كقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ )(2) وقوله (صلّى الله عليه وآله) : «النكاح سنّتي» (3) و «الصلح جائز» (4) إلى غير ذلك، فالأدلة ناظرة إلى إمضائها بتلك العناوين ، وعليه فمتى صدق هذه العناوين

ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الفقاهة 1 : 30 ، وفي المجلّد 2 : 52 .
(2) البقرة 2 : 275 .
(3) المستدرك 14 : 153 / أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18 .
(4) الوسائل 18 : 443 / أبواب الصلح ب 3 ح 1 .

 
 

ــ[221]ــ

عرفاً وشكّ في اعتبار أمر زائد عليه شرعاً جزءاً أو شرطاً فلا مانع من التمسك باطلاقها ، وبه يثبت عدم اعتباره . كما أ نّه يتّضح ممّا ذكرناه أنّ ما يسمى بالمسبب عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة من دون احتياج إلى سبب ولا آلة .

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين أ نّه لا فرق في جواز التمسك باطـلاق أدلة الإمضاء بين أن تكون المعاملات أسامي للأعم أو للصحيحة : أمّا على الأوّل فواضح . وأمّا على الثاني ، فلأنّ الصحّة عند العقلاء أعم منها عند الشارع ، إذ ربّ معاملة تكون مورداً لامضاء العقلاء ولا تكون مورداً لامضاء الشارع ، فإذا شكّ في ذلك يتمسك بالإطلاق . وأمّا الصحّة الشرعية فلا يعقل أخذها في المسمّى، وفي موضوع أدلة الإمضاء ليكون معنى قوله تعالى (وَأحَلَّ اللهُ ا لْبَيْعَ )أنّ الله أحلّ وأمضى البيع الذي أحلّه وأمضاه . نعم ، يمكن أن تكون الصحّة عند العقلاء مأخوذة في الموضوع له ، ليكون البيع مثلاً إسماً للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء، لا للأعم منه وممّا لا يكون ممضى عندهم ، فانّ الاعتبار إذا كان واجداً للشرائط كما إذا كان صادراً من العاقل مثلاً فيقع مورداً لامضائهم، وإذا كان فاقـداً لها كما إذا كان صادراً عن الصبي غير المميز أو المجنون أو الفضولي أو ما شاكل ذلك ، فلا يقع مورداً لامضائهم . وعليه فلو شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء كاعتبار اللفظ مثلاً ، أو العربية أو نحو ذلك ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق لاثبات عدم اعتباره ، لأنّ الشك حينئذ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ .

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات ، فانّ العبادات بما أ نّها ماهيات مخترعة من قِبَل الشارع المقدّس فلو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا التمسك باطلاق أدلتها ، لأنّ الشك في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً يرجع

ــ[222]ــ

إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للشيء المشكوك فيه ، لاحتمال مدخليته في المسمى . وهذا بخلاف المعاملات ، فانّها حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء لتنظيم الحياة المادية للبشر ، فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسك بالإطلاق ، فانّ الصحيح عند العقلاء أعم مورداً من الصحيح عند الشارع .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ نقطة الميز بين البابين التي توجب جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات ولو كانت موضوعة للصحيحة ، وعدم جوازه في باب العبادات لو كانت كذلك ، هي أنّ الصحّة التي هي محل البحث في المعاملات الصحّة عند العقلاء ، وقد عرفت أ نّها أعم عند الشارع ، والصحّة التي هي محل البحث في العبادات الصحّة عند الشارع ، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين البابين .

نعم ، تظهر الثمرة بين القولين في المعاملات أيضاً فيما إذا شكّ في اعتبار أمر عرفي فيها عند العقلاء جزءاً أو شرطاً ، كما إذا شكّ في اعتبار المالية في البيع كما هو مقتضى ظاهر تعريف المصباح (1) ، أو في اعتبار شيء آخر عندهم ، فعلى القول بكونها أسامي للصحيحة لا يجوز التمسك بالإطلاق ، لاحتمال دخل المالية في صدق البيع ، فلو باع الخنفساء أو مثقالاً من التراب أو نحو ذلك ممّا لا مالية له عند العقلاء فنشك في صدق البيع على ذلك ، ومعه لا يمكننا التمسك بالإطلاق . وعلى القول بالأعم لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه الموارد أيضاً.

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فيتضح الحال فيه ممّا حققناه في المقام الأوّل وملخصه : هو أ نّا لا نعقل للمسبب في باب المعاملات معنى ما عدا الاعتبار النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة ، ومن الظاهر أنّ المسبب بهذا المعنى يتصف

ـــــــــــــــــــــ
(1) المصباح المنير : 69 .

ــ[223]ــ

بالصحّة والفساد ، فانّ الاعتبار إذا كان من أهله وهو البالغ العاقل فيتصف بالصحّة حتّى عند العقلاء ، وإذا كان من غير أهله وهو المجنون أو الصبي غير المميز فيتصف بالفساد كذلك . نعم ، لو كان صادراً من الصبي المميز فيتصف بالصحّة عند العقلاء وبالفساد عند الشارع .

وعلى الجملة : فكما أنّ الصيغة تتصف بالصحّة والفساد ، فيقال الصيغة العربية صحيحة ، وغير العربية فاسدة ، أو الصادرة عن البالغ العاقل صحيحة ، ومن غيره فاسدة، فكذلك الاعتبار فيقال إنّ الاعتبار الصادر من العاقل صحيح، ومن غيره فاسد ، وعليه فلا أصل لما ذكروه من أنّ المعاملات لو كانت أسامي للمسببات لم تتصف بالصحّة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، فان هذا إنّما يتم لو كان المسبب عبارة عن الإمضاء الشرعي ، فانّه غير قابل لأن يتصف بالصحّة والفساد ، بل هو إمّا موجود أو معدوم ، وكذا لو كان عبارة عن إمضاء العقلاء ، فانّه لا يقبل الاتصاف بهما ، فامّا أن يكون موجوداً أو معدوماً ، إلاّ أنّ المسبب هنا ليس هو الإمضاء الشرعي أو العقلائي ، ضرورة أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسام للأفعال الصادرة عن آحاد الناس ، فالبيع مثلاً اسم للفعل الصادر عن البائع، والهبة اسم للفعل الصادر عن الواهب ... وهكذا . ومن الواضح أ نّها أجنبية عن مرحلة الإمضاء رأساً . نعم، إنّها قد تقع مورداً للامضاء إذا كانت واجدة للشرائط من حيث الاعتبار أو مبرزه ، وقد لا تقع مورداً له إذا كانت فاقدة لها كذلك .

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : أ نّه لا مانع من جريان النزاع في المسبب بهذا المعنى من هذه الجهة . نعم، هو خارج عن محل النزاع من جهة اُخرى ، وهي أنّ عنوان البيع وما شاكله لا يصدق عليه عرفاً بدون إبرازه في الخارج ولو على القول بالأعم ، فلا محالة يكون البيع أو نحوه موضوعاً للمؤلف من الاعتبار وإبرازه

ــ[224]ــ

إمّا مطلقاً أو فيما أمضاه العقلاء .

وملخّص ما ذكرناه في باب المعاملات لحدّ الآن اُمور :

الأوّل : أنّ المعاملات اُمور عرفية عقلائية ، وليست من المخترعات الشرعية .

الثاني : جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات مطلقاً ولو كانت أسامي للصحيحة .

الثالث : أنّ الصحّة المأخوذة في مسمّى المعاملات على القول بالصحيح هي الصحّة عند العقلاء ، لا عند الشارع كما عرفت .

الرابع : أنّ المسببات في باب المعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس بالمباشرة لا بالتسبيب والآلة ، وقد عرفت أ نّه لا معنى للسبيبة والمسببية فيها أصلاً .

الخامس : أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة أسام للمؤلف من الاعتبار وإبرازه خارجاً فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص . هذا تمام الكلام في مسألة الصحيح والأعم .

 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net